يحكى أن / آدم ياشاري
يحكى أن

آدم ياشاري.. بطل من زمن المعجزات والأساطير

الاسم آدم ياشاري، الأب شعبان والأم زاهدة، الترتيب السادس بين ثمانية أبناء عاشوا من بين 14 ولِدوا والميلاد في الثامن والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1955.
 


undefinedأسعد طه: يحكى أنَّ في زمان قريب رجل أتى من زمان بعيد، من أيام الأساطير والمعجزات وحكايات الأبطال، الاسم لا يهم.. صلاح الدين، عمر المختار.. لا يهم، لكنه في شهادة الميلاد آدم، القامة طويلة لا تنحني، اللحية سوداء مهيبة، قبضة اليد هي قبضة الأسد والوجه كالبدر، من أين أتيت أيها الفارس؟ أنا من هنا، جدي من هنا، جد جدي من هنا، أنا من الأرض التي كلّما ذبحوا فيها شجرة نبتت منها ألف شجرة، أنا من الأرض التي يُسلب أطفالها في الصباح حليبهم فإذا ما أقبل المساء يرضعون من ثدي أمهم الغضب وماذا عساك أن تفعل وأنت القليل والظُلم عندهم دين والحديد أيها الفارس لا يفلّه إلا الحديد؟ الثورة، الثورة تهزم الحديد والثورة عندنا كما الثروة نتوارثها جيلاً عن جيل، لا تهدأ حتى تبدأ، لا تنهزم حتى تنتصر وإذا شئت المزيد فها هي الحكاية من البداية. طائر يُغرد في السماء وفراشة تُداعب الأزهار وصغير يُناطح الهواء وأرض خضراء وسنابل تتمايل قبل الحصاد وصبايا يَعشق المرء فيهن الحياء ويعشق بهن الحياة وفلاحتان تضحكان وبقرات سمان، هذا كل ما كان قبل زمان، أمّا المكان فللجغرافيا فيه القول الفصل، اسمه درينتسا ويقع في كوسوفا من الوطن ألبانيا وللتاريخ عنه قولان، أحدهما صربي والآخر ألباني، لكن الناس هنا ألبان، فكيف يكون الناس هنا ويكون تاريخهم وأرضهم هناك؟ في العشرينيات والثلاثينيات كان آزم وزوجته شوتا أول من حارب الصرب وبعدهما انضم الألبان للبرتيزان على أمل الحرية بعد الحرب العالمية لكن هيهات، ثم كانت المذبحة في إسكندراي ومات مائتان وخمسون من الألبان، فماذا تفعل درينتسا غير أن تنجب الثوار؟ أحدهم كان أسمه شعبان بلوزة واصل الحرب ضد الصرب في الأربعينيات والخمسينيات وفي زمان شعبان وبرفقته كان ثمّة شعبان آخَر ثري يملك أرضاً واسعة وأستاذ يُعلّم التلاميذ ألف باء، الأرض باقية ما بقي الشهداء.

مشاركة أولى: أنتم في بريكاز تحديداً في حي ياشاري، المكان الذي تفجّر فيه النضال من أجل الحرية وهذا البيت الذي نراه عاش فيه ثلاثون فرداً من عائلة ياشاري وعلى رأسهم العم شعبان والعم شعبان كان مُعلّماً عام 1949 لكنه طُرد من عمله في العام 1950 أيام الحُكم اليوغسلافي بسبب توجّهه القومي وتربيته للتلاميذ على القومية المتشددة وقد فرضت الحكومة العزل على بيته وأبعدوه عن مهنته التعليمية.

أسعد طه: الاسم آدم ياشاري، الأب شعبان والأم زاهدة، الترتيب السادس بين ثمانية أبناء عاشوا من بين أربعة عشر ولِدوا والميلاد في الثامن والعشرين من الشهر الحادي عشر من العام 1955.. يعني في ذكرى الاستقلال، يا له من قدر ويا له من وطن يعرف كيف يَصنع الأبطال.

مشارك أول: كانت عائلته من أحسن العائلات في هذه المنطقة لأنها كانت ذات مشاعر قومية ودينية في الوقت نفسه بالإضافة إلى ما تتمتع به من احترام كبير في درينتسا لأنها كانت عائلة غنية.. أعني عائلة آدم وشعبان ياشاري.. فقد كانت تملك أكثر من 36 هكتار من الأرض وكان ثلاثة من ذكورها يعملون في ألمانيا، أي أن الدخل الشخصي في هذه العائلة كان عالياً ويمكنني القول إنها أغنى عائلة في هذه المنطقة ومن هنا اكتسبت محبّة الناس واحترامهم لأنهم عرفوا أن آدم وأفراد عائلته لم يعملوا لمصلحتهم الشخصية بل أمسكوا بالبنادق لأجل الشعب ولأجل الله.

أسعد طه: هكذا يا آدم كنت شاباً يافعاً، كريماً، حليماً، حكيماً، سابقاً لعمرك، مُنهياً دراستك الثانوية، رافضاً وظيفتك الحكومية مادامت في قبضة العدو، صبيةً جميلةً ومالاً وبنين كانت أحلام من كان في عمرك وحلمك أنت كان الشهادة، رصاصة في العنق.. هنا تماماً هنا.. وترحل والعدو يرحل، هكذا أسررت إلى أصدقائك، هكذا أخبرتهم أن الشهداء من قبورهم يهزمون الأعداء في قصورهم.

 

الهجوم الأول وظهور جيش تحرير كوسوفا

 

مشارك أول: خلال المعارك التي دارت هنا في درينتسا قمت بدفن 234 من المدنيين والعسكريين وأكثرهم كانوا مدنيين و85 منهم قُتلوا بسلاح أبيض حيث لم يكونوا مصابين بالرصاص، بل مذبوحين بسلاح أبيض كالسكين والفأس وهي الأدوات التي كان يستخدمها الصرب في تعذيب الناس، في إحدى الحالات كانت هناك بنت صغيرة جاءت إليّ وقالت إنهم قتلوا أبي واغتصبوني، لقد كانت حزينة جدا وسألتها لمَ كل هذا الحزن؟ فأجابت لقد قتلوا أبي بالرصاص ورأيت كيف كان يتدفق الدم كله من جسده فيما كان الصرب يغتصبونني أمامه.

أسعد طه: كل شيء يدعوك للغضب، صياح الجنود الغرباء في طرقات مدينتك، حروف غير حروفك على لافتة تعتلي دارك وأوامر للسلطان في قلب الميدان، ممنوعة لُعَب الأطفال ويُنفى المهندسون والعمّال ويُعدم الأطباء والتجار وتُغلق المشافي والمدارس والحدائق والأزهار، كل شيء يدعوك للغضب.

مشاركة ثانية: هُوجم بيته لأول مرة في الثلاثين من ديسمبر عام 1991، لماذا هُوجم بيته؟ لأنه كان نشيطاً في مظاهرات العام 1981 وعام 1990 ولم يرضى أبداً عن الأوضاع التي خلقتها صربيا في كوسوفا وقرر الذهاب إلى الوطن الأم ألبانيا ليُتم تدريباته العسكرية هناك وعاد مرة أخرى إلى كوسوفا محملاً بالسلاح.

مشارك ثاني: علاقتي بعائلة آدم ياشاري بدأت منذ أن قاوم الشرطة الصربية في شهر ديسمبر من العام 1991 وجلست معه بعد المعركة في اليوم نفسه في قرية بولاس المجاورة لقرية بريكاز وتفاهمت معه ونصحته أن يُغادر القرية.

"
إن أكثر الأسلحة كانت تدخل عن طريق ألبانيا وجزء آخر كنا نشتريه من الصرب أنفسهم ويعود فضل ذلك إلى الناس الذين عملوا في هذا الاتجاه
"
مشارك

مشارك ثالث: من الطبيعي أن تكون أول تدريباتنا عام 1994 في ألبانيا، في البداية ذهب إلى هناك عدد قليل وبعد عودتهم بدأ العدد في الازدياد وتم تدريبهم عسكرياً والذين كانوا في ألبانيا كان على كل واحد منهم تدريب من 10 إلى 15 شخصاً ومن هنا بدأ جيشنا ينمو ويستعد عسكرياً، من الطبيعي أن أكثر الأسلحة كانت تدخل عن طريق ألبانيا وجزء آخَر كنّا نشتريه من الصرب أنفسهم ويعود فضل ذلك إلى الناس الذين عملوا في هذا الاتجاه وبذلك بات الشعب مسلحاً وبدأنا من الأسلحة الأوتوماتيكية إلى أن وصلنا إلى المورتر ولم يكن لدينا الإمكانية لشراء الأسلحة الثقيلة.

أسعد طه: في ذاك الحين كان كل شئ في ازدياد، المدارس المُغلقة والمصانع المُعطّلة والسجون والنعوش واليتامى والثكلى، في ذاك الحين كان أهل الوطن جماعة والخروج عنهم خيانة، الكتف في الكتف والقدم في القدم وفي الخفاء يروحون وفي الخفاء يعودون، من كوسوفا إلى ألبانيا، من ألبانيا إلى كوسوفا، رجال أشداء لا يُبالون لأصعب الأشياء، وعورة الجبل وعلوّ الجليد، وحشة الليل وخذلان الصديق وطفل وليد قد يكون غداً هو اليتيم.

مشارك ثاني: بدأ الظهور العلني لجيش تحرير كوسوفا في شهر نوفمبر عام 1997 إثر صِدام بينه وبين القوات الصربية في قرية رزال وينيك التابعة لمحافظة إسكندراي، اتّسع الظهور الجماهيري لجيش تحرير كوسوفا وبدأ عدده يتسع يوماً بعد يوم وبعد وقوع المذبحة التي ارتكبتها حكومة بلغراد في قرية ليكوشان وكيرز وبعد هذه المذبحة بأربعة أيام فقط ارتكبت حكومة صربيا مذبحة أخرى شارك فيها الجيش وشرطة بلغراد وهذه المرة في قرية بريكاز مُستهدِفة عائلة ياشاري وكانت هذه أحداث رئيسية أدت إلى الامتداد الجماهيري لجيش تحرير كوسوفا.

مشارك رابع: وَضَع جيش تحرير كوسوفا لنفسه منذ البداية إستراتيجية لتحرير كوسوفا كانت تتضمن الخطوات الثلاث الآتية.. أولاً تشكيل مجموعات من الميليشيات في كل أنحاء كوسوفا هدفها الاصطدام بالقوات الصربية العسكرية.. فقط القوات العسكرية الصربية، القوات العسكرية الموالية للنظام وكانت المرحلة الثانية.. المرحلة الأولى كانت تشكيل المليشيا والاصطدام بالجنود الصرب، المرحلة الثانية تشكيل مجموعات متنقّلة من المقاتلين تتحرك تكتيكياً من مكان لآخَر حتى تجتمع مع القوات المتواجدة وتُشكّل فرقة كبيرة من الجنود في ساحة المعركة، أمّا المرحلة الثالثة فكانت تشمل التحرير النهائي وقد أطلقنا على هذه العملية اسم القوس ويبدأ التحرير من حدود ألبانيا إلى داخل كوسوفا، المرحلة الثالثة هي التحرير النهائي.

 

الهجوم الثاني.. دفاع مستميت

 

أسعد طه: كانت تصغره بعامين واسمها عديلة، تحابا فتزوجا فأنجبا خمسة أبناء وعهداً لا يغيب لا يدخل البيت غريب إلا زائر أو حبيب.

مشاركة ثانية: كان الهجوم الثاني ضد هذه العائلة في اليوم الـ22 من يناير عام 1998 لأن القوات الصربية منذ عام 1991 حتى العام 1998 تُحاول وتستعد لإيجاد طريقة مناسبة لإلقاء القبض على آدم حياً، لكن ماذا حدث؟ جاءت الشرطة الصربية بفرقة خاصة من الكوماندوز وذلك من ناحية مصنع الذخيرة وهو الموقع الإستراتيجي الذي يُمكّنهم من مراقبة الأوضاع في نصف درينتسا.

أسعد طه: حيينها كان رمضان قد جاوز مُنتصفه والحضور قد جاروا علي مائدة السحور والنوم على عيون الصغار والكبار يتهيؤون ليوم صيام جديد.

مشاركة ثانية: جاؤوا إلى هنا في الخامسة والنصف صباحاً وحاصرت الشرطة المنزلين بواسطة وحدة كوماندوز وبدأ الهجوم عليه من جميع الاتجاهات وحاولوا اقتحامه ولكن العائلة واجهت القوات الصربية بمقاومة شرسة بالرغم أن كثيراً منهم كانوا صغاراً في السن مثل كوشترم الذي لم يتجاوز 13 عاماً وإقبالة ذات الـ14 عاماً وبسيم البالغ 17 عاماً والعم شعبان كان كبيراً في السن فعُمره حينذاك 74 عاماً ورغم ذلك اضطرت القوات الصربية إلى الانسحاب والعودة إلى قاعدتها بفضل مقاومتهم الكبيرة وصمودهم وقد حاولت الشرطة حتى الدخول إلى هذا المنزل هنا ولم تفلح ولم يكن مع العائلة في ذلك الوقت القائد آدم ياشاري، لكن حمزة كان موجوداً وأكثر مَن كان معه كانوا من النساء.

أسعد طه: حمزة هو لآدم أخوه وساعده اليمنى وللناس الفنان الرسّام الممثّل الموسيقي وللأولاد التسعة هو الأب، كان حمزة واحداً من العائلة المحاربة وعندما قالوا لأخيه آدم فلترحل النساء والأطفال، رد النساء والأطفال لا يرحل عن الوطن إلا أعدائه.

مشاركة ثانية: كان على عِلم تام بكل ما يجري ورأى الحشود العسكرية الصربية في مصنع الذخيرة ورأت العائلة كلها ذلك، الحشود العسكرية المتحصّنة حول مصنع الذخيرة، لقد شاهدوا بأم أعينهم أن هناك أمراً ما يُدبّر لهم ولكنهم مع ذلك كانوا قد قرروا من قبل البقاء هنا والاستعداد مبتسمين للموت ولم يكن الهجوم الصربي أبداً مفاجأة لهم.

 

الهجوم الثالث.. عُرس للمقاومة

 

مشارك خامس: بعد اليوم الثاني والعشرين من يناير بدأ الحي في تنظيم نفسه وكان لدينا أسلحتنا وجنودنا الذين يقومون بحراسة الحي وظلّت عائلاتنا شهرين ترفض الخضوع وتستعد لليوم الذي كانت تنتظره وجاء ذاك اليوم في الخامس من شهر مارس وكان يوم الخميس حين فرضت الشرطة والجيش الصربي الحصار علينا، أفراد الشرطة والميليشيا.

مشاركة ثانية: وفي اليوم الخامس من شهر مارس من العام 1998 هاجمت القوات الصربية منزل آدم للمرة الثالثة ولكن بخلاف الهجوميين السابقين وصلت في الساعة الرابعة صباحاً، كانت قادمة من مدن متروفيتسا ودرناس وكلينا وقاموا بنشر قوّاتهم على طول 20 كيلو متر من هنا.

مشارك خامس: أنا كنت هنا وكذلك جميع أفراد عائلتي في هذا البيت وعندما عَرفت أن الحصار قد فُرض على الحي أخذت عائلتي وأدخلتها إلى غرفة حيث كانت أكثر أمناً لأننا كنا نتوقع حرباً عنيفة وذهبت إلى بيت آل آدم ياشاري فوجدتهم قد استعدوا واحتلّ كل واحد منهم موقعه بحسب ما اتفقنا سابقاً.

مشاركة ثانية: وسمع بذلك القائد آدم، لأنهم كانوا كلهم تقريباً مستيقظين وهتف في عائلته اليوم سنواجه حرباً مع الصرب فمبروك علينا وخلال السنوات السبع كانت المرة الثالثة.

أسعد طه: كانت هي المواجهة الثالثة وكان الجميع يَعرف أنها الهالِكة والساعة في الصباح تدقّ الرابعة والصرب بأحذيتهم الثقيلة يدقّون الأرض الطيبة والعشب الأخضر في الفجر تدوسه جنازير الدبابات المتوحشة فيَشُبّ مرة أخرى واقفاً ويهتف بآدم أن الحرب كر وفر، لكن آدم اختار ألا يفر واختارت العائلة ألا تفر واختار الجميع ما لا عين رأت ولا أذن سَمِعَتْ ولا خَطَر على قلب بشر.

 

[موجز الأنباء]

 

مشاركة ثانية: ها هو مركز القائد، لقد كان موقعاً إستراتيجياً لأنه هو الذي يَعرِف إستراتيجية الحرب وكون الحرب مع الصرب ذات طابع انتقامي كان يُريد قطع الطريق على المشاة الصرب وكان قد أقسم ألا يمس أحد ساحة البيت مادام حياً وكانت عديلة زوجة آدم هي أول من قُتل في اليوم الأول، عندما كانت تحمل الذخيرة لزوجها آدم واستَمرّ آدم يقاوم القوات الصربية وهو يغنّي ويتوجّه إلى الأطفال مشجعاً إياهم لا تخافوا، أنتم كنتم دوماً شجعان ولم يكن كذلك وحده، بل كان الآخرون يُغنون معه.

مشارك سادس: عندئذ طلبت إلى ابنتي الكبرى أن تنادي الأولاد ووقفت أنا هنا لأحمي أولادي من الصرب وإلى أن يدخلوا الملجأ وتأكدت من أنهم دخلوا عندما سمعت صراخهم وبعدها انتقلت من هنا إلى الشرفة الأخرى ومنها رأيت أعداداً كثيرة من الصرب حولنا.

مشاركة: والله لم أشاهد حرباً مثل هذه قط، أن يُقتل الأطفال في مهدهم لم يحدث ذلك أبداً، كانت الحرب قبل ذلك تدور بين الرجال والنساء لا يمسسن بسوء، أمّا هؤلاء فلا يُفرقون بين كبير وصغير، بين شاب وطفل، إنهم يَقتلون مَن يجدون.

مشارك سادس: كانت هذه هكذا، مُغلقة مدهونة وكنت قد دهنت خطاً من هنا ومن هنا حتى لا ينتبهوا إلى ما يُلفت نظرهم وكانت بهذه الطريقة وعندما دخلت الشرطة إلى هذه الغرفة كانت ظهورهم إلى الجدار وكان الباب مفتوحا في اتجاه الكوة المؤدية إلى الملجأ فلم يجدوا شيئاً.

أسعد طه: كانت العائلة كلها تختبئ هناك في سرداب تحت المنزل، جعفر وزوجته وأطفالهما وأمه العجوز خمس ليال وستة أيام كاملة.

مشاركة ثانية: انظروا إلى هذه الحشائش الخضراء، هذه كلها كانت أرضهم وهنا كانت المعارك الشديدة تدور دوماً وانظروا إلى هذا الموقع هنا، لقد ظلّ مَن كان فيه يُدافع عنه يومين كاملين إلى أن قُتل ولم يشأ أن يغادره ولو للحظة.

مشاركة رابعة: كان الأمر صعباً عليّ، فقد كان معي 4 بنات كبيرات 3 منهن بناتي والأخيرة قريبة لي وكانت مريضة وقلت لنفسي إنَّ الأمر أسوأ مع وجود البنات، أشكال أخرى من المصائب يُمكن أن تقع وبعد ذلك يذبحوننا ويقتلوننا، البنت المريضة تكلّمت مرة واحدة فوضعتها في حضني والولد الذي لم يتجاوز السنوات الست لم أعلم أين هو، البنت المريضة ظلت في حضني أسبوعاً كاملاً ونحن نحاول أن نحافظ على هدوئها وقد بالت على رجلي وبسبب رطوبة الملجأ تجمد ظهري.

مشاركة ثالثة: كان الصرب فوقنا في الطابق الثالث وضعت يدي على فم البنت المريضة وهي تصيح آه، نزلوا على السُلّم وانتشروا كل واحد في مكان وسمعناهم يقولون لا يوجد أحد هنا، ربما يكون هناك جرحى في الخارج وبعد ذلك خرجوا، كنا نسمعهم وكنا خائفين وهم يصعدون على السُلّم إلى أعلى وعندما كانوا ينزلون كنا نقول إنهم سيدخلون علينا الآن، طلب الأطفال قليلاً من الماء، قلنا لهم لا نستطيع لأنهم مازالوا هنا فصمتوا وأمضوا وقتهم نائمين، ربنا أنزل الثلج والمطر وقد لاحظنا ذلك وبدأ الماء يتسرب من الجدران ونحن نحاول جمعه ونشربه وكان مختلطاً بالرمل وغير نظيف ولا أحد يَعلم مصدره، لكنه كان سبباً في إنقاذ حياتنا.

أسعد طه: حُوصِر الحي كله واقتُحمت بيوت الضعفاء واختبئ بعضهم من العجائز والأطفال والنساء، أمّا آدم وعائلته فقد تحصّنوا في منازل ثلاثة، شعبان الوالد في مقدمة منزل الرجال وباشيكم حفيده في الخلف، آدم في مقدمة المنزل الصغير، حمزة في منزل النساء وبيوت أخرى في الحي تشارك في عُرس المقاومة.

مشارك سابع: عندما حاصرونا في الساعة السابعة صباحاً خرجنا واتجهنا إلى بيت بكير ياشاري وكنا خمس عائلات وجلسنا حتى الساعة الواحدة والنصف ظهراً وأخرجتنا الشرطة الصربية إلى الخارج بعد أن أطلقت الغاز المسيل للدموع ولمّا خرجنا قتلوا المُعلّم كاظم أمام باب البيت وقتلوا نظمي وجُرِح أخي في كتفه ويده وقدمه وهربنا إلى قرية بريكاز وهناك ضمدوا جراح أخي وبعد ذلك توجّهنا إلى عمتي في قرية أخرى ومن هناك انتقلنا إلى بيت آخَر وفي الطريق وجدنا اثنين من القتلى ولم نر بعدهما شيئاً آخَر أمّا والدي وعندما حاصرونا أخذ البندقية وتوجّه إلى بيت آدم ياشاري ولم نره بعد ذلك أبداً.

 

شهداء أحياء وحرب لم تنته

 

مشاركة ثانية: بالرغم من ذلك لم تتمكن القوات الصربية على مدى أربعة أيام من اقتحام هذه القلعة التي ترونها، لقد كانت المعارك تدور عنيفة، لكن كان من المستحيل اقتحامها وانظروا إلى هذه الغرفة التي كانت مطبخهم وفي صباح السابع من مارس كان هنا أربعة عشر طفلاً وامرأة بحالة استعداد دائم للهجوم الذي يتعرضون له ورغم أن الأوضاع كانت تهدأ في المساء فإن دائرة الحصار المفروض لم تكن لتتراجع وفي هذا اليوم بدأ الهجوم باكراً على غير عادته وها هو مكان القذيفة القاضية، فهي حملت الموت لثلاثة عشر من أفراد العائلة، فيما نجت بسارتا ابنة حمزة البالغة أحد عشر عاما.

أسعد طه: اختلط كل شيء بكل شيء، الرصاص بالصراخ، الغناء بالدعاء، رائحة البارود برائحة الجروح، كان الرجال يُقاتلون والنساء يُهيّئن لهم الذخيرة ويُعلّمن الصغار.. ضع الرصاصة هنا ثم افعل هكذا، ثم هكذا، الآن باتت البندقية جاهزة احمِلها إلى والدك، أكمل أنت المهمة الباقية.

مشاركة ثانية: كان موقع حمزة هنا، حيث سقطت قذيفة سترون آثارها وهي القذيفة التي أصابت صدر حمزة، فاختلطت به وأذابته ومزقته كلياً وسقط ميتاً في هذا المكان، لقد كان الصرب يقصفون عن بُعد ولم يكن الصرب يُبالون بأي شيء وما إذا كان هناك أطفال أو عجائز أو نساء وأخيراً كان موقع باشيكم وكما قلت برغم مواقعهم المتفرّقة فقد دافعوا عن أنفسهم حتى اللحظة الأخيرة ومن الحصن الذي يُرى من هنا كان موقع العم شعبان وفيه قُتل، بقي يقاوم حتى اللحظة الأخيرة.

أسعد طه: لا تظنوا أنهم رفعوا الرايات البيضاء أو قالوا نفاوض الأعداء، لكنها الحرب أوشكت على النهاية بعد أن مات أربعة وخمسون من الألبان ولم يبقى إلا محاربان آدم وابنه والاثنان لا يزالان يُقاتلان والكل في الانتظار.. الصرب للضربة الأخيرة، الملائكة لإذن ربها، الحور العين للشهداء والشهداء لجوف طير خضر في قناديل معلقة بالعرش.

مشاركة ثانية: قُتل القائد فجأة في وسط النهار أمام باب هذا البيت في السابع من مارس من العام 1998 بعد مقتل 13 من أفراد عائلته، ما الذي حصل بالضبط؟ كل المواقع موزّعة هنا، القائد هنا.. وهنا كان موقعهم الذي دافعوا عنه بكل قوة حتى اللحظة الأخيرة وفي الموقع الثاني الذي نراه كان فيتيم ابن القائد، لأن أطفال هذه العائلة كانت تُسند إليهم أعمال مهمة ولمّا سقط الكل ظلّ طفلان وكوشتريم لم يفارق أباه آدم ولو لحظة واحدة من اليوم الأول ولكن بعد أن مات الكل شعر الطفلان بعدم الاطمئنان وفكّرا بالخروج وخرجا بالفعل من هذا المكان، لأن الجميع ماتوا ولمّا خرج الصبي كوشتريم قُتل هنا، ماذا حدث بعد ذلك؟ ظلّت بسارتا ابنة الحادية عشرة وحيدة وهنا انتهت المقاومة.

أسعد طه: مَن ذاك الذي يَزعُم أن الأمة قد ماتت وأن الدم في العروق قد جمد وأن حمزة ما أنجب حمزة فلمَن إذاً هذه الآلام؟ ولمَن إذاً هذا المخاض؟ ولماذا يولد للشهداء أطفال؟ ولماذا هؤلاء الصغار كبار حتى وهم صغار؟ ها هو مخبأ آدم في وسط الأحراش، في حياته مُلتقى المقاتلين الأصدقاء وفي مماته محجّة الصغار، حوله يتسامرون ويحلمون، إذا ما العمر زاد زُدنا عن الأرض وكنّا كما ياشاري ندفع عنها الباغي.

مشارك أول: انطلقْت من قرية ليكوفس لأصِل إلى هنا، بعد أن سمعت أن آدم ياشاري وأفراد عائلته قد قُتلوا في منطقتهم حضرت إلى هنا لدفنهم، حزنت كثيراً عندما رأيت أجساد الشهداء، لقد كان المكان ممتلئاً، أينما تنظُر لا ترى إلا الجثث، هنا كان صفان من الموتى وهنا كان الأطفال وهنا كانوا مختلطين وهنا تماماً كان جثمان آدم ياشاري وجثة طفل صغير بجانبه وهنا والد آدم.. شعبان وهنا كان حمزة وهناك خال عثمان ومن هذا الجانب كانوا يأتون بالنساء، إلى جانب آدم كانت هنا جثث أطفال أعمارهم بين 13 و14 عاماً وبينهم بعض العجائز، عم شعبان كان هنا ويده كانت مقطوعة وقدمه أيضاً، أمّا حمزة فكان مصاباً في صدره بقنبلة أو قذيفة وكنت ترى في صدره خارطة كوسوفا وكأنها مرسومة بالسكين، أمّا عم شعبان فقد كان مصاباً بالسكين هنا وهنا وأجزاء منزوعة وأذن وعيون مُقتَلعة، كان هذا أسوأ ما رأيته في حياتي.

[تعليق صوتي]

إليكم أيها السادة هذا البيان هاجمت قواتنا الباسلة المدججة بالأسلحة العاتية مطبخاً للنساء وملعباً للأطفال وبيتاً كان الرجال فيه من الرجال، فقتلناهم كلهم وبينهم ثمانية عشرة امرأة وعشرة أطفال ومحونا تسعة أجساد فلم تبقى لهم باقية وفضلاً ونعمة حققنا لآدم حلمه، فأصبناه في عنقه برصاصة وفعلنا بحمزة ما فعلوه بحمزة، فبقرنا صدره وفعلنا الشيء نفسه مع من أحبّه، نبارك شعبنا، الأرض هناك باتت أرضنا ولكن احذروا فالأرض هناك كما البشر، بعد كل حرب تلد مزيداً من البشر.

مشارك ثامن: وصل الصرب قبل غروب الشمس في الساعة الرابعة وعشر دقائق بعد الظهر ومعهم جرّافات وسيارات إطفاء وقد خرجنا نحن من هذا الباب وكانت سيارتي هناك، فأدرتها وغادرت المكان وقام الصرب بأنفسهم بدفن الجثث بالجرّافات وفي اليوم التالي لم أتمكّن من الحضور إلى هنا ولكن جاء الشيخ حيدين ومعه زكريا سانا وبعض الشباب وأخرجوا الجثث ودفنوها من جديد ووضعوها في اتجاه القبلة.

أسعد طه: يا سيدي الشهداء لا يُدفنون، الشهداء في الأرض يُزرعون، فيُنبتون حدائق وأعناباً وأطفالاً صغاراً لهم العزة ولهم الكرامة، على جدران الشوارع والأزقة، مع لعب الصغار، بين دفاتر التلاميذ، في عمامات العجائز، فوق سواعد الشباب الشجعان، على وجوه الحِسان تجد صور آدم وفي كل العيون إنذار.. انتبهوا نحن من ذاك البطل.

مشاركة خامسة: هل تُغتال البراءة؟ وما هو ذنب درينتسا؟ لماذا يَخشون من الطفل الذي يُنادي على آزم غاليتسا؟ درينتسا تلد الأبطال وأنتم تجعلون الأطفال أيتاماً، هذه أمة تريد الحرية وكوسوفا هي ألبانية، السماء تُحتَرق والأرض تُغتَصب، أين أنت يا آدم ياشاري؟ قتلوا أبانا وقتلوا أختنا وأبعدونا عن بيوتنا، لا تلمس درينتسا، يا عدوّي لأنني أحب آزم غاليتسا ولا تلمس الأرض الألبانية لأنني أول مَن كان هنا منذ آلاف السنين.

أسعد طه: حتى الصغار يأتون يشربون حليبهم في الصباح ويأتون ويتعلّمون، كم هي المسافة بعيدة بين مَن يُقاوم ومَن يُساوم؟ بين مَن يموت وليس في جيبه سوى رصاصة وبين مَن يحيى ولديه كل وعود السلاطين والأعداء بأن يمنحوه في الحياة شبراً من الأرض وفي الممات نصف قبر؟ لم تنتهي الحكاية بعد وكيف تنتهي؟ وكيف تنطفئ ستة وخمسون نجمة؟ الصغار يكبرون والكبار يتوالدون والذين قيل عنهم أنهم ينتهون.. يزدادون، لم تنتهي الحكاية بعد وكيف تنتهي والقافلة تطول وتطول؟ بعد آدم يأتي عدنان وبعده إسماعيل وبعده إبراهيم وبعده حمزة، الركب يلي الركب، العُرس وراء العُرس، العين بالعين والسن بالسن، العدو لا يَرحم والصديق لا يَصدُق والعزيمة لا تَفتُر، دونهم الأرض، دونهم العرض، الملحمة تلو الملحمة والأيام تمُر، العدو يرحل وآدم لا يموت وآدم لن يموت، أيموت الشهيد؟ إلى الملتقى.