ملاكمة الإرهاب.. هل انتصر بيا ديالّو؟
بالطبع يخيم التوتر والتحفز على المشهد، ربما لأن المباراة ليست بهذه التقليدية، "مُوي" لم يعد ذلك الملاكم الواعد الذي يلقب بـ"سكر" Sugar، ولم يعد أهم ما يميزه هو نحوله الشديد، وخطافيّاته المباغتة، والعصبية المميزة لحليقي الرأس. الآن يقف رجل مختلف تمامًا؛ طال شعره ولحيته، يرتدي معطف الجيش الأخضر المميز لمقاتلي داعش، ويمسك برأسين قُطعا لتوهما من فوق أكتاف "الكفرة" ومازال الدم يقطر منهما، وبالطبع لم يفته أن يحضر سلاحه المفضل للمعركة؛ الكلاشنكوف.
تجاوز "ديالّو" لحظات الرهبة الأولى، لأنه -ورغم هيبة المشهد وبشاعته-؛ يفهم ماذا دفع "مُوي" لهذا المصير، ويدرك أنه كان قريبًا من مصير مشابه بعد تعرضه في مراهقته لواقعة اعتداء من بعض المتعصبين في فرنسا انتهت بفقدان أحد أصدقائه لعينه، ويدرك كم سيطرت الكراهية والرغبة في الانتقام عليه آنذاك، وأنه كان قاب قوسين أو أدنى من التحول لـ"مُوي" آخر، فقط لو كان وقع في يدي فايز محمد آخر.
المفارقة أن الحلبة شهدت تواجد فايز محمد آخر بالفعل؛ متخذًا مكانه خلف ديالّو، أو النسخة الأحدث من فايز محمد للدقة، التي اعتزلت التحريض على القتل والكراهية، وكرست حياتها لتوعية الشباب بمخاطر النسخة القديمة، بجانبها يقف ممدوح العُمر أبو "مُوي"، الذي لم يعد يستطيع التعرف على أبنائه أو أخيه وسط كل هذا، يُطمئن ديالّو ويؤازره، وبشكل ما بدت صحبة "ديالّو" أكثر مهابة رغم أنها لم تحمل أية رشاشات أو رؤوس متدلية.
الشيء الوحيد المشترك بين الحضور كان الذكريات السيئة، كل ما كان يشغل رأس "مُوي" هو معاركه السابقة مع العنصريين الذين تعج بهم رياضة كتلك، كيف ألقي القبض على أخيه في لبنان بتهمة التواصل مع خلية إرهابية، واستدعاء زوجته للمحاكمة بتهمة التواصل معه وتمويله، كيف حرموه من حزام اللقب بعد تتويجه، وكيف أخبره الشيخ فايز بأن هناك نوعًا واحدًا -فقط- من الأحزمة يستحقه هذا العالم، وكيف يقف أمامه الآن متظاهرًا بالندم على كل ذلك، سيأتي دور الشيخ فايز بعد أن يحطم ديالّو ويقتلع رأسه من مكانها، هذا أكيد، الخداع ليس من شيم المجاهدين.
الشيخ فايز يتذكر تلك الأيام بالطبع، النشوة التي منحتها له قدرته على التأثير على كل هؤلاء الشباب، كيف كان يتفنن في مخاطبة غرائزهم ونزواتهم البدائية الحيوانية، كيف كان يحدثهم عن الحور العين التي لا يفصلهم عنها إلا المزيد من الدماء؛ مستغلًا هوس المراهقين التقليدي بثنائية الجنس والعنف، كيف استغل نفاذ صبرهم في الوعد بانتصارات سريعة، وجنة من الرؤوس المقطوعة، وسبايا الجهاد؛ الشيخ فايز كان محترفًا، كانت تلك لعبته وكان يجيدها لدرجة أخافته أحيانًا.
وبقدر تناقض نسختي الشيخ فايز كان التناقض بين طرفي النزاع؛ كل ما توحي به النظرة الأولى خاطئ. "مُوي" ليس بالقوة التي يدعيها، و"ديالّو" ليس بالضعف الذي يبدو عليه، الأول يُعزي نفسه بأنه اختار الطريق الصعب، والطريق الصعب لا يمكن أن يكون إلا طريق الحق؛ بينما في اللحظة التي يظن فيها أنه أحكم سيطرته على كل شيء، مزهوًا بما حصده من رؤوس، يكون قد استسلم تمامًا لأسهل طريق ممكن؛ طريق الفردية والأنانية والاستغراق في الذات والانتقام لأجلها، قطع الرؤوس لم يجعل العالم مكانًا أفضل، لم يُزل الظلم الذي عاناه "مُوي" إن كان قد عانى ظلمًا حقًا، ولن تُزله ألف رأس أخرى؛ لأن "مُوي" لم يسع لمحو الظلم قط، كل ما سعى له "مُوي" هو "مُوي" نفسه، رغباته وجوارحه ونزواته في صورتها الخام الأولى، هو يعلم ذلك وكذلك الشيخ فايز بنسختيه؛ لكنه بالجبن الذي يجعله يتخفى خلف شعارات فارغة ليحقق ما يريد.
"في هذه الأيام يتم دفع أولادنا دفعًا تجاه أحد طرفي العصا، إما المجون والمخدرات أو التطرف والإرهاب."
"أنا لم أعلم أولادي أن يكرهوا غير المسلمين، أنا أعلم ديني جيدًا وهذا ليس هو، لقد علمتهم أن يحبوا الجميع."
عبارات ممدوح العمر التي أدلى بها لإحدى الصحف في 2007، تتردد في رأسه وهو يرى ابنه وأخيه على الجهة المقابلة، لم يفقد الأمل بعد، لطالما ساورته الشكوك حول ذنبه فيما حدث لولديه؛ لكنه يقول لنفسه إنه ما زال هناك أمل في العودة؛ في إيقاف الدمار والقتل على الأقل، يعلم ذلك؛ لأنه يقف اليوم بجانب الشيخ فايز في جانب واحد من المعركة، وهو الرجل الذي كان على استعداد لقتله بعد أن سلبه ولديه.
شيء واحد لا تساوره الشكوك حوله؛ الصراع لم يكن بين طرفي العصا أبدًا؛ بل بين طرفها ومنتصفها؛ "ديالّو" ليس نقيض "مُوي" ولن يكون، في الواقع "ديالّو" يحمل القليل من "مُوي" بين جنباته، قليلًا من الظلم والعنصرية، الجميع يتعرض للظلم عاجلًا أو آجلًا؛ لكن كرام النفس -فقط- هم من يسعون لتجنيب الآخرين وقعه عليهم، قديمًا قال "مارتن لوثر كينج" إن الظلم في أي مكان تهديد للعدل في كل مكان؛ من هنا قرر "مُوي" أن يكون مجرد نتيجة للتفاعل دون أي إرادة أو حرية، أن يكون التهديد للعدل في كل مكان، ومن هنا كذلك قرر "ديالّو" أن يجابه هذا التهديد، الظلم دائمًا ما يضعك في هذا الاختيار؛ إما أن تكون مجرد وعاء لتمريره لغيرك، أو تمتصه لتحمي الآخرين منه.
ربما لهذا السبب كان "ديالّو" الوحيد الذي تمكن من صنع ذكريات جديدة مبهجة، عن شباب نجح في تحويل طاقات العنف بداخلهم للرياضة، وأوجد متنفسًا شرعيًا لإحباطاتهم وشعورهم بالتهميش وضياع الهدف والغاية، وأراهم أنه بإمكانهم التحول لأبطال دون دماء، وأن هناك طرق أخرى ليعيشوا حياتهم دون الحاجة لسلب حياة الآخرين.
صالة "ديالّو" الرياضية قربته من دوائر صناعة الإرهاب في بلجيكا، واحتكاكه بهؤلاء جعله يدرك التحديات التي تواجهها الجاليات العربية والمسلمة هناك، فبعض الصالات تتخصص في تدريب المهاجرين ليتحولوا للمزيد من "مُوي" ثم يعيدوا شحنهم لركنه من الحلبة، مستوى آخر للصراع يدور في رأس "ديالّو" قبل جرس البداية، دائرة مفرغة يحاول كسرها، خصمه في الركن المقابل ينشر الرعب صانعًا المزيد من المهاجرين كل يوم، ليتلقاهم هو عند الطرف الآخر من العالم؛ محاولًا ضمهم لجانبه من الحلبة.
البعض قد يقول إن "ديالّو" حسم المواجهة بالفعل قبل بدايتها، ويكفيه انضمام الشيخ فايز وأبي "مُوي" لصفه، والبعض قد يقول إن كل هذا هراء في وجود كلاشنكوف واحد قادر على إنهاء أي صراع.
الحقيقة المطلقة الوحيدة في كل هذا أن التطرف ذاتي التدمير؛ لأنه ليس إلا متتالية لا نهائية من المزايدات في جوهره، تسعى خلف فكرة النقاء الإيماني العنصرية بدورها؛ عاجلًا أو آجلًا سيأكل طرف العصا نفسه بنفسه، ولحسن حظنا أن "ديالّو" يقف في منتصفها.