شعار قسم ميدان

أندريس إنييستا.. الرسام الذي لم تكتمل لوحته

midan - إنيستا

حداد متوقع ومفهوم تمتد أطرافه من كتالونيا إلى كل بقاع العالم، حزن يخيِّم أينما وجد مَن يُشجِّع برشلونة، بل وربما من يشجع كرة القدم بحد ذاتها. حتى مشجعي أعتى الخصوم ريال مدريد، لا تستغرب إن وجدت منهم من يشارك الكتلان كآبة اللحظات الحالية، ففي مثل تلك الأوقات يتضاءل العداء، تهدأ وتيرة الشحن ولا يبقى سوى ذكريات التنافس الشريف، حين لا يعلو صوت فوق صوت الاحترام.

  

حالة من تلك الحالات الفريدة في تاريخ اللعبة الشعبية الأولى في العالم، أن تجد لاعبا بقميص البلوغرانا ينال التصفيق في ملعب سانتياغو بيرنابيو معقل الغريم الملكي، ثم يعرج على "كورنيلا إل برات" عقر ديار العدو المحلي إسبانيول فلا يطاله السباب، رجل احترم الجميع فاحترموه، أحب الكرة فعشقته جماهيرها.

  

اليوم يُسدل الستار على أحد أواخر الفصول من حكايات جنونية بدأت منذ قرابة ربع قرن، بترجُّل فارس آخر من جيل كتالونيا التاريخي، والذي لم يبقَ منه سوى 3 آخرين اجتازوا الثلاثين من العمر بدورهم، كل شيء أضحى مسألة وقت، فالزمن الذي أتى إلينا بيوم وداع بويول وفالديس وتشافي، لن ترحم أسنانه بوسكيتس ولا بيكيه ولا ميسي، بعد أن انتهت لتوها من أندريس إنييستا.

 

"هم من جعلوني شخصا أفضل بجانب الجماهير التي منحتني حبها، والديَّ وأختي، منذ 22 عاما أتينا هنا في سيارة والآن هم معي هنا مرة أخرى" (1)

(إنييستا في مؤتمره الصحفي الأخير)

 

الزمان: 1984-1996. المكان: فوينتيالبيا، إحدى القرى الصغيرة بمقاطعة ألباسيتي الإسبانية. فيها وُلد الرسام الصغير، وفيها تحسس خطواته الأولى في عالم كرة القدم، منها انضم إلى أكاديمية ألباسيتي، وكم كان لحظ برشلونة السعيد أبلغ الأثر فيما حدث لاحقا. مصادفة أن يكون الراحل إنريكي أوريزاولا مدرب شباب البارسا في ذاك الوقت صديقا للعائلة، وأن ينصح والديه بإرسال طفلهم إلى "لاماسيا"(2)، البيت الريفي المسؤول عن تنشئة صغار الكتلان.

 

ربما لم يدرك أوريزاولا مدى قيمة نصيحته على المدى البعيد، ربما أدرك أنها ستكون قيِّمة ولكن هل تخيَّل أنها ستكون بتلك القيمة؟ خرج الطفل أندريس في عمر 12 عاما من قريته التي لا يجتاز تعداد سكانها الألفي نسمة إلى عالم جديد. "بكى أنهارا" لحظة فراقه عن عائلته، افتقدهم كثيرا لدرجة أنه كان ينام في سرير أبويه كلما ارتحلوا إلى كتالونيا لزيارته، بل يتذكر أحد الصحفيين المحليين أنه تم تحذيره بألا يسأل أندريس عن عائلته، كونه عرضة للبكاء في أي لحظة.(3)

 

"أريد فقط أن أشكره، لقد ساعدني على فهم اللعبة بشكل أفضل، فقط بمراقبته ومشاهدة ما كان يفعله على أرض الملعب"(4)

(بيب غوارديولا عن إنييستا بعد إعلانه الرحيل عن برشلونة)

   

(بيب غوارديولا -لاعب وسط برشلونة آنذاك- يُسلم كأس البطولة للناشئ الخجول إنييستا ابن الخامسة عشر)
(بيب غوارديولا -لاعب وسط برشلونة آنذاك- يُسلم كأس البطولة للناشئ الخجول إنييستا ابن الخامسة عشر)

    

6 أعوام في صفوف ناشئي برشلونة، قضاها يصقل تلك الموهبة الساحرة التي ستحكم وسط العالم فيما بعد، عام 1999 تقع عليه أعين خبيرة أخرى، تنتمي إلى جوسيب غوارديولا نجم وسط الفريق ومدرب جيله الأسطوري لاحقا. في تلك الآونة كان تشافي هيرنانديز شريك الحكاية الأبدي قد حزم حقائبه وانتقل إلى غرف ملابس الكبار. الكل كان ينظر إلى زرقاء اليمامة باعتباره خليفة غوارديولا، ولكن كان للأخير نظرة أبعد بعض الشيء.

 

جلس تشافي رفقة بيب يتابعان معا ما يقدمه أندريس في الخامسة عشر من عمره بكأس نايك، وهنا التفت بيب نحوه ليخبره بنبوءته الشهيرة: "أنت ستجعلني أعتزل، ولكن هذا الفتى سيجعلنا نعتزل".(5) ترك بيب موقعه لتشافي وعاد بعد 9 سنوات من تلك الكلمات، ليصبح العقل المُدبِّر لتلك الشراكة الأسطورية في خط الوسط..

 

"تسلَّم، مرر، وفِّر المساحة، تسلَّم، مرر، وفِّر المساحة"(6)

(إنييستا يتذكر كيف تعلَّم الكرة في لاماسيا)

   

(مباراة إنييستا الأولى مع الفريق الأول لبرشلونة)

 

29 أكتوبر/تشرين الأول 2002، حين تم تصعيد الرسام للفريق الأول على يد المدرب الهولندي لويس فان خال، الرجل الذي منحه أولى المباريات بقميص النادي الكتالوني في دوري أبطال أوروبا ضد كلوب بروج البلجيكي. يمكنكم مشاهدة ابن الثامنة عشر آنذاك وهو يركض بالقميص رقم 34 خلف الأرجنتيني خوان رومان ريكيلمي احتفالا بهدف المباراة الوحيد.

 

تتسارع الأحداث ويجد اللاعب الشاب طريقه خطوة تلو الأخرى مع هولندي آخر هو فرانك ريكارد، يتوَّج برشلونة بلقب الدوري الأول في مسيرة أندريس موسم 2004-2005 وبرقم قياسي شخصي: أكثر من شارك في مباريات الليغا بـ 37 مباراة من أصل 38، منها 25 مباراة اقتحمهم من دكة الاحتياط، ليتحوَّل إنييستا إلى أشهر بديل في الكرة الإسبانية.

 

تستمر الوتيرة في التصاعد ببلوغ الفريق نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2006، للمرة الأولى منذ 12 عاما بلا أي ذكريات سوى خيبة 1994 الكبرى أمام ميلان. تشافي وإنييستا على دكة البدلاء، يشاهدان تقدُّم آرسنال المنقوص بهدف نظيف مع نهاية الشوط الأول. حسم ريكارد قراره بين شوطي المباراة ووضع ثقته في بديله المفضل، ليحل على حساب إدميلسون بحثا عن المزيد من السيطرة على وسط الملعب، تاركا تشافي وحده يُراقب نبوءة قائده السابق ومدربه التالي.

 

"مرحبا أيها المدرب، لا تقلق، سنفوز بكل شيء، نحن على الطريق الصحيح، فقط استمر بتلك الطريقة، اتفقنا؟ نحن نلعب بشكل رائع ونستمتع بالتدريبات، رجاء لا تغير أي شيء"(7)

(إنييستا لغوارديولا عقب مباراته الأولى كمدرب لبرشلونة في 2008)

 

كان برشلونة قد فاز بلقبين متتاليين لليغا ولقب دوري الأبطال الثاني في تاريخه، ظروف مواتية لمواصلة الانطلاق بلا رجعة، ولكن العكس كان الصحيح: عامان بلا ألقاب، تُضطر الإدارة إثرهما إلى إعلان الفراق بينها وبين مدربها ريكارد، وصولا إلى المنعطف الأخطر بتاريخ النادي. تتجه الأصوات لتعيين رجل برتغالي ناجح سبق له العمل بالنادي كمدرب مساعد، وخرج منه ليحقق دوري الأبطال مع بورتو ثم لقب البريميرليغ مرتين مع تشيلسي، قرار لا غُبار عليه من الناحية النظرية ولكن رجل واحد كان له رأي مغاير تماما.

 

تصدى يوهان كرويف أسطورة فكر النادي الكروي لتلك الخطوة، مرجحا اسم غوارديولا مدرب الفريق الثاني، وبالفعل أنصتت الإدارة وتم الإعلان عن تلك الخطوة الانتحارية. وسط تحفُّز إعلامي وجماهيري لإطلاق النظريات المُعدَّة سلفا، خسر بيب مباراته الأولى أمام فريق مثل نومانسيا في أسوأ بداية ممكنة للموسم، وأثناء انغلاقه على نفسه في مكتبه لمُراجعة الأمور والبحث عن موطن الخلل، فاجأه أندريس الصامت الخجول بتلك الكلمات.

 

كان بيب بحاجة ماسة إلى مثل تلك الكلمات، ولكنه لم يتوقعها أبدا من الطفل نفسه الذي سلمه الكأس قبلها بقرابة عقد من الزمان، وقبل أن يفيق من ذهوله أردف إنييستا عبارته بلفظ خارج، يهدف منه القول "نحن في حالة رائعة للغاية ونلعب بشكل عبقري"، ثم رحل. يمر الموسم وتنقلب الأحوال 180 درجة للأفضل، حتى وصل حلم الفوز بكل شيء إلى لحظة حرجة أخرى، وتماما كما مدَّ إنييستا يد العون لمدربه في البداية، مدَّ قدمه تلك المرة.

   

(هدف إنييستا الشهير في شباك تشيلسي)

  

"إنييستا غدارة، غدارة غدارة غدارة، غدارة غدارة غدارة، الله على غدر الكرة، الله على غدر الزمان، الله على غدر الدنيا، الله على غدر الأيام"

(عصام الشوالي، معلق الجزيرة الرياضية عن هدف إنييستا الحاسم في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا 2009)

 

برشلونة بطلا للسداسية التاريخية، منتخب إسبانيا بقيادة المدريدي فيسنتي ديل بوسكي يُصبغ بالصبغة الكتالونية، وكل فضل يعود في المقام الأول إلى تلك الثنائية الأسطورية، تشافي وإنييستا، يمضيان على خطى عام تاريخي آخر ولكن الحلم يتعطل في نصف نهائي الأبطال على يد إنتر ميلان جوزيه مورينيو، الرجل الذي رفضه كرويف يُشير إلى الجماهير، بل إلى كتالونيا بأكملها بأنهم -كما أخبر رئيسهم خوان لابورتا قبل عامين- قد ارتكبوا خطأ فظيعا(8)، ولكن تماما كما قال الرسام لبيب في توقيت مقارب: "لا تقلق، فقط استمر بهذه الطريقة".

 

يسير الركب الإسباني بكل ثقة نحو نهائي كأس العالم الذي لم يسبق لهم تحقيقه، الوضع يتأزم وإيكر كاسياس قائد المنتخب وريال مدريد يتصدى لانفرادين قاتلين من آريين روبن، يمر الوقت الإضافي وتُشير الساعة إلى الدقيقة 116، سيسك فابريغاس يفتك كرة ضالة من الدفاع الهولندي على حدود منطقة الجزاء، يُهديها لإنييستا، يتسلم الكرة التي ترتفع وتهبط مرة واحدة، وفي الثانية لا تلاقي إلا قدمه وشباك ستكلنبرغ! خلع أندريس قميصه في احتفال هيستيري لينال أغلى إنذار في حياته، ليس فداء للهدف الحاسم في نهائي المونديال، بل تحية للراحل داني خاركي قائد إسبانيول. لهذا لا يكنّ له "كورنيلا إل برات" المعروف بعنفه ضد لاعبي البلوغرانا إلا كل احترام.

   

(هدف إنييستا ولفتته تجاه خاركي، وتحية ملعب إسبانيول)

   

"سامحنا أندريس.. لم يكن مجرد لاعب بالنسبة لنا، بل كان اللاعب. تضحياته لأجل الفريق حرمته من تقدير فردي أفضل. من بين كل الغيابات عن قائمة الفائزين بالكرة الذهبية، هذا الغياب تحديدا مؤلم"(9)

(باسكال فيري، محرر فرانس فوتبول يعتذر لإنييستا عن عدم فوزه بالجائزة أبدا)

   

بالسرعة نفسها عاد جيل برشلونة التاريخي محطما كل ما وجد في طريقه، نقل مورينيو التحدي إلى عقر ديار الإسبان بتوليه لقيادة ريال مدريد فرحبوا به بخماسية ثم إقصاء من نصف نهائي دوري الأبطال، اختطف جوزيه كأس الملك من بين براثن هذا الفريق، وكان لمشهد الاحتفال أبلغ التأكيد على مدى ما وصل إليه البارسا في ذاك الوقت. استمر السجال، فنال مورينيو لقب الليغا بمواجهة مباشرة حاسمة. بعناد عظيم من جانب الكرة أمام تشيلسي، انتهى زمن غوارديولا في عاصمة المقاطعة الانفصالية.

 

وقف الرسام على منصة الكرة الذهبية مرتين في 2010 و2012، حل في المرتبة الثانية والثالثة على الترتيب، مرة وراء زميله ليونيل ميسي وقبل رفيق دربه تشافي، ومرة وراء طرفي النزاع الأبدي ليو وكريستيانو رونالدو. يقول عنه سيرجيو راموس قائد الغريم الملكي: "لو كان اسمه (أندريسينيو) لفاز بالجائزة مرتين"(10)، بينما يرى هو الأمر بصورة مغايرة: "أعتقد أن الاحترام أهم من الكرة الذهبية، الكل يحب الجوائز ولكنها لا تغيِّر مَن أنا عليه"(11)

   undefined

  

بين هذا وذاك عاش إنييستا دوامة من المشاعر، 3 ألقاب ليغا والرابع في الطريق منذ 2012 وحتى الآن، مجد الأبطال في 2015 ونكسة بايرن في 2013 وجميع خيبات ربع النهائي اللاحقة، بكى في آخرها بملعب الأولمبيكو بعد أن فاض الكيل. أخلص لردائه الذي لن يكسوه غيره في أوروبا ولن يلعب ضده أبدا، وقف ليُشاهد تيار الزمن يجرف أبيدال ثم فالديس ثم بويول وأخيرا أقرب الرفاق، والآن حان دوره ليلحق بهم جميعا.

 

خلع تشافي تلك الشارة ليسلمها إلى أندريس، والآن يخلعها أندريس ويزين بها ذراع ليونيل، انتهت الحكاية؟ نعم، انتهت، ولكن بعض الأسئلة لن تُمحى من الذاكرة بسهولة. هل كان الرجل يستحق من الكرة تقديرا فرديا أكبر مما ناله؟ هل كان يستحق المزيد من الإنصاف الجماعي رغم حصده بالفعل لـ 34 بطولة قبل احتساب دوري هذا الموسم المنتظر؟ هل رحل الفتى المولع بالتمرير والتسلم وخلق المساحة، المُخلص لأفكار كرويف وأساليب غوارديولا، وهو راضٍ عن الكرة التي يقدمها ناديه الآن؟

 

كنا نعلَم أن هذا اليوم قادم لا محالة، حصَلنا على ما يكفي من التمهيد هذا الموسم تحديدا، ورغم ذلك لم ينَل شيئا من مقدار الحزن ولو أقل القليل. خرج الرسام لأنه لم يُرد أبدا أن يأتي يوم يصبح فيه عالة على الفريق، خرج دون أن يُجيبنا أحد، كلوحة غير مكتملة على صخب تفاصيلها وهدوء مبدعها الخجول. فالوداع الآن أندريس، نأمل أن تُسعدك الكرة في رحلتك القادمة كما أسعدت عشاقها وعشاقك لأعوام وأعوام.