محمد سعيد رسلان.. قصة شيخ المدخلية من "سُبْك الأحد" إلى "مرسيليا"

محمد سعيد رسلان في إحدى المحاضرات.
محمد سعيد رسلان في إحدى المحاضرات. (مواقع التواصل)

تقع مدينة "لانغون" في جنوب غرب فرنسا، وهي مدينة صغيرة تقطنها جالية مسلمة غالبيتها من المغاربة، وقد تمكَّنت هذه الجالية بعد عناء طويل من بناء مسجد صغير يستقبل صفا أو اثنين من المُصلِّين في الصلوات اليومية، والعشرات على أقصى تقدير في صلوات الجمعة والأعياد.

أمام هذا المسجد الصغير، وبعد إحدى صلوات الجمعة، اجتمع عدد من الشباب، وأغلبهم حديث العهد بالإسلام، للدردشة حول بعض القضايا الدينية والاجتماعية التي تشغلهم مثل بقية مسلمي البلاد، وأبرزها غياب التأطير الديني ونقص العلماء والدعاة في فرنسا. ثم هبَّ أحدهم وكأنه وجد كنزا ثمينا لم يصادفه غيره من قبل قائلا: "إن الدعاة والعلماء الربانيين موجودون، ولا أتحدث هنا عن العلماء المشاهير ممن يظهرون في التلفاز، بل عن بعض المجهولين الذين لم يصلنا صيتُهم. لقد تعرفت خلال زيارتي الأخيرة للمغرب على عالم كبير لم أكن قد سمعت به من قبل، رجل رباني نوراني مصري اسمه محمد سعيد رسلان".*

 

طب ثم أدب ثم شريعة

حضر رسلان حلقات ذكر الطريقة الرفاعية الصوفية رفقة الشيخ "عليوة عبد الفتاح الباز"، قبل أن يترك الصوفية ويدعو شيخه إلى ترك التصوف الطُّرُقي (مواقع التواصل)
حضر رسلان حلقات ذكر الطريقة الرفاعية الصوفية رفقة الشيخ "عليوة عبد الفتاح الباز"، قبل أن يترك الصوفية ويدعو شيخه إلى ترك التصوف الطُّرُقي (مواقع التواصل)

بعيدا عن "لانغون" وفرنسا، وفي قلب المنطقة العربية، نبدأ رحلتنا من محافظة المنوفية الواقعة في شمال العاصمة القاهرة، وفي القلب منها مركز "أشمون" حيث تقع قرية صغيرة تُدعَى "سُبْك الأَحَد". في هذه القرية دارت فصول قصة إحدى أهم الشخصيات الدينية في العالم العربي اليوم، وهو الشيخ المَدخلي محمد سعيد رسلان. وُلِد رسلان بسُبْك الأحد وترعرع فيها، وحصل على الثانوية من مدرسة أمين الخولي الثانوية بنين بمجموع لم يكن كافيا للالتحاق بكلية طب القصر العيني، الكلية الأبرز للعلوم الطبية في البلاد، بعد أن أمضى معظم وقته في الاطلاع على كتب الأدب والشعر غير آبهٍ بالتخصصات العلمية ولا راغب في دخول الامتحانات.

في النهاية، التحق رسلان بكلية طب جامعة الأزهر تحت إلحاح أبيه (كان النظام ساعتها يسمح بالتحاق طلاب التعليم النظامي بالكليات الخاصة بالسلك الأزهري)، ولم تكن سنواته الدراسية سهلة، إذ تعثَّر مرارا حتى حصل على بكالوريوس الطب مُتخصِّصا بالجراحة بعد 12 سنة أمضاها في الكلية حتى عام 1986. وفي هذه الفترة الطويلة التي قضاها في الطب، زاد ولع سعيد رسلان بالشعر والأدب بأنواعه المختلفة، وانعكس ذلك بشكل كبير على ملكته الأدبية ولغته العربية. (1)

أتت نقطة التحوُّل في حياة رسلان أثناء إحدى زياراته لسور الأزبكية من أجل شراء كتاب أدبي، حيث التقى هناك الشيخ "عبد العظيم حمزة"، والد العلامة الدكتور "أسامة عبد العظيم" رئيس قسم الشريعة الأسبق وأستاذ أصول الفقه المتفرغ بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، الذي وافته المنية مؤخرا، فنصحه الشيخ بالانصراف لطلب العلم الشرعي بدلا من الأدب، ومن ثمَّ بدأت رحلة رسلان في طرق أبواب العلوم الدينية.

لم تكن الدعوة السلفية التي سيلتحق بها رسلان حينئذ بالقوة ذاتها التي تمتلكها اليوم في قرية سُبْك الأحد، إذ انقسمت الساحة الإسلامية في مصر عموما بين الأزهر والصوفية والإخوان المسلمين و"التبليغ والدعوة". وفي قرية رسلان، نشطت بعض الطرق الصوفية مثل الطريقتين الرفاعية والخَلْوَتية، وفي سنوات تديُّنه الأولى، حضر رسلان حلقات ذكر الطريقة الرفاعية الصوفية رفقة الشيخ "عليوة عبد الفتاح الباز"، قبل أن يترك الصوفية ويدعو شيخه إلى ترك التصوف الطُّرُقي، وهو ما حدث فعلا. (2)

إلى جانب الصوفيين، نشط دعاة جماعة "التبليغ والدعوة" نشاطا ملحوظا في مركز أشمون، وتزعَّمهم الطبيب "شكري عرفة"، الذي قال عنه رسلان إنه شيخه في الطب، فكان يخرج معهم أحيانا لدعوة الناس إلى الله. وقد واصل رسلان انصرافه عن العناية بدروسه في الطب، ليس للأدب هذه المرة ولكن لطلب العلوم الشرعية، مُفضِّلا الالتحاق بإحدى كليات اللغة أو علوم الشريعة، لكنه استجاب لرغبة والده في الأخير وأكمل دراسة الطب. وفي أثناء دراسته العلمية، عاشت مصر حادث اغتيال الرئيس السابق "محمد أنور السادات"، واتجهت أصابع الاتهام نحو الإسلاميين بكل ألوانهم، فزُجَّ ببعضهم في السجون والمعتقلات، فيما اختار البعض الآخر السفر. وقد مكث رسلان في بيته حتى اعتُقِل، رغم أنه أذعن لطلب أسرته بحلق لحيته تجنُّبا للمشكلات. (3) ومن الطريف أن رسلان نظم قصيدة حينها ندَّد فيها بالظلم الذي عاشه الإسلاميون، وبأحكام القضاء، واصفا القضاة بالطواغيت، فأنشد قائلا:

"وقف القضاةُ على المنابرِ مثلما.. وقفَ الغرابُ على الخرائبِ ينعقُ

حَكَموا بشرعٍ ما عَلِمتُ وزيَّفوا.. حكما قديما والمُصدِّق أحمقُ"

بعد رحلة الطب، التحق رسلان بكلية اﻵداب جامعة المنوفية قسم اللغة العربية، وهناك وجد ضالته وبزغ نجمه بسبب قوته اللغوية وتفوُّقه الواضح على أقرانه، كما منحته الكلية فرصة لقاء أحد أهم فقهاء اللغة حينها وهو الدكتور "رمضان عبد التواب". أما في مجال الشريعة الذي سار فيه أيضا، فلم يكن لرسلان مشايخ معروفون، بل اقتصر تعلُّمه على حضور بعض حلقات العلم أثناء مواسم الحج فقط. ولهذا السبب، وحتى على موقعه الرسمي، لم يُسَمِّ شيخ المَدخلية في مصر مشايخَ له، بل اقتصر على ذِكر تأثره بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القَيِّم.

بعد تخرُّجه في كلية الآداب ضمن أوائل دفعته، كان من المنتظر أن يُعيَّن رسلان معيدا في الجامعة، لكن الأمن عرقل تعيينه وفقا لما أكَّده بنفسه بعد ذلك. ويحكي "عمرو شوقي عبد العظيم"، المُقرَّب في فترة سابقة من الشيخ رسلان، في مجموعة تدوينات حملت عنوان "لله ثم للتاريخ.. بيني وبين الدكتور محمد سعيد رسلان"، أن السبب المحتمل لعدم تعيين رسلان كان حادثة وقعت في سُبْك الأحد أثناء دراسته في كلية الآداب، حين اعتنقت إحدى الفتيات المسلمات الديانة المسيحية، فدخل رسلان في القضية التي تحوَّلت حينئذ إلى قضية رأي عام في القرية. وقد تدخَّل الأمن للقبض على رسلان الذي مكث مدة في السجن، حتى خرج قاصدا كنيسة سُبْك الأحد، وألقى فيها كلمة في وجود بعض الشخصيات الأمنية لإنهاء الفتنة التي كادت تتسبَّب في هَدْم الكنيسة من طرف بعض الأهالي. (4)

 

صديق السلطة وعدو الجميع

يختلف التيار المدخلي عن السلفية الحركية التي يمثلها شيوخ مثل محمد عبد المقصود وفوزي السعيد.. في الصورة الشيخ "محمد عبد المقصود". (مواقع التواصل)
يختلف التيار المدخلي عن السلفية الحركية التي يمثلها شيوخ مثل محمد عبد المقصود وفوزي السعيد.. في الصورة الشيخ "محمد عبد المقصود". (مواقع التواصل)

ربما كانت هذه الحادثة الأولى من نوعها التي وضعت رسلان في مواجهة مباشرة مع الأمن. وقد تفرَّغ بعدها للتصنيف والكتابة، فكتب "فضل العلم وآداب طلبته وطرق تحصيله وجمعه"، و"ذم الجهل"، و"فضل العربية ووجوب تعلمها"، و"الترهيب من الربا"، و"مجنون ليلى حقيقة أم خيال"، وغيرها. لكن هذه العلاقة المتوترة تبدَّلت تماما مع مرور الوقت، حتى إن جهاز الدولة المصري، المعروف بعدائه العنيف للتيارات الإسلامية، أوقف أحد مرافقي رسلان بعد خلاف علمي معه، بل وعرض على الموقوف أن يتوسَّط الأمن له عند الشيخ حتى يحل الخلاف بينهما. وقد تكرَّرت تلك القصة بتفاصيل مختلفة مع إعلامي اليوتيوب "عبد الله الشريف"، الذي أكد تلقيه رسائل من تلاميذ للشيخ رسلان يطالبونه فيها بالاعتذار عن حلقة ذكر فيها شيخهم، مقابل التوسُّط له عند الأمن المصري للعفو عنه، على حد قوله. (5)

تضعنا هذه الحوادث -رغم ما قد تنطوي عليه من مبالغة ورغم عدم قدرتنا على التأكد من صحتها بشكل مستقل- أمام سؤال مهم حول علاقة الرجل بالأنظمة السياسية المصرية، التي جعلت خصومه يتهمونه بالعمالة لجهاز أمن الدولة المصري سيئ السمعة. ومع ذلك، فإن التوجه الديني الذي تبنَّاه محمد سعيد رسلان بعد سجنه وفترة عزلته الاختيارية ما انفك يخدم النظام السياسي، فقد تبنّى الشيخ رسلان نسخة "خاصة" من المنهج السلفي، الذي اكتسب شعبية كبيرة جدا في الأوساط العربية بفضل الانفتاح الإعلامي في سنوات ما قبل الثورات العربية.

تُعرف هذه النسخة باسم السلفية المَدخلية، وهي تيار مختلف عن التيارات السلفية الأخرى، الكلاسيكية منها أو الجهادية. وقد ظهرت الخلافات بين هذه الفِرَق في المملكة العربية السعودية، قبل أن تنتقل في وقت لاحق إلى مصر، إذ أُعلِن هذا الخلاف عن طريق الشيخ المَدخلي المعروف "أسامة القوصي" في مواجهة عدد من رموز السلفية الحركية مثل "محمد عبد المقصود" و"فوزي السعيد" و"سيد العربي" وآخرين. وبقيت المعركة مشتعلة بين الطرفين حتى تدخَّل الأمن المصري لإنهائها بوقف نشاط السلفية الحركية قبل أن يعتقل رموزها. (6) لم يبقَ أسامة القوصي على رأس السلفية المَدخلية طويلا، فسرعان ما ابتعد عنها وعن التيار الإسلامي كله، ولم يجد التيار المَدخلي قائدا حقيقيا حينها لسببَيْن أوردهما الكاتب "أحمد سالم" في كتابه "اختلاف الإسلاميين": الضعف العِلمي، ونقص كاريزما القيادة.

رفض "رسلان" ثورة يناير وقال إنه لا يمكن الدعوة الى الله بـ"وسائل أهل الشرك والكفر"، حسب زعمه. (رويترز)
رفض "رسلان" ثورة يناير وقال إنه لا يمكن الدعوة الى الله بـ"وسائل أهل الشرك والكفر"، حسب زعمه. (رويترز)

تغيَّر الوضع ابتداء من عام 2006، حين ظهر اسم محمد سعيد رسلان إبَّان معركة شهيرة خاضها مع الدعوة السلفية بمدينة الإسكندرية (التيار السلفي الكلاسيكي الذي أسس حزب النور بُعَيد إسقاط نظام مبارك عام 2011) حول قضية مشروعية العمل الجماعي والتنظيمي. وقد التفَّ شباب التيار المَدخلي حول رسلان بسبب قدراته الخطابية ورصيده العلمي المعقول، حيث وصف رسلان طرح السلفية السكندرية آنذاك بـ"البغاء الفكري" في تصعيد خطابي واضح. ومن جهتها، ردَّت قيادات الدعوة السلفية بنوع من الهدوء على هذا الكلام دون رغبة حقيقية في خوض مناقشات وخلافات حادة، إذ أبدى "عبد المنعم الشحات"، القيادي السلفي الشهير، أسفه على ما صدر من رسلان، مُعربا عن حزنه أن يصل الخلاف إلى هذا الحد بدلا من أن تتكاتف الجهود السلفية للوقوف في وجه التيار التغريبي والعلماني. (7)

بعد اندلاع ثورة 25 يناير في مصر، ظهر التوجه الواضح للشيخ رسلان والتيار المَدخلي عموما. فقد رفض الرجل تماما الثورة بوصفها وسيلة للتغيير، وقال إنه لا يمكن الدعوة إلى الله بوسائل "أهل الشرك والكفر" من مظاهرات واعتصامات وعصيان مدني وانتخابات وتحزُّب، وأطلق الشيخ المَدخلي خطابا تشابه إلى درجة كبيرة مع خطاب مؤيدي نظام مبارك، قائلا إن الثورة المصرية كانت من صنع اليهود والماسونيين، مُعِيبا على الشيوخ الذين ادعوا أنهم أهل الدعوة والعلم عدم مواجهتهم لهذا المد الثوري "الماسوني"، إذ ليس في الإسلام ثورة على حد قوله. (8)

وقد اعتبر رسلان أن "الثورة" التي أرادت الإطاحة بمبارك لم تكن في الحقيقة إلا "صراعا بين حضارتين، الحضارة الإسلامية بأصولها الشرعية من التوحيد وسنة النبي، وبين الحضارة الغربية بأصولها الوثنية التوراتية الصليبية"، مضيفا في خطبته التي ألقاها أثناء الأحداث: "الذي يجري في مصر يُراد منه التغيير، التغيير الذي يعني الخروج من الأطر القديمة عَقدية وشرعية واجتماعية وأخلاقية وحياتية، التغيير الذي يعني أن نلبس الجينز بدل القميص، وأن نأكل باليُسرى بدل اليُمنى، وأن تُعدِّد المرأة بدلا من أن يُعدِّد الرجل، وأن نقبل البغاء ونرفض الزواج". انتهت الثورة بسقوط مبارك الذي عدَّه المَداخِلةُ الحاكمَ الشرعي للبلاد، ثم جاء موعد الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الثورة، التي وصل إلى جولتها الأخيرة الدكتور "محمد مرسي"، مرشح الإخوان المسلمين والأقرب لصف الثوار، والفريق "أحمد شفيق"، أحد رجالات المؤسسة العسكرية والمحسوب على النظام المباركي البائد.

أبدى رسلان شراسة كبيرة في مهاجمة الإخوان، الذين عدَّهم التيارُ المَدخلي خصمَه الأيديولوجي الأول. فقبل الانتخابات الرئاسية، خرج رسلان إلى مريديه في خطبة جمعة حملت عنوان: "ماذا لو حكم الإخوان مصر؟"، وقال رسلان إن الاجابة المختصرة عن هذا السؤال هي أن مصر ستغير اسمها إلى "جمهورية مصر الإخوانية" بدلا من "جمهورية مصر العربية". (9) وفصَّل الرجل إجابته في 17 نقطة، منها أن المرشد سيصير الحاكم الفعلي لمصر، وأن البلاد ستُدار من داخل مكتب الإرشاد لا قصر الرئاسة، وأن "التقية" ستصير قاعدة سياسية داخلية وخارجية، وأن فهمَنا للإسلام سيصبح من خلال أصول حسن البنا لا حسب مضامين القرآن والسنة، علاوة على إمكانية تصاعد المد الشيعي في البلاد، حسب زعمه. شيطن رسلان الإخوان، وصدَّ الناس عن اختيار مرشحها في الانتخابات، ولكن بعد نجاح مرسي في الوصول إلى كرسي الرئاسة، خفَّ الظهور السياسي للشيخ رسلان، الذي أكد ضرورة طاعة الرئيس لا الجماعة التي لا طاعة لها ولا بيعة. (10)

بعد عودة المؤسسة العسكرية إلى حُكم مصر عام 2013، عادت ميكروفونات مسجد سُبْك الأحد تُهلِّل للنظام، إذ أبدى رسلان دعما قويا للنظام الجديد، وانتشر له مقطع هاجم فيه مبدأ الانتخابات، قائلا إن ولي الأمر في نظره لا يُنازَع في مقامه الذي بوَّأه الله إياه، بل هو باقٍ في منصبه إلا إذا وقع عارض من موانع الأهلية. (11) ومن جهة أخرى، شبَّه الشيخ المَدخلي إحياء معارضي النظام لذكرى فض اعتصامي رابعة والنهضة الذي راح ضحيته عدد كبير من المعتصمين بذكرى المحرقة التي يحييها اليهود، حيث استدعاء "المظلومية" والمتاجرة بالآلام، فقال: "هؤلاء الذين اعتصموا في هذا المكان هم من خوارج هذا العصر. هؤلاء قيل لهم مرات على مدار 45 يوما لا تعتصموا في هذا المكان، واعلموا أنكم ستتجنبون الملاحقة، ولن يمسكم أحد بسوء. ولكن قادتهم هربوا جميعا، وتركوا مَن غُرِّر بهم يحملون السلاح ويحاربون الأمن". (12)

 

الدعوة الرسلانية عابرة للقارات

لكن كل هذه المواقف لم تكن كافية لبقاء رسلان على منبره دون منازعة على ما يبدو. ففي سبتمبر/أيلول 2018، أصدرت وزارة الأوقاف المصرية قرارا بمنع سعيد رسلان من الخطابة، في خطوة فاجأت الرأي العام الديني والإعلامي في مصر، وبرَّرها وزير الأوقاف المصري "محمد مختار جمعة" برغبة وزارته في عدم السماح لأحد بالتجاوز في حق المنبر أو مخالفة تعليمات الوزارة أو "الخروج على المنهج الوسطي" أو استخدام المسجد لنشر أفكار لا تتفق و"صحيح الإسلام ومنهجه السمح الرشيد"، على حد وصفه. (13) لم يُبدِ رسلان أي اعتراض على القرار، بل حضر وسط مريديه في الجمعة التي خطب فيها الشيخ "أحمد عبد المؤمن"، وكيل الوزارة بالمنوفية، ثم أخذ رسلان الكلمة شاكرا الوزارة على هذا المعروف الكبير، بعد أن أرسلوا إلى سُبْك الأحد عالِما يخطب مكانه، وهو رجل لا يعدو كونه "طُوَيلِب علم"، حسب قوله. (14)

لم يستمر هذا المنع طويلا، وبالأخص بعد أن أبدى عدد من الإعلاميين التابعين للنظام رغبتهم في إعادة رسلان إلى أتباعه، فاستجابت وزارة الأوقاف، وخرج "جابر طايع"، رئيس القطاع الديني في وزارة الأوقاف وقتها، ليؤكد عودة رسلان إلى منبره، بعد أن حضر إلى مكتبه بالوزارة وأكد ما أعلنه سابقا من وجوب طاعة ولي الأمر، وتعهد بالالتزام بجميع تعليمات وزارة الأوقات فيما يخص الخطابة وإدارة شؤون المساجد. (15) ولم يكن من المستغرب أن تثير هذه الأحداث بشأن رسلان الكثير من الاهتمام، وذلك لأن "السلفية الرسلانية" إن صح القول باتت ذات انتشار واسع، ليس خارج محافظة المنوفية فحسب، بل وخارج مصر والعالم العربي كله. وقد ظهر هذا التأثير مثلا في الجارة الغربية ليبيا، التي عرفت هي الأخرى ثورة ضد القذافي، سرعان ما أفرزت لاعبين سياسيين مهمين منهم "خليفة حفتر"، الذي يتمتع بدعم كبير من طرف التيار المَدخلي في البلاد.

لعبت مصر دورا مهما في ليبيا، وحاولت توجيه قيادات التيار السلفي التابع لها لبسط نفوذه على السلفية في الشرق الليبي، ومن ثمَّ أصبح الشيخ رسلان مفتيا غير رسمي لبعض الجماعات السلفية شرق ليبيا، وصار مَرجِعا دينيا يزعم الاستناد إليه في عمليات القتل والتصفية واعتقال الفقهاء والمشايخ المعارضين، كما حدث في عملية اغتيال الشيخ "نادر العمراني" عضو هيئة دار الإفتاء في طرابلس، حيث ورد اسم رسلان على لسان "هيثم عمران الزنتاني"، أحد المتورطين في الحادث، الذي قال إن أحد زملائه في تنفيذ الجريمة درس العلوم الشرعية على يد الشيخ رسلان، وإنه أتى بفتوى من الأخير تُجيز له قتل العمراني لأنه يعمل على تضليل الليبيين. ولم يتأخر رسلان في الخروج ببيان ينفي فيه هذا الكلام جملة وتفصيلا، مُعلنا ترحُّمه على الشيخ العمراني ورفضه منهج الخوارج والتكفيريين في استباحة دماء المسلمين. (16) (17)

لن تتسع السطور للحديث عن عدد الدول التي ينتشر فيها التيار المَدخلي، ولكن لفهم انتشار أفكار الرجل يمكننا النظر إلى ما هو أبعد من ليبيا، إلى بلد في قارة أوروبا هو فرنسا، المعادية للأديان وللإسلام خاصة، إذ يُعَدُّ التيار المَدخلي أحد التيارات المنتشرة بقوة في البلاد، وباتت مساجد بعض المدن مثل "روبيه" و"تالانس" و"مرسيليا" و"شاتورو" و"مونبِلييه" ومدن أخرى تميل إلى المَدخلية، كما أن عددا من المواقع الإلكترونية المهمة التي تُعَدُّ مرجعا للجالية المسلمة الفرنكوفونية في فرنسا صارت مواقع مَدخلية، مثل موقع "إسلام شرعي" وموقع ميراث الأنبياء" وموقع "إسلام السنة"، فيزورها الباحثون عن الفتوى دون علم بمسألة اختلاف التيارات الدينية أو فهم لطبيعة التيار المَدخلي. (18) (19) (20)

ينشط فكر رسلان في فرنسا بقوة بواسطة الكتب المترجمة عبر دار الفرقان في نسختها الفرنسية، إذ تقول دار النشر على موقعها إن اختيار الكتب وترجمتها يتم فقط عبر الحصول على موافقة شخصية مباشرة من رسلان نفسه. (21) وليس هذا فحسب، بل وتستقبل قرية سُبْك الأحد عددا كبيرا من الأجانب الذين يأتون إما طلبا للهجرة الشرعية إلى بلد مُسلم، وإما لطلب العلم والعودة لتبليغ الدعوة داخل البلدان الأوروبية التي أتوا منها. ويشرف "عبد الله محمد رسلان"، نجل شيخ المدخلية، على التنسيق مع المراكز العلمية والدعوية التي تنشر الفكر المَدخلي في فرنسا، وتترجم الدورات التكوينية إلى الفرنسية. (22)

بحضوره داخل مصر وخارجها، أضحى محمد سعيد رسلان رقما دينيا صعبا في العالم العربي، حاملا أيديولوجيا خاصة به ترى الصواب تحت أقدام الحكام حَصرا، وترى أيَّ احتجاج، ولو كان نصرة لمظلوم، خروجا على عقد البيعة، وخرقا لقواعد الإسلام التي تُوجب -بحسب المدرسة المَدخلية- نبذ المظلوم وتابعيه، بل وتسليمهم لبطش الأجهزة الأمنية، دون تردد، إذا لزم الأمر.

*كاتب التقرير كان شاهدا على هذه المحادثة

————————————————————————————–

المصادر

(1) لله ثم للتاريخ.. بيني وبين الدكتور محمد سعيد رسلان. مجموعة تدوينات لعمرو شوقي عبد العظيم

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.

(5) عبدالله الشريف | حلقة 14 | الشيخ حمادة | الموسم الثاني

(6) اختلاف الإسلاميين، أحمد سالم، مركز نماء

(7) المصدر السابق

(8) الْخُطْبَةُ الْأُولَى: موقع رسلان.

(9) ماذا لو حكم الإخوان مصر للشيخ محمد رسلان

(10) رسلان: السمع والطاعة لد.مرسي وليست لمرشد أوحزب أو جماعة

(11) "الشرع يقول إن وليّ الأمر لا يُنازع في مقامه ولا في منصبه ولا يُنافس عليه".. الشيخ السلفي محمد سعيد

(12) الشيخ رسلان يكشف حقيقة فض اعتصام رابعة العدويـة وكذب الإخوان !

(13) الأوقاف المصرية تسيطر على المساجد الموجودة تحت قبضة المداخلة

(14) تعليق فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان حفظه الله على قرار توقيفه وبكاء الخطيب وكيل وزارة الأوقاف

(15) جابر طايع: سعيد رسلان تعهد بالالتزام بالتعليمات وأكد أن طاعة ولى الأمر واجبة

(16) الدول الداعمة لخليفة حفتر: المعلن والخفي

(17) حقيقة تورط داعية مصري في اغتيال الأمين العام لهيئة علماء ليبيا

(18) La science légiférée – العلم الشرعي

(19) Débogage de WordPress

(20) islam sounnah

(21) Dar Al Furqan

(22) Sheikh Raslaan (حفظه الله)

المصدر : الجزيرة