غيرتهن الأهوال.. ماذا تفعل الأوكرانيات المنسيات في زمن الحرب؟

الأوكرانية فيكا كوريلينكو: "كنت سعيدة في بلدي بكل نواقصها وكل تعقيداتها، ولا أريد أن أصبح لاجئة في مكان ما في بلد أجنبي.. أفتقد منزلي.. أفتقد صوري، صورنا؛ صور والدي وأهلي، وقد تركت خلفي مفكرتي وألعاب أطفالي وفساتين بناتي".

أكثر من 32 ألف امرأة مسجلة في القوات المسلحة الأوكرانية حيث تشكل النساء 16% من إجمالي الجيش الأوكراني (الفرنسية)

يقمن بدوريات مسلحة في نقاط التفتيش، ويقاتلن في الخطوط الأمامية المشتعلة، ويساعدن في إجلاء المدنيين إلى مناطق أكثر أمنا، ويقدّمن الرعاية الطبية اللازمة للجنود الجرحى.. هذا غيض من فيض مما تقوم به النساء الأوكرانيات في الدفاع عن بلدهن ضد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.

وهناك أكثر من 32 ألف امرأة مسجلة في القوات المسلحة الأوكرانية قبل الهجوم الروسي، حيث تشكل النساء 16% من إجمالي عدد أفراد الجيش الأوكراني، وكثير منهن يعملن في الخطوط الأمامية جنبا إلى جنب مع الرجال، كما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" (Washington Post) في تقرير لها قبل أيام.

ومع ذلك، تشكل أخبار النساء نحو 23% فقط من إجمالي الأخبار المتعلقة بالحرب في أوكرانيا التي يحتل مكان الصدارة فيها الرجال من سياسيين وخبراء وأبطال، ولكن على الرغم من أن النساء يظهرن في جزء صغير من هذه الأخبار فإن قصصهن وحكاياتهن هي القصص والحكايات التي لا تنسى لما تحمله من معان ومعاناة وبطولة في كثير من الأحيان.

وغالبا ما تميل التغطية الإعلامية للنساء نحو الروايات التقليدية التي تحجب قدرات المرأة وإنجازاتها في الميدان. وفي هذا السياق قالت الصحفية والخبيرة الإعلامية كاتيا جورتشينسكايا، التي كانت تدير سابقا الموقع الإخباري الأوكراني المستقل "هروماديسكي" (Hromadske)، "إن الحديث عن أخبار النساء أمر عرضي في وسائل الإعلام، ومعظم صور النساء التي نراها هي صور الضحايا واللاجئات، ولكن هناك أمثلة أخرى على القدرات القيادية التي تتمتع بها المرأة الأوكرانية والتي تغيب عن التغطية"، وذلك كما ذكرت منصة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) قبل أيام.

ويقدم هذا التقرير بعضا من قصص وتضحيات النساء الأوكرانيات التي تداولتها أخيرا بعض كبريات الصحف والمواقع العالمية.

مارينا بوروشينكو  طبيبة القلب الأوكرانية التي كانت السيدة الأولى لأوكرانيا من 2014 إلى 2019 زوجة الرئيس السابق بيترو بوروشينكو تساعد في تقديم وجبات الطعام للجنود الأوكرانيين في كييف (الأوروبية)

فيكتوريا التي غيرتها الأهوال

اندفعت حشود من المدنيين المذعورين والمصدومين من القذائف يلهثون لالتقاط الأنفاس تحت جسر مدمر، وينتحبون بحرقة، سار كثيرون منهم أميالا، وحمل بعضهم كبار السن على ظهورهم أو بين أذرعهم، وكانوا يمسكون بالأطفال والحيوانات الأليفة وأي متعلقات يمكنهم حملها معهم.

كانت وظيفة فيكتوريا كرامارينكو هي مساعدتهم على النجاة بحياتهم في هذه المرحلة من رحلتهم المحفوفة بالمخاطر.

عملت فيكتوريا مسعفة متطوعة، وأمضت الأسابيع الماضية على خط المواجهة في إيربين، المدينة الواقعة شمال كييف حيث قتل هجوم روسي العديد من الأشخاص ودمر المنازل وقطع خدمة الهاتف والإنترنت، وكان والداها من بين المحاصرين في الداخل.

أثناء قيامها بمهام الإنقاذ تعرضت لإطلاق نار، وبنت جسرا من الحبال لنقل الإمدادات العاجلة، وساعدت المدنيين المصابين بصدمات شديدة. وكل يوم تقوم سيارة الإسعاف الخاصة بها بعشرات الرحلات بين الجسر ونقطة التفتيش القريبة، حيث يستريح المنقذون ويعيدون تجميع صفوفهم.

لقد غيّرتها أهوال التجربة، وعن هذا التغير قالت لصحيفة واشنطن بوست "أدرك أنني على استعداد لتمزيق حناجر الأعداء بأسناني.. كل واحد منا سيفعل ذلك بهم، فلتحترق الأرض تحت أرجلهم".

وأشارت الصحيفة إلى أن كرامارينكو (55 عاما) كانت تعمل مساعدة طبية قبل الحرب في مستشفى بمدينة كييف، ولكنها عندما هاجمت روسيا وطنها في الشهر الماضي أطلقت دورة تدريبية مكثفة في "طب ساحة المعركة" لأعضاء جدد في قوات الدفاع الإقليمية، وكان قد انضم كثير منهم إلى القتال من دون أي خبرة قتالية.

وعندما كثفت روسيا هجومها على ضواحي كييف، انتقل عملها إلى الجسر المحطم الذي يفصل المدينة عن مسقط رأسها إيربين، وكانت القوات الأوكرانية قد دمرت الجسر لمنع قوات العدو من العبور إلى كييف، وقد بدأ المدنيون الهاربون من الظروف الكارثية في المدينة بالفرار عبر النهر تحت بقايا الجسر المدمر.

وساعدت كرامارينكو في نقل العديد منهم بأمان إلى الجانب الآخر، وعلقت على عملها هذا قائلة ببساطة "اخترت مهنة تتطلب خدمة الناس وقت الصعاب، وواجبي أن أساعدهم بإنقاذ حياتهم".

لافتة تدل على اللاجئين الأوكرانيين في محطة السكك الحديد الرئيسة (هاوبتبانهوف) في دريسدن شرقي ألمانيا (الفرنسية)

داريا فاسيلشينكو والقتال بشغف

قصة أخرى تذكرها واشنطن بوست في تقريرها هي قصة داريا فاسيلشينكو التي غيرتها الحرب إلى الأبد.

ففي أحد الأحياء الواقعة شمال كييف، تشعر داريا بأنها مستعدة جيدا لاستقبال أي روسي قد يكسر الدفاعات الأوكرانية ويحاول الاستيلاء على العاصمة. وقالت "لقد رتبنا كل شيء هنا من أجل ترحيب لطيف بهم"، وكانت يداها تتحركان إلى أعلى وأسفل البندقية التي كانت تحملها على صدرها.

تعلمت داريا (29 عاما) إطلاق النار أول مرة عندما كان يافعة، قالت إنها عندما كانت في الصف التاسع تقريبا، بدأ الأولاد دراسة كيفية استخدام الأسلحة في المدرسة، ونُقلت الفتيات إلى دورات تدريبية في الإسعافات الطبية، وسارعت داريا لتعلم جميع المهارات الطبية بسرعة، ثم انضمت إلى فصل الأولاد حيث تعلمت "تجميع مدفع رشاش وتفكيكه"، ثم انتقلت لاحقا للتعلم على أسلحة أخرى أكثر تطورا بما في ذلك بندقية القنص دراغونوف.

ومنذ بدء الحرب، كانت مسؤولة عن الحفاظ على الأمن في جزء من شمال المدينة القريبة نسبيا من القوات الروسية التي توقفت عند اقترابها من العاصمة. وتقول داريا "في بعض الأحيان يتساءل بعض الرجال الذين كانوا ينتظرون في الطابور للتجنيد عن سبب عمل المرأة كجندي.. ويقولون شيئًا مثل: سيدتي، لماذا تفعلين هذا عندما نكون هنا من أجل ذلك؟ أنا فقط أبتسم وأقول إن لكل شخص وظيفته الخاصة، وإن كل شيء سيكون على ما يرام".

قبل الحرب وفي أوقات السلم كانت داريا تعمل في العلاقات العامة في بلدية كييف، أما الآن فهي وزوجها -الكابتن في الجيش- ينتشران مع الجنود الآخرين في مواقع مختلفة من العاصمة.

وقالت "عندما تكون هناك فرصة للعودة إلى المنزل، نحاول أنا وزوجي العودة إلى البيت معا والتحدث من القلب إلى القلب.. نحن فقط نتحدث ونتحدث ساعات".

لكن صاروخا روسيا أصاب هذا الأسبوع بنايتهما السكنية في كييف، وأدى إلى تحطيم النوافذ وتعطيل أي إحساس بالسلام قد يجدانه في المنزل، ومن حسن الحظ لم يكونا في المنزل وقت الضربة.

تقول داريا "أعلم أن هذه مجرد شقة، ويمكننا تجديدها وترميمها بعد الحرب لكننا الآن نواصل القيام بعملنا في الجيش، وأي شيء آخر ليس مهما حاليا". لكنها أوضحت أنها بعد أن أصابت الحرب منزلها فإن هذا "يساعدني على القتال بشغف أكبر".

لا وقت للبكاء

الكاتبة والصحفية الأميركية صابرينا تافيرنيز قابلت عددا من النساء الأوكرانيات اللواتي نجون من جحيم الحرب، ونقلت بعضا من قصصهن في تقرير لها نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) حديثا، ومن هذه القصص المروعة قصة فيكا كوريلينكو (46 عاما) وهي أم لـ3 أطفال، كانت قد هربت من بلدة بوتشا الصغيرة الواقعة شمال غربي كييف، التي سيطر عليها الروس بعد أيام من القتال العنيف، وننقل لكم حكايتها كما روتها للصحيفة من دون تدخل منا:

"لم أشعر بأي رغبة في البكاء، لم تنزل دمعة واحدة مني، وكل ما شعرت به هو ضرورة الخروج من هناك.. وفي كل دقيقة تسمع فيها صوت الانفجارات المرعبة، وتتردد أصوات الطلقات في كل مكان، تبدأ التساؤل بينك وبين ذاتك: هل أنت هدف؟ وحتى لو ساد الصمت لحظات، فإن الصمت يشعرك بسوء أكبر قادم، وهناك هذا الشعور المستمر بالخطر يلف كل شيء حولك".

وتقول "كان لدي أيضا شعور كبير بالذنب لأنني لم أكن أستطيع حماية أطفالي، كان أطفالي حولي يعيشون في خطر ومعاناة، لذلك شعرت بأنني أم فظيعة.. الجو بارد ولا نجد الطعام ولا نستطيع أكل أي شيء، لذلك قررنا المغادرة".

وتضيف "كان علينا أن نذهب إلى إيربين، وكان هناك نوع من سيارات النقل مخصص لمساعدتنا على الرحيل، لكن كان علينا أن نعبر تلك الحديقة أولا للوصول إلى الحافلة، وعندما دخلنا الحديقة بدأ الجنون والرعب؛ بدأ القصف وأصوات الرصاص تدوّي في كل مكان، سقطنا جميعا على الأرض وغطينا رؤوسنا في محاولة للاحتماء، وفي كل مكان حولنا كان هناك زجاج ينفجر وشظايا تطير، وضعت أنا وزوجي أطفالنا تحتنا في محاولة لحمايتهم بأجسادنا".

وتواصل كوريلينكو سرد ما حدث "بعد أن نجحنا في عبور الحديقة إثر توقف القصف بضع دقائق، كان هناك جسر علينا أن نعبره.. وكان علينا أن نمشي عبر هذه القطعة المعدنية، وفجأة انطلق الرصاص من الجانبين مرة أخرى، واصطدمت طلقة بجزء من الحديد على مقربة من يدي، شعرت بلهب الرصاصة، وفجأة جاء جندي من الجانب الآخر، ومن حسن الحظ كان واحدا منا، وحمل ابنتي مارينا بين يديه، وتبعناه راكضين.. مارينا اعتقدت أن الأمر كله كان مجرد لعبة، وقد ضحكت عندما حملها الجندي".

وتختم بالقول "قبل الحرب كنت أكتب برامج تلفزيونية، لكنني الآن أشعر كأنني واحدة من تلك الشخصيات التي كنت أتخيلها.. لم أكن أرغب في مغادرة مسقط رأسي، وكنت سعيدة في بلدي بكل نواقصها وكل تعقيداتها، ولا أريد أن أصبح لاجئة في مكان ما في بلد أجنبي.. أفتقد منزلي.. أفتقد صوري، صورنا؛ صور والدي وأهلي، وقد تركت خلفي مفكرتي وألعاب أطفالي وفساتين بناتي".

المصدر : الواشنطن بوست + فورين بوليسي + نيويورك تايمز