شعار قسم ميدان

الطعام الرديء يقتلهم.. لماذا يعاني الفقراء من السُّمنة أكثر من الأغنياء؟

اضغط للاستماع

تبدو مفارقة غريبة، لكن السُّمنة لم تعد مقترنة بالثروة، ولم تعد -كما كانت في الماضي- حكرا على الطبقات الغنية، فالواقع اليوم هو أن السُّمنة تنتشر في المناطق ذات الموارد المحدودة، وخاصة في البلدان النامية، فإذا استثنينا الجوع، تُعَدُّ السُّمنة هي المشكلة الرئيسية المرتبطة بالغذاء في عالم اليوم، ويكمن السبب في أن الطعام الرخيص غالبا ما يكون سيئا. (1)

لا تُمثِّل السمنة مظهرا جسديا فقط، فهي في الحقيقة مرض يؤثر على نوعية الحياة ويمتد ليؤثر على إنتاجية المجتمع وعلى العمر المُتوقَّع لأفراده، حيث يُعتقد أن السُّمنة تتسبَّب في وفاة 3 ملايين فرد سنويا حول العالم، وهي تضع ضغوطا كبيرة على خدمات الرعاية الصحية، ومع ذلك، لا يزال الاهتمام بها سطحيا ولا يتجاوز توجيه النصائح إلى الأطفال بعدم الإكثار من تناول الحلوى وإلى كبار بتجنُّب الإفراط في السكريات، بينما يبدو أن السبب الحقيقي أبعدُ من ذلك.(2)(3)

تتعدَّد العوامل المُسبِّبة للسُّمنة بين الجينية والبيئية والاجتماعية والثقافية، على أن العوامل الجينية لا تُفسِّر ارتفاع معدلات السُّمنة في العقدين الأخيرين، فهي لا تتغير بهذه السرعة، والحقيقة أن عوامل عدة أثَّرت على عادات الغذاء في مختلف البلدان خلال تلك الفترة، حيث تغيَّرت خصائص الأغذية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل تماشيا مع التغيُّرات التكنولوجية التي تحدث في الصناعات الغذائية والتسويق والنقل وتدفُّقات رأس المال والخدمات.

كان التأثير الرئيسي لهذه التغيرات هو زيادة الأطعمة المُصنَّعة الرخيصة ذات نِسَب الدهون العالية، مع المزيد من السكر والملح. تقول سيسيليا ألبالا، المتخصصة في معهد التغذية وتكنولوجيا الغذاء في جامعة تشيلي، إن أحد أسباب السمنة هو "نقص التغذية قبل الولادة ثم في مرحلة الرضاعة، وما يعقبه من تعرُّض للأنظمة الغذائية الغنية بالدهون التي لا تحتوي على المغذيات الدقيقة الكافية".

صورة ميدان

في السياق ذاته، تقول باتريشيا أغيري، عالمة الأنثروبولوجيا الأرجنتينية في كتابها "غني نحيل وفقير سمين.. أزمة الغذاء"، إن الثلاثين عاما الأخيرة شهدت اتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء فيما يتناولونه من طعام، في الماضي كان الجميع يأكلون أصنافا متشابهة، ثم أصبحت الأُسَر ذات الدخل المرتفع تختار بين ما يصل إلى 250 نوعا من الطعام، بينما تختار الأُسَر الفقيرة بين ما لا يتجاوز 22 منتجا غذائيا لا تحتوي على عناصر مثل الكالسيوم والحديد والفيتامينات والمعادن. بدوره يؤكد مارتن كاراهر، خبير السياسات الصحية والغذائية، أننا نختار طعامنا وفقا لدخلنا ومعرفتنا ومهاراتنا.

"الفقراء يعانون من السمنة المفرطة ويواجهون سوء التغذية بالبطاطس والمعكرونة… إنها الأشكال الجديدة للجوع. فالفقراء لا يأكلون ما يريدون أو ما يعرفون ولكن ما يمكنهم الحصول عليه".

ونتيجة لذلك، فإن الفقراء نادرا ما يستهلكون الأطعمة مرتفعة الثمن مثل اللحوم الخالية من الدهون ومنتجات الألبان والفاكهة والخضراوات، وبدلا من ذلك، فإن سلة طعامهم تتضمَّن الكثير من المعكرونة والخبز والسكر والمنتجات ذات الدهون العالية، حيث يصبح السعر عاملا فارقا عند اختيار وجبات الطعام.(5)

إن الأغنياء في الغالب أكثرُ استعدادا لدفع المزيد في سبيل تجنُّب الأطعمة المُصنَّعة، وتناول كَميات أقل من منتجات اللحوم الضارة، وتشمل عاداتهم الغذائية تناول الكثيرِ من الفواكه والمواد الغذائية الطازجة، ويُخصِّصون مزيدا من الوقت لممارسة الرياضة وتجنُّب الإجهاد والعناية بالصحة، كما يتجنَّبون الأغذية الرخيصة، ولا ينجرفون للإعلانات عن منتجات الأغذية.(6)

في مصر على سبيل المثال، وبسبب تنامي وعي الطبقات العليا بأهمية جودة الغذاء، هناك مبادرات لتقديم غذاء صحي، عضوي ومُصنَّع محليا، وهناك أندية وقاعات لممارسة الرياضة بعيدا عن زحام الشوارع وضوضائها وتلوُّثها، وهو الأمر الذي يتوفر فقط لميسوري الحال، فيما تقبع الطبقات الفقيرة أسيرة لأعمال تتطلَّب الكثير من الجهد البدني في مناطق لا يتوفر بها سوى طعام الشارع أو الأغذية المعبأة، فيلجأون إليها للحصول على السعرات الحرارية التي يحتاجون إليها دون حصول الجسم على العناصر الغذائية اللازمة، ما يُسرِّع من زحف أمراض مثل السكري وأمراض القلب إليهم في غياب نظام رعاية صحية للاكتشاف المبكر لحالات الإصابة، فلا تُكتشف إلا في مراحل متأخرة تُقلِّل فرص الشفاء منها.(7)

undefined

يُفضِّل الفقراء عموما استثمار مواردِهم القليلة في السلع المادية وليس في الاعتناء بصحتهم، وهم يتناولون طعاما ذا قيمة غذائية محدودة جدا، ويُقبلون على شراء منتجات ذات جودة منخفضة، ومن بين عاداتهم مكافأةُ أطفالهم بالطعام غير المفيد (Junk food) وزيارةُ محلات الوجبات السريعة. وفي الغالب فإنهم لا يمارسون الرياضة، خصوصا مع عدم وجود مساحات عامة للتريُّض، وكذلك لا يخضعون لفحوصات طبية دورية، ويواجهون مزيدا من الضغوط والإجهاد ومشكلات النوم.(8)

بخلاف ذلك، يبدو أن الحصول على الأغذية السيئة بات ميسورا وفي متناول الجميع أكثر من الحصول على طعام صحي. يمكنك معرفة السبب عبر جولة قصيرة في أحد المحال الكبرى؛ فالمتسوِّق يُواجَه بالكثير من الأصناف اللذيذة من المخبوزات والحلوى، وهي خيار جيد بالنسبة للتجار، إذ يُستخدم في صنعها موادُّ خام رخيصة أساسها الدقيق والسكر، وهي -على عكس الخضراوات والفاكهة- ليست سريعة التلف، ولا تحتاج إلى الثلاجات وطرق التخزين المعقدة التي تستهلك الطاقة، وهي الميزة التي يُفضِّلها المستهلكون أيضا، أن تحتفظ لأيام بالمنتج في منزلك دون أن تخشى من التلف، فضلا عن أنها منتجات لذيذة، تُرسل إشارات لطيفة إلى الدماغ وتُحفِّز شعوره بالسعادة.

هكذا إذن تصبح المخبوزات والحلوى بديلا أرخص وأسهل للكثيرين، رغم أن استهلاكها يؤدي إلى سوء التغذية، فهي لا تتضمَّن العناصر الغذائية التي يقوم عليها نظام غذائي صحي، كما أنها تُنتج الطاقة الفائضة أو ما يُعرف بـ "السعرات الحرارية الفارغة" التي تتميز بمحتوى الطاقة نفسه الموجود في السعرات الحرارية الأخرى لكنها لا تحتوي على القدر نفسه من الفيتامينات والمعادن والألياف ومضادات الأكسدة، بما يعني أنها تتسبَّب في زيادة الوزن مع سوء التغذية في الوقت نفسه، وحين تتعدَّى هذه المشكلة المستوى الفردي تُمثِّل عبئا على المجتمع الذي يكون عليه أن يُقدِّم الرعاية الطبية لعدد كبير من أفراده يعانون أمراضا مثل السُّمنة ومرض السكري إلى جانب أمراض أخرى ترتبط بسوء التغذية مثل فقر الدم، فليس البذخ إذن هو سبب السُّمنة ولكن نقص الموارد والمعلومات.(9)

تنتشر السُّمنة بالدرجة الأولى في الدول الفقيرة والنامية، لكنها توجد أيضا في المناطق والولايات ذات الدخل المنخفض في الدول الغنية، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يُعتبر معدل السُّمنة في ولاية أركنساس، رابع أفقر الولايات، هو الأكبر، بينما تحتل مسيسيبي، وهي أفقر الولايات الأميركية، المرتبة الثالثة في معدلات السُّمنة. كما يُعتبر العِرق السكاني مؤشرا آخر لهذه العلاقة بين الثروة والصحة، وتتضح في معدلات السُّمنة لدى البالغين الذي يصل إلى 34.4٪ بين السود و31.3٪ بين اللاتينيين بينما لا يتجاوز 23.9٪ فقط بين البيض، وهو ما يعكس توزيع الثروة.

وفي إنجلترا أيضا تكشف دراسات متعددة عن العلاقة بين السُّمنة ومعدل الدخل، فمعدلات السُّمنة بين الأطفال تزداد في المدن الأكثر فقرا، بينما تتمتع مقاطعة ريتشموند، المدينة الأغنى في البلاد، بمعدلات صحة مرتفعة وانخفاض في معدلات البدانة.(10)

undefined

لا تتوقَّف الثروة الإجمالية في العالم عن النمو، ورغم ذلك فإن المشكلات الصحية المرتبطة بعدم المساواة الاجتماعية لا تزال في ازدياد. غالبا، لا يُوضع في الحسبان ذلك الارتباط بين السُّمنة وعدم المساواة الاجتماعية، فيُتعامل مع المشكلة باعتبارها من اختصاصات طبيب التغذية، في حين أن الحلول الحقيقية تقع في المقام الأول في يد خبراء الاقتصاد والمتخصصين في علم الاجتماع، فالفجوات بين الطبقات الاجتماعية تحوَّلت إلى مشكلة صحية تُعَدُّ السُّمنة أبرز عوارضها، ويتطلَّب حلّ هذه المشكلة كما يبدو استجابة اجتماعية.

الأمر المأساوي أن السمنة تُعامل على أنها مشكلة تتعلق بالفرد أو الأسرة وليست مشكلة اجتماعية، وبالتالي توضع حلول فردية للمشكلة بينما سيكون التعامل معها باعتبارها مشكلة اجتماعية فارقا في وضع حلّ فعّال لها.

يقول مارتين كوهين، الباحث الزائر في الفلسفة بجامعة هارتفوردشير: "تخيَّل ما كان يمكن أن يحدث في العصر الفيكتوري مثلا لو جرت معالجة مرض التيفود عن طريق تشجيع الناس على العيش في الريف بالقُرب من آبار المياه النظيفة بدلا من بناء شبكات الصرف الصحي ومحطات معالجة المياه"، مُشيرا إلى أن استجابتنا للوباء الذي أصبح السبب الخامس للوفاة في العالم -أي السُّمنة- لا تزال مجرد وهم.

Boys eat bread they collected from a garbage dump on the outskirts of the Red Sea port city of Hodeida, Yemen January 7, 2018. REUTERS/Abduljabbar Zeyad TPX IMAGES OF THE DAY

يُذكِّرنا "كوهين" أيضا بما حدث في بدايات القرن التاسع عشر حين زحفت الزيادة السكانية إلى المدن الصناعية وكانت تعاني من عدم توفُّر مياه نظيفة، فانتشرت الأوبئة وصارت مصدر قلق يومي للناس في نيويورك ولندن وغيرها من المدن، واعتُبرت هذه الأوبئة عقابا إلهيا على الفساد الأخلاقي بدلا من التفكير في الأسباب الحقيقية لها، واستغرق الأمر وقتا طويلا قبل التفكير في اتخاذ الوسائل المناسبة للعناية بالصحة العامة، وهو يشبه ما يحدث اليوم مع السُّمنة، حيث ترتبط المشكلة بالأولويات السياسية والمساواة الاجتماعية أكثر من ارتباطها بعادات الأفراد.

كان الوقت حينها لا يزال مبكرا لكي يفهم الناس فكرة انتقال الأمراض من خلال الجراثيم، وكانت الفكرة الأكثرُ إقناعا هي أن الأمراض تنتشر نتيجة للفساد الأخلاقي، وهكذا توقَّعوا أن يؤثر مرض الكوليرا على الطبقات العُمالية في مدينة نيويورك أكثر بسبب الفساد الأخلاقي المُنتشر بينهم، فيما كانت العديد من المؤسسات تخوض حربا ضد فكرة بناء شبكات صرف صحي، للهرب من تكلفتها المرتفعة، تماما كما حدث مع صناعات الأغذية في العصر الحالي حين خاضت حربا للتخفيف من الحقائق المنتشرة حول أضرار السكر. في النهاية، علينا النظر إلى السُّمنة بوصفها مشكلة جماعية، ترتبط في الحقيقة بالبطالة والفقر وانخفاض مستويات التعليم والتوتر والاكتئاب وفقدان التماسك الاجتماعي، وهو ما يتطلَّب تغييرا كبيرا في السياسات الاجتماعية والاقتصادية تجنُّبا لتفاقم المشكلة. (11)

—————————————————-

المصادر

  1. Saltar el menú de navegación e ir al contenido
  2. No te culpes por estar gordo: la causa de la obesidad es la pobreza, no las decisiones individuales
  3. Revista Científica Salud Uninorte, Vol 33, No 2 (2017)
  4. المصدر السابق
  5. Pobres, gordos y malnutridos
  6. Ricos flacos, pobres gordos
  7. الطعام الرديء: القاتل الصامت لفقراء العاملين في مصر
  8. Ricos flacos, pobres gordos
  9. ¿Por qué las personas pobres están más obesas?
  10. No te culpes por estar gordo: la causa de la obesidad es la pobreza, no las decisiones individuales
  11. المصدر السابق
المصدر : الجزيرة