من هيتشكوك إلى دكتور خشبة.. كيف شوهت السينما الطبيب النفسي؟

ظهر الاضطراب النفسي في الأفلام بأشكال مختلفة، المشترك فيها هو التشويه، ما جعل السينما أهمّ مصادر الصورة الخاطئة السائدة عن المرض والعلاج النفسي.

فيلم "Ordinary People" (مواقع التواصل)

نهار داخلي - عيادة الطبيب النفسي شون مغواير

يدخل الشاب ويل هانتينغ إلى عيادة الطبيب شون مغواير ليجده ممسكًا بحزمة أوراق. يسأل ويل: “ما هذا؟” يقول الطبيب: “هذا ملفك، أتود قراءته؟” يرفض ويل، وتُظهر الكاميرا الملف وبه صور لجسد ويل المدمى والمليء بالكدمات، قبل أن يسأل ويل: “هل لديك خبرة بهذا؟” يجيب الطبيب مبتسمًا: “لقد عملت لعشرين عامًا، رأيت الكثير”.

يكرر ويل السؤال، ويجيب الطبيب “شخصيًا؟ نعم، لدي خبرة بهذا، لقد كان أبي سكيرًا، ثملًا طوال الوقت، وكان يُعنّفنا ويُؤذينا. كنت أستفزه كي لا يلاحق أخي أو أمي، وكان الضرب شديدًا خاصّة عندما كان يرتدي خاتمه!”.

يتصاعد المشهد دراميًّا حين يقول ويل: “كان والدي يُخيّرني بين العصا، والحزام، ومفتاح الربط (المفتاح الإنجليزي)". يقاطع الطبيب: “كنتُ لأختار أن أُضرب بالحزام”، يقول ويل في تحد: “بل كنتُ أختار مفتاح الربط في كل مرة، نكاية به!”.

ويعود ويل إلى الملف في يد الطبيب ويسأل ساخرًا: “إذن ماذا يقول تقريري، هل أعاني خللًا في التواصل مع الناس؟ هل أخشى من الهجر، هل لهذا السبب لا أستطيع الارتباط بأحد؟”.

يقترب منه الطبيب وعلى وجهه حزن ظاهر، ويقول: “أترى هذا الكلام؟ كل هذا الهراء، إنه ليس ذنبك!”.

تقترب الكاميرا من وجه ويل، الذي يقول في عدم اكتراث من دون أن يرفع عينيه عن الأرض: “أجل، أعلم ذلك".

يكرر الطبيب قوله: “ليس ذنبك”، وتتكسر التعبيرات على وجه ويل واحدة واحدة، وبعين دامعة يقول للطبيب: “لا تعبث معي!”، يكرر الطبيب: “ليس ذنبك!”، وهنا ينهار ويل تمامًا ويحتضن الطبيب بعنف.

……….

ندرك نحن المشاهدين أن لحظة التنفيس هذه، اللحظة التي استطاع فيها الطبيب النفسي أن يخترق الجدران الدفاعية التي بناها ويل حول نفسه، هي نفسها أولى لحظات التعافي، وأهمها!

لا نحتاج إلى قراءة سيناريو المشهد من فيلم "Good Will Hunting" لنفهم أن الضمة التي نشاهدها ليست مجرد تلامس جسدي، بل تعبير رقيق وصارخ عن التقبل، وتمثيل رائع للثقة التي تُبنى تدريجيًّا بين المريض ومعالجه النفسي. وبالرغم من هذا التجسيد السينمائي البارع للحظة المُكاشفة الدافئة، فإنّ هذا المشهد يُثير حفيظة طيف عريض من الأطبّاء والمُعالجين النفسيين، الذين يرون أنّ التلامس الجسديّ بين المُعالِج والمَريض خلل مهني وأخلاقي لا مُبرّر له.

وبالرغم من أنّ هذه الصورة الدافئة للمُعالج النفسي المُتعاطف والعفوي الذي يحتوينا عند بُكائنا قد تكون مُغرية لنا عندما نطمح لأن يتمكن أي مُعالج نزوره من معرفة حقيقتنا وطيبتنا، ومن ثمّ يستوعبنا عند ضعفنا، فإنّ فتح باب التلامس الجسدي والاحتضان بين المُعالجين ومرضاهم، يفتح بابًا من التجاوزات الأخلاقية والانتهاكات المهنية التي لا يمكن ضبطها بسهولة. وفيما يلي سنعرض بالتفصيل سوء الفهم الذي أحدثته السينما والأفلام والمسلسلات في أذهاننا حول صورة المرض النفسي، ودور الطبيب النفسي وتوقّعاتنا من العلاج النفسي بأكمله وما يرتبط به.

السينما والطب النفسي.. بدآ معًا وتطورا معًا

أدّى تزامن نشوء السينما من جهة وتأسيس الطب النفسي بصورته الحديثة من جهة أخرى دورًا أساسيًّا أيضًا في نشوء هذه العلاقة الجدلية بينهما، فهما مجالان حديثا النشأة نسبيًّا؛ مما جعلهما متشابهين في سرعة تغيّرهما مع الزمن. واعتمد محتوى السينما منذ بدايتها إلى الآن على ما يحدث في مجالات الحياة المختلفة، كتغيرات النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فالسينما تتفاعل مع الواقع، فتأخذ منه وتضيف إليه. وكان الطب النفسي كذلك هو أكثر فرع طبّي يتأثّر بالواقع، رغم الاستقلالية التي حقّقها وما زال يكتسبها مع الزمن كلما ازداد الدليل العلمي الموضوعي على ممارساته ونظرياته.

ومن المعروف أنه منذ الأيام الأولى للفن السابع، ظهر الاضطراب النفسي ولا يزال يظهر في الأفلام بأشكال كثيرة ومختلفة، الأمر الذي يجعل السينما أحد أهمّ مصادر تشكّل انطباعات الناس حول المرض والعلاج النفسي، وهذا يجعل النّاس رهينة تصوّرات محدودة تركّز عليها الأفلام بعينها، وهو تركيز انتقائي مدفوع بغايات صناعة الإثارة والتشويق وغالبًا ما يعجز عن تغطية التنوع الكبير والمدى الواسع للاضطرابات النفسية وتفاصيلها. على سبيل المثال، يمكن لنا ملاحظة تفضيل صُنّاع الأفلام لاضطرابات أو حالات معينة لتكون موضوعًا لأفلامهم، ومن أهمّها مفاهيم وحالات مثل "الجنون" و"السايكوباثية" و"الذّهان" و"تعدّد الشخصيات"؛ لأنّها تمنح مساحات مناورة جذابة جدًّا للمخرجين والكاتبين لإغراء المشاهد وإمتاعه وإن كان ذلك على حساب الدقة العلمية.

وليس مُستغربًا أن يتضمّن الطبّ النفسي عوالم ومساحات تُثير اهتمام صنّاع الأفلام ومُخرجيها، سواء أكان ذلك لما توفّره الأمراض النفسية من عنصر التشويق، أو بسبب زيادة منسوب المتعة والفضول لدى المشاهد الذي يشعر بأنّه يملك هو كذلك نفسًا؛ ومن ثم فهو مُعرّض للإصابة بما يُصاب به الآخرون. وهكذا صار استخدام الاضطراب النفسي والطبيب النفسي والمصحّات النفسية جزءًا أساسيًّا من حبكات لأفلام عدّة لإعطائها بُعدًا أكثر إثارة.

فيلم
فيلم "The Sixth Sense" (مواقع التواصل)

ومن الطبيعي، بل من الضروري أن يحدث هذا التلاقي، حيث يأخذ كل من علم النفس وطبها على عاتقه سبر أغوار النفس البشرية بوصفها هدفًا رئيسيًّا، والسينما تتفق معهما على هذا الهدف بشكل كبير. ففي الغالبية العظمى من الأفلام (تحديدًا الأكثر تقديرًا ونجاحًا)، تكون مشاعر الإنسان وصراعاته ومعاناته وصوته الداخليّ موضوعًا رئيسيًّا للقصة، ويسعى المخرجون لاستخراج أعمق ما في النفس البشرية من رغبات ومخاوف وإلقائه عاريًا على الشّاشة. وليس من المبالغة القول إنّ أعظم المخرجين كانوا فلاسفة ومحللين نفسيين بهذا المعنى، وليسوا مجرّد خبراء تقنيّين لرفع أداء الكاميرا والممثلين.

من جهة أخرى، يعترف العديد من المخرجين السينمائيين بالدور الكبير الذي أدته تجاربهم مع الاضطرابات النفسية وما مرّوا به في إلهامهم والتأثير فيهم لصناعة أفلام معينة أو في مسيرتهم الإخراجية بشكل عام، ومن أهم هؤلاء لارس فون تريه وألفريد هتشكوك الذي فُصّلت بعض جوانب حياته النفسية في السيرة التي عنونت بـ"الجانب المظلم للعبقرية" وكذلك الأمر بالنسبة لـوودي ألين الذي بدأ بنفسه رحلته مع العلاج النفسي الحقيقي وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وتظهر في الكثير من أفلامه العديد من الأفكار المتعلقة بالطب والتحليل النفسي.

وقد أجريت دراسة مهمّة عام 2013، بحثت أثر الأفلام وبرامج التلفزيون المتعلقة بالاضطرابات النفسية في مواقف الناس من المرض النفسي والمرضى النفسيين، وقد خلص الباحثون إلى أنّ المشاعر والردود السلبية على مرض الفصام والمصابين به كانت أكثر حضورًا لدى أولئك الذين شاهدوا فيلمًا سينمائيًّا عنه، مقارنة بمَن شاهدوا فيلمًا وثائقيًّا، رغم وجود القدر نفسه من المعلومات فيهما، كما وجدوا أن إمضاء المزيد من الوقت في مشاهدة التلفاز كان مرتبطًا بمعرفة أقل عن مرض الفصام وحيثياته.

ولم يقتصر هذا الخلط والتشويه على هوليود فقط، بل امتدّ التصوير الخاطئ للاضطرابات النفسية إلى جميع أنحاء العالم تقريبًا، حتّى طال السينما الهندية "بوليود"، إذ وجدت دراسات عديدة أنّ الأفلام مليئة بالأخطاء المفاهيمية والعلمية. لكن المثير للانتباه هنا أنّ ثقافة المجتمع أثّرت في شكل التصوير الخاطئ نفسه بحيث كان التشويه مُتّسقًا مع معتقدات شائعة هناك.

تعدد الشخصيات: خلطة مخترعة من الأمراض النفسية لضرورات الدراما!

تبدو فكرة "تعدّد الشخصيات" مثيرة جدًّا للاهتمام السينمائي، ونعني بها أن يكون للشخص الواحد أكثر من وجه وهوية، حيث تعمل الحبكات الدرامية في معظمها على خلق بيئة صراعية بينها، أو مفارقات بعضها مأساوي وآخر كوميدي؛ ولذلك اهتمّ بها الكثير من المخرجين والكتّاب وحاولوا تصويرها في قصص عديدة، رغم أنّ العلماء والأطباء أنفسهم مختلفون حيال هذا التشخيص، وكثير منهم يعتقدون أنّه مرض غير موجود، وحتى أولئك الذين يقولون بوجوده لا يتبنّون التصورات السينمائية المبالغ فيها، فكيف بخلطها مع الأعراض الذهانية مثل الهلاوس والضلالات (الأوهام)؟!

إليك على سبيل المثال فيلم "عقلٌ جميل" "A Beautiful Mind" الذي يعرض حياة عالم الرياضيات الحائز على جائزة نوبل "جون ناش" وما لاقاه من شُهرة واسعة، إذ أصبح مثالًا دائم الحضور لدى الحديث عن مرض الفُصام (Schizophrenia) وأعراضه الرئيسية (الهلوسات والأوهام). ورغم أنّ الفيلم حقّق نجاحًا ممتازًا في نقل معاناة المريض، ونال جوائز الأسكار، وأدى دورًا في تخفيف الوصمة عليه، فإنّه انطوى على بعض التصوّرات الخاطئة، منها مشاهدته لخيالات ووقائع غير حقيقية وهي ما يسمى بالهلوسات البصرية، بالرغم من أنّ الهلوسات الأكثر شيوعًا في حالة الفُصام، هي الهلوسات السمعية (Auditory) في معظم الحالات، أما الهلوسات البصرية فهي موجودة، لكنّها نادرة الحضور إلى حدٍّ بعيد لدى المُصابين بهذا المرض.

فيلم
فيلم "عقلٌ جميل" "A Beautiful Mind" (مواقع التواصل)

حتّى تناول الفيلم للهلوسات البصرية فيه شيء من عدم الدقّة العلمية، إذ تعني الهلوسات البصرية حضور أشخاص وأماكن في المجال البصري المُدرَك للمريض دون أن يكون لها أيّ وجود حقيقي. أمّا المُغالطة الثانية التي وقع الفيلم في شباكها حول الهلوسات البصرية، فهي تصويره للهلوسات وكأنّها مشاهد مُتماسكة وواضحة وتشكّل سردية متّسقة، في حين تتّصف معظم الهلوسات المَرَضية بالتقطّع وعدم الوضوح والغرابة. أمّا أخطر ما قد يُوحي به الفيلم للمُشاهدين فهو أنّ الإنسان يستطيع التحكّم في مرضه والتفوق عليه عن طريق معرفته ووعيه بالأعراض وربّما دون أدوية، وهذا غير صحيح إطلاقًا؛ لأنّ حالة جون ناش تحديدًا، حالة استثنائية من الذكاء والإدراك المُستبصر لمرضه، أمّا الغالبية العُظمى من الحالات المرضية للفُصام فهي بحاجة شديدة للدواء ولفترات طويلة ومتواصلة للحفاظ على استقرار الحالة وتطوّرها العلاجيّ.

"السينما هي مسألة أن تختار ما الذي ستضعه داخل إطار الكاميرا وما تختار أن تبقيه خارج الإطار"

مارتن سكورسيزي (مخرج سينمائي أميركي)

ويُعدّ فيلم "Psycho" لألفريد هتشكوك من أشهر الأفلام الغربية التي أسّست للخلط الكبير بين مرض الفُصام (Schizophrenia) وتعدد الشخصيات أو اضطراب الهوية التفارقي (Dissociative Identity Disorder) وسوء الفهم المتواصل للفرق الطبّي بينهما، كما عزّز هذا الخلط والتشويه من الصورة النمطية المغلوطة التي تصوّر المصابين باضطراب نفسيّ على أنّهم عنيفون وخطرون على الآخرين.

وفي فيلم "Me, Myself and Irene"، وقد تم إنتاجه بعد 40 سنة تمامًا من "Psycho"، نجد الخلط نفسه، إلّا أنّ الفيلم واجه هذه المرة نقدًا قاسيًا من الأوساط العلمية وكثير من المشاهدين. وبعد ظهوره، أصدر التحالف الوطني الأميركي للاعتلالات العقلية (NAMI) بيانًا وصف فيه الفيلم بـأنه "غير مسؤول" لعدة أسباب، منها هذا الخلط، وتصويره الكوميدي للمرض وعلاجه، إضافة إلى تعزيزه لعلاقته بالعنف والسلوك المؤذي للآخرين، واستهدافه فئة المراهقين والشباب (مما يعزّز تصوّرات خاطئة قد تسهم في عزوفهم عن العلاج أو طلب المساعدة).

وفي السياق العربي، الأمر أفدح، فكثيرًا ما تُوصف فكرة "تعدد الشخصيات" بـ"انفصام الشخصية"، وهو ما يؤدي إلى المزيد من عدم الوضوح لتشابهها لغويًّا مع كلمة "الفصام"، التي تعني مرضًا آخر (Schizophrenia)، وهما -كما وضّحنا- حالتان مختلفتان تمامًا، فالمعنى الاصطلاحي والطبي لـ"الفُصام" هو الانفصال عن الواقع، أما "الانفصام" لغويًّا (أو اضطراب الهوية التفارقي علميًّا) فهو انقسام الهويّة (أو الشخصية) الواحدة إلى أجزاء.

يتناول الفيلمان المصريّان "بئر الحرمان" إخراج كمال الشيخ المنتج عام 1969 و"الاختيار" إخراج يوسف شاهين المنتج عام 1970 فكرة "تعدّد الشخصيات"، لكنهما يبالغان ويخطئان كثيرًا في تصوير الاضطراب لغايات تشويقية غالبًا. وهو ما تسبّب في تشكّل انطباعات مشوّهة لدى المشاهد، فضلًا عن أن هذه الشخصيات عادةً ما توضع في سياق ممارستها للعنف بسبب المرض، وكلها تصويرات غير دقيقة، ومن المهم الإشارة إلى أنّ هذه الحبكات الغرائبية جاءت ضمن سياق سينمائي متأثّر بالسينما الغربية.

الفرق بين الفصام واضطراب الهوية.
(الجزيرة)

أسطورة المتوحد المبدع

حاولت السينما أن تجد تمثيلا لاعتقاد شائع عند الناس بأنّ من يعانون من اضطراب طيف التوحد (Autism) لديهم قدرات فائقة في مجالات أخرى، في فيلم "Rainman" (الذي ما زال يحتلّ مكانة جيدة رغم أنه أنتج عام 1988) نجد توظيفا مثاليا لهذه الفكرة، حيث ظهر رايموند بطل الفيلم، بوصفه صاحب قدرات خارقة، ورغم أنّ هذه الحالات موجودة في الأدبيات العلميّة، حيث لوحظ أن بعضهم  لديه قدرات استثنائية في مجال محدّد كالموسيقى أو الرياضيات أو الذاكرة، وهذه الحالات نادرة الوجود جدًّا (نحو 1 من كل 200 حالة توحّد)، إلى درجة أن الطبيب النفسي المتخصص في مجال الأطفال قد يمارس مهنته سنوات عديدة دون أن يرى حالة كهذه. ومن الجدير بالذكر أنّ نسبة كبيرة (70%) ممّن يعانون من التوحّد لديهم إعاقة عقلية تتراوح في شدّتها من المستوى المنخفض إلى الشديد.

فيلم "Rainman" (مواقع التواصل)

يُحسب للفيلم تصويره أعراضًا مهمّة في اضطراب التوحّد، مثل القيام بحركات متكررة، والإصرار على طقوس أو أمور معينة لكنه لا يُظهر بعض الأعراض الرئيسية بشكل دقيق، وأهمّها اختلال القدرة على التواصل مع الآخرين وبناء العلاقات وتبادل الكلام معهم. يختار الفيلم التركيز على الاستثنائي والغرائبيّ النادر، تاركًا عند المشاهدين استعدادًا كبيرًا لتكوين صورة مغلوطة عن التوحّد وربطه بالقدرات الفائقة رغم أنّ العكس -غالبًا- هو الصحيح. ويمكن سحب هذه الفكرة إلى العديد من الأفلام الأخرى التي تربط بين "الجنون" والعبقرية أو الذكاء، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة.

عُنف "المجانين"

رغم أن فيلم "Joker"حاول إظهار معاناة المرضى بشكل واقعي بطريقة أو بأخرى إلّا أنّه وقع فريسة تشكيل الصورة النمطية المغلوطة.

رغم أن الفيلم يحاول إظهار معاناة المرضى بشكل واقعي بطريقة أو بأخرى إلّا أنّه وقع فريسة تشكيل الصورة النمطية المغلوطة.
يُسهِم الربط بين العنف والمرض النفسي في تعزيز الوصمة تجاه هذه الأمراض وتجنّب الناس البحث عن علاج أو مساعدة. (مواقع التواصل)
يُسهِم الربط بين العنف والمرض النفسي في تعزيز الوصمة تجاه هذه الأمراض وتجنّب الناس البحث عن علاج أو مساعدة. (مواقع التواصل)

يُعبّر الربط بين العنف والاضطراب النفسي عن خطأ متعدد الأسباب. فهو غير دقيق علميًّا، ويؤسّس لتخوّف كبير لدى المشاهدين من المصابين بالاضطرابات النفسية وما يسببه ذلك من نفور النّاس منهم، كما يُسهِم الربط بين العنف والمرض النفسي في لصق الوصمة بهذه الأمراض وتجنّب الناس البحث عن علاج أو مساعدة. إضافة إلى أنّ هذا الربط غالبًا ما يؤدّي إلى سحب "النفسي" و"العلمي" إلى مساحات "الأخلاقي"، وهذا خلطٌ خطيرٌ إذا ما انطبع في أذهان المشاهدين دون تفريق بين المساحتين، وينتج عنه المزيد من اللَّبس الذي ينتهي إلى جعل الناس يطلقون مصطلح "مريض نفسي" على كل ما يستغربونه أو لا يعجبهم ولا يوافق ما اعتادوا عليه.

لذلك فإن من أهم الإشكالات التي تسبّبها أفلام السينما في تصويرها للاضطراب النفسي ربطه بالعنف والسلوك المتهوّر وإيذاء الآخرين، وهذا الربط لا أساس له من الصحة بحسب دراسات علمية كثيرة تكاد تتّفق على خلاصة واحدة هي أن احتمال ارتكاب أعمال عنفيّة اتجاه الآخرين من قبل الأشخاص المصابين باضطراب نفسي ليس أكثر من احتمال فعل ذلك من قبل غير المصابين، والمُصابون باضطراب نفسي هم عُرضة أكثر للعنف من الآخرين، وتحديدًا مَن يعانون منهم من حالات وأعراض شديدة. ومن الخطأ والسيئ جدًّا ربط العنف بالاضطراب النفسي بطريقة سببية بهذا الشكل في العديد من وسائل الإعلام والمعتقدات الشائعة. وبحسب وزارة الصحة الأميركية فإن ما بين 3 و5% فقط من أعمال العنف في البلاد يتسبّب فيها مصابون باضطرابات نفسية واضحة.

لا تنكر الأبحاث العلمية من جهة أخرى أن بعض الاضطرابات النفسية ترتبط بسلوك عنفيّ أكثر بقليل من معدلات العنف لدى غير المصابين بها، مثل الإدمان وأنواع معينة من الذّهان (المرتبطة بأوهام الارتياب والهلوسات الآمرة بأفعال عنفيّة)، خصوصًا حين ترتبط بوجود ضغوط حياة عامّة، إلّا أن هذا التخصيص لا يفهمه جميع المشاهدين غير المتخصصين، فما ينعكس في أذهانهم غالبًا هو صورة واحدة: المصابون باضطراب نفسي أكثر خطورة على الآخرين، وهو ما يضيع الصورة العامة الكبرى وهي أن معظم هؤلاء المرضى غير خطيرين، بل هم عرضة أكثر لأن يكونوا ضحايا من أن يكونوا مجرمين.

ويمكن الاستشهاد بالعديد من الأفلام للتدليل على هذه النقطة، ابتداءً من "Psycho" الذي يقدّم أيقونة تاريخية لـ"المريض النفسي" العنيف الذي كان مرضه النفسي السبب في عنفه، وليس انتهاءً بـ"Joker" الذي أثار سخط العديد من المتخصصين النفسيين، حيث شاركوا مخاوفهم من أثر حبكة الفيلم في تعزيز الارتباط السببي بين العنف والاضطراب النفسي لدى المشاهدين، فرغم أن الفيلم يحاول إظهار معاناة المرضى بشكل واقعي بطريقة أو بأخرى فإنّه وقع فريسة تشكيل الصورة النمطية المغلوطة.

العلاقة بين الاضطراب النفسي والعنف والسلوك العدواني
(الجزيرة)

الهَوس السينمائي بالسفّاحين والقتلة المُتسلسلين

أما شخصية "السايكوباث" القاتل المهووس الذي يغتصب ويقتل ويهين الآخرين ويرتكب أفظع الأفعال التي تتجاوز قدرة المشاهدين على التخيل أحيانًا، فهذه الحالة سينمائية بامتياز، بمعنى أن المخرجين يجدون متعة وإمكانات كثيرة في تناول وتشكيل القصص المرتبطة بهذه الحالة، ذلك لأنه سلوك مثير جدًّا على الصعيد القصصي والحسي البصري كذلك.

لكن الأفلام -حتى في تناول هذه الاضطرابات- لا تلتزم دائمًا بالسّمات العامة التي توجد على أرض الواقع، بل تُضيف إليها أبعادًا أخرى أقلّ واقعية لجعلها أكثر إمتاعًا وعمقًا فلسفيًّا، كما في شخصية هانيبال لكتر في "Hannibal"، والجوكر في "The Dark Knight"، وجون دو في "Se7en". كما أنّ تناول الأفلام يبدو متركّزًا على نوع معين من هذه الشخصيات (السايكوباث)، ألا وهو من يرتكب جرائم فظيعة وواضحة مثل القتل والاغتصاب، رغم أنّ هذه الشخصيات نادرة الوجود على أرض الواقع.

على الجهة المقابلة، هناك "السوسيوباث" وهو النوع الثاني من الشخصية السايكوباثية والأكثر شيوعًا كذلك، أو ما يُسمّى بالمُجرِم غير الدمويّ، وهذا النوع يتّسم أكثر بعدم اكتراثه بمشاعر الآخرين وانتهاك حقوقهم، لكنه لا يتعدّى ذلك إلى العنف الجسدي المباشر والسلوكات العدوانية والمتطرّفة النادرة التي نراها تحضر بشكلٍ واضح في الشكل الأول. من الجدير بالذكر أن هناك تمثيلات سينمائية جيدة وأقرب للدقّة تحاول تجسيد النوع الثاني من الشخصية السايكوباثية في السينما الحديثة مثل فيلم "Irishman" ومسلسل "Better Call Saul"، لكن صناعة التشويق والسينما تبقى منحازة للسلوكات الواضحة التطرّف والفظاعة.

الأمثلة كثيرة جدًّا على الأفلام والمسلسلات التي جسّدت الشخصية السايكوباثية، لكن دراسةً تحليلية أجريت عام 2014 على 400 فيلم، وجدت أن أكثرها دقّة كانت شخصية أنتون شيغور في فيلم "No Country for Old Men"، وهو الذي حظي بتقدير كبير من النقّاد وحتى المتخصصين في علم النفس. ووجدت الدراسة ذاتها أن نسبة تمثيل الإناث لهذه الشخصية أقل بكثير من الذكور (وهذا ما يتّسق مع الواقع، حيث يوجد هذا الاضطراب في الذكور أكثر بكثير من الإناث). يُذكر أنّ من أقوى التمثيلات للشخصية السايكوباثية الأنثوية في السينما الحديثة فيلم "Gone Girl" الذي نال تقديرًا واسعًا بسبب جودة إخراجه ونصّه.

افرق بين المعتل النفسي و المعتل السيكوباتي
(الجزيرة)

الطبيب النفسي في السينما: الطيب والشرس والقبيح!

تنوّعت صور الطبيب النفسي في السينما، إلّا أنها افتقرت افتقارًا شديدًا إلى الواقعية، وهذا امتداد آخر للتناول غير الدقيق لجميع عناصر الطب النفسي من اضطراب، ومريض، وطبيب، وعلاج. ويمكن تصنيف تمثيلات السينما للطبيب النفسي في 3 خانات رئيسية أستعيرها من عنوان الفيلم التاريخي "The Good, the Bad, and the Ugly": الطيب والشرس والقبيح. ومن هنا يظهر لنا أنّ صورة الطبيب والمعالج النفسي شديدة التنوّع، فمن قاتل شرسٍ إلى معالج متفهّم بصورة تتجاوز حدود العلاج الأخلاقية إلى أداة من أدوات تكريس ظلم النظام الطبي للمرضى، يصبح الطبيب النفسي كل شيء إلّا ما هو حقيقته فعلًا.

في سياق الأطباء والمعالجين "الشرسين"، نجد أحد أكثر التمثيلات فظاعة في شخصية هانيبال لكتر، الطبيب النفسي الذي يمارس هوايته بقتل البشر وأكل لحومهم، والذي مُثّل في مسلسل "Hannibal"، وفي الفيلم الفائز بجائزة الأوسكار "The Silence of the Lambs"، وغيرهما. هذا الشكل من تمثيل الطبيب النفسي هو غريبٌ تمامًا عن الواقع، ليس لأنه مستحيل، بل لأنه مبالغ فيه لغايات المتعة والإثارة. قد نستطيع أن نجد تاريخيًّا أكثر من مثال واحد على قاتل متسلسل ذي شخصية سايكوباثية ومتخصص في علم أو طب النفس في الوقت نفسه (أشهر مثال على ذلك هو تيد بندي الذي درس علم النفس وكان يستخدمه في السيطرة على ضحاياه)، إلا أنّ كمية الخيال في التمثيلات السينمائية وتواليها وازدياد شعبيتها مؤخرًا -بسبب جاذبيتها التي لا يمكن إنكارها سينمائيًّا- توجِد صورة سلبية وغير واقعية عن المتخصصين وخوفًا غير مبرّر منهم، وكأنّ نسبة كبيرة منهم كذلك.

الفيلم الفائز بجائزة الأوسكار
الفيلم الفائز بجائزة الأوسكار "The Silence of the Lambs" (مواقع التواصل)

ويمكن أيضًا تصنيف د. جون كولي في فيلم "Shutter Island" هنا وإن كانت شراسته خفيّة، لا ظاهرة ومباشرة. ومن الأمثلة الحديثة من هذه الفئة، مسلسل "The Fall" على "نتفلكس"، الذي يحكي قصة معالج نفسي يعيش حياة مزدوجة بين شخصية المعالج النفسي المثالي والقاتل المتسلسل الصامت. في السينما المصرية، نجد أن الطبيب النفسي في فيلم "المنزل رقم 13" يُخضع مريضَه لسيطرته عبر التنويم المغناطيسي ويستخدمه لارتكاب جريمة لصالحه (رغم استحالة هذا الأمر واقعيًّا بالطبع). ونجد أمثلة مشابهة لذلك في فيلمَي "الهروب من الخانكة" و"كده رضا".

أما فئة الطبيب أو المعالج "القبيح"، فنقصد بها الأطباء والمعالجين الذين يسهمون في جعل المرضى أسوأ حالًا بدل علاجهم، سواء كان ذلك بسخفهم وسخريتهم، أو بكونهم جزءًا من نظام يقلّل من قيمة المريض وإنسانيته. وهناك أمثلة كثيرة على هذه الفئة، من أهمّها شخصية الممرّضة راتشيد في فيلم "One Flew Over the Cukoo’s Nest"، حيث تمثّل فيه قمّة تسلّط النظام غير الإنساني للمؤسسة الطبية على المرضى. في هذا السياق، يُلحظ أن استخدام الطبيب النفسي مادّة للكوميديا شائع جدًّا في السينما العربية، على عكس الغربية مثلًا، وربما يرجع ذلك إلى سياقات اجتماعية ينظر فيها الناس إلى المصاب بمرض كهذا نظرة تندّر وسخرية أكثر من نظرة خوف وتجنّب.

أفلام مثل "عروس النيل" و"سهر الليالي" و"النعامة والطاووس" و"عصابة الدكتور عمر" و"مطاردة غرامية" و"حب البنات" احتوت على إشكالات كبيرة في كيفية تعامل الطبيب مع المراجعين ومقاربته لمشكلاتهم، ونحا معظمها منحًى كوميديًّا في التعامل مع الاضطراب النفسي، ومن الأمثلة على ذلك جمل "الدكتور خشبة" في فيلم "مطاردة غرامية" التي صوّرت الطبيب النفسي بصورة مسيئة له وللمرضى في سياق كوميدي كامل، وأصبحت ذائعة الصيت والتداول حتى يومنا هذا.

"الدكتور خشبة" من فيلم "مطاردة غرامية" (مواقع التواصل)

وأخيرًا، لعبت فئة الطبيب "الجيّد" دورًا في رسم صورة حالمة عن الطبيب والمعالج النفسي، وبناء تصوّرات مثالية غير صحّية عن الطريقة التي يجب أن يعامَل بها المرضى. ومن الجدير بالذكر أن أكثر من دراسة أظهرت أن هذا النوع من الأفلام ينشئ توقّعات غير واقعية لدى المريض بالشفاء السريع وتصوّر العملية العلاجية على أنّها متعة خالصة لا تتضمّن أي نوع من الألم أو المعاناة، وأنّ العلاقة مع الطبيب يجب أن تتأسّس على رفع الكلفة تمامًا، بل أن تكون مشابهة لما بين الأصدقاء المقربين أو العائلة.

وليس أدلّ على هذه الفئة من د. بيرجر في فيلم "Ordinary People" وشخصية المعالج شون ماغواير في فيلم "Good Will Hunting"، فكلاهما يتجاوزان الحدود المتعارف عليها والقواعد الأخلاقية في التعامل مع المريض، ويفعلان أشياء لا يجدر بالمتخصص النفسي فعلها في الظروف الطبيعية، بل تعتبر خرقًا لأخلاقيات المهنة (مثل الاشتباك جسديًّا مع المريض أو الذهاب إلى منزله لتقديم العلاج أو المشورة).

ويروي لنا الطبيب النفسي غلين غابارد قصّة شخصية حول أثر مثل هذه المشاهد في الحياة اليومية للمُشاهدين وتوقّعاتهم من العلاج النفسي، وفيها يقول: "قدمت لي فتاة جامعيّة للعلاج بسبب مشكلات في علاقاتها، وكانت قد شاهدت فيلم (Ordinary People) قبل ذلك. بعد بضعة أسابيع من العلاج، كان نفورها وانزعاجها مني يزداد شيئًا فشيئًا. لقد أصرّت على أنّ عليّ أن أتصرّف بطريقة مشابهة لجود هيرش في الفيلم، أرادت مني أن أكون أقل رسمية وأعانقها، كما فعل هو مع تيموثي في الفيلم. شرحتُ لها الأسباب التي تجعلني أعتقد أن عناقها ليس جيدًا من أجلها ومن أجل العملية العلاجية، ولكنها لم تقتنع وقالت لي: [إذا كان جود هيرش يفعل ذلك، فلماذا لا تفعل أنت؟]. حافظتُ على موقفي، وبسبب ذلك أصبحت تنظر إليّ على أنني مثال على المعالج السيئ تمامًا، وتنظر إلى الطبيب الذي في الفيلم -على النقيض مني- على أنّه المعالج المثالي".

وعلى الرغم من أن هذا السلوك يبدو في الأفلام لمصلحة المريض، وأمرًا يُشعر المشاهد بتعاطف الطبيب وحساسيته العالية ورغبته في مساعدة الآخر، فإنّه غير واقعي وغير صحيح. من الجدير بالذكر أنّ هناك معالجين يدافعون عن هذه الأفلام، ويعتبرونها تمثيلًا جيّدًا. على سبيل المثال، يعتقد إرفين يالوم، أحد أهمّ الأطباء والمعالجين النفسيين الوجوديين في العالم، أن شخصية شون هي الأفضل من بين جميع الأفلام التي شاهدها. يبقى الموضوع مثار جدلٍ بين المدارس العلاجية التي تتيح مجالًا أكبر للاختلاف والارتجال، وبين المدارس الأكثر منهجيّةً وصرامةً في قواعدها، إلّا أنهم يتفقون على أنّ الفيلم تجاوز الحدود المتعارف عليها بوضوح، على الأقل في بعض المواقف.

لماذا تصم السينما الأطباء النفسيين؟

استنتجت دراسة حلّل فيها الباحثون 106 أفلام -يظهر فيها متخصصون نفسيون- أنّ نصف المتخصصين صُوّروا على أنهم غير أكفاء مهنيًّا بأشكال مختلفة.

"د. لوثر" في فيلم "The Three Faces of Eve"
"د. لوثر" في فيلم "The Three Faces of Eve" (مواقع التواصل)
"د. لوثر" في فيلم "The Three Faces of Eve" (مواقع التواصل)

في دراسة مثيرة للاهتمام أُجريت عام 2008 على أنجح الأفلام في أميركا (من ناحية الإيرادات) في فترة التسعينيات، وُجد أنّ السلطة والمال والمكانة كانت أهمّ الدوافع النفسية لدى شخصيات المتخصصين النفسيين الذين ظهروا في هذه الأفلام. ويتبع ذلك أيضًا (في ثلث الحالات) دافع الحب والشهوة، في صورة نمطية ترسّخ لدى المشاهد بعض الخوف والتوجّس من الحميمية الممكنة بين المعالج والمريض. واستنتجت دراسة أخرى حلّل فيها الباحثون 106 أفلام -يظهر فيها متخصصون نفسيون- أنّ نصف المتخصصين صُوّروا على أنهم غير أكفاء مهنيًّا بأشكال مختلفة، منها تجاوز الحدود المتعارف عليها في العلاج، وربعهم قاموا بانتهاكات جنسية بحقّ مرضاهم. وكما في هوليود، وجدت دراسة في بوليود أنّ نحو 43% من الأفلام تظهر الأطباء النفسيين على أنّهم غير أكفاء مهنيًّا في عملهم، وأن ربعهم فقط صُوِّروا بطريقة إيجابية بشكل عام.

وعلى الرغم من شهرة التمثيلات السابقة، فإن ذلك لا ينفي وجود تمثيلات واقعية وتستحقّ الثّناء في كيفية تصوير الطبيب/المعالج والصراعات التي يعيشها سواء مع مرضاه أو مع نفسه، وهي تثبت أنّ الدراما الجيدة لا تتطلّب بالضرورة تصويرات مشوّهة أو غير دقيقة، ومن أهمّها مسلسل "In Treatment"، الذي يُعدّ أدقّ تصوير في رأيي لجلسات العلاج النفسية ومسار العلاج وكيفية التعامل مع المريض، بل حتى كيفية الإشراف على المعالج من قبل المعالج الأكثر خبرة، رغم ما يتخلل المسلسل من بعض الحبكات الدرامية بطبيعة الحال. ومن الأمثلة أيضا شخصية الأب الروحي للطب النفسي، سيجموند فرويد، في فيلم "Freud: The Secret Passion" عام 1962. وكذلك شخصية د. لوثر في فيلم "The Three Faces of Eve" عام 1957. وشخصية المعالج مالكوم كرو في فيلم "The Sixth Sense" في محاولته لبناء علاقة علاجية جيدة مع الطفل الذي يعالجه. إضافة إلى شخصية المعالجة جينيفر ميلفي في مسلسل "The Sopranos".

المصحّات النفسية.. احذر من الصعق الكهربي!

في ستينيات القرن الماضي، نشأت حركة مناهضة الطب النفسي (Antipsychiatry Movement)، ونشأ معها تيار كاملٌ يتعامل بسلبية مع كل ما يمتّ بصلة لهذا المجال (ما عدا المريض بطبيعة الحال)، على أساس أنّ المؤسّسة الرسمية للطب النفسي أصبحت تستخدم مفاهيم الطب النفسي لقمع المرضى وغير المنضبطين اجتماعيًّا أو سياسيًّا، وأن هذه المفاهيم ليست علمية بما يكفي. وتزامنًا مع هذه الحركة، تأثّرت أفلام السينما بذلك، وكان من أهم الأفلام التي نتجت من هذه الظروف "One Flew Over the Cukoo’s Nest"، وقد نال تقديرًا واسعًا وما زال. يهاجم هذا الفيلم مؤسسة الطب النفسي (بما فيها المصحّات والطاقم الطبي الرسمي)، ويوضّح معاناة المرضى مع انتهاك حقوقهم وكيف ينقلب النظام ليصبح أداة لاضطهادهم بدل الهدف الرئيسي الذي هو على النقيض من ذلك.

فيلم "One Flew Over the Cuckoo's Nest" (مواقع التواصل)

من الأمثلة كذلك على هذا النوع من الأفلام (التي نقدت النظام كاملًا)، فيلم "A Clockwork Orange" وفيلم "Shutter Island" للمخرجين الكبيرين ستانلي كوبريك ومارتن سكورسيزي، على التوالي. في الفيلمين تُطرح أسئلة محقّة بشكل غير مباشر حول الاعتبارات الأخلاقية للتدخلّات الطبية بأشكالها كافة، ولكن من الإشكالات المقابلة التي تثار حولها أنّها لا تُظهر وجهة نظر الأطباء والمؤسسة نفسها من هذه المعضلات التي يناقشها المتخصصون أنفسهم كذلك.

تسبّب هذه الأفلام وغيرها مشكلة رئيسية في فهم الطب النفسي من قبل غير المتخصصين، وهي عدم إدراك الكثيرين للطبيعة المتغيرة لهذا المجال، والتطور التاريخي الكبير الذي حدث في فترة قصيرة من الزمن. هذه الأفلام تمثّل زمنًا مختلفًا تمامًا عن الزمن الذي نعيشه، ولكن من يشاهدها لا يعرف بالضّرورة أن الأمور تغيرت، وربما لا يتخيّل أن معظم الاضطرابات النفسية -حتى أكثرها شدّةً- أصبحت تُعالج في العيادات والمستشفيات العامّة، وأنّ قواعد الأخلاق الطبية أصبحت أكثر وضوحًا، والأدوية والتدخلات الأخرى أصبحت أقل أعراضًا جانبية وأكثر فعاليّةً. هذه الأمور كلها ليست موجودة في الأفلام التاريخية التي تتحدث عن الطب النفسي بطبيعة الحال.

ومن القضايا الشهيرة في الطبّ النفسي التي تسبّبت السينما والأفلام في تشكيل صورة سلبية حيالها، قضية العلاج النفسي بالكهرباء، ونزوع معظم الأفلام إلى تصوير العلاج بالكهرباء على أنّه تجربة مؤلمة ومزعجة وخطيرة وغير مفيدة للمرضى. وقد أثبتت إحدى الدراسات الهامّة، التشويه الذي أحدثته السينما، حيث حلّلت الدراسة الأفلام التي تناولت العلاج النفسي بالكهرباء أو عرضت مشاهد منه، وقد وجد الباحثون أنّ 11% من هذه الأفلام فقط قد نجحت في عرضه بطريقة مماثلة للممارسة العلمية الحقيقية. إضافة إلى ذلك، وجد الباحثون أنّ الأسباب الرئيسية للعلاج بالكهرباء في هذه الأفلام كانت: التعذيب، التعديل السلوكي، محو الذاكرة. أمّا العلم والطب والدراسات المُحكمة، فلها رأي آخر تمامًا، إذ تتّفق جميع المصادر العلمية في الطب النفسي على أنّ العلاج بالكهرباء هو علاج آمن (مع بعض الأعراض الجانبية المؤقتة) وفعّال جدًّا في معظم الحالات (خصوصًا الشديدة منها).

هل تستحقّ السينما كل هذا الّلوم؟

يثير البعض تساؤلات من نوع آخر للدفاع عن السينما، فهم يتساءلون عن وظيفة السينما أصلًا، وصحّة دورها المفترض في أن تعكس الواقع أو نظرة العلم إلى الأشياء. ويرون أن السينما لا ينبغي أن تلتزم دائمًا بما في الكتب -حتى العلمية- وأن جزءًا أساسيًّا من تكوينها هو البحث عن القصص العجيبة والخارقة، ودفع المشاعر والممكنات البشرية إلى أقصاها، واستثارة ما هو كامن في الإنسان، وما قد يثير قلقه من "ظلّه" (Shadow) بحسب تعبير عالم النفس "كارل يونغ". وهكذا، يكون على المجال الذي تقع معرفته على حافّة معرفتنا بالإنسان ودوافعه (الطب النفسي) أن يتحمّل ضريبة هذا المسعى السينمائي، ويحتّم علينا حينها أن نتقبل أنّ السينما لن تمثّل لنا الحقيقة دائمًا.

إضافة إلى ذلك، لا يمكن تحميل السينما جريرة التمثيل الخاطئ للاضطرابات النفسية وحدها، فجزءٌ من هذا اللّبس والغموض يتحمّله الطب النفسي نفسه، بسبب الانقلابات التاريخية الكبيرة التي حدثت في ممارسته وتقاطعاته الكبيرة والمتشعبة مع المساحات الأخلاقية والقانونية.

"السينما هي الشكل الأكثر خداعًا من الفنّ، إنها لا تعطيك ما تريده، بل تخبرك كيف ينبغي لك أن تفكّر في الأشياء أصلًا"

سلافوي جيجك

أسهم مسلسل
أسهم مسلسل "13 Reasons Why" في زيادة معدّلات الانتحار لدى المراهقين في الشهر التالي لعرضه على الشاشات (مواقع التواصل)

تشكّل السينما منفذًا للهروب من الواقع، وتحقيق الأحلام لدى المشاهد، فهي تلبّي غرائزه وأحلامه اللاواعية بطريقة ما، وتمنحه فرصةً لتقمّص الشخصيات والتماهي مع الأحداث وتخفيض النشاط الواعي والناقد، وتشكّل مثالًا عمليًّا للتعلم عبر الملاحظة والتقليد. ليس من الغريب -إذا أدركنا ذلك- أنّ فيلمًا مثل "Taxi Driver" كان الإلهام الذي دفع جون هينكلي إلى محاولة اغتيال الرئيس الأميركي دونالد ريغن بعد أن شاهد الفيلم 15 مرة، أو أن فيلم "Natural Born Killers" كان دافعًا رئيسيًّا لأعمال عنف وقتل لاحقة بعد عرضه (رغم أنّه كان محاولة لمناهضة العنف بطريقة ساخرة).

من الواضح أنّ السينما أصبحت أداة فعّالة جدًّا في زماننا هذا للترويج لأي فكرة كانت، وهذا يتّضح بشكل خاصّ في مجال الطب النفسي، بدليل أنّ عددًا كبيرًا من الناس يعتمدون على وسائل الإعلام (بما فيها الأفلام) بشكل رئيسي في معرفتهم للأمراض والعلاج النفسي. وهكذا، فإنّ الأفلام ليست أداة محايدةً فيما تعرضه في هذه المجالات.

وفي مثالٍ صارخٍ على مدى تأثير الأفلام والمسلسلات في الواقع ومؤشرات الطب النفسي، أسهم مسلسل "13 Reasons Why" في زيادة معدّلات الانتحار لدى المراهقين في الشهر التالي لعرضه على الشاشات، وكانت هذه النتيجة دالّة إحصائيًّا حتى بعد تثبيت العديد من المتغيرات والمقارنة مع الفئات العمرية الأخرى. وكان لأداء بعض أدوار الشخصيات أثرٌ بالغٌ في نفوس بعض الممثلين (بحسب شهاداتهم هم أنفسهم)، مثل كريستيان بيل الذي صرّح بأنه واجه أيامًا صعبة نفسيًّا حين مثّل في فيلم "The Machinist"، وكذلك أيضًا ناتالي بورتمان في دورها في فيلم "Black Swan".

يمكن للسينما أن تكون أداة مهمة جدًّا للتثقيف بالطب النفسي وأعراض الاضطرابات النفسية ومعاناتها، وبدء الحوار حول كل ذلك، خصوصًا في ظلّ وجود منصات التواصل الاجتماعي وشهرة نجوم السينما القادرين على إلهام ملايين البشر، كما يمكن لها بالمقابل أن تلغي هذا الحوار تمامًا وترسّخ صورًا نمطيّةً سيئة. يمكن لفيلم واحد أن يتجاوز أميالًا في الحرب ضد الوصمة اتجاه الاضطرابات النفسية، وأن يثير تعاطفًا كبيرًا اتجاه المصابين بهذه الأمراض، ويضفي طابعًا إنسانيًّا على معاناتهم. وهنا تكمن أهمية السينما في نظر العديد من المتخصصين، في مساعدة الناس؛ لكي لا يعانوا بصمت، ولا يخجلوا من معاناتهم، ولا يخافوا من طلب المساعدة حين يحتاجون بالفعل إلى ذلك.

المصدر : الجزيرة