بقال تل أبيب.. وجوه نتنياهو الكثيرة وصورته الأخيرة

بنيامين نتنياهو، المقاتل التاجر، يعشق الصورة، ويقدس الدعاية، وتلاحقه تُهم الفساد، وُلد مع إسرائيل، وعاش حلمها، فأيهما يأفل أولًا؟

بقّال تل أبيب.. حياة بنيامين نتنياهو وصورته الأخيرة

ليلة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، منتجع الباندا على سفح جبل الشيخ، في مستوطنة نيفي أطيف في الجولان المحتل، رياح الخريف في الخارج تدق نوافذ الجناح الفاخر المخصص لرئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي تسلل ليلا في غفلة من المتظاهرين حول الفندق، وتكنس معها أوراق الشجر المتعجّلة في السقوط، وبقايا منشورات متظاهرين إسرائيليين كانوا يقفون قبل أيام حول الفندق للاحتجاج على التعديلات القضائية التي يقاتل لإقرارها، والتي من شأنها أن تقوض سلطة المحكمة العليا لصالحه، ولينغّصوا عليه إجازته، تماما كما فعلوا قبل شهرين في أغسطس/آب.

شيء ما كان يؤرّق نوم الرجل السبعينيّ سوى صفير الرياح في الخارج، وأوجاع الظهر التي أصابته من جلوسه على كرسي رئاسة الوزراء لسبعة عشر عاما متقطعة، فكلما أغمض نتنياهو عينه أفزعته ستّ عيون تحدجه بسخط وخيبة، عيون يعرف أصحابها، فهذا الشابُ العابسُ أخوه يوناتان، وذاك الشيخ الفاني ذو الحاجب الكثيف الذي أربى على المئة أبوه بن صهيون، وذلك القصير المتحفّز زئيف جابوتنسكي زعيم الصهيونيّة التصحيحية والأبُ الروحي لحزب الليكود. ولكن ما سبب سخطهم وقد كرّس حياته للسير على خطاهم؟ يُغالب بنيامين الأرق حتى يصرعه النوم، ليستيقظ على اتصالات أجهزته.

لقد اختُرق السياج العازل مع قطاع غزة، وانقطعت الاتصالات بكتيبتها، ولا يُعرف مصير عشرات الجنود ومئات المستوطنين في مستوطنات جنوب دولة الاحتلال التي تُعرف بغلاف غزة. سيعرف الرجل سريعا أن عشرات من جنوده قد أُسروا، وأن أضعافهم قُتلوا على أيدي نخبة كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، ولم يلبث طويلا إلى أن أدرك السر الحقيقي لأرقه، ونظرات الخيبة التي رآها بين صحوه ومنامه. لقد سقط "الجدار الحديديّ" الذي عاش أبوه من أجله، وقُتل أخوه في سبيله، وأنفق خمسة عقودٍ وهو يحوطه ويرعاه، ولكن لم تكن هذه بداية القصة.

ميلاد الدولة ومهد بنيامين

عام واحد فصل بين الميلادين ليربط مصير الدولة بمصير الرجل

عائلة بن صهيون نتنياهو نحو عام 1952، ويظهر في الصورة بنيامين (الثاني من اليسار)، وأخوه يوناتان، بالإضافة إلى أبيه وأمه. (المصدر: الموقع الرسمي لبنيامين نتنياهو)
عائلة بن صهيون نتنياهو في عام 1952 ويظهر في الصورة بنيامين (يسار) وأخوه يوناتان بالإضافة إلى أبيه وأمه (الموقع الرسمي لبنيامين نتنياهو)
عائلة بن صهيون نتنياهو نحو عام 1952 ويظهر في الصورة بنيامين (يسار) وأخوه يوناتان بالإضافة إلى أبيه وأمه (الموقع الرسمي لبنيامين نتنياهو)

يخرج الطبيب من غرفة الولادة وهو يخلع قفازيه، يمازح الممرضة: "هل رأيت آذانا بهذا الحجم من قبل؟"، تتساءل الممرضة: "هل يمكنه أن يطير بهما؟"، يضع الطبيب أصبعه على فمه: "إشش، تلك الآذان يمكن أن تلتقط أصواتنا من هنا!"، وتنفجر ضحكة في ممر أحد مشافي تل أبيب في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1949، أو لعل هذا ما حصل. تسجل الممرضة اسم المولود: بنيامين نتنياهو، مواطن إسرائيلي. سيكبر الطفل ليصبح أول رئيس وزراء لإسرائيل يُولد فيها بعد قيامها، كان الكيان يكبره بعام وخمسة أشهر فقط. هذا التقارب الزمني تجذّر في وعي الصبي على مدى السنوات حتى راح يتخيّل أن مصيره معقود بمصير قرينه.

حين بلغ الصبي 4 أعوام، وضعت أمه أخاه الأصغر عيدو، فأصبح بنيامين الابن الأوسط، وانتقلت العائلة إلى منزل كبير في قلب مدينة القدس. كان بيتا عربيا جميلا، يتكون من ست غرف، وأرضيّاته مزيّنة بخطوط أرمنيّة نُقشت بيدِ نقّاش ماهر. وككل بيت عربيّ أصابته النكبة، اجتهدت مؤسسات الدولة الجديدة لكيلا يُعرف ملّاكه الحقيقيون إلى اليوم.

كل الأطفال يركضون وكأن العالم ملعبهم، وحدهم المحتلون يتحركون بخُطى خائفة. لم تكن الأرض قد لانت لهم بعد، فكان عليهم التحرك بحذر كمَن سرق منزلا للتوّ ولم يُخرِج جميع أصحابه منه. يتذكر بنيامين كيف أن أمه، التي كانت تناديه "بيبي"، كانت تُجلسهم وهم أطفال وترسم لهم الحدود المسموح لهم بالحركة فيها لتجنب أماكن الخطر في المدينة. سيعيش الطفل من بعد مهووسا بتوسيع الخطوط التي رسمتها أمه، ويُهندس توسع المستوطنات وضم الأراضي.

تفركُ الأم يديها من بقايا المطبخ، وتسرع إلى مصدر تصايح الأطفال وهم يلعبون، ترفع الأمُ يدها وتصفع ابنها الأوسط بنيامين صفعة مدوية لن ينساها، حتى يكتب عنها بعد ستة عقود في مذكراته، كان عليه أن يلعب مع أصحابه في صمت، حتى لا يشتت انتباه أستاذ التاريخ المُكِب في مكتبه على إعداد موائد فكريّة لأبنائه. عاش والده بن صهيون في فقاعته المنفصلة مع التاريخ اليهودي، كان في شكٍّ دائم من بقاء إسرائيل لفترة طويلة، وعاش نصف قرن وهو يشعر بالقلق من الهلاك الوشيك.

JERUSALEM, ISRAEL - JULY 1, 1967: (ISRAEL OUT) In this Israeli Government Press Office (GPO) file photo, Benjamin Netanyahu (R), who would later become prime minister of Israel, with an unidentified friend at the entrance to his family home July 1, 1967 in Jerusalem. Netanyahu, who is the leader of the conservative Likud party, has a growing lead in the race to become Israel's next Prime Minister. The politician and former special forces soldier has already served as Israel's Prime Minister, from 1996 to 1999. (Photo by GPO via Getty Images)
نتنياهو (يمين)، يجلس مع صديق له عند مدخل منزل عائلته في القدس عام 1967. (غيتي)

كانت قوانين البيت صارمة للغاية، فلم يكن يُسمح للأصدقاء بالوجود في المنزل بين الساعة الثانية والرابعة بعد الظهر، فهو الوقت المخصص للواجبات المنزلية والقراءة، وهو أيضا الوقت الوحيد الذي يحظى فيه الأولاد باهتمام والدهم. يتذكر بنيامين كيف كان والده يتولى مذاكرته مادة التاريخ.

يبدو الأب في ذكريات ابنه وأقاربه معلما لا والدا، فذكرياتهم معه تدور حول حديثه عن خلاصاته للتاريخ، لا حول الجلوس على طرف السرير والتربيت على الأطفال في ليالي الحُمّى، ولا حول صباحات السير إلى المدرسة والتلويح بالأيدي، أو اللعب في المساء في باحة المنزل، يقول دان نتنياهو ابن عمهم: "لقد كان آل نتنياهو يعبدون أباهم، كان كالمنارة لهم". بقيت تلك المنارة ترشدهم ولا تسمح طبيعتها الصخرية بأن ترسو لديها مراكبُهم، حتى في أوقات راحته واشتعال جذوة الأبوّة لملاعبة أطفاله، كان يبسط رقعة الشطرنج ويطارحهم لعبته.

سيستبطنُ الفتى قواعد الشطرنج حين يكبر؛ حيث لا يسعك التوقف عن اللعب حتى تضم كل مساحات خصمك إليك، وإذا تهاونت وأبقيت له بيدقا واحدا، فقد يأتي ليقتلعك من الرقعة. يحدثنا بنيامين عن بعض خلاصات أبيه التي أدار عليها حياته السياسيّة من بعد: "إذا نجح خصومك في تصوير قضيتك على أنها غير عادلة، فسوف يقوّضون موقفك تدريجيا، لا يهم إذا كانت قضيتك أخلاقية أو لا، عليك أن تقدمها بصورة عادلة، فأعظم المعتدين في التاريخ صوّروا أنفسهم على أنهم عادلون وأن الظالمين كانوا ضحاياهم!". نُقِشَت هذه النصيحة في وعي الفتى، فعاش عمره بالدعاية وللدعاية.

سيُعدي بنيامين كل مَن يقتربُ منه أو يعملُ معه بعدوى الدعاية، فمثلا، بعد أيام من يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحربُ مستعرة بين المقاومة والإسرائيليين، وأهالي الأسرى يملؤون ساحات تل أبيب هتافا مطالبين الحكومة بقبول عرض القسّام، في صفقة تبادل جميع الأسرى الفلسطينيين مقابل جميع الأسرى الإسرائيليين، سُرب لصحيفة "يديعوت أحرنوت" محتوى مكالمة دارت بين المكلّف بتنسيق الجهود الدعائية الدولية في حكومة نتنياهو، وبين الرئيس التنفيذي لشركة أميركية هي من أكبر شركات العلاقات في العالم، كان المسؤول الإسرائيلي يسأل عن كيفية شراء الحسابات الوهميّة في منصة "إكس"!

الأم محور العائلة

وُلدت يهودية في القدس لتصبح قلب إحدى أهم عائلات إسرائيل

تسيلا والده "نتنياهو"
"تسيلا" والدة نتنياهو (موقع جني للأنساب)
"تسيلا" والده نتنياهو (موقع جني للأنساب)

كانت أمه تسيلا هي التي تولت مسؤولية التربية، وكانت حسب قول بيبي: "محور عائلتنا والسلطة النهائية فيها". لقد أحبت زوجها وعرفت همومه وقدراته، فاختارت أن تكرس حياتها له، كانت تقول: "أنا متزوجة من عبقري، ولكن حتى العبقري يحتاج إلى مَن يغسل له جواربه".

في نيويورك، عام 1944، تزوج بن صهيون تسيلا الفتاة المتعلّمة الحاصلة على درجات علمية في القدس ولندن. كانت امرأة واسعة الحيلة، حسنة التدبير، جيّدة الرأي، وكان في استطاعتها أن تشق طريقها في الحياة مستقلة بنفسها. كانت تتمتع بشخصية منفتحة، ولها جاذبية اجتماعية -على الضد من زوجها- وحافظت على اتصال طوال حياتها مع دائرة واسعة من الأصدقاء. ومع ذلك، منذ زواجهما في كنيس راديو سيتي، قررت تسيلا الانتقال إلى المقعد الخلفي، وتسليم القيادة لزوجها المهووس بالتاريخ.

في ذلك العام، أُجريت الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولأول مرة مارست المنظمات الصهيونية، وعلى رأسها بن صهيون، ضغوطا للتأثير على برامج الأحزاب. كانت الضغوط تهدف إلى إجبار إدارة ما بعد الحرب في بريطانيا على الوفاء بالوعد الذي قطعه وزير الخارجية البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى، آرثر جيمس بلفور، من خلال منح دولة لليهود في فلسطين.

في أسفار أبيهم كانت تسيلا تأخذ أطفالها الثلاثة يوناتان وبنيامين وعيدو ليقضوا أوقات الصيف عند أخوالهم آل سيغال في بتاح تكفا، التي كانت أول مستوطنة صهيونية يسكنها اليهود في سبعينيات القرن التاسع عشر بعد أن اشتروا أراضي من فلسطينيي قرية ملبّس العربية. كانت تسيلا من السيدات "اللاتي يستيقظن في الخامسة للمساعدة في حلب الأبقار، وفي المساء يرتدين الكعب العالي". سيحصل بنيامين هناك في لعبه مع أبناء خؤولته على لقب "بيبي" الذي سيصحبه طوال حياته، إذ جاءه هذا اللقب من اسم ابن خاله الأكبر، بنيامين رون، الذي كانت أخته الصغرى تلاحقه وتناديه "بي بي". منذ تلك اللحظة، أصبح هذا اللقب عالقا في العائلة وانتقل إليه وإلى أقربائه الذين يحملون اسم بنيامين. سيُعرف بنيامين بهذا الاسم، وسيناديه به اليمين واليسار، وأصدقاؤه وأعداؤه.

حاخام ومؤرخ وسياسيّ..

قصةُ إسرائيل هي قصة آل نتنياهو؛ أسطورة يرويها الحاخام الجد (ناتان)، ويعمل المؤرخ الأب (بن صهيون) على تحويل الأسطورة إلى مقولة سياسيّة، وينشِّئ عليها أبناءه، فيكبر الجنديُّ المقاتل في سبيلها (يوناتان)، والسياسيُّ المتصرفُ في تدبيرها (بنيامين)

في المؤتمر الصهيوني الثامن الذي انعقد في لاهاي الهولندية عام 1907، يقوم ناتان ميليكوفسكي، وهو حاخامٌ زمِّيت من روسيا البيضاء، كثُّ اللحية كثيفها، انحسرَ شعره عن جبهته إلى منتصف رأسه، غائر العينين، أخرجه التأثّر بثيودور هرتزل، زعيم الحركة الصهيونية الذي رحل قبل ثلاثة أعوام، من تدريس التوراة في كُنُس بولندا إلى التبشير بالحركة في حواضر الدنيا، فطاف العالم من الصين إلى الولايات المتحدة مبشرا بالصهيونية. كان من أشد الناس حماسة لمشروع الدولة اليهودية في فلسطين، وبلغت به حماسته أنه فرض في بيته التكلم باللغة العبرية التي لم تكن متداولة بين اليهود في ذلك الوقت. قام ناتان ميليكوفسكي، الذي قد دَرِب على الخطابة بعد مئات الخطب التي نثرها على يهود العالم، خطيبا في المؤتمر داعيا لضبط ردّاد البوصلة نحو فلسطين، واتهم الصهاينة المؤيدين لمشروع تأسيس دولة يهودية في أوغندا بـ"خيانة كل الأجيال". يحتفظ رئيس الوزراء الإسرائيلي بصورة لجدّه، الذي غيّر اسمه لاحقا لنتنياهو، وهو يخطب في المؤتمر.

أحد أهم المؤتمرات الصهيونية كان الثامن والذي عقد في هولندا (مصدر الصورة: المتحف اليهودي ومركز التسامح، موسكو روسيا)
المؤتمر الثامن يعد أحد أهم المؤتمرات الصهيونية في هولندا (المتحف اليهودي ومركز التسامح، موسكو روسيا)

كان المؤتمر الصهيوني الثامن الذي شارك فيه ناتان ميليكوفسكي من أهم المؤتمرات التي عقدتها الحركة الصهيونية في تاريخها، ففيه أُقرت اللغة العبرية لغة رسمية للحركة الصهيونية، واتُّفق على تأسيس شركة لاستغلال أرض فلسطين وتوطين اليهود فيها، وكذلك شارك فيه، لأول مرة، وفد من أربعة أشخاص جاءوا من فلسطين ليمثلوا ما سمّوه "أرض إسرائيل" (إريتز يسرائيل).

لم يكن ناتان ميلكوفيسكي ليتخلى عن الحلم الصهيوني أو يتفهّم واقعيّة هرتزل في خياره لأوغندا، فقد كان رجلا مسبوكا من نبوءات التوراة، وأحلام الصهيونية، وهو الذي قال مرة ليهود نيويورك: "ما دام بقي يهودي واحد، حتى لو كان يهوديا واحدا فقط، فإن أرض إسرائيل لديها أمل وفرصة. إن أي مستوطنة صغيرة أو كبيرة، غنية أو فقيرة، في أرض الآباء، هي المكان الذي سيولد فيه الشعب اليهودي من جديد ويصبح أمة عظيمة". لقد كان ناتان ينظر إلى يهود أوروبا المهاجرين إلى أميركا بازدراء، ويراهم في أرض "نجسة"، وهو شعورٌ سيتسلل إلى أحفاده في احتقار اليهود الأميركيين، خاصة يوناتان وبنيامين.

وُلد ميليكوفسكي 1880 -كسائر شيوخ الصهيونية أوروبيا- في ليتوانيا، وتعلم في مدرسة دينية في بولندا، وبلغ مرتبة الحاخامية وهو ابن 18 سنة، وحين بلغ التاسعة والعشرين تزوج سارة لوري، وهي فتاة ليتوانية جمعهما العمل في جمعية محبي صهيون. استقر الزوجان في وارسو البولندية، حيث أصبح ميليكوفسكي مدرسا للغة العبرية، وفي عام 1910، وُلد ابنهما الأول بن صهيون. وبعدها بعشر سنوات، في 1920، سينتقل ناتان بأسرته إلى فلسطين في عهد الانتداب، ويستوطن الجليل، ويعمل مديرا لمدرسة "ڤيلكوميتز"، على مرتفعات الجليل بالقرب من صفد، وهي أول مدرسة عبرية في فلسطين. وحين اكتهل وضعفت حماسته للخطب، نشط في تدبيج المقالات داعيا للاستيطان وعبرَنَةِ الجليل، وبحثا عن انسجام الداعي والدعوة قرر التخلي عن اسمه الروسي، فصار يوقع مقالاته باسم "نتنياهو"، وهو اسمٌ انتقشَه من قصص التوراة، وصار لقبا لذريته من بعده.

لم تبدُ أرض الأحلام للحاخام الزمّيت بيئة هانئة، فقد وجد نفسه وسط نخبة من العلمانيين الصهاينة الذين لا يؤمنون بإله، ولا يصدقون شيئا من الوصايا ولا الحكايا التوراتية سوى أحقيّتهم في تلك الأرض، ولغربته الدينيّة لم يلقَ تقديرا لدى النخبة السياسيّة، فعاشَ محدود التأثير. وحين سنحت له فرصة المشاركة السياسيّة، قام محاميا مع ابنه البِكر عن المتطرفين المتهمين بقتل حاييم أرلزوروف، رئيس الشعبة السياسية في الوكالة اليهودية عام 1933، ولم يُحكم عليهم بشيء لنقص عدد الشهود. كان هذا هو العمل السياسي الوحيد الذي جمعه وابنه بن صهيون.

مشروع أوغندا

كان مشروع دولة يهودية في شرق أفريقيا على مساحة من دولتي أوغندا وكينيا الحاليتين جذابا لبعض الصهاينة المتقدمين، اقترحه وزير المستعمرات البريطانية جوزيف تشامبرلين على ثيودور هرتزل، واقتنع به هرتزل، الذي كان يرغب أولا في إقامة دولة لليهود قرب فلسطين، في سيناء أو قبرص أو العريش المصرية. لاحقا قدم هرتزل خطة أوغندا للمؤتمر الصهيوني السادس عام 1903، لكنه قوبل بمعارضة تعاظمت لصالح تأسيس دولة في فلسطين. يمكنك في الخريطة السابقة أن ترى أسماء المستوطنات والمدن التي أسستها دولة الاحتلال لاحقا في فلسطين، مثل تل أبيب.

وفي ليلِ الحاخام المنبوذ، لمع نجمُ فيلاديمير جابوتنسكي، أحد أهم منظري الصهيونية، فاتخذه هاديا. كان جابوتنسكي ملحدا ولكن بحماسة مؤمن، فلامست جذريّتُه الثوريّة وإيمانُه بأرض إسرائيل الكبرى الممتدة على طرفَيْ نهر الأردن هوى في قلب الحاخام، فاقترب منه ومن تياره التصحيحي الذي كان يتبنى موقفا أكثر عنفا من الفلسطينيين، وسياسة أكثر جذرية من تلك التي يتبناها التيار الصهيوني العام، ويدعو لاتخاذ خطوات مثل تأسيس فيلق يهودي في الحامية البريطانية في فلسطين، ولاستيطان أوسع لليهود هناك، بدلا من الهجرات المحدودة والمجدولة أو الجهود الدبلوماسية وشراء الأراضي.

وبهذا الاقتراب كان نتنياهو الجد قد هيّأ لابنه الأسباب ليصبح راوية لأفكار جابوتنسكي، الذي غيّر اسمه كذلك إلى زئيف، ويعني "الذئب" بالعبرية. ولكن اقتراب الحاخام من التصحيحيين لم يجعله واحدا منهم، يقول المؤرخ ومحرر الموسوعة اليهودية يوسف كلوزنر: "لم يكن الحاخام ميليكوفسكي حزبيا تصحيحيا، بل كان صهيونيا صِرفا، ويكفيه ذلك. فقد أُعجب بجابوتنسكي ورأى فيه مقاتلا شجاعا من أجل خلاص اليهود، وداعما لتحقيق الهدف القومي كاملا".

جابوتنسكي أراد أن تكون الأولوية لتكوين قوة عسكرية رادعة لتأمين المستوطنين وألا تعطي للعرب أملا في إمكانية طردهم

لم يكن جابوتنسكي يعرف أنه بكتابته للمقال الذي سلّمه إلى جريدة "الفجر" التي يصدرها يهود روسيا في برلين، في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1923، كان قد وضع عقيدةَ آل نتنياهو السياسيّة ورسم لهم مسارا فكريا تعاقبت عليه ثلاثة أجيال من أسرة هبة الله (الترجمة الحرفية لـ"نتنياهو"). مثَّلت المقالة التي نُشرت في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني بعنوان "الجدار الحديدي" نواة فكرة اعتنقها الجدُّ الحاخام، وأصّلها الأبُ أستاذ التاريخ، وسيحامي عنها الإخوة، ببندقية الجنديّ يوناتان، وبلسان السياسيّ بنيامين، وبقلم الأديب عيدو.

بدا جابوتنسكي واضحا جدا في مقالته، وضوح المفكّر المسلّح الذي يحمل القلم في يمينه، وفي يساره بندقيّة. كان يكتب مقالاتِه الفكريّة بصيغة البيانات العسكريّة. لقد ضجر عسكريُّ الحرف من جهود الحركة الصهيونيّة التي سيطر عليها مثقفو اليسار وتعويلهم على خداع العرب في فلسطين عن أرضهم، ومفاوضتهم لإثبات براءة نيّاتهم في مشاركة الأراضي، فكتب مقالته ليبيّن لهم جوهر الصراع، وطبيعة المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي تحاوله الحركة: "قد نقول لهم ما نشاء عن براءة أهدافنا، ونتأنق في عباراتنا ونحلّيها بكلمات معسولة لنجعلها مستساغة، لكنهم يعرفون ما نريده، كما نعرف ما لا يريدونه.

إنهم يشعرون على الأقل بالحب الغريزي نفسه لفلسطين، كما شعر الأزتيك القدامى تجاه المكسيك القديمة". رأى جابوتنسكي أن الحركة الصهيونية تضيع وقتا ثمينا في المفاوضات، وتنشغل عن تكوين قوّة عسكريّة رادعة يمكنها تأمين المستوطنين. فـ"كل السكان الأصليين في العالم يقاومون المستعمرين ما دام توفر لهم أدنى أمل في القدرة على تخليص أنفسهم من خطر الاستعمار"، و"لا يهم على الإطلاق ما العبارات التي نستخدمها في شرح أهدافنا الاستعمارية، سواء أكانت تلك التي يستخدمها هرتزل أو السير هربرت صموئيل. يحمل الاستعمار تفسيره الخاص، التفسير الوحيد الممكن، غير القابل للتغيير، والواضح مثل ضوء النهار، لكل يهودي عادي وكل عربي عادي. فالاستعمار لا يمكن أن يكون له إلا هدف واحد، ولا يمكن لعرب فلسطين أن يقبلوا بهذا الهدف". وعليه، فالسبيل الوحيد لإنجاح هذا المشروع وضمانة استقراره تأسيس "قوة مستقلة عن السكان الأصليين خلف جدار حديدي، لا يستطيع السكان الأصليون اختراقه. هذه هي سياستنا العربية".

وضع جابوتنسكي هذه النظرية وهو واعٍ بالطبيعة العربية في الإباء والنضال التي مرَدَ عليها الفلسطينيون، "فما دام العرب يشعرون بأن ثمة أملا بطردنا، فسوف يرفضون التنازل عن هذا الأمل مقابل كلمة طيبة، أو خبز وزبدة، لأنهم ليسوا رعاعا، بل أمةٌ حيّة"، ولن يصل المحتل إلى أمان إلا "عندما لا يكون هناك أي أمل في التخلص منا".

توفي ناتان ميليكوفسكي في 1935 عن عمر يناهز الخامسة والخمسين. وكسائر الدعاة الذين ينشغلون بالعامة ويهملون أهل بيتهم، عاش أبناؤه التسعة حياة علمانيّة صِرفة، ومعظمهم بعيد عن إسرائيل. لكن ابنه البكر، بن صهيون، سيظل على عهد أبيه، وسيعيش بن صهيون عمره وعمر أبيه ويعمّر إلى المئة.

التقطَ الابن قلمَ أبيه ونشط في الصحافة، وكان مستودعا لأفكار جابوتنسكي الذي كان ينتج الأفكار، ثم ينشغل بن صهيون بتأصيلها تاريخيا لتخصصه في التاريخ اليهودي. كان يمينيا جذريا كأنه صفحةٌ من سفر يشوع، آمن بمشروع إسرائيل الكبرى على ضفتي نهر الأردن، وبالمجابهة المسلحة للعرب والانتداب البريطاني.

عن يمين اليمين

وكأن تطرف جابوتنسكي لم يكن كافيًا ليخطو نتنياهو الأب خطوة أبعد ضد العرب: لا دولة لهم، والأمر أُنف!

JERUSALEM, ISRAEL - FEBRUARY 8: In this handout photo, Benjamin Netanyahu (R), head of the right-wing Likud party, confers with his father Ben Zion Netanyahu in his father's house February 8, 2009 in Jerusalem. Netanyahu is the favouite to become Prime Minister in today's election which were called early by outgoing Prime Minister Olmert after an attempt to form a new government without elections failed. (Photo by Michal Fattal/Likud via Getty Images)
بنيامين نتنياهو (يمين) يتحدث مع والده بن صهيون نتنياهو (غيتي)
بنيامين نتنياهو (يمين) يتحدث مع والده بن صهيون نتنياهو (غيتي)

بن صهيون نتنياهو: العرب واليهود مثل عنزتين التقتا على جسر ضيّق، إحداهما مضطرة إلى القفز في النهر، ولكنهما لا تريدان الموت. ولذلك فإنهما تنتطحان على الدوام، وتؤمنان بأن إحداهما ستُنهَك في نهاية المطاف وتستسلم، وعندها سيتقرر الأقوى الذي سيرغم الأضعف على القفز. إن القفز لليهود يعني ضياع الشعب اليهودي، أما بالنسبة إلى العرب فإن قفز عنزتهم يعني تضرر جزء يسير منهم

لم يؤمن بن صهيون بشيء إيمانه بصواب رأي جابوتنسكي في الصراع مع العرب، فمن الواضح أن جابوتنسكي رأى موقف العرب عنيدا جدا، وليس سهلا للتسوية والقبول كما رآه التيار الصهيوني العام. لم يتبنَّ التصحيحيون من الدبلوماسية إلا بمقدار ما يسمح بتمرير جرائم تهجير وقتل الفلسطينيين، قال جابوتنسكي إن 90% من الصهيونية تكمن في أعمال الاستيطان العنيفة من القتل والتهجير، وإن 10% فقط منها هي السياسة.

لم يقف بن صهيون عند حدود معلمه، فقد حاجج جابوتنسكي بأن الجدار الحديدي والقوة الصلبة ستكون مقدمة ليتعايش الشعبان معا في سلام. أما نتنياهو الأب، مثل ابنه من بعده، فقد آمن بأن الجدار يعني ألا تُقام دولة عربية تقاسمهم أرض فلسطين، فقال بن صهيون: "ليس ثمة شعبان هنا، وإنما هناك شعب يهودي، وسكان عرب، ولا وجود لشعب فلسطيني". وحين سُئل عن حل القضية قال: "لا حل سوى القوة والحكم العسكري القوي"، وبعبارة أخرى لا بديل عن الجدار الحديدي.

حفظ بنيامين نتنياهو هذه الكلمات عن ظهر قلب، وعندما جاء إلى السلطة أول مرة في 1996، كان سابقاه إسحاق رابين وشمعون بيريز قد تركا له على مكتب الرئاسة اتفاقية أوسلو التي تقتضي إنشاء حكم مستقل للفلسطينيين. لم يقبل ابن أبيه وتلميذ جابوتنسكي بهذه الاتفاقية، وسعى لتفريغها من محتواها، فقيام أي شكل من أشكال الاستقلال، داخل الأراضي الفلسطينية، مناقضٌ لما يؤمن به من كون الأرض الفلسطينيّة كلها لليهود. وفي سنوات حكمه سينشط الاستيطان، "إنه مثل الرجل الذي يتظاهر بالتفاوض على تقسيم البيتزا مع الاستمرار في تناولها"، كما أخبرني أفي شلايم المؤرخ اليهودي، وأستاذ التاريخ في أوكسفورد.

شارون عن نتنياهو: هذا رجل لا يمكن الثقة به

في 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، سيقف نتنياهو بعد 17 عاما من الخدمة المتقطعة رئيسا للوزراء أمام الإسرائيليين مغازلا جمهوره اليمينيّ، ومتبجِّحا أمام اليسار الناقم، وقد خلع قفازات التفاوض مع الفلسطينيين ليقول مفتخرا: "كنت أنا العقبة أمام إقامة دولة فلسطينية!". كان اليسار الإسرائيلي على استعداد، ولو شكليّا، لتقديم تنازلات قد تُفضي بتأسيس دولة فلسطينية منزوعة القدرة والسلاح، لكن الرجل لم يدخر جهدا في إقصاء اليسار، وتحديد نفوذه السياسي.

في 1997، بعد عام من استلامه منصب رئاسة الوزراء، سيهمس في أذن أكبر حاخام في إسرائيل، إسحاق كدوري: "لقد نسي اليسار معنى أن تكون يهوديا". هذا الكُره لليسار له أسباب عدة، لعل أهمها ما ورثه عن والده بن صهيون، فحين أتمّ بن صهيون نتنياهو دراسته، قرعَ أبواب الجامعة العبرية ليعمل فيها، فلم يُفتح له. كان اليسار قد سيطر عليها وأغلقوا خلفهم الأبواب، ولم تتسع صدورهم لتوظيف خصم فكريّ، وهو ما ترك أثرا وثأرا في نفسه على النخبة اليسارية. وفي الوقت الذي كانت تنشط فيه الدعاية الصهيونيّة لاجتذاب يهود العالم إلى فلسطين، قرر بن صهيون الخروج، ويمم وجهه تلقاء الولايات المتحدة عام 1939، مُتحرِّفا لقتال ومُتحيِّزا إلى شيخه المنفيّ من إسرائيل، وهكذا أصبح مساعدا شخصيا وأمينا لسر جابوتنسكي لحين وفاته بعد عام قصير. وفي نيويورك نشط سياسيا مع الحركة التصحيحية، وباحثا أكاديميا ومسؤولا عن مكتب الحركة.

بعد إعلان تأسيس الدولة في عام 1948، عاد بن صهيون مع عائلته إلى إسرائيل ليستقر في القدس. وفي العام نفسه أسس مناحيم بيغن، تلميذ ووريث جابوتنسكي، حركة حيروت بوصفها حركة سياسية بعد أن ألقى السلاح عن كتفه، وحُلَّت منظمة إرغون، ثالثة ثلاث منظمات إرهابية وضعت حجر الأساس لإسرائيل بجانب منظمة شتيرن، والهاغناه. رأى بيغن في حركته امتدادا للتيار التصحيحي في الدولة الجديدة، لكنه وأنصاره لم يعطوا اعتبارا للوافد الجديد من الولايات المتحدة، ونظروا إليه بوصفه مهاجرا لم يبذل نفسه في الحرب ضد العرب، وعليه فإنه ليس مؤهلا للعمل في أجهزة الحركة، ولم يشفع له تاريخه الصحفي بأن يمارس أي دور في الصحيفة الناطقة باسم الحزب. بعد خمسة وأربعين عاما، سيتنافس الأبناء على ميراث الآباء، وسيواجه بنيامين نتنياهو بيني بيغن في منافسة على قيادة حزب الليكود 1993.

أب غائب وأخ حاضر

ضالة بنيامين التي وجدها في أخيه

(Original Caption) 1976-Ithaca, NY- Lt. Col. Johnathan Netanyahu is remembered as the leader of the daring raid which freed more than 100 hostages at Uganda's Entebee Airport 7/4/1976. His father Benzion Netanyahu, a professor at Cornell University, said in a recent interview that his son "Yoni" would be dismayed by the attitude of some nations towards terrorism today, seven months after Yoni died in the lightening raid. He was the only Israeli commando to die in the rescue.
"يوناتان نتنياهو" أو "يوني" شقيق نتنياهو الأكبر (غيتي)
يوناتان نتنياهو شقيق نتنياهو الأكبر (غيتي)

فقد بيبي صورة الأب في والده، ووجدها في أخيه الأكبر يوناتان، الذي كان يكبره بنحو ثلاث سنوات، وبقي يعيش في ظله، يرى فيه الأب الحنون والقدوة العليا، والصديق الأكمل. كان يوناتان، أو يوني كما يحلو لعائلته تسميته، الغيمة التي يستظل تحتها بينامين وعيدو من شمس أبيهم الصاهرة، ويعودان إليه في خلافاتهما فيحكم بينهما ويصدران عن رأيه. لكن يوني كان يميل إلى بيبي أكثر من عيدو، كتب يوما إلى صاحبته: "لا يوجد في هذا العالم شخص أحبُّ إليَّ من بيبي، ولا أقدرَ منه على فهمي".

كان الصبي يغدو إلى المدرسة ويروح إلى الدار، ووالده لا يبرح مكتبته، كانت الطبقة السياسيّة قد لفظته، فبقي أسير بيته، فجموده وأفكاره لم تكن تناسب قيادات مباي، الحزب الحاكم في الدولة الناشئة (مباي: حزب عمال أرض إسرائيل، وهو حزب يساري اشتراكي إسرائيلي سابق تأسس في ثلاثينيات القرن الماضي بقيادة ديفيد بن غوريون. كان هذا الحزب هو القوة المسيطرة في السياسة الإسرائيلية وقتها، وسيكون نواة لحزب العمال فيما بعد). "كان يمكن لآل نتنياهو أن يكونوا من العوائل المؤسسة لإسرائيل مثل عائلة دايان ووايزمان وهرتسوغ لو كانوا أقل أدلجة وأكثر براغماتية"، بحسب أنشيل فيفر الكاتب الصهيوني ومؤلف السيرة السياسية لبنيامين نتنياهو.

كان جوزيف كلاوسنر أكبر من بن صهيون نتنياهو بثمانية وثلاثين عاما، وبهذا كان بمنزلة مرشد لا مجرد زميل. أخذ نتنياهو الأب عن المثقف الليتواني احتقار المشارقة، عربا وأتراكا، وكان يصفه في خطاباته بـ
جوزيف كلاوسنر كان بمنزلة مرشد لنتنياهو الأب. أخذ عنه احتقار المشارقة (الصندوق القومي اليهودي)

يمدُّ المؤرخ وأستاذ الأدب العبري يوسف كلاوسنر يد العون لرفيقه المنبوذ، وهو الذي لم يفلح في منافسة حاييم وايزمان على رئاسة إسرائيل وخسر أمامه في انتخابات عام 1949، وما عسى المرء أن يفعل حين يفشل في السياسة والتأثير، يتحول إلى مثقف أو مؤرخ يبحث عن سلطة على الأجيال اللاحقة بعد أن فاته التأثير في الجيل الذي يعيش معه. يعرض كلاوسنر وظيفة مساعد محرر للموسوعة العبرية، وإن شئت قل "المحكيّة العبرية"، على بن صهيون، فيقبلها ظنًّا منه أنه نجا من سطوة اليسار، سيترقى بن صهيون بعد أعوام ليصبح محررا للموسوعة، ويتنبه له اليسار في حرفه للرواية التاريخية لصالح مزاجه اليميني.

تطورت زمالة كلاوسنر وبن صهيون إلى صحبة وثيقة ومجلس دوري يتطارحان فيه هموم السياسة التي لم تواتهما أسبابُها، وشجونَ التاريخ اليهودي على مائدة ممتلئة بمخبوزات الشرق الأوروبي وأقداح الشاي. تلك المجالس التي شهدها الروائي والمفكر البارز عاموس عوز وكتب عنها في روايته "قصة الحب والظلام"، حيث كان يرتاد بيت يوسف كلاوسنر، ويرى بن صهيون وأبناءه هناك. يذكر عاموس ركله لواحد من أبناء بن صهيون: "لقد ركلت أحدهم ذات مرة، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، بكل قوة بحذائي، لأنه كان يزحف تحت الطاولة ويفتح أربطة بنطالي ويجذب أطرافه. حتى يومنا هذا لا أعرف ما إذا كنت قد ركلت الأخ البطل [يوني] أم الأخ الذكي [بيبي]".

سردية مسروقة في وطن مسروق

ضرورة أن تحتاج إلى قصة أخلاقية لتبرير جرائمك

(FILES) - A picture dated April 1, 2009 shows Benzion Netanyahu, father of Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu, arriving to attend a change of power ceremony at President Shimon Peres' residence in Jerusalem. The prominent right-wing historian died at the age of 102 at his home in Jerusalem early on April 30, 2012 the premier's bureau said. AFP PHOTO/Lior Mizrahi == ISRAEL OUT ==
بن صهيون نتنياهو والد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الفرنسية)
بن صهيون نتنياهو والد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين (الفرنسية)

في ديسمبر/كانون الأول 1957، توجهت نقابة العمال التابعة لحزب مباي إلى ممولي الموسوعة العبرية بشكوى مفادها أن بن صهيون نتنياهو يقلل من دور حركة العمل الصهيونية في تأسيس الدولة ومحاربة الإنجليز، ويعزو للحركة التصحيحيّة بقيادة جابوتنسكي دورا أكبر في قيام الدولة. شيء ما في مسيرة بن صهيون العلمية يجعلنا نتفهّم هذه التهمة، فقد كان الرجل يميل إلى التنقيح التاريخي، أو الكذب بعبارة أخرى، لنصرة أفكاره، ونزع الشرعية عن خصومه.

ففي أواخر الثلاثينيات، أمضى بن صهيون معظم وقته في جمع وترجمة وتحرير كتابات آباء الصهيونيّة الذين كان يرى أنهم لم يتلوثوا بالفكر الاشتراكي، وكان من بين المؤلفين ثيودور هرتزل، وماكس نورداو، وهما من المؤسسين للصهيونية السياسية. كان بن صهيون بعمله هذا يريد أن يقدم محكيّة عن "السلف الصهيوني المثالي"، الذين خرج اليسار الصهيوني عن هديهم.

ستنتقل نزعة العبث بالتاريخ وتجييره لفكر كاتبه إلى الابن وتصبح إحدى دعائم دعايته. يقف بنيامين عام 2015 في المؤتمر الصهيوني العالمي مستفزا المسلمين، حيث يقول إن الحاج أمين الحسينيّ هو الذي أقنع هتلر بتنفيذ "محرقة اليهود". وبعد تزايد الضغط الإسرائيلي عليه بأن هذا التصريح يسيء للمأساة اليهوديّة ويبرّئ صانعها (هتلر) اعتذر نتنياهو، وقال إن كلامه "فُهم على غير وجهه". ولكن الرجل لم يكن قد ابتكر هذه الخرافة في ذلك المؤتمر، إنما اقتبسها من كتابه "مكان تحت الشمس" الذي كتبه عام 1993!

بعد خمس سنوات من هذه الشكوى (1962) وإصدار عشرة مجلدات من الموسوعة، فتُحت لبن صهيون نافذة أمل لاستئناف عمله الأكاديمي في الولايات المتحدة، والتحرر من البيئة الطاردة في إسرائيل، فاستقال وسافر إلى أميركا بعد الحصول على عقد عمل في إحدى الجامعات في فيلادلفيا، ولن يعود إلى إسرائيل إلا بعد صعود الليكود للحكم في 1977.

لم يتلقَّ الصغار خبر السفر إلى أميركا هذه المرة كما تلقوه في المرة الأولى عام 1958، حين استقبلوه ببهجة الأطفال بالحلويات، فقد كانت أميركا تعني لهم معلبات الطعام وقطع الحلوى التي يرسلها أقرباء والدهم من العالم الأول بين فترة وأخرى. في ذلك الوقت كان أبوهم قد حصل على عرض زمالة جامعية في نيويورك لمدة عامين، فساق عائلته معه مطاردا حلمه الأكاديمي. في ذلك الوقت لقي بيبي صورة غير التي كان يحلم بها، فقد عانى عزلة في المدرسة بسبب حاجز اللغة التي لم يكن يعرفها، كانت أمه تجلس معه بالساعات تقوّم لسانه للنطق بها، حتى لا ينطق "the" (ذي) "zee" (زي) كما يفعل الشرقيون. أقامت العائلة وقتها في شقة صغيرة في فندق كاميرون على الجادة السادسة والثمانين في منهاتن، التي لم تكن مناسبة لمزاج الأطفال في سن الانطلاق. بعدها بعام انتقلوا إلى بيت ريفي في لونغ أيلاند، لم تلههم باحته الواسعة عن رغبتهم في العودة إلى القدس من جديد.

في 1961، وقبيل السفر إلى أميركا للمرة الثانية، بدأ بيبي دراسته في الثانوية العبرية "Gymnasia Rehavia"، إحدى أشهر المدارس في القدس، وكان أخوه يوني يعيش أمجاد مراهقته، فقد كان قائد الكشافة ورئيسا للمجلس الرياضي الطلابي. ولذلك كان تلقيهما لخبر الانتقال إلى الولايات المتحدة مرة أخرى خبرا صاعقا. كان يوني يُسِرّ دائما لبيبي بأنه يريد أن يتحرر من قيود المنزل الصارمة والسير وراء أحلام أبيه -الذي تجاوز الخمسين- في الدكتوراه، وأن يستقل بالعيش وحده متى ما بلغ سن الثامنة عشرة. عاش يوني أيامه الأخيرة قبل السفر إلى أميركا مقاطعا لوالديه، معتزلا لهم، مقفلا على نفسه باب غرفته.

عاش الإخوة نتنياهو، وهم من اليمين، الأخ الأصغر عيدو، ثم يوناتان، ثم بنيامين، حياة جادة في شبابهم، وحنق أكبرهم على اهتمامات الشباب الأميركيين وتمحورها حول المتع لا المسؤوليات. (مصدر الصورة: XX)
الإخوة نتنياهو من اليمين الأخ الأصغر عيدو ثم يوناتان ثم بنيامين (المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية)

لقي المراهقان نفسيهما مرة أخرى في الولايات المتحدة، يعيشان حياة لا تشبههما. كان يوني يبغض النمط الأميركي أشدّ بغض، ربما انتقلت إليه العدوى من جدّه الحاخام الذي لم يرضَ يوما عن اليهود المقيمين هناك. لقد نشأ المراهقان على عزائمِ أبيهم الفكرية، وتأهيل المؤسسات التعليمية للنخبة الإسرائيلية، ليجدا نفسيهما فجأة رفقة فتية أميركان تشغلهم أسئلة الهرمونات وبيولوجية المراهقة. لخَّص يوني مشاعره تجاه زملائه الأميركيين في رسالة أرسلها في أبريل/نيسان 1963 إلى أحد أصدقائه في القدس: "ليس للشباب هنا حديث سوى أحاديث السيارات والفتيات. حياتهم تطوف حول موضوع واحد، وهو الجنس، وأعتقد أن فرويد سيكون سعيدا ببيئة كهذه يثمر فيها زرعه ويلتقط ثمارها. يوما بعد يوم، يتجذّر شعور في نفسي بأنني أعيش بين قرود، وليس بين بشر!".

كان للأخوين نشاطٌ وجدٌّ في التحصيل كجدِّ مَن نشأ على أرض مغصوبة وليس له رفاهية الارتخاء، وورثا من والدهما الولع بالقراءة، وكان لبنيامين دفتر صغير يدوّن فيه المعلومات والكلمات الجديدة التي تمر بسمعه كل يوم. يحكي جاريد كوشنر في مذكراته في البيت الأبيض "Breaking History" عن أرقٍ أصاب رئيس الوزراء نتنياهو حين زار بيتهم، وباتَ ليلته في غرفة جاريد، ولما عجز عن النوم، التقطَ نسخة وجدها على الرف لرواية تشارلز ديكنز "آمال عظيمة"، وحين طلع الصباح وجد أنه قد جاوز نصفها، فاستأذن من كوشنر أن يأخذ الكتاب معه ليكمله.

بعد أشهر من الإقامة، وشيئا فشيئا دبّت في الغلامين -كما كان والدهما وجدهما- حُمَّى الدعاية لإسرائيل والمشروع الصهيوني، فصار حديثهما في كل مكان. اكتشف يوني أنه لم يكن يعيش بين "قرود"، وأن في محيطه "عددا قليلا من البشر، ذوي أدمغة وحكمة من مستوى عالٍ"، كما كتب لاحقا لأحد أصحابه بعد أن صار يُدعى إلى التجمعات الطلابيّة والحفلات ليبشر بالصهيونيّة.

لم يلبث يوني أن وجد في الالتحاق بالجيش وسيلة للتخلص من العيش في أميركا وتحت سقف والده، وبقي بيبي في الولايات المتحدة لإتمام دراسته الثانويّة. كان لأبيهما نظرة لمستقبلهما في الأكاديمية الأميركية، فكان يرغب في أن يسيرا مسيرته في تحقيق أحلام لم يفلح في تحقيقها. ولكن يوني تمرّد عليه، وظل بيبي يلاينه ويسايره حتى حين.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث إلى الطلاب وهو يقف أمام لافتة تصور شقيقه الراحل يوناتان
بنيامين نتنياهو يتحدث أمام لافتة تصور شقيقه الراحل يوناتان (شترستوك)

في الوقت الذي تأبّى يوني على نمط الحياة الأميركي والثقافة الأميركية، وأسرَلَ سنواتِ بقائه فيها بالدعوة إلى الصهيونيّة، سيتأمركُ أخوه، وسيحمل أميركا بداخله إلى إسرائيل، سياسة وثقافة واقتصادا. لقد شغف الفتى بالتاريخ الأميركي، فهو نموذج باهر وناجز لكل ما سمعه في جلساته مع أبيه عن تاريخ الاستيطان ومستقبل إسرائيل. وما زال التاريخ الأميركي ومذكرات رؤسائه وساسته من الموضوعات المحببة لدى رئيس الوزراء الحالي، وتشغل حيزا من مكتبته. كما أنه يتحدث بالإنجليزية في اجتماعاته المصغّرة في مكتبه.

بعد رحيل أخيه يوني صار بيبي يجتهد في جمع المال من العمل في غسل الأطباق في المطاعم المحلية، ليوفّر ثمن التذكرة التي تحمله إلى أخيه وأصحابه في فلسطين في كل صيفيّة أو إجازة دراسيّة. ومع كل زيارة بدأ أصدقاؤه الإسرائيليون شيئا فشيئا يرون أثر الأمركة عليه؛ في طريقة لبسه وحديثه عن الثقافة الأميركية ومديحه للتلفاز الذي لم يكن متاحا بعد في القدس، وانتهاء بمقارنته بين الرأسمالية الأميركية والاقتصاد المركزي في إسرائيل تحت رئاسة حزب مباي، في كل مرة يزورون فيها الكيبوتسات التي يعيش أهلها على الطريقة الاشتراكية.

عقلية البقال في ميدان القتال

حسابات الربح والخسارة تهيمن على تفكير بنيامين

Benjamin Netanyahu, right, training in 1971 (Photo credit: Wikicommons/ GPO)
بنيامين نتنياهو على اليمين يتدرب في عام 1971 (المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية)
بنيامين نتنياهو على اليمين يتدرب في عام 1971 (المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية)

يجلس البقّال في دكانه الصغير، وسط كومة من الصناديق نصف الفارغة، يحدّقُ من خلفِ نظارته المتشبّثة بطرف أنفه في دفتر حساباته المفتوح دائما، الذي تخضع له رقابُ كل رجال الحيّ المشترين منه بالآجل. وحده يعرفُ حاجاتِ جيرانِه، ويقدر على تصميم متجره ليصطاد ما في جيوبهم. أخبار الحيّ حوله هي فرصٌ استثماريّة محققة، تبشّره بقدوم مولود جديد، فيسجّل في قائمة التموين طلبات على الحليب والحافظات. يشكو إليه أحدهم من مراهقة ابنه الطائشة، فيجهّز له علبتين من الدخان يخبئهما في أدراجه السفلية. يزفُ إليه ثالثٌ خبر تفوّق ابنته، فيسارع إلى ملء ركن الحلويّات. قد يتطور نموذج البقّال ويصبح رئيسا للوزراء ويصيّر دولته إلى دكان في منطقة مولعة بالاستهلاك.

في نهاية سنوات دراسته الثانوية، وقف بنيامين على مفترق طرق، بين والده الذي يلحُّ عليه في استكمال تعليمه في جامعة أميركيّة مرموقة، مثل ييل التي حصل على قبول فيها، وبين دعوة أخيه يوني ليلتحق به في الخدمة العسكريّة. وفي عام 1967، وجد بيبي في ضجيج طبول الحرب التي تقرع حجة ليتخلص من ضغط أبيه ويلتحق بأخيه. كتب بنيامين لاحقا أن والديه لم يحاولا إقناعه بالعدول عن قراره: "سألوا: هل أنت متأكد من أنه ستكون هناك حرب؟ أجبت: بالتأكيد. وإلى جانب ذلك، أريد أن أرى يوني قبل أن تندلع".

كان نتنياهو متحمسا طوال الوقت لاشتعال الحرب، لكنه لم يقاتل إلا قليلا، وحينها قرر الابتعاد عن المعارك العسكرية والتمكن من المعارك الكلامية. (مصدر الصورة: موقع نتنياهو الشخصي)
نتنياهو كان متحمسا طوال الوقت لاشتعال الحرب، لكنه لم يقاتل إلا قليلا (موقع نتنياهو الشخصي)

في الخامس من يونيو/حزيران 1967، وحيث كانت إسرائيل تتجهز لنصرها الحاسم على العرب، كان الفتى بنيامين يغطُّ في نومة طويلة على سريره في القدس، ولم توقظه إلا أصوات المدافع. لم يكن بيبي قد وُلد في نصر كيانه الأول في 48، ولم يشهده في 67، وعاش بقية حياته يبحث عن نصر مفصليّ يكون فيه هو قطب الرحى.

دخل بنيامين الجيش في أغسطس/آب 1967 يقتفي خطى أخيه ويتفيّأ ظِلاله. ومع لياقته الرائعة، وقوّته الجسديّة التي تجعله يبدو وسيما في الزيّ العسكريّ، لن يستطيع بيبي أن يكون مقاتلا أبدا. يحتاج المقاتل إلى شيءٍ من روح التضحية من أجل الجماعة، وهو معنى غريب على شخصية تحسب المكاسب والخسائر في الحياة حسابَ التاجر وصاحب الدكّان. سيعيش بنيامين بروح البقّال، فطوال مسيرته لم ينذر بنيامين حياته لغير مكاسبه، حتى الدين -وهو اليمينيّ المتطرِّف- لم يكن يعطيه إلا بالقدر الذي يتضمنه الدينُ له من مكسب ومنفعة.

التحق بيبي بفرقة وحدة استطلاع هيئة الأركان العامة، التي يُطلق عليها "سايريت ماتكال"، وهي وحدة للقوات الخاصة في الجيش الإسرائيلي، تتركز مهامها على الاستخبارات الميدانية والعمل خلف خطوط الخصوم، ومحاربة "الإرهاب" وتخليص الأسرى. بقيت هذه الفرقة طيّ الكتمان داخل الجيش حتى كُشف عنها عام 1992، وكان أعضاؤها يرتدون بدلات تشابه بدلات المظليين ويشار إليها برقم الفرقة 269. وفي حالات الانكشاف لبعض عملياتهم، كان الجيش ينسبهم إلى "وحدة النخبة" أو "فرقة المظليين الخاصة". نشطت الفرقة في حرب 67، ورسمت صورا مفصلة للقوات المصرية والسورية والأردنية، وكان لها دور حاسم في النتيجة التي انتهت إليها الحرب.

سيغادر نتنياهو "سايريت ماتكال"، لكنها لن تغادره. لقد عوّدته الخدمة في الفرقة على الجلوس على الطاولات التي تبسط عليها الخرائط، وتحدد فيها الجهة التي ستوجّه لها الضربة، وكأن المنطقة ملعبٌ لهم. علّمته سنوات الخدمة في الفرقة أن ينظر إلى الكيان في محيطه وسياقات دول الجوار، وصاغته الفرقة ليكون سياسيا خرائطيا، عينٌ على الداخل وأخرى على الإقليم. حرّضته عقلية الفرقة النخبوية، التي تحظى باستقلالية من نوع ما عن المنظومة العسكرية النظامية، على التمرّد على البيروقراطية والتخفف من ترهل المؤسسات التقليدية.

نتنياهو يصافح الرئيس الإسرائيلي زلمان شازار خلال حفل أقيم عام 1972 لتكريم جنود سايريت متكال الذين أطلقوا سراح الرهائن في عملية اختطاف في وقت سابق من ذلك العام. المكتب الصحفي للحكومة الإسرائيلية / غيتي
نتنياهو يصافح الرئيس الإسرائيلي زلمان شازار خلال حفل أقيم عام 1972 لتكريم جنود سايريت ماتكال (موقع نتنياهو الشخصي)

بقي بيبي أسير العمل العِصابيّ. فريق صغير نخبويّ لا يخضع لبيروقراطية مؤسسات الدولة، ولا إلى تراتبيّتها، يحدد الهدف المطلوب ويحققه بأفضل طريقة. وحين تتحقق النتائج، ينفردُ بالمجد لوحده، وحين يخطئ، لن يعرف أحد، وسيعود للقنوات التقليديّة. لكن حين تخطئ مؤسساته، فإنه سيكون أولَ قافزٍ من مركب الفشل. بدا ذلك جليا في خروجه أثناء حربه الأخيرة على غزة لانتقاد قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وألقى باللائمة عليهم في هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قبل أن يحذف منشوره ويعتذر عنه. صحبته العقليّة العِصابيّة في السلك الدبلوماسيّ، فآثر العمل مع القنوات الخلفيّة والوسطاء السريين ذوي العلاقات الشخصية على هرميّة وزارة الخارجيّة وسفاراتها، وستثمر هذه الطريقة في مشاريع التطبيع العربية، وتحقق نتائج جيّدة. لقد اتخذ من نموذج الفرقة معيارا للإنجاز. يقول أحد مساعدي نتنياهو، الذي ذاق مرارات العمل له: "عندما تسوء الأمور في مكتبه الفوضوي، سيستهدفك نتنياهو بالنقد، صارخا: "لم يكن من الممكن أن يحدث هذا في 269"، مستخدما الرقم الرمزي لسايريت ماتكال".

إلى اليوم لا نعرف الكثير عن عمليات "سايريت ماتكال" التي شارك فيها بنيامين، وذلك يعود لسريّة أعمالها. لكن ما وصلنا عن زملائه في تلك الفترة أنه قضى أوقاتا طويلة في مطالعة المجلات الأميركية والكتب الإنجليزيّة. كما تعطينا بعض العمليات التي رُفعت عنها السريّة صورة لبنيامين المقاتل، شارك نتنياهو في اثنتين منها، كادَ يغرقُ في الأولى، وفي الثانية اشتبكَ مع فتاة مجنّدة، وقيلَ إن رصاصة انطلقت من سلاح زميله استقرّت في مؤخّرته.

المجد للصورة

وَإِذا ما خَلا الجَبانُ بِأَرضٍ طَلَبَ الطَعنَ وَحدَهُ وَالنِزالا

بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة عام 1984 (موقع نتنياهو الشخصي)
بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة عام 1984 (موقع نتنياهو الشخصي)
بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة عام 1984 (موقع نتنياهو الشخصي)

في مشهد مفاجئ في مساء السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول 2023، فتح بنيامين نتنياهو أزرار قميصه العليا أمام الشاشات أثناء حديثه في مؤتمر صحفي للتعليق على أحداث حرب الإبادة التي يشنها جيشه على الفلسطينيين في قطاع غزة، وأخرج قطعة معدنية معلقة في رقبته، قائلا: "هذه هويتي العسكرية، أحملها معي في أي مكان". لم يحارب نتنياهو إلا قليلا، لكنه يعشق صورة المحارب، ويعشق الدعاية، لذلك ما فتئ يؤكد صورته بوصفه محاربا، بيدَ أن تاريخَه لا يشهدُ له بهذا.

في سنوات حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل، تسللت فرقة من الجيش الإسرائيلي الحدود المصرية ودمرت شاحنة. كان ذلك في 11 مايو/أيار 1969، وأسفرت العملية عن استشهاد جنديين مصريين. تولى بيبي تغطية انسحاب رفاقه من وراء الرشاش الثقيل. وبعد ليلتين، عاودت الفرقة التسلل، وكان المصريون في انتظارهم. بادر المصريون بفتح النيران على القوارب المتسللة، وقُتل على الفور حاييم بن يونا، زميل بيبي في الفرقة ورفيقه من دورة الضباط. أُصيب القارب الثاني، وسقط نتنياهو في القناة. كقطعة من حديد، غاب بيبي في المياه المعتمة، مثقلا ببندقيته وصناديق الذخيرة. كانت مسيرته على وشك النهاية قبل أن تبدأ، لولا أن قفز أحد كوماندوز البحرية وأمسكه من شعره، بينما أمسك جندي آخر من فرقته بحزامه القتالي. قام الرجلان بسحبه إلى حافة القناة، عندها التقط بيبي أنفاسه التي كانت توشك على الانتهاء.

وعلى العكس من اليدِ التي مُدَّت له في العملية الأولى، كاد أحد رفاقه أن يقتله في الثانية. في 8 مايو/أيار 1972، اختطفت منظمة أيلول الأسود طائرة بوينغ 707 لشركة سابينا البلجيكية التي تقل إسرائيليين واقتادتها إلى مطار اللد، وطالب الخاطفون الأربعة (رجلان وامرأتان) بإطلاق 315 من الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال. حوّلت حكومة الاحتلال برج المطار إلى مقر مجلس حرب مصغّر بحضور وزير الدفاع موشيه دايان، وقائد الأركان ديفيد العازار، ومدير المواصلات شمعون بيريز، واستُدعيت فرقة "سايريت ماتكال" التي كان يخدم فيها الأخوان نتنياهو. ولأن قانون الفرقة لا يسمح بمشاركة الأخوين في مهمة واحدة، أقنع بيبي أخاه الأكبر يوني بأن يشارك مكانه. ولعل يوني رازَ الأمرَ ولم يجد في العملية خطرا على أخيه، فأذِن له بالمشاركة. بعد مفاوضات كثيرة وتعثر محاولات تخليص الركاب، ساهم تواطؤ الصليب الأحمر في إدخال الأسلحة والجنود تحت غطاء تزويد الركاب بالطعام والشراب في نجاح العملية. اشتبك الجنود مع الخاطفين وقتلوا اثنين منهم، وراكبا. أمسك بنيامين المرتبك بشعر إحداهن، الفدائية تيريزا هلسة، فانقلع شعرها المستعار في يده، وفي الوقت نفسه صوّب زميله ماركو إشكنازي سلاحه وأطلق على الفدائية، فارتدّت الطلقة وأصابت بنيامين. ظلت الصحافة الإسرائيلية تتداول خبر الرصاصة الصديقة التي انغرست في مؤخرة نتنياهو، حسب ما ذكر أنشيل فيفر، الصحفي الإسرائيلي وكاتب سيرة نتنياهو. حين كشف الجيش لاحقا عن تفاصيل العملية، لم يغب عنهم صون كرامة الجنود، فذكر أن الرصاصة -خلافا لما شاع- أشوَت، وأصابت ذراعه اليسرى، وتركت جرحا طفيفا. في عملية الاختطاف التالية، سيُصاب آل نتنياهو إصابة قاتلة تصمي قلوبهم.

بغض النظر عن موقع ذلك الجرح الذي خلفته الرصاصة الصديقة، عاد بنيامين يحسب خياراته ومستقبله في الخدمة العسكرية، وستكون هذه العملية آخر عهده بالعسكرية الإسرائيلية. آثر الرجل السلامة، واختار صناعة الكلام -وهي مهنة آبائه- فهي أسهل عليه من مخاطر السِّنان، فأنهى خدمته وعاد إلى الولايات المتحدة، أرض الأحلام، يتلمس طريقا أقل كلفة لخدمة إسرائيل، وينشط في الدعاية الصهيونية. انضم إلى معهد التقنية في ماساتشوستس (إم آي تي) ليدرس هندسة العمارة، وبقدرته في الإقناع وتسخير مواهبه الكلاميّة استطاع أن يقنع أستاذه بأن يختصر عليه البرنامج، فقطع سنوات الهندسة وثبا، وأنجز البكالوريوس في مدة قياسيّة. بعد كدٍّ وجهدٍ وساعاتٍ في المرسم وسط المساطر والفرجارات، تبيّن له أنه مجبول على الاستثمار لا الابتكار، فخصص دراسته العليا لإدارة المال والأعمال.

في يونيو/حزيران عام 1976، خطط المقاوم وديع حداد لعملية اختطاف طائرة فرنسية أقلعت من تل أبيب وعلى متنها إسرائيليون يهود، في طريقها إلى باريس توقفت في أثينا لتقل 58 مسافرا آخرين من بينهم اثنان من الجبهة الشعبية، وألمانيان من الخلايا الثورية. غيّر الخاطفون مسار الطائرة إلى أوغندا، فنزلت في مطار عنتيبي، وأطلقت سراح الركاب من غير الإسرائيليين، أما الإسرائيليون فأبقتهم للمفاوضة عليهم مقابل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال. شارك يوناتان نتنياهو في قوة إسرائيلية قوامها 100 جندي لتحرير الرهائن الإسرائيليين، وعاد الجنودُ تسعة وتسعين، بعد أن قُتل يوناتان في الاشتباك.

طوى الخبرُ المحيطَ الأطلسي حتى وصل إلى بنيامين في بوسطن، دارت به الأرض، وتداعى عالمُه الذي كان أخوه يتربع في مركزه، وكتب بيبي لاحقا: "شعرت أن حياتي قد انتهت". لم يفقد بيبي أخاه فحسب، بل فقد قدوته، وصديقه الأقرب، ونموذج البطولة، ومَن كان يُمثِّل له بوصلة في الحياة. بمقتل يوني سيشعر بيبي باليُتم ووالداه أحياء. لقد فهم الطبيبُ النفسيّ الذي كان يخدم مع الأخوين في "سايريت ماتكال" طبيعة العلاقة بينهما حين رآهما معا في مقر الجيش. كان لدى يوني اجتماع في فرع العمليات، وكان بيبي ينتظره في الخارج، يقول الطبيب: "ما زلت أتذكر نظرة الإعجاب الكامل والمطلق على وجه بيبي وأنا أشاهد يوني يدخل إلى الاجتماع، لم تكن تلك هي النظرة التي تراها على وجه شخص بالغ. لقد كان الأمر مذهلا للغاية".

Le premier ministre d'Israël Menahem Begin ainsi que le membre de la Knesset Shimon Peres lors de la célébration de l'anniversaire de la mort de
رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن (يمين) وعضو الكنيست شيمون بيريز خلال ذكرى وفاة يوناتان عام 1981(غيتي)

حين فقد أبو ليلى المهلهل أخاه كليبا، تحولَ إلى وحشٍ لم تروِه دماء بني بكر بن وائل، ورأى في أبناء عمومته عدوا جديرا بالإبادة. وحين فقد لينين أخاه الأكبر أليكساندر الذي شنقه القيصر، نبتت له أنياب، واتضحت له طريق الانتقام عبر العمل السياسي. وسيقضي بنيامين بقية عمره يبحث عن ثأر أخيه.

يقف الأبُ بن صهيون في وداع ابنه على حافة القبر، والتابوت يُدلّى في الحفرة، وحوله جوٌّ من التاريخ والملاحم ليقول: "لا يعرف العرب بعد حجم الخسارة التي ألحقوها باليهود! لقد كان أفضل جنرال يمكنه قيادة الشعب اليهودي، وها قد رحل الآن".

للدم ثمن ربيح

بن صهيون ينعي ولده ويكسب من ورائه المال والشهرة

جنازة يوناتان نتنياهو
جنازة يوناتان نتنياهو (أسوشيتد برس)
جنازة يوناتان نتنياهو (أسوشيتد برس)

بجانب بن صهيون وقف وزير الدفاع شمعون بيريز مؤبِّنا ليوناتان مدعيا صحبة بينهما، وحاكيا قصصا لا يستطيع غير يوناتان كشف حقيقتها، ولم يكتفِ بيريز بهذا حتى أخذ يدّعي معرفة بعائلة نتنياهو وجدهم الحاخام، ولكن حبل الكذب لا يطول، فأخطأ في اسم الجد، وفي مهنته. ورغم الحزن المخيّم على آل نتنياهو، بدأ الأب والأبناء يتنبهون إلى درسٍ مفيدٍ في السياسة، وهو أن للدم ثمنا ربيحا، وأن بيريز بدأ يرابي بدم ابنهم. لم تفوّت العائلة الاستثمار بهذا الأصل الذي ورثوه، وسيغدو بنيامين -بمهاراته التسويقية- أكبر مستفيد ومتاجر بدم أخيه.

سيجتمع المؤرخ بابنَيْه الأديب (عيدو) وخبير التسويق(بنيامين) ليكتبوا كتابا عن العمليّة "معركة يوني الأخيرة"، مبادرين إلى الإمساك بزمام السرديّة، مختلقين تاريخا جديدا منقحا على عين بن صهيون، ومسلطين الأضواء على أخيهم الراحل بجعله في قلب العملية وبطلها الفريد وقائدها الفذّ، الذي ضحى بحياته في سبيل أبناء شعبه. يكرر الأبُ على أبنائه نصيحته التي أسداها في السابق لرفاقه في الحزب التصحيحي: "الشرط الأول لانتصارنا الكامل هو مزيج من ثلاثة عوامل: الدعاية، والدعاية، والدعاية".

كانت سرديّة آل نتنياهو لعمليّة عنتيبي تختلف عن الرواية الرسمية للجيش الإسرائيلي، حتى إنهم حرفوا الأحداث ليجعلوا مقتل أخيهم على يد القائد الألماني للخاطفين، وليس على يد جندي أوغندي، لعلهم، وهم المعروفون بتصريحاتهم العنصرية، رأوا أن الموت على يد جندي أفريقي أسود يغضُّ من مجد أخيهم الراحل. كما عمل بن صهيون وبنيامين على جمع الأموال لتأسيس معهد يوناتان لدراسات الإرهاب في القدس، الذي سيديره بنيامين، وينجح في تحويله إلى متجر ينشط في إعداد المقولات الاستشراقية عن العرب والمسلمين ليبيعها على زبائنه في الغرب.

ترصد إسرائيل موارد كبيرة للحفاظ على ذكرى جنود جيشها لتصنع منها مادة لكيان يعاني من فقر في التاريخ. ومع ذلك، لم ينل أي جندي إسرائيلي ما ناله يوناتان من التكريم والحفاوة.

تاريخ ضد التاريخ

لا يفل الحديد إلا الحديد ولا يضعف الحقيقة مثل أطنان الكذب

JERUSALEM, ISRAEL - JULY 2, 1986: (ISRAEL OUT) In this Israeli Government Press Office (GPO) file photo, Benjamin Netanyahu (R) speaks with Sorin Hershko, one of the Israeli soldiers wounded in Operation Entenne, on the tenth anniversary of the dramatic rescue of Jewish hostages from Palestinian and German hijackers, at the President's reisdence July 2, 1986 in Jerusalem. Netanyahu's brother, Sayeret Matkal commander Lieutenant Colonel Yonatan "Yoni" Netanyahu was killed in action. Netanyahu, who is the leader of the conservative Likud party, has a growing lead in the race to become Israel's next Prime Minister. The politician and former special forces soldier has already served as Israel's Prime Minister, from 1996 to 1999. (Photo by Yaakov Saar/GPO via Getty Images)
بنيامين نتنياهو (يمين) مع سورين هيرشكو، أحد الجنود الإسرائيليين الذين أصيبوا في العملية التي قتل فيها شقيقه يوناتان (غيتي)
بنيامين نتنياهو (يمين) مع سورين هيرشكو، أحد الجنود الإسرائيليين الذين أصيبوا في العملية التي قتل فيها شقيقه يوناتان (غيتي)

"الشَّاهِدُ الأَمِينُ لَنْ يَكْذِبَ، وَالشَّاهِدُ الزُّورُ يَتَفَوَّهُ بِالأَكَاذِيبِ"

سفر الأمثال، العهد القديم

بعيدا عن دعاية آل نتنياهو، التحق يوني بالعملية متأخرا. كان يوني في تلك الفترة يشعر باكتئاب بعد مفارقته لصاحبته وشعوره باقتراب نهاية إسرائيل بعد حرب 1973، حيث غلبت السوداويّة على رسائله إلى أخيه بنيامين. في إحدى رسائله في عام 1974 إلى أخيه، كان يوني يتحدث بمرارة عن الخيالات التي حشاه بها أبوه، فأخذ يكتب عن اقتراب نهاية دولة اليهود إذا لم تحسم الحرب مع العرب، أو إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي المحتلة، وراح يربط مصير الشعب والدولة بخدمته الشخصية في الجيش: "أنا خائف على مصير دولة اليهود، لا أوهام لديّ، أرى تسارع الصيرورة، وقوتنا تتلاشى من حرب إلى أخرى، أنا حاليا في الجيش، وأُومِن أنني أقوم على الأقل في هذه الفترة بأقصى ما يمكن لكي أُطيل حياتنا أو أمنع انقطاعها قبل أوانها".

تكشف الصحفية رونيت فيردي أن مقتل يوني أنقذه من خسارة شرفه العسكري، إذ كان أفراد وحدته ينوون عقد جلسة مع رئيس الاستخبارات العسكرية بعد أسبوع من موعد عملية عنتيبي يطالبون فيها بتنحيته عن الوحدة لتراجع أدائه، وصعوبة حالته النفسية. لكن القادة الكبار كإيهود باراك بوصفه أحد الضباط المخططين للعملية، وشمعون بيريز وزير الدفاع، وضعوا حدًّا لإثارة هذه المسائل، حفاظا على مشاعر آل نتنياهو المكلومين.

أما داخل فرقة "سايريت ماتكال" فقد كان الضبّاط يُحمِّلون يوني مسؤولية نتائج العمليّة بسبب تهوّره وعدم التزامه بالخطة والأوامر، حيث فتح النار على الجنود الأوغنديين وصار منكشفا أمام برج المراقبة الذي تسيطر عليه قوات أوغندية، مما جعله هدفا سهلا للقناصة.

وحين أرادت الحكومة الإسرائيلية تخليد قصة يوني وقع الاختيار على ماكس هاستينغز، وهو مراسل حربي بريطاني وكاتب متخصص في تاريخ الحروب. بدأ هاستينغز في إجراء المقابلات مع محيط يوني من فرقته وأصدقائه وعائلته ليكوّن خميرة الكتاب. وصف هاستينغز، في مذكراته، اتصاله بعائلة نتنياهو بأنه "واحد من أكثر الأحداث بؤسا في مسيرتي المهنية". في لقاءاته ببن صهيون، لم يتردد الأبُ في إبداء حرصه على جعل ابنه رجلا خارقا، اجتمع فيه ما تفرّق في غيره، فقد كان "جنديا، ومفكرا، ومثقفا، ورجل أعمال".

أراد ماكس هاستينغز تقديم صورة واقعية عن يوني نتنياهو، لكن آل نتنياهو يعشقون الصورة، ويقدسون الدعاية، لذلك فقد جعلوه يغير من كتابه ليُنشر بعد أن رضوا عنه. (مصدر الصورة: هيئة الإذاعة البريطانية)
ماكس هاستينغز (هيئة الإذاعة البريطانية)

شيئا فشيئا، بدأ هاستينغز يدرك أنه بقدر ابتعاده عن دعاية آل نتنياهو بقدر ما تتجلى له صورة ابنهم الفقيد، وتظهر له الحقيقة. بعد إجراء عشرات المقابلات مع معارف يوني ومحيطه، توصل هاستينغز إلى خلاصة مفادها أن يوني كان "شابا مضطربا، متوسط الذكاء، يسعى جاهدا للتصالح مع مفاهيم فكرية تتجاوز قدرته الذهنيّة"، وأنه لم يكن محبوبا من زملائه، بل على العكس، كان "مكروها بشدة من عدد غير قليل من جنوده". لم تعجب آل نتنياهو المخطوطة الأولى للكتاب، فضغطوا على الداعمين لمشروع الكتاب، وخوفا من فوات التعويض المالي عليه بعد بذله الجهد، وضع هاستينغز نسخة محسّنة من مسودّته الأولى تعجب الحكومة ولا يعترض عليها آل نتنياهو.

بعد نهاية مشروع الكتاب، غادر هاستينغز إسرائيل دون عودة، وصار ناقدا شرسا لسياسات الحكومات الإسرائيلية. ولم تفارقه مرارة التجربة، شيئان لا ينساهما الكاتب: أول مكافأة، وأثقل مدير. عاد بعد أكثر من عقدين من الزمان ليكتب في مذكراته عن الأشهر التي قضاها مع عائلة نتنياهو في إسرائيل. يظهر لنا بن صهيون عجوزا حالما ومتعصبا أثقل ابنه الأكبر بأحلام وأعباء يضعف عن حملها، فسحق روحه قبل أن يقتله أعداؤه. أما الشقيق الأوسط (بيبي) فكان "رجل تسويق ناجحا، ولكنه ثقيل الظل عديم الدعابة". وتضمن أحد المقاطع اقتباسات دالّة على تطرف ورغبة بنيامين في إبادة العرب في محادثاته مع هاستينغز: "في الحرب المقبلة، إذا استطعنا أن ننجح في استثمار اللحظة، فستكون لدينا فرصة لإخراج جميع العرب... يمكننا تطهير الضفة الغربية، وأخذ القدس". وحين يتظارف، تنكشف عنصريته البغيضة، تكلم مرة بشأن لواء جولاني، وهي قوة المشاة الإسرائيلية التي تضم الكثير من يهود شمال أفريقيا ويهود اليمن قائلا: "إنهم بخير ما دام يقودهم ضباط بيض"، وابتسم ابتسامة عريضة.

إسرائيلي بنكهة أميركيّة

في القدرة المذهلة على أن تجمع الشر من أطرافه

U.S. President Joe Biden attends a meeting with Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu, as he visits Israel amid the ongoing conflict between Israel and Hamas, in Tel Aviv, Israel, October 18, 2023. REUTERS/Evelyn Hockstein TPX IMAGES OF THE DAY
نتنياهو (يمين) وبايدن (رويترز)
نتنياهو (يمين) وبايدن (رويترز)

"يَا لَيْتَ لِي فِي الْبَرِّيَّةِ مَبِيتَ مُسَافِرِينَ، فَأَتْرُكَ شَعْبِي وَأَنْطَلِقَ مِنْ عِنْدِهِمْ، لأَنَّهُمْ جَمِيعا زُنَاةٌ، جَمَاعَةُ خَائِنِينَ"

سفر إرميا 9:2

في الولايات المتحدة، كان بنيامين قد استكمل حالة الأمركة، فاستبدل باسمه العبري اسما أميركيا، ليصبح بن ناتاي. وبعد تخرجه في كلية الأعمال بدرجة ماجستير، خاض سلسلة مرهقة من الاختبارات والمقابلات، ليُعيَّن من قِبل مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) التي كانت تُمثِّل وظيفة أحلامه. كانت مجموعة "BCG"، التي تأسست قبل ذلك الوقت بثلاثة عشر عاما فقط، في طريقها لتصبح واحدة من الشركات الاستشارية الرائدة، ولقد حصلت على شهرتها ونجاحها لنهجها الجريء في الاستثمار والحذر في الإدارة. ناسبت هذه الطريقة بيبي، الذي راح يمارسها إلى اليوم في نمط إدارته السياسيّة ومخاطراته الاستثمارية مع شركائه من أصحاب المال والأعمال.

حين كتب يوني في إحدى رسائله عام 1963 إلى أخيه عن مصير الإسرائيلي الذي ينتقل إلى العيش في الولايات المتحدة الأميركية، قال: "أمران يمكن أن يحدثا للإسرائيلي في أميركا: إما أن يتحول إلى أميركي خالص، وإما أن يتحول إلى صهيونيّ متحمّس بدمه وروحه أكثر مما كان في السابق". لم تكن خياراته حاصرة لجميع الاحتمالات، فقد وجد أخوه بنيامين طريقا ثالثة لم تخطر على بال يوني؛ صار إسرائيليا متعصّبا ولكن بعقلية أميركيّة.

رحَّب العاملون على الدعاية الصهيونيّة من الشبيبة الأميركية بانضمام نتنياهو إليهم، فنشط في أول الأمر في الصحف اليهودية المحليّة، وفي تقديم محاضرات في معابد بوسطن والاتحادات اليهودية حول أوضاع الكيان. لكن ذلك لم يكن ليرضيه، فالفتى الذي نشأ تحت سقف أستاذ التاريخ كان يؤمن بأن تغذية المجتمع بالأفكار جهد مُضاع، ما لم تجد طريقها إلى نخبة المجتمع والساسة، فحضَّ زملاءه على العمل على مستوى ولاية ماساتشوستس، وتوفير صالات أكبر، وعقد اجتماعات بين أعضاء اتحاد الطلاب الإسرائيليين والساسة وأعضاء الكونغرس. كان بنيامين يشيد لنفسه مكانة وسط أصوات الدعاية الإسرائيلية في الولايات المتحدة، بلغته الإنجليزية ومهاراته الخطابيّة، وجراءته في الحديث عن الكيان بحماسة من وضع سلاحه للتوّ عن عاتقه في سبيل كيانه. سينتزع الفتى الجموح بخطبه ثناءً طالما ضنَّ به والدهُ عليه، حين قال له "إنه يرى فيه ظِلالا من جده الحاخام".

وفي أوائل عام 1975، وصل قنصل إسرائيلي جديد إلى بوسطن. كوليت أفيتال التي انتزعت بمواهبها في الإعلام والعلاقات العامة مكانة في السلك الدبلوماسي الذي يسيطر عليه ذكور اليهود، وكانت أول دبلوماسية إسرائيلية تتنبه لمواهب الفتى البالغ من العمر خمسة وعشرين عاما، الذي يتشدّق بلهجة الأميركان، ويحكي بقلب صهيونيٍّ خالص. رتبت أفيتال لأول لقاء تلفزيوني رسميّ لبنيامين على محطات التلفزيون المحلية. بعد إلقائه للمحاضرة وانتهاء التصوير سلمت له المحطة ظرفا، فيه خمسة وعشرون دولارا، كان ذلك أول عهد نتنياهو ببيع الكلام. لم تكن تعرف أفيتال أنها برسمها لخط الانطلاقة لذلك الشاب وضعت خطا لنهاية مستقبلها في السلك الدبلوماسي، فبعد 22 عاما، سيصل نتنياهو إلى رئاسة الوزراء وسيُحيلها إلى التقاعد وهي السفيرة المخضرمة، بسبب موقفها الداعم لاتفاقية أوسلو.

Israeli parliament member Colette Avital holds a news conference officially announcing her candidacy for the presidency in Tel Aviv March 13, 2007. REUTERS/Gil Cohen Magen (ISRAEL)
كوليت أفيتال الدبلوماسية التي قدمت نتنياهو للعالم بوصفه متحدثا باسم إسرائيل (رويترز)

تواترت أسفار بنيامين بين الولايات محاضرا وخطيبا، وبينما كان يبني حضوره الإعلامي، كان يغرسُ بذور فشل زواجه الأول من ميريام وايزمان، التي تعرّف عليها سنوات خدمته في الجيش، وكانت تسكن قرب دارهم في القدس. من بين زوجات نتنياهو الثلاث، بدت "ميكي"، كما اشتهرت، هي الخيار الأفضل لبنيامين، كان هذا شبه إجماع بين المقربين لبيبي. فقد أحبّها والداه، وكانت تقاسمه عقيدته السياسيّة، والأهم من كل ذلك كانت هي المرساة التي أمسكت بقارب بنيامين ومنعته الإبحار في ظلمات الحزن بعد مقتل أخيه يوني. وحين نشط بنيامين في العمل الطلابي، فتحت ميريام بيتهما للطلاب الإسرائيليين. بدت ميريام أشبه النساء بأمّه. خلّف غياب بنيامين المتكرر فتورا في العلاقة بين الزوجين، وفي أوائل عام 1978، اكتشفت ميريام، التي كانت في ذلك الوقت حاملا بطفلهما الأول، خيانة زوجها لها. أصرت على الطلاق، وحين لاح شبح الفقد لبنيامين مرة أخرى، تحول إلى طفل كبير، يستجدي ويتوسّل لميريام أن تسامحه وتواصل معه، لكنه في الوقت نفسه استمر في لقاء عشيقته.

يعيشُ نتنياهو فكرة الاستحقاق الدائم، فيريد لمرساة الأمان التي تمثلها ميريام أن تبقى معلقة بقاربه، حتى لو اشتهى الإبحار للصيد وقضاء مغامرات أخرى. لقد كان بنيامين يبحث عن الحب اللامشروط الذي يغمره بالأمان ولا يمنعه من نزواته، شعر بذلك الحب مرة واحدة مع أخيه، وبقي بعد فقده يبحث عنه في النساء.

يبقى حضور النساء لافتا في حياة نتنياهو، فهو الرجل الذي لا يتردد في التخلص من علاقاته الاجتماعية والسياسيّة متى جفّ نفعها، لكنه طالما تشبث بالنساء في حياته. سيتزوج لاحقا من عشيقته فلور كيتس التي هدمت بيته الأول، وهي طالبة بريطانية ألمانية تعرف عليها في مكتبة كلية هارفارد للأعمال، حيث كانت فلور تحضّر لشهادة الماجستير. لم تكن فلور كميريام يهوديّة، ولكنها اعتنقت اليهوديّة حين بدا لها أنه شرط من شروط بنيامين للزواج منها.

في 29 أبريل/نيسان 1978، ولدت ميريام لبنيامين ابنته البكر نوا في أحد مستشفيات بوسطن، وسمحت لزوجها الخائن بالزيارة بعد ساعات قليلة من الولادة ليرى ابنته، ولم تمنعه قط من رؤيتها أو زيارتها. لكن زوجته الثالثة سارة بن أرتزي ستكون أكثر تسلطا، فتُعيد تشكيل حياته الاجتماعية، وتحد من تواصله مع ابنته.

عود على بدء

إعادة تدوير قمامة الأفكار من أجل صناعة عدو

كان برنارد لويس مصدر إلهام لنتنياهو، وقال الأخير في رثائه إن "حكمة لويس سترشدنا لسنوات عديدة قادمة". مصدر الصورة (المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية).
برنارد لويس (يسار) كان مصدر إلهام لنتنياهو (المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية)
برنارد لويس (يسار) كان مصدر إلهام لنتنياهو (المكتب الإعلامي للحكومة الإسرائيلية)

عاد نتنياهو إلى إسرائيل كسيف الخاطر مبعثر الهم، وعاش في منزل والديه في القدس. صورة نموذجية للفشل الحياتيّ في الثقافة الأميركية، رجل ثلاثينيّ منفصل عن زوجته الحامل، وعاطلٌ عن العمل، ويسكن مع والديه. بمساعدة من أقربائه الموسرين في أميركا، وتبرعات من الدوائر اليهودية، سيؤسس الشاب العاطل معهدا باسم أخيه القتيل لمكافحة الإرهاب ويصبح مديرا له على مدى عامين.

سيعقد المعهد مؤتمرين عن الإرهاب، ويصدر كتابا من 276 صفحة. عند تصفح فهرس الكتاب، سنجد اسم نتنياهو مع أبيه بن صهيون ووزير الخارجية الأميركي جورج شولتز يحددون حدود الإرهاب وتعريفه، وسيضع المستشرق العتيد والصهيوني الراحل برنارد لويس مصطلح "الإرهاب الإسلامي" لأول مرة، ولكن لضمان الحيادية الأكاديميّة التي مَرَدَ عليها سيختم عنوان ورقته بعلامة استفهام لضمان النزاهة العلميّة، ليصبح عنوان ورقته "الإرهاب الإسلامي؟"، ويضع بنيامين عنوانا للكتاب: "الإرهاب، كيف ينتصر الغرب". لم يكن هذا الكتاب كومةَ ورق لفظها مؤتمر عابر، كما هي عادة المؤتمرات، وإنما ترسانة فكرية لتهيئة عقود من الحروب التي ستخوضها الولايات المتحدة ضد الشرق المسلم. تلقفت الصحف الأميركية خبر إصدار الكتاب، وخصصت له "نيويورك تايمز" صفحة مراجعة، وقرأه الرئيس الأميركي رونالد ريغان على متن طائرة الرئاسة.

كتاب
كتاب "الإرهاب، كيف ينتصر الغرب" لبنيامين نتنياهو (مواقع التواصل)

حين يضع الساسة كتبا في فترة خدمتهم، فهم لا يؤلفون الكتب، وإنما يقترحون خطط عمل. في 1993 سيستقل نتنياهو بتأليف كتاب يضع فيه خلاصة فكره. قد يكون بنيامين قارئا نهما، "وأكثر القيادات الإسرائيلية انغماسا في التاريخ" كما يقول عنه البروفسور أفنير بنزكين المتخصص في التاريخ اليهودي، ولكنه لم يكن قط منتجا للأفكار. يستطيع بحسّه التجاريّ تقدير القوّة الدعائيّة لبعض الأفكار، فيعتنقها ويصوغ حولها هالة من الأساطير. في كتابه "مكان تحت الشمس"، الذي كتبه بعد أن قضى عقدا من الزمن في أروقة الأمم المتحدة وتجمعات الساسة في واشنطن ونيويورك، سيهديه ذكاؤه إلى استثمار مقولة لبرنارد لويس صديق والده، والضيف الدائم لمنزلهم، في مقالة له عن جذور الغضب الإسلامي المنشورة في 1990، عن كون الاختلاف بين الإسلام والغرب خلافا أصليا وليسَ عرضيا، بل هو "صدام بين الحضارات". أدرك بنيامين استعصاء البقاء الإسرائيلي كجملة معترضة في نص إسلامي خالص. لا بد لهذا الكيان الذي يعاني من احتباس جغرافي ألا يكتفي بإيجاد علاقة نسب تصله بقوّة تضمن بقاءه، وإنما بإيجاد علاقة تجعله جزءا من تلك القوّة الضامنة. لهذا وضع بنيامين في كتابه نموذجا من صراع الحضارات بين الإسلام والغرب، وسيأتي بعده صاموئيل هنتنغتون لينضج النظرية في كتابه الشهير "صراع الحضارات"، الذي نُشر في العام الذي وصل فيه نتنياهو إلى رئاسة الوزراء.

يجعل بنيامين الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل في قلب صدام الحضارات، حيث تُمثِّل إسرائيل الجبهة المتقدمة أمام الزحف الإسلامي نحو الغرب، ويُمثِّل نضال الشعب الفلسطيني لتحرير أرضه فصلا من إرهاب الحضارة الإسلاميّة الذي سيمتد ليمسَّ الغرب لولا صمود إسرائيل. في لقاء له مع وزيرة الخارجية البلجيكية يقول نتنياهو: "إن إسرائيل هي العامل الأقوى في الشرق الأوسط الذي يمنع الإسلام المتطرف، فهي لا تمنع هجمات داعش في أوروبا فحسب، وإنما تمنع انهيار منطقة كاملة مجاورة لإسرائيل لولاها لاحتلها هؤلاء الإسلاميون المتطرفون". لا يُلقي نتنياهو بالا لتنوّع الطيف الإسلامي، فهذا التنوع لا يخدم دعايته، ولذلك نجده يسوّي في دعاياته بين ياسر عرفات وأسامة بن لادن، وبين داعش وحماس. وليست هذه التسوية وليدة اللحظة كما يظن البعض، بل هي في قاموس خطابات نتنياهو منذ ظهور داعش. في خطاب له عام 2014 في الأمم المتحدة قال: "إن حماس وداعش فرعان من شجرة واحدة".

خبير إرهاب.. خبير تسويق!

فن أن تبيع الأفكار في قنوات التسوق المنزلي

ISRAELI ELECTIONS, ISRAEL - 1996 BINYAMIN NETANYAHU Készítette: Markus Zeffler/Shutterstock
نتنياهو يروج في كتابه أن العرب يريدون إبادة إسرائيل (شترستوك)
نتنياهو يروج في كتابه أن العرب يريدون إبادة إسرائيل (شترستوك)

حين بدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان في 6 يونيو/حزيران 1982، كان الرائد عمر بارليف، في قاعدة ماتكال المؤقتة في الدامور بالقرب من مهبط الطائرات جنوب بيروت، يمسك قبعته خشية أن تعصف بها رياح المروحيّة التي تستعد للهبوط. وحين استوت الطائرة على المدرج، نزل منها بيبي رفقة أميركيين يرتديان بدلات أنيقة. نظر بيبي إلى عمر مبتسما: "مرحبا عمر"، ولكن عمر لم يرد عليه، فصرخ مرة أخرى: "مرحبا عمر!". رد عمر في استياء: "مرحبا؟ ماذا؟ لماذا لست في هيئة أخيك يوني؟ لماذا لم تستلم سلاحك وبزّتك العسكريّة بعد؟!".

كان من الطبيعي في أوقات الحروب أن توقف "سايريت ماتكال" عملياتها مؤقتا، وينضم جنودها إلى وحدات المشاة. لكن عمر لم يكن يعرف أن بنيامين ترك البزة العسكريّة إلى الأبد، وجاء هذه المرة في مهمة يحسنها كل الإحسان؛ لقد كان لسان إسرائيل في الغرب، وخبيرا إعلاميا في الإرهاب، مبتكرا مهنة سيعيش عليها كثيرٌ من متقاعدي الأنظمة والمنشقين عن الحركات السياسيّة، تُعرفُ بـ"خبير الجماعات الإسلامية".

يقدم نتنياهو الصراع العربيّ بصيغة صفريّة في كتابه، فالعرب يريدون إبادة اليهود في فلسطين، وهذا الوترُ الذي لن يبرح نتنياهو العزف عليه لمعرفته بصداه في نفوس الغربِ الذي يفزع من ذكرى الإبادة، وليسوق مجتمعه الداخلي بسوط الخوف. يرى نتنياهو في المسلمين استثناء تاريخيا، ونمطا فريدا بين شعوب العالم فيما يتعلق بعقلية الصراع، فكتبَ مرة: "إن الشعوب حين تُخيَّر بين الأيديولوجيا والنجاة، تختار النجاة. هذا ما فعلته كوبا على سبيل المثال حين خيّرتها أميركا بين الشيوعية والنجاة. لكنّ الإسلاميين حين تعرض عليهم هذين الخيارين، يختارون الأيديولوجيا. ولهذا توجد فكرة الانتحاريين بينهم".

لا يوجد حل للسلام مع الفلسطينيين في قاموس نتنياهو، بلهَ أن يكون قابلا لحل الدولتين، فالسلامُ كما يفهمه نتنياهو هو منحُ فرصة للفلسطينيين للتقوّي والإعداد لمعركة قادمة. في مقدمة كتبها نتنياهو للترجمة العربية لكتابه "مكان تحت الشمس"، يستدعي نتنياهو التاريخ بطريقة فظّة ليستدل على استحالة السلام مع العرب، قائلا: "معاهدة السلام مع إسرائيل هي لا شيء أكثر من اتفاقية سلام مؤقتة، كمعاهدة صلح الحديبية التي عقدها النبي محمد [صلى الله عليه وسلم] مع قريش في مكة، فقد طرح محمد تلك المعاهدة التي عقدها مع قريش جانبا عندما استطاع أن يحشد قوة كافية لإجبار قريش على الخضوع له".

منحت إدارة معهد يوناتان لدراسات الإرهاب نتنياهو لقب الخبير في الإرهاب، الذي سيستثمره أحسن استثمار، ولكنها لم تقدم له اكتفاء ماليا في وقتها، فراح يبحث عن عمل وسط اقتصادٍ شبه اشتراكيّ تملكه الدولة، ليعثر أخيرا على وظيفة في شركة لصنع الأثاث 1980. بوصولك إلى هذا السطر، أظنك -عزيزي القارئ- قادرا على تخمين الوظيفة التي حصل عليها في شركة ريم للأثاث. صحيح، مدير تسويق. لم تطب الحياة في إسرائيل لحبيبته التي قطعت نصف الكوكب لتعيش معه، فلما لم تجده جادا في الارتباط، قررت العودة إلى بوسطن في 1981.

كان مدير بيبي من المديرين الذين ينظرون في عيون موظفيهم، فعرف معاناته، وسمح له أن يسافر ويقضي أسبوعا كل شهر مع محبوبته الغضبى. بعد أشهرٍ من الأسفار، استسلم بيبي ووافق على الزواج، فتزوجا في مايو/أيار 1981، وعادت معه إلى القدس. في العام التالي سيتذكره صديقُ والده، موشيه أرينز عضو حزب الليكود في الكنيست، الذي عُيِّن حديثا سفيرا في الولايات المتحدة، في بحثه عن رجل علاقات عامة ووجه إعلاميّ. استُدعي بنيامين إلى بهو فندق في القدس، لإجراء مقابلة لوظيفة نائب رئيس البعثة في السفارة الإسرائيلية. أُجريت المقابلة باللغة الإنجليزيّة، ونجح فيها نتنياهو، الذي عاد ركضا ليخبر زوجته بعودتهم إلى أميركا. قبل اعتماده موظفا في السفارة، تخلى بنيامين عن جنسيته الأميركية، كما يقتضي قانون الولايات المتحدة.

Newly appointed Israeli Defense Minister Moshe Arens (L) shakes hand with Foreign Minister Ariel Sharon (R) as Prime Minister Benjamin Netanyahu looks on in Jerusalem 26 January. Netanyahu appointed Moshe Arens, 73, a hawkish elder statesman in the ruling right-wing Likud party after he fired Yitzhak Mordechai who is challenging him for the prime ministership in May elections. (Photo by DAOUD MIZRAHI / AFP)
نتنياهو يتوسط أرييل شارون (يمين) وصديقُ والده موشيه أرينز عضو حزب الليكود في الكنيست (الفرنسية)

كرّس نتنياهو سنواته الأولى في استثمار علاقات أبيه وجدّه في الولايات المتحدة مع الطبقة السياسيّة، وعلاقات أقاربه التجارية مع أصحاب المال، فتعرّف على فريد ترامب، الذي سيغدو ابنه الرئيس المفاجأة في البيت الأبيض بعد ذلك بنيف وثلاثين سنة، وأقبل على دوائر الحاخام المؤثّر مناحيم شنيرسون الذي كان قِبلة لقادة الكيان واللوبي الصهيوني، وكان يرى إسرائيل رأس حربة للحضارة الغربيّة. سيردد نتنياهو بعد عقود وصية ونبوءة الحاخام له في قاعة الأمم المتحدة، حين قال له: "سوف تخدم في بيتٍ من الظلام، ولكن تذكر أن أشد الأماكن ظلمة تُرى فيها الشمعة الواحدة بوضوح".

لم يكن نتنياهو متدينا قط، فهو كأبيه علمانيّ السلوك، توراتيّ الأفكار، يرون في المحكيّة الدينيّة رافعة لمجدهم الدنيوي، لا طريقا لخلاصهم الأخروي، ولذلك يتمسكون بها. ولكن عيشه في حمأة الثقافة الأميركيّة ربما أفقده الإحساس بهذا التناقض، ففي أحد المطاعم التقى بواحد من النخبة اليهودية الدينيّة في نيويورك، وكعادته في الإفطار طلب لحم الخنزير المقدد مع البيض، ولم يستطع قراءة ملامح الاستنكار لدى ضيفه حتى وبخته فلور على سوء أدبه في حضرة ضيفه المتديّن. تدور علاقة نتنياهو بالحاخامات على المنفعة الدنيويّة لا الالتزام الديني، فعلمانيّته ونمط حياته لم يؤثر على قدراته في إقناعهم بأنه رجلهم داخل الحكومة، والأقدر على رعاية أحلامهم التوراتيّة. في المقابل، يوفر له الحاخامات رؤوس الأموال، وأصوات أتباعهم.

سيركز بنيامين جهوده في التقرّب من الجمهوريين، الذين كانوا في محيطه منذ دراسته، فقد زاملَ ميت رومني، رجل الأعمال الجمهوري وحاكم ولاية ماساتشوستس، والمرشح الجمهوري للرئاسة في 2012، في شركة بوسطن للاستشارات. أما الديموقراطيون، فكان يراهم امتدادا لحزب مباي واليسار الإسرائيلي الذي يحمل لهم ضغينة وحقدا موروثين. كان الزمن مواتيا للعلاقات الإسرائيلية مع الولايات المتحدة؛ بعد فوز الجمهوريين، ووصول ريغان إلى السلطة الذي قال خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية: "إن الثورة الإسلامية في إيران زادت من قيمة إسرائيل باعتبارها الأصل الإستراتيجي الوحيد المتبقي في المنطقة الذي يمكن للولايات المتحدة الاعتماد عليه حقا".

أقبل نتنياهو على الإعلام الأميركي بشهية مفتوحة للنجوميّة، وعمل بجدٍّ على تحسين مهاراته التلفزيونية، وأخذ دروسا مع مدربين محترفين، وقضى عطلات نهاية الأسبوع يحضّر ويتدرّب لمقابلاته في المنزل بمساعدة زوجته وبكاميرات مستأجرة. سيتقن في هذه التدريبات طريقة التركيز بنظره على عدسة الكاميرا واستقبالها بالجانب الأيسر من وجهه، لكي يُخفي الندبة التي في الشق الأيمن من شفته. تدرب على إلقاء جمل مقتضبة وممتلئة، وحفظ أسماء المذيعين الرئيسيين عن ظهر قلب، حتى إنه تعلم سر مكياج الرجال، وكان مكانه المفضل هو برنامج "Nightline" على قناة "ABC" الأميركية.

قدم في واشنطن وعين على تل أبيب

الطريق إلى القدس يمر عبر نيويورك

Ambassador Benjamin Netanyahu shown in a file photo dated 06 November 1987, when he was Israel's Permannt Representative to the United Nations, holding up a file on Nazi criminal Alois Bruner at a news conference at the United Nations. / AFP / AFP FILES / DON EMMERT (Photo credit should read DON EMMERT/AFP via Getty Images)
بنيامين نتنياهو عندما كان ممثل إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة (الفرنسية)
بنيامين نتنياهو عندما كان ممثل إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة (الفرنسية)

بدأ نجمُ نتنياهو يعلو، وبوجود فلور الفاتنة إلى جانبه، أشرقت شمسُه على قلوب شباب الجمهوريين. أزعجت نجوميته زملاءه في السفارة، فاشتكوا من كون نائب رئيس البعثة يدير مناسباته الاجتماعية الخاصة منفصلة عن المتطلبات الدبلوماسية وعن برنامج السفارة. لكن أرينز لم يُلقِ لهم بالا، وأفسح لبنيامين المجال لكي يسطع في سماء الولايات المتحدة. خلال تلك الفترة، التقى به ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي يدرس في جامعة جورج تاون على متن رحلة جوية وأجرى معه محادثة تكشف طموحات الشاب الثلاثينيّ: "سألت بيبي على متن الطائرة: ’أين ترى نفسك بعد عشر سنوات؟‘، أجاب دون تردد: ’رئيسا للوزراء‘. فقلت له: ’يا رجل! عليك أولا التغلب على ديناصورات الليكود مثل شامير، ومن ثم أمراء الليكود'، أجاب بيبي: ’الديناصورات تموت والأمراء تمنعهم دماؤهم الزرقاء من القتال من أجل التاج‘".

وصلت انتخابات عام 1984 إلى طريق مسدود، حيث فشل شمعون بيريز للمرة الثالثة في الفوز زعيما لحزب العمل، ولم يتمكن بيريز ولا شامير من تشكيل ائتلاف أغلبية. وبسبب أوضاع الحرب مع لبنان والانهيار الاقتصادي، الذي بلغ فيه معدل التضخم السنوي 400%، لانت الأحزاب الكبرى لبعضها، وبعد أسابيع من المفاوضات اضطر بيريز وشامير إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، حيث تولى كلٌّ منهما منصب رئيس الوزراء لمدة عامين. أخذ بيريز دوره أولا، وتولى شامير وزارة الخارجية. لم يكن شامير يحترم نتنياهو أبدا، كان يراه "سطحيا، ومغرورا، وضعيف الهمّة". ظل شامير يردد لسنوات: "البحر هو البحر، ونتنياهو هو نتنياهو!".

كان منصب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة على وشك أن يصبح شاغرا، وطلب بيبي من أرينز طرح فكرة تعيينه في هذا المنصب على شامير، ولكن شامير رفض، لعدم اقتناعه بالرجل.

سيلجأ نتنياهو إلى استثمار دمِ أخيه مرة أخرى، ويقصد بيريز. كان بيريز لا يزال يشعر بالذنب من مقتل يوني تحت إمرته، حين كان وزيرا للدفاع، وبوصفه رئيسا للوزراء كان لديه الحق في تعيين عدد قليل من السفراء، وقبل شامير قراره على مضض. كان بيريز يمدُّ يد العون للرجل الذي سيُنهي مسيرته في رئاسة الوزراء بعد أن يهزمه بنيامين في 1996.

في نيويورك احتفل نتنياهو بعيد ميلاده الخامس والثلاثين، بعد أن أصبح سفيرا لإسرائيل في الأمم المتحدة. هذه المدينة التي قضى فيها طفلا سنة بائسة في تعلم اللغة الإنجليزية، عاد إليها اليوم وهو خطيبٌ مصقع، ومتحدثُ أنيق. كانت شقة السفير على زاوية الشارع الثاني والثمانين والجادة الخامسة، مقابل حديقة سنترال بارك ومتحف متروبوليتان للفنون. لقد ابتسم الحظ أخيرا لابن أستاذ التاريخ، وصار يعيشُ كأحد الساسة ذوي البدلات الأنيقة، ويأكل في مطاعم منهاتن التي تتهيّبها جيوب الطبقة الوسطى. سيعتاد الرجل على هذا النمط من الرخاء، وحين يعود إلى إسرائيل لاحقا سيخبرنا أحد العاملين في حملاته الانتخابية أنه لم يمد يده قط ليدفع حساب اجتماع عمل!

رجل الدعاية والدراما

ما المانع من أن نجري مقابلة صحفية خلف أقنعة الغاز؟

في المكتب المغلق، والمحاط بالملاجئ الآمنة، أراد نتنياهو أن يرسم صورة تبقى في ذاكرة الغربيين، فقرر الظهور على الشاشة بقناع الغاز ليؤكد المعنى الذي ما فتئ يرسخه منذ بدأ صناعة الكلام: إسرائيل دولة مضطهدة، تدفع عن نفسها الأذى، ولا تبادر بالاعتداء، لكنها إذا ردت، فهي كداوود أمام جالوت، تنتصر بأقل القليل. (المصدر: سي إن إن)
نتنياهو ظهر مرتديا قناع الغاز (من مقابلة مع سي إن إن)
نتنياهو ظهر مرتديا قناع الغاز (من مقابلة مع سي إن إن)

أقنعة الغاز تملأ شوارع القدس وتل أبيب مطلع عام 1991 خوفا من الأسلحة الكيماوية، وجنود الاحتلال يفحصون أنظمة صفارات الإنذار، متجهزين لتوعُّدِ صدام بقصف إسرائيل. يصلُ رجلُ الدعاية الأول في إسرائيل إلى استوديو قناة "سي إن إن"، ترحبُ المذيعة ليندا شيرزر بالضيف القادم: "مرحبا سيد نتنياهو. علينا الاعتذار منك، لأن المقابلة قد أُلغيت، فقد جاءنا تحذير من احتمالية حصول قصف قريب من العراق". تلمعُ فكرة شيطانيّة في رأس نتنياهو. السياسيُّ الفذّ مَن يرى فرصة عظيمة في كل مأساة، هكذا يُحدِّثُ بنيامين نفسه، يتذكرُ وصية والده عن أهمية الدعاية، وأحاديثه المكرورة عن الهولوكوست.

هذه لحظة مناسبة لطبخِ مشهدٍ دراميّ يتفوق على كل تصريح رسميّ عن خطر النظام العراقي على إسرائيل. سوفَ يستدعي شبح الهولوكوست المخيف لدى الغرب، فها هو يهودي يلبس قناع الغاز، داخل كيان يهودي تحيط به بلدان معادية، ويحذر من نظام ديكتاتوري يقارنه بالنازيّة. يقول بنيامين: "حسنا ليندا، ما رأيكِ أن نبث الحلقة من وراء أقنعة الغاز؟". تبدو الفكرة مثيرة جدا للصحفيّة، بعد ترددٍ طويل، توافق على الفكرة، يرتديان قناعيهما، وتدورُ الكاميرا، ويبدأ البث.

كان هدف نتنياهو في سنوات سفارته شيئا واحدا؛ حفر صورته في ذاكرة الجمهور. يقول دبلوماسي سابق في البعثة الإسرائيلية للأمم المتحدة: "لم يكن بيبي مهتما كثيرا بالأعمال الداخلية للجان الأمم المتحدة، لكنه رأى خطاباته هناك بمنزلة أحداث تاريخية". "كان يسهر في تدقيق المصطلحات والألفاظ والاقتباسات التي سيُلقيها على مسامع العالم في كل خطاب، وكان يستغرق إعداده لخطاباته عدة أيام. وعندما يلقي خطابه أخيرا، يمنحك انطباعا وكأنه يلقي كلامه من عفو خاطره، وأن أفكاره ابنة ساعتها". كان الشيء الذي صاحبه منذ البداية على منصة الأمم المتحدة حبه لاستخدام الوسائل البصرية على المنصة. قال في مقابلة مع صحيفة معاريف إن أكثر ما يضايقه "الخطب المتكررة ذات النغمة الواحدة".

في أقل من شهرين، بدأ نتنياهو التطواف على وسائل الإعلام التي وثّق بها علاقته من أيام عمله في السفارة في واشنطن، فكان ضيفا دائما في غرفة أخبار صحيفة "نيويورك تايمز"، ولا يرد دعوة لقناة جديدة. سافر مرة إلى أتلانتا وكان مستعدا لإبهار المنتجين في شبكة "سي إن إن" الإخبارية، ثم أصبح ضيفا متكررا في برنامج لاري كينغ المباشر. حين سألوا لاري كينغ عن ضيفه، قال إنه ضيف جيّد، أعطيه 8 من 10، مشكلته أنه لا يملك حسّ الدعابة، وإلا لأعطيته 10 كاملة! أخذ بنيامين النصيحة، وصار يسهر على طبخ نكاتٍ ليقدمها في أي لقاء تلفزيوني يُدعى إليه أو خطاب يلقيه بعد ذلك. لكنْ شيئان يكون انعدامهما خيرٌ من تكلُّفهما: الظرف، والغناء. ظل بنيامين بغيضا حتى وهو يُلقي النكات المطبوخة.

زوجات نتنياهو

لحفر صورته في ذهن المشاهد الأميركي، كان بنيامين يحمل إزميل الدراما، ومطرقة المقارنات الشعبيّة ليحفر في ذهن المشاهد الأميركيّ دعايته الصهوينية. في أحد لقاءاته التلفزيونية، اقتربت بعض الحاضرات لتسأل المذيع: "هل هو مواطن أميركي؟ لأنه يجب عليه الترشح للرئاسة يوما ما!".

لكن هذه الدراما أصبحت جزءا من شخصيته ذاتها. ففي 1986، دُعي إدوارد سعيد إلى حوار مع نتنياهو حول الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ. حين دخل إلى الاستوديو، لم يجد سعيد سوى المذيع وكرسي يتيم للقاء الذي ينبغي أن يدور بين رجلين. ابتدأ المقدم الحوار بقوله: "يرفض بنيامين نتنياهو وإدوارد سعيد الجلوس في غرفة واحدة لمناقشة الشأن الفلسطيني". يقاطعه سعيد: "ليس لديّ أدنى مانع! وقد تفاجأت من عدم وجوده معنا!". حين سأله المذيع: "سيد نتنياهو، لماذا ترفض الجلوس مع سعيد للحوار؟ ولمَ لم تكتفِ بالجلوس في غرفة أخرى، بل آثرت الجلوس في مبنى آخر؟". بلهجة صارمة يجيب نتنياهو: "لأنه يريد قتلي!". يضحك الجمهور الذي يسمع القصة، ويضحك سعيد، أستاذ الأدب في أرقى جامعات نيويورك، وعازف البيانو، الذي ربما لا يعرف من أين يُمسك المسدس، يُتهم بالإرهاب، فقط لأنه فلسطيني!

بخيل.. غني بمال غيره

سينمو حس التطفل والتملق للأغنياء لدى نتنياهو حتى يصبح الخطر الأكبر على مستقبله السياسي

ISRAEL - MARCH 21: Benjamin Netanyahu elected for the leader of the Likud in Katzrin Israel on March 21, 1993. (Photo by Esaias BAITEL/Gamma-Rapho via Getty Images)
انتخاب بنيامين نتنياهو لزعامة حزب الليكود في 21 مارس/آذار 1993 (غيتي)
انتخاب بنيامين نتنياهو لزعامة حزب الليكود في 21 مارس/آذار 1993 (غيتي)

"لاَ أَحَدٌ أَقْبَحَ جُرْمًا مِنَ البَخِيلِ"

سفر يشوع بن سيراخ

الإصحاح العاشر

بعد انتهاء فترة عمل نتنياهو في الأمم المتحدة، غادر نتنياهو نيويورك وقد ألِف عيش النجوميّة والفواتير المدفوعة، وأراد أن يعيش حياة الدبلوماسيين حتى في بلده. انتقل الزوجان إلى شقة على الواجهة البحرية في تل أبيب يملكها الملياردير الأسترالي جون غاندل، وقد أعفاهما من الإيجار. وسينمو حسّ التطفل والتملق للأغنياء لدى نتنياهو، حتى يصبح الخطر الأكبر على مستقبله السياسيّ بعد أن يقع بسبب جشعه فريسة لقضايا الفساد التي ظلت تطارده. كان نتنياهو شحيح النفس، محبا للمال، لا يخفى على جليسه بخلُه، يقول عوزي أراد، مستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو: "إنه بخيل إلى حد التطرف، لا تسخو نفسه بدفع ثمن وجبات الغداء!". وتتذكر موظفة سابقة عملت معه لفترة وجيزة: "كان بيبي شخصا يتجول بدون محفظة نقود".

لم تطب الحياة لفلور في تل أبيب، فانفصلت عن نتنياهو وغادرت في أوائل عام 1989، عائدة إلى الولايات المتحدة. وعاد بيبي مرة أخرى إلى القدس بعد أن انفصل للمرة الثانية، كهلٌ في الأربعين من عمره، مطلقٌ مرتين ويعيش مع والديه. بعد فشله في حياته الاجتماعية، أقبل نتنياهو بحرارة على انتخابات حزب الليكود. ولم يكن بمستغرب على مَن تروّى من أساليب الدعاية الأميركيّة، وصفقات جماعات الضغط في نيويورك، أن يحقق مركزا متقدما في انتخابات الحزب، فجاء في المركز الخامس على قائمة الحزب. وحين عُيّن صديقه موشيه أرينز وزيرا للخارجية اصطحبه معه نائبا له.

لم يكن لنتنياهو مجدٌ عسكريٌّ يبني عليه حضوره السياسي في الداخل الإسرائيلي، حيث اعتمد الساسة -وخاصة في الليكود- على شرعية عسكريّة، مثل مينحايم بيغن أحد أوجه الإرهاب الصهيوني، ومؤسس الإرغون، وأرييل شارون ملك الحرب الذي لم يتخلف عن حرب خاضها الكيان، وشامير الذي خدم في الهاغاناه، ثم في إرغون. في مجتمع مأزوم بالخوف من الزوال، قدّم نتنياهو نفسه خبيرا عالميا في الإرهاب، لقد حلّ عقدته العسكرية بخطابه. لمّا فاتته الحروب، أحيا روح الحرب داخل المجتمع وبقي يسوقهم بعصا الإرهاب، وجزرة الأمن. وحين أجرى حزب الليكود انتخاباته لقيادة الحزب في 1993، كان نتنياهو يشحذ مخالبه.

استطاع نتنياهو أن يكسب الطبقة القديمة في الحزب بتجويده لأفكار جابوتنسكي، الأب الروحي للحركة والرافد الفكريّ الأول لليكود، وعوّل على قدراته على التلاعب في مواجهة الجيل الجد. اصطدم بنيامين بمجموعة من سياسيي الجيل الثاني من ذوي العلاقات الجيدة الذين يحظون بإعجاب كبير، والمعروفين باسم "أمراء الليكود"، وساهم آباؤهم في تأسيس الحزب، من بينهم إيهود أولمرت، ودان مريدور، وبيني بيغن، وأخذ بنيامين يفعّل قدراته على التلاعب والخداع في تعامله معهم.

يقول أولمرت: "في أحد الأيام تلقيت مكالمة هاتفية، كان المتصل بيبي. طلبَ رؤيتي، لذا التقيت به، وقال لي: "اسمع، هناك شخصان فقط يستطيعان إدارة هذا البلد؛ أنا وأنت. لنعقد صفقة. لا أحتاج إلى أكثر من دورة واحدة، سآخذ دورة، وأنت تأخذ دورة"، قال لي: "فقط لا تقف ضدي"". وبعد بضعة أيام، يقول أولمرت إنه فوجئ بأنه أجرى المحادثة نفسها مع ميريدور، إذ قال ميريدور لأولمرت: "لقد أخبرني أن هناك شخصين فقط يستطيعان إدارة هذا البلد؛ هو وأنا". وفي وقت لاحق التقى أولمرت ببني بيغن الذي قال: "لقد أخبرني بالشيء نفسه!".

سارة.. أبغض امرأة في إسرائيل

أيهما أكبر ضررا على السياسي: الخيانات المتعددة أم الزوجة المكروهة؟

Israel's Prime Minister Benjamin Netanyahu and his wife Sara Netanyahu are welcomed by French Economy Minister Bruno Le Maire at the French Economy Ministry in Paris on June 6, 2018.
سارة نتنياهو (شترستوك)
سارة نتنياهو (شترستوك)

لم يكن نتنياهو يمارس التلاعب والخداع على زملائه في الحزب فحسب، ولكنه كان يمارسه أيضا على زوجته. أثناء الانتخابات داخل الحزب، اتصلت به زوجته الثالثة سارة وهي تبكي بحرقة.

كانت سارة بن أرتزي مضيفة تعمل في طيران العال، والتقى بها في مطار سيخبول في أمستردام عام 1988 وتركت له رقمها، مع أنه كان متزوجا. كانت سارة امرأة مطلقة تستعد للحصول على شهادة الماجستير في علم النفس. فوجئ العديد من أصدقاء نتنياهو بصديقته الجديدة، التي ظهرت فورا بعد رحيل زوجته الثانية، وبدت مختلفة تماما عن زوجتيه السابقتين المستقلتين المُهتمتين بالعمل. كانت سارة أصغر من صديقها بتسع سنوات، هشة وطفولية.

أثناء حضورها المناسبات الاجتماعية مع بيبي، لم تكن تفارقه، ونادرا ما كانت تتحدث. هل كان منجذبا إلى ضعفها؟ ربما. لكنه، كما هو الحال دائما، كان مترددا في الالتزام معها، خاصة مع شخص تعلق به بشدة. خلال عام 1990، كان بيبي يلهو يمينا ويسارا ويواعد فتيات أخريات، وابتعد عن سارة لبضعة أشهر. ولكن تلك الشقراء الضئيلة في جِرمها كانت تطوي صدرها على إصرار فولاذي لم يلحظه أحد، فأبقت خيوط العلاقة ممدودة، في يناير/كانون الثاني 1990، سيساهم صدام حسين في زواج نتنياهو الثالث، حيث سقطت صواريخ سكود بالقرب من شقة سارة في إحدى ضواحي تل أبيب، فدعاها بيبي للانضمام إليه في القدس. وفي إحدى ليالي القدس الوادعة، أبلغته سارة بأنها حامل، وستلد في 1991 ابنا خارج نطاق الزواج، سيسمونه يائير.

للمرة الثالثة، أُجبر بيبي المتردد على الزواج. بعد أسابيع قليلة من انتهاء حرب الخليج الأولى، أُقيم حفل صغير في منزل والديه بحضور شامير وأرينز. في صباح اليوم التالي، ظهرت في الصحف صورة أُعِدَّت بعناية للزوجين، كانت سارة ترتدي فستانا ورديا يُخفي حملها، وكانت هذه أول صورة لسارة نتنياهو في وسائل الإعلام الإسرائيلية، المرأة التي ستصبح أبغض امرأة في تاريخ إسرائيل.

IN FLIGHT - JULY 9, 1996: (ISRAEL OUT) In this Israeli Government Press Office (GPO) file photo, Prime Minister Benjamin Netanyahu and his wife Sara Netanyahu on board an Israeli Air Force jet, en route to a state visit to the United States July 9 1996. Netanyahu, who is the leader of the conservative Likud party, has a growing lead in the race to become Israel's next Prime Minister. The politician and former special forces soldier has already served as Israel's Prime Minister, from 1996 to 1999. (Photo by Yaakov Saar/GPO via Getty Images)
بنيامين نتنياهو وزوجته سارة على متن طائرة تابعة للقوات الجوية الإسرائيلية (غيتي)

كان صوت سارة في اتصالها بزوجها، الذي يستعد ليكون رئيس الليكود، يتقطّع بالبكاء والنشيج، وبالكاد فهم نتنياهو منها أن أحدهم اتصل على منزله وقال لسارة: "أخبري زوجك أن لدينا شريطا فاضحا له مع إحدى موظفاته، وأن عليه الانسحاب من الانتخابات وإلا فإننا سننشر الشريط".

في سابقة في السياسة الإسرائيلية سيقف نتنياهو في 1993 ليعترف على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون بأنه كان على علاقة مع روث بار، مستشارته للعلاقات العامة، لكن نتنياهو، الذي اعتذر لزوجته وأعلن لها عن حبه، رفض الاستسلام أو الانسحاب من الانتخابات.

ظهرت تقارير في الصحافة الإسرائيلية حول شائعات مفادها أن سارة وافقت على استعادته فقط بعد أن جعلته يوقع على صيغة اتفاق ينص على أنه لا يمكنه الاتصال أو لقاء نساء أخريات دون علمها، وأن لها حق مرافقته في أي رحلة عمل. وبذلك فُتح بابُ المشاركة السياسية لسارة على مصراعيه، لكن نتنياهو لم يكن يعلم أن وجود سارة في حياته العملية سيكون أكثر ضررا عليه من خياناته المتعددة.

لاحقا سيقول أحد كبار مساعدي نتنياهو: "كان هدفنا كله هو بناء حاجز من الدفاع حول بيبي لحمايته من جنون سارة والسماح له بالقيام بعمله". قد تبدو علاقة نتنياهو بسارة أحد أكثر الألغاز استعصاء على التفسير؛ فهل كانت بتخصصها في علم النفس تتلاعبُ بالمتلاعِب؟ أم كانت تلبي حاجاته النفسية والزوجيّة، وربما شابهته في صفاته خاصة في حسن التدبير؟ نشرت صحيفة "واشنطن بوست" أن موظفي البيت الأبيض تفاجأوا من حمل سارة لكميات من الملابس المتسخة، لتستفيد من خدمة الغسيل المجاني لضيوف البيت الأبيض! يقول أنشيل فيفر، كاتب سيرة نتنياهو: "سارة هي أكثر امرأة مكروهة في إسرائيل، ولو طلّقها لكان على الأرجح أكثر شعبية. إنه يحبها… ويعمل بلا كلل لتبرئة اسمها وحصولها على الثناء الذي يشعر أنها تستحقه، وقد أدت جهوده إلى توريطه في إحدى قضايا الفساد التي يواجه اتهامات بها اليوم".

سيكون حضور سارة وتأثيرها في عمله ظاهرا على مدى عقدين. يحكي مدير الموساد مائير داغان عن زيارته لنتنياهو في مقر إقامة رئيس الوزراء، وبينما كان يُطلع داغان نتنياهو على بعض التقارير، دخلت سارة. طلب منه بيبي الاستمرار، لأن سارة مطلعة على كل أسراره، لكن داغان امتنع عن الحديث، وسأل إذا كان لديها تصريح رسمي من الشاباك. غادرت سارة المكتب، ولم يُدعَ داغان لزيارة مقر إقامة رئيس الوزراء بعدها أبدا.

نجحت سارة ويائير في إحاطة بنيامين بجوٍّ من الأمن والارتياح، وساعداه على التغلّب على عقدته في الثقة بأن أصبحا شريكين له في العمل، محاكين النسخ الأخيرة من عائلات الرئاسة الأميركيّة. بعد يومين من الانتخابات 2022، حسب رواية أحد مساعدي نتنياهو السابقين: "دعا مستشاريه إلى اجتماع وأخبرهم أن شخصا واحدا هو المسؤول عن هذا النجاح، ثم التفت مشيرا إلى يائير. أُصيب الحضور في الغرفة بالصدمة".

عائلة من الطفيليين

أن يكون رب البيت بالدف ضاربا

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وابنه يائير (أسوشيتد برس)
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وابنه يائير (أسوشيتد برس)

كما كانت سارةُ وابنها يائير من أسباب نجاحه، فإنهما سيعودان من أسباب بلائه، حيث شاركاه التُّهم في قضايا الفساد، في القضية المعروفة بـ"قضية رقم 1000" التي وُجِّهت فيها اتهامات إلى بنيامين وزوجته سارة وابنهما يائير بتلقي هدايا من أرنون ميلكان، رجل الأعمال الإسرائيلي، تشتمل على السيجار الكوبي الفاخر، وزجاجات من النبيذ تُقدر بـ125000 دولار، بالإضافة إلى مجوهرات مقدمة إلى سارة، كل هذا مقابل تسهيلات لميلكان في الاستثمار في إحدى الشركات الإعلاميّة الإسرائيلية، وتسخير مرافق الجيش للاستخدام الشخصي. كما يواجه نتنياهو تهما أخرى، منها قضية رقم 4000 التي يُتهم فيها بيبي بعقد صفقة مع شركة "والا" الإسرائيلية لتقديم تغطية إيجابية لرئيس الوزراء، مقابل مساعدة مالك الشركة في تحقيق مكاسب تُقدَّر بـ190 مليون دولار. وما زالت هذه القضايا منظورة أمام المحكمة.

لقد اعتاد نتنياهو مع عائلته الصغيرة نمطا عاليا من الاستهلاك. في تقرير صادر حول إنفاق أسرة نتنياهو أعده مراقب الدولة يوسف شابيرا، تضمن التقرير سجلات الإنفاق الجنوني من قِبل رئيس الوزراء وزوجته في مقر إقامتهما الرسمي، مثل إنفاق 18 ألف دولار على طلبات الوجبات الجاهزة خلال عام واحد، مع تزويد الحكومة لهم بطاهٍ مع طاقم كامل من الموظفين في مقر إقامتهم. ويشير التقرير إلى أن العائلة أنفقت أيضا 2120 دولارا شهريا لتنظيف منزلها على الشاطئ، وتضاعفت تكاليف التنظيف في مقر إقامتها الرئيسي في القدس إلى أكثر من 300 ألف دولار بين عامي 2009-2013. ويتضمن التقرير أيضا ادعاءات بعض موظفي الحكومة الذين طُلب منهم دفع مبالغ من جيوبهم لتغطية العديد من النفقات الشخصية لرئيس الوزراء، ولم تُسدَّد.

Sara Netanyahu (1st row C), the wife of Israel's Prime Minister Benjamin Netanyahu, sits with their sons Avner and Yair as the country's new government is sworn in at the Knesset (parliament) in Jerusalem, on December 29, 2022. - Netanyahu was sworn in as prime minister after a stint in opposition, heading what analysts call the most right-wing government in the country's history. (Photo by AMIR COHEN / POOL / AFP) (Photo by AMIR COHEN/POOL/AFP via Getty Images)
سارة نتنياهو تتوسط ولديها "أفنير" (يمين) و"يائير" (الفرنسية)

لم يستغل نتنياهو جيوب موظفيه فحسب، بل كان يستفيد من كل سانحةٍ تلوح له أو فرصة تصادفه. وقد كان الرجلُ محظوظا. لو قرر موشيه أرينز الترشح لرئاسة الليكود في تلك الفترة، لتأخر صعود نتنياهو في الداخل الإسرائيلي؛ لأنه ما كان لنتنياهو أن ينافس مدرّبه وولي نعمته. ولكن أرينز قد صرف نظره عن المشاركة، فاغتنم الرجل هذه السانحة. بقي أمام بيبي عملاقان في الحزب: أرييل شارون، وديفي ليفي. أما شارون فقد فطِنَ لأجواء الحزب وتعطشهم لقيادة جديدة، فنأى بنفسه، متحرِّفا لمعركة أخرى، فصعدت أسهم المرشّح الجديد، وبرز نتنياهو وجها لوجه لديفيد ليفي. حين عصفت الفضيحة بحملة نتنياهو توجّهت الاتهامات إلى ديفيد ليفي، وأنه الواقف خلف عملية الابتزاز. حين وقف نتنياهو في التلفاز متذللا ومعتذرا لزوجته، شيء ما تغيّر في نفوس الناخبين داخل الحزب، فآثروا أن يصوتوا للمنحل المعتذر على التصويت للمبتزّ القاسي، مع أنه إلى اليوم لا يوجد إثبات على وجود التسجيل المزعوم.

في 1993، جاءت النتائج مفاجئة للجميع، بفوز نتنياهو على ديفيد ليفي وأمراء الليكود بنسبة 52%، وحصول ديفيد ليفي على 26%، وبيني بيغن 15%. كان هذا الفوز علامة لتاريخ جديد، فلأول مرة يرأس الجيل الثاني حزب الليكود، بعد مناحيم بيغن وإسحاق شامير.

يقتل القتيل ويمشي في جنازته

(غيتي)
(غيتي)

في سبتمبر/أيلول 1993، تخلّى ياسر عرفات عن بندقيته في أوسلو، ومدَّ يده إلى إسحاق رابين، ليمنحه دولة أو بعض دولة. لم يقدم له رابين سوى مصافحةٍ ووعدٍ لن يُنجز. كانت الاتفاقية تقتضي أن تتخلى منظمة التحرير عن المقاومة، وتعترف بدولة إسرائيل المسيطرة على 78% من الأراضي الفلسطينية. وفي المقابل تعترف إسرائيل بأن المنظمة الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، وتنسحب من أراضي الضفة وغزة، وتقر بحق الحكم الذاتي للفلسطينيين.

عارض نتنياهو الاتفاقية من أول يوم، وسعى لإفراغها من مضمونها على مدى سنوات حكمه. شارك نتنياهو في مظاهرات رفعت شعارات متطرفة، حملت إحدى اللوحات صورة رابين وفرعون، وكُتب عليها: "تجاوزنا فرعون، وسنتجاوز هذا أيضا!".

لكونه خبيرا في الإرهاب وإدارة الخوف، حاول نتنياهو أن ينزع الشرعية عن حكومة رابين، بالقول إنها تعتمد على العرب (الكتلة العربية التي دعمت الحكومة وأقرّت اتفاق أوسلو في الكنيست الإسرائيلي). في 1995، أعلن الحاخام الرئيسي في مستوطنة إفرات في الضفة الغربية أن نتنياهو هو رئيس وزراء القادم، وفي الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، اغتيل رابين في جنازته رفضت عقيلته ليئا رابين مصافحة نتنياهو، وقالت ليئا رابين التي توفيت 2000 إنها لن تسامح نتنياهو أبدا، لأنه كان مهندس التحريض على رابين. وحين فازَ نتنياهو بانتخابات رئاسة الوزراء في العام التالي، رُدِّدَ اقتباس من التوراة: "قتلتَ وورثتَ".

لم يكن بيريز، وهو أحد مؤسسي الدولة وأبو البرنامج النووي الإسرائيلي، يشك في فوزه على الشاب الذي جاء يستجديه قبل أعوام ليوظفه سفيرا في الأمم المتحدة، وأراد أن يثبت جدارته بأنه لن يستغل مقتل رابين للفوز على خصمه الذي كان مكروها من عامة الشارع الإسرائيلي وقتها، فوافق على تأجيل الانتخابات لستة أشهر، وكان هذا أحد أكبر أخطائه. كان نتنياهو قد حذق أساليب الحملات والضغط والتعبئة وجمع التبرعات، ولم يعول على خبرته فحسب، بل استعان بخبراء أميركيين لإدارة حملته، وعلى رأسهم أرثر فنكلشتاين الذي قاد نجاحات لمرشحين جمهوريين في الولايات المتحدة. وبأجر يساوي 1000 دولار على الساعة، وافق فنكلشتاين على إدارة حملة نتنياهو دون أن يتفرغ لها، فقد كان يشرف على حملات أخرى في الولايات المتحدة في الوقت ذاته، وتكفّل أحد أصدقاء بنيامين الأغنياء بتغطية تكاليف الحملة.

شمعون بيريز
شمعون بيريز (شترستوك)

استغل نتنياهو مركزية القدس في المخيال اليهودي، فرفع شعار "بيريز سيقسّم القدس"، لتأييد بيريز لاتفاقية أوسلو. حرص بيريز أن يظهر بصورة الرجل القويّ القادر على توفير الأمن للمجتمع الإسرائيلي، فشن حملة عناقيد الغضب على لبنان، التي جناها إدانة دولية بعد مجزرة قانا، وأمر بتنفيذ عملية اغتيال يحيى عياش، فانتقمت حركة المقاومة الإسلامية حماس ونفذت عمليات "الثأر المقدس" الاستشهاديّة في قلب إسرائيل. استغلّ نتنياهو وفنكلشتاين تخبط بيريز، فرفعا شعارا يطمئن الإسرائيليين، جمعا لهم فيه بين طمعهم في إنهاء حالة الحرب، وتحقيق الأمن، فكان الشعار: "نتنياهو: نصنع سلاما آمنا".

كثّف نتنياهو حضوره الإعلامي، وكرّس مهاراته التسويقيّة في نشر الوعود السياسيّة على المجتمع. بدأت الانتخابات بتقدم متوقع لبيريز، وذهب ليغط في نوم عميق، ولم يشهد لحظة التحول، حين انقلبت نتائج الفرز لصالح نتنياهو في الساعة 2:45 فجرا، ونزل أنصار الليكود يهتفون في الشوارع: "ربنا موجود، واذهب يا بيريز لبيتك!". كان "المرشح الذي استخدم الأسلوب الأميركي في الاقتراع ووسائل الإعلام هو الذي فاز"، كما قال ديك موريس المستشار السياسي لبيل كلينتون. حصل نتنياهو على 50.5% من الأصوات، متفوقا على بيريز بأغلبية 29457 صوتا، وكانت أصوات اليهود الشرقيين من عوامل الحسم لصالح نتنياهو، وسيحترف نتنياهو مغازلتهم في كل انتخابات، قال مرة لموشيه كحلوم رئيس حزب كولانو: "لن تحصل أبدا على أصوات الناخبين الشرقيين. أنا الوحيد الذي أستطيع جذبهم لأني أعرف مَن يكرهون. هم يكرهون العرب، وأنا أعرف كيف أبيع لهم هذه السلعة".

قد يكون شامير أول رئيس يمينيّ يغير سياسات إسرائيل نحو اليمين، ولكن مع وصول نتنياهو، لن يكتفي بالسياسات، وإنما سيعمل على تغيير النخبة وتصعيد اليمين في مؤسسات الدولة، وإنشاء مؤسسات يمينية موازية في التعليم، كجامعة بار إيلان، وفي الإعلام كقناة 14 وصحيفة "إسرائيل هيوم"، وسينتهي في آخر أيامه لمعركة القضاء التي لم تستكمل أحداثها بعد أن قطعها يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لقد غيّر بنيامين نتنياهو المجتمع الإسرائيلي إلى الأبد على مدى سنوات حكمه المتعاقبة، فقد صار التيار اليمينيّ والجماعات الدينيّة أصحاب كلمة عليا في الانتخابات، بفضل وفرتهم العددية، وقدرتهم على الإنجاب، وحملهم لمرشحهم نتنياهو ليكون أطول رئيس وزراء خدمة متجاوزا بن غوريون المؤسس. وهذا يعني أن التطرف السياسي داخل إسرائيل في قضايا الاستيطان والعداء للعرب يتجه إلى تصاعد مستمر، سواء بوجود نتنياهو، أو بعد رحيله.

Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu and President Bill Clinton
مؤتمر صحفي للرئيس الأميركي بيل كلنتون (يمين) في البيت الأبيض عام 1996مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو  (شترستوك)

كانت الإدارة الأميركية غضبى من نتائج الانتخابات، فقد كان بيل كلينتون داعما لبيريز، وسيضطر كلينتون لاستقبال بنيامين في البيت الأبيض بعد فوزه على حليفه بيريز. كان لقاء مأساويا لكلينتون الذي أراد الحديث عن مستقبل أوسلو، لكن نتنياهو وضع رجلا على أخرى وبدأ يحاضره عن الوضع الإسرائيلي والشرق الأوسط. سيخرج كلينتون من الاجتماع يقطرُ غيظا وهو يقول: "مَن يظن هذا الرجل نفسه؟ مَن فينا القوة العظمى، أنا أم هو؟!". بعد عقدين سيكرر نتنياهو تصرفه في المكتب البيضاوي، مع أوباما، ولكن هذه المرة سيكون العنوان مختلفا: "الخطر الإيراني".

لم يكن كلينتون وحده مَن يحمل مشاعر البغض لنتنياهو، فقد كان له أعداء في الإدارة الأميركية منذ أن قال في أحد خطاباته: "سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تقوم على الأكاذيب والتحريف"، فمُنِعَ من دخول وزارة الخارجية. وفعل روبرت غيتس، الذي كان نائبا لمستشار الأمن القومي، الشيء نفسه، وكتب غيتس في سيرته الذاتية: "لقد شعرت بالإهانة من غبائه وانتقاده للسياسة الأميركية، ناهيك بغطرسته وطموحه الغريب"، وأضاف: "أخبرت مستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت أنه لا ينبغي السماح لبيبي بالعودة إلى البيت الأبيض". حين تولى بايدن منصب نائب الرئيس في 2009، استضاف نتنياهو، وقال له: "ليس لديك أصدقاء كُثر هنا يا صاحبي، أنا صديقك الوحيد. اتصل بي حين تحتاج إلى مساعدتي". احتفظ نتنياهو بهذا الوعد، وسيستخدمه بعد ربع قرن، حين يحتاج إلى غطاء أميركي لحرب إبادة في غزة.

وحدهما نتنياهو ومن قبله غولدا مائير كانا الأجرأ على الإدارة الأميركية من وزراء الكيان، فربما لعيشهما فيها فقدا مهابتها، وشعرا أمامها بالنديّة. لقد كان غرض نتنياهو من التبغّض للإدارة الأميركية عرقلة أي تقدم لاتفاقية أوسلو التي تحمّس لها كلينتون.

لا يتعلق الأمر بموقف الساسة من نتنياهو بالخلاف السياسي فحسب، بل بسمات نتنياهو الشخصيّة من كذب وتذاكٍ، التي تجعله مكروها لدى كثيرٍ من نظرائه. في عام 2011، أذاع لاقطُ الصوت المعلق في سترة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شكواه للرئيس باراك أوباما وتذمره من التعامل مع نتنياهو قائلا: "لا أستطيع تحمل نتنياهو، إنه كاذب". فأجابه أوباما: "لقد سئمت منه أيضا، لكن عليّ أن أتعامل معه أكثر منك".

يذكر جاريد كوشنر في مذكراته استثقال دونالد ترمب لنتنياهو، "وقلة صبره على ثرثرته"، وشكواه الدائمة منه. لكن الأمر لم يكن متعلقا بالساسة في الخارج، ففي الداخل الإسرائيلي كان نتنياهو بغيضا لدى الجميع. دعاه مرة شارون إلى مزرعته ليتعرّف عليه ويبني علاقة وديّة معه في بدايات التحاقه بالليكود، وفي نهاية اللقاء قال شارون: "هذا رجل لا يمكن الثقة به". وحين سئل عنه شامير قال: "لا أعتقد أنه يؤمن بأي شيء. غروره لا يُحتمل، ولستُ أحبه". هذا والرجلان يمينيان، يشاركانه المذهب والطريقة، وسلفاه في الليكود، فلا تسل عن بُغض اليسار له.

الحائر بين موسى وتشرشل

لم تفارق فكرة زوال إسرائيل أذهان أبناء بن صهيون

لم تفارق فكرة زوال إسرائيل أبناء بن صهيون، فقد عبأهم والدهم بها، وصارت هاجسا يهجسون به.
بنيامين نتنياهو (الفرنسية)
بنيامين نتنياهو (الفرنسية)

يقف نتنياهو في وسط داره، التي تغصُّ بحضور الفعاليّة التي يستضيفها بنيامين وسارة في بيتهما في تل أبيب سنويا لمنتدى التوراة الذي يحمل اسم والد سارة "شموئيل بن أرتسي"، ويتنحنح استعدادا للكلام، فتتضاءل أصوات المحادثات الجانبيّة، ويتجه الجميع إلى المضيف ليسمعوا ما لديه، كان هذا عام 2017 وعمر الكيان قد ناهز السبعين. بعد أن هدأت الأصوات يبدأ بنيامين بالحديث: "لا وجود يهودي بدون التوراة، وبرأيي ليس هنالك مستقبل يهودي بدون التوراة، هذا الأساس الأول والأعلى الذي نصرّ عليه!". تضج الغرفة بالتصفيق، لكن نتنياهو يكمل، وخيال والده يلمع في ذهنه: "إن دولة الحشمونائيم [وهي دولة يهودية قامت في فلسطين من 140 قبل الميلاد إلى 63 قبل الميلاد] صمدت ثمانين عاما، ونحن نعمل أن تحتفل إسرائيل بعيدها المئوي، سنقوم بكل ما ينبغي فعله للدفاع عن الدولة. صمدت دولة حشمونائيم 80 عاما وعلينا تجاوز هذا الرقم!"، ويعود الصخب إلى الغرفة بالتصفيق والأحاديث.

لم تفارق فكرة زوال إسرائيل أبناء بن صهيون، فقد عبأهم والدهم بها، وصارت هاجسا يهجسون به. كتب نتنياهو في مذكراته عن تدريبات الغوص، التي خضع لها أيام خدمته العسكرية في جنوب حيفا، عند قاعدة عتليت، أنه وقف على أنقاض قلعة صليبيّة تطل على البحر، وأخذ يسأل نفسه: "هل سنلقى نحن أيضا مصير الصليبيين، الذين سلموا الأرض المقدسة للمسلمين بعد قرنين من الزمان؟".

يرى نتنياهو المتشبّع بهاجس نهاية الدولة اليهوديّة أنه الوحيد القادر على تأخير هذه النهاية وحماية الشعب اليهوديّ، فعندما سئل في لقاء تلفزيوني عام 2011 عن الشيء الذي يرغب أن يتذكره الناس به، أجاب: "أني ساعدت في تأمين حياة الدولة اليهودية ومستقبلها".

تستولي فكرة العظمة على نظرة نتنياهو لذاته، فهو يحبُ أن يُقارَن بالزعماء المؤثرين في التاريخ، ويلذُّ له أن يقارن بتشرشل، وإن كان يرى نفسه كنبي الله موسى الذي استطاع أن ينقذ اليهود ويعبر بهم إلى بر النجاة مع إحاطة الموت بهم. قد يكون اقتران مولده بنشأة الكيان مما يحدوه لفكرة الاتحاد، فلا يتخيّل وجودا لإسرائيل إلا بحضوره وإدارته للأمور. هذا الحس الحلوليّ ليس غريبا عن اليهوديّة؛ "كما تبنَّت المسيحية فكرة حلول الإله في جسد المسيح، تبنَّت اليهودية بوصفها ديانة قومية مقولة حلول الإله في الشعب اليهودي"، كما أخبرني محمد الشنقيطي أستاذ مقارنة الأديان بجامعة حمد في الدوحة. وليس غريبا على نتنياهو الذي بعد سنوات من سيطرته على الليكود سيصرخ في وجه صحفيّ يناقشه في سياساته المخالفة لمبادئ الحزب: "أنا الليكود!". يعاني نتنياهو في معرفة حدوده الشخصيّة وحدود صلاحياته مع وهم العظمة الذي يشغل تفكيره، في أحد اجتماعات حكومته قال بملء فِيه: "ليس هناك حاجة إلى موظفي وزارة الخارجية، فأنا موجود!".

ملامح نفسية لشخصية نتنياهو

حين سألتُ الأخصائي النفسي محمود أبو عادي عن شخصية نتنياهو، وهل يعاني من اعتلال نفسيّ يجعله بغيضا لهذه الدرجة، أجابني محمود: "إن الدراسات النفسية تشير إلى أن شخصية نتنياهو تُشكِّل ما هو أسوأ من مجرد الاعتلال النفسي، حيث يُسجِّل قيما مرتفعة نسبيا فيما يصطلح عليه علماء النفس بـ"الثالوث المظلم للشخصية". تشمل هذه المقاييس مقياس الاعتلال النفسي، ومقياس المكيافيلية، ومقياس النرجسيّة. وحين تجتمع هذه الأبعاد في شخصية واحدة، فأنت أمام إما شخصيّة إجراميّة بالمعنى الحرفي للكلمة، وإما أخطر شخصية تلاعبيّة بالمعنى العاطفيّ للكلمة".

في سنوات خدمته الأولى رئيسا للوزراء، لم يكن أستاذ التاريخ المدمن على عالم الملاحم راضيا عن أداء ابنه، قال بن صهيون في مقابلة نادرة عام 1998: "إن [بنيامين] لا يعرف كيف يأسر الناس أو يستحوذ عليهم بالإحسان أو المديح"، و"لا ينجح دائما في اختيار الأشخاص الأنسب". لم يره والده سوى رجل دعاية وعلاقات، فقال: "ربما كان [بيبي] أكثر ملاءمة لوزارة الخارجية من رئاسة الوزراء". لا شك أن تترك هذه التصريحات ندوبا في وعي نتنياهو، الذي سيبقى عازما على العودة إلى منصبه وإثبات خطأ والده بسياسات أكثر تطرفا، وسيقدم نفسه ليس بوصفه زعيما لإسرائيل فحسب، بل للشعب اليهوديّ في كل العالم، وقائدا للغرب في معركة حضاريّة ضد الإسلام. لم تزل كلمات شمعون بيريز التي قالها في تأبين أبيه بن صهيون نتنياهو في 2012 ترنُّ في أذنيه: "لقد كتبَ أبوكَ التاريخ، وأنت اليوم تصنعُه!".

بعد أحداث مركز التجارة العالمي والبنتاغون في 11 سبتمبر/أيلول 2001، عاد نتنياهو للظهور في وسائل الإعلام الأميركية بوصفه خبيرا في مجال "الإرهاب".

غلبته الحماسة في رد فعله الأول على الحدث، الذي سجلته صحيفة "نيويورك تايمز"، عندما سُئل: "ماذا يعني الهجوم بالنسبة للعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، فقال: "إنه جيد جدا"، ثم استدرك قائلا: "حسنا، ليس جيدا جدا، لكنه سيولد تعاطفا فوريا [مع إسرائيل]… وسيعزز الروابط بين شعبينا". كان نتنياهو يرى في شعور أميركا بالتهديد من الجماعات الإسلامية دافعا لها لتبني خطابه ضد حركة المقاومة في فلسطين، ودعمه في سحق أي روح مقاومة لمشاريع الاستعمار في المنطقة. لهذا السبب، ترجم نتنياهو كتاب عائلته عن يوناتان إلى الإنجليزية، ونشره بعد هجمات سبتمبر ليقدم عملية عنتيبي بوصفها "نموذجا" لمكافحة الإرهاب.

عطايا ترامب لنتنياهو بالتطبيع.. التوقيع على اتفاقية أبرهام بالبيت الأبيض. تصوير مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي التي عممته على وسائل الإعلان للاستعمال الحر)
التوقيع على "اتفاق أبراهام" في البيت الأبيض بين الإمارات والبحرين وإسرائيل في سبتمبر/أيلول 2020 (غيتي)

لم يزل نتنياهو يتبجّح بأنه بخبرته العريضة قد استشرف هجوم 11 سبتمبر/أيلول في كتابه عن الإرهاب، إذ كتبَ نتنياهو أن الغرب إذا لم ينتبه للتهديدات القادمة من العالم الإسلامي، "ففي أسوأ السيناريوهات، قد لا تكون العواقب انفجار سيارة مفخخة، بل قنبلة نووية في الطابق السفلي من مركز التجارة العالمي". جاء الهجوم بطائرات محلّقة، لكن نتنياهو بقي يردد أنه قد تنبأ بالحدث، وأن على الغرب أن يُصغي له فيما يتعلق بالمواجهة بين الإسلام والغرب.

عمل نتنياهو مع حكومات عربيّة على تجفيف ما رآه "مدًّا إسلاميا" في الربيع العربي، وبذل كل ما بوسعه لإعادة الحكم العسكري والاستبدادي وحرق واحات ربيع التحرر في المنطقة، ولفَّ خمار التطبيع على عمائم العرب، حتى وقف في سبتمبر/أيلول الماضي أمام الأمم المتحدة، وفي يده خارطة للمنطقة ولا فلسطين فيها، وإنما إسرائيل فحسب، وسط محيط عربي مهادن. لم يبقَ من فلسطين سوى فائض سكّاني سيعالجه بالمستوطنات، وبمشروع التهجير متى ما سنحت الفرصة، وبدا أن الرجل السبعيني الذي فاق جميع رؤساء إسرائيل مدةً في الحكم قد نجح في تصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد.

ولم يدر في أبشع كوابيس نتنياهو ما كان يعكفُ عليه يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى ووسام فرحات من تخطيط لليوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد مئة عام تماما من مقالة زئيف جابوتنسكي. لقد انهارت فكرة الجدار الحديدي، تحت سمع تلميذه نتنياهو وبصره، دونا عن كل قادة إسرائيل.

--------------------------------------------------------------------------------

الفريق المساعد:

  • بثينة فراس: باحثة في السياسة الدولية.
  • شهد قايد: باحثة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
  • علي أصرف: مترجم لغة عبرية.
  • زياد كحيل: مصمم.
  • ياسر صلاح الدين: رسّام.
المصدر : الجزيرة