شعار قسم ميدان

"لم يكن من المفترض أن يحدث ذلك".. كيف أثبت جيمس ويب خطأ اعتقادات العلماء حول فجر الكون؟

مقدمة الترجمة

تُعَدُّ المجرة، بدرجة شديدة التبسيط، تجمُّعا لمليارات النجوم التي تدور حول مركز واحد، وتتبدى في الفضاء على هيئة جزر متناثرة وحيدة في بعض الأحيان، أو في صورة مجموعات في أحيان أخرى، هذه المجرات تُمثِّل وحدات تشكيل هذا الكون مثلما تُمثِّل الخلايا وحدات الجسد البشري. ولأهمية هذا الموضوع، لطالما انشغل العلماء بتاريخ هذه المجرات -الذي يبدأ من فترة الفجر الكوني الممتدة من نحو 50 مليون سنة إلى نحو مليار سنة بعد الانفجار العظيم- مفترضين أن المجرات في ذلك الوقت بدأت صغيرة، وغارقة في حالة من الضعف والخفوت، ثم تلاحمت معا لبناء مجرات أكبر فأكبر.

لكن ما أفضت به الأرصاد الجديدة لتلسكوب جيمس ويب مؤخرا باغت العلماء وجعلهم في حيرة من أمرهم، فقد بدت المجرات القديمة التي رصدها ويب غاية في الضخامة والسطوع ولم تكن صغيرة أو ضعيفة كما اعتقدوا. يبدو أن الكون إذن اتبع نهجا جريئا وصاخبا بدرجة مذهلة، وطمس بأقدامه أكثر نظريات علماء الفلك صلابة ورسوخا حول أصوله وتركيبه، فما الذي حدث بالضبط؟

نص الترجمة

لطالما حاول البشر إسباغ معنى على النجوم التي تزين السماء، ومع ذلك استغرق الأمر وقتا طويلا حتى فهمنا مؤخرا أن حشدا كاملا منها هو الذي يُشكِّل المجرات التي تشق طريقها في أعماق الفضاء. كان بوسعنا إذا نظرنا إلى السماء وهي مُتجلِّية في صفاء أن نرى بأعيننا المجردة بعض المجرات القريبة منا على غرار مجرة أندروميدا (Andromeda) المعروفة بـ"المرأة المسلسلة"، وهي تتبدى كبقعة داكنة في سماء الليل، على عكس هياكل المجرات الأخرى المتلألئة التي لم نعرفها إلا بعد اختراع التلسكوب في القرن السابع عشر. حينذاك، احتدم الجدال بين العلماء حول طبيعة هذه المجرات ليتساءلوا: هل كانت هذه المجرات غيوما من الغبار الكوني في مجرتنا درب التبانة؟ أم أنها جزر كونية معزولة في عوالمها الخاصة بعيدة عن مجرتنا؟

واصل هابل سعيه متلمسا طريقه في الفضاء ليرصد لنا في النهاية آلاف المجرات التي تلمع على هيئة جزر كونية سابحة في بحر كوني شاسع. (شترستوك)

حتى عشرينيات القرن الماضي، لم تكن البشرية مدركة أن هذه الغيوم المتوهجة عبارة عن مجرات منفصلة عنا إلى أن جاء عالِم الفلك إدوين هابل (معتمدا على عمل عالِمة الفلك الأميركية التي كانت حينذاك أقل شهرة منه "هنريتا ليفيت") ليكتشف أن بعض النجوم لاحت لنا بعيدة جدا لدرجة يستحيل معها أن تنتمي إلى مجرتنا درب التبانة. وبحلول منتصف التسعينيات، انطلق تلسكوب فضائي يُدعى "هابل" لمسافات بعيدة ليسبر أغوارا لم يسبق لأي تلسكوب قبله أن توصل إليها. واصل هابل سعيه متلمسا طريقه في الفضاء ليرصد لنا في النهاية آلاف المجرات التي تلمع على هيئة جزر كونية سابحة في بحر كوني شاسع.

بعد الصور التي نقلها لنا هابل، بات علماء الفلك واثقين تماما من فهمهم للمجرات وكيفية تَشكُّلها، غير أن بعض التطورات الجديدة المذهلة بدأت تفرض نفسها على الساحة مؤخرا بفضل تلسكوب فضائي أقوى بكثير من تلسكوب هابل، وهو "جيمس ويب" الذي ما زال يعمل بكامل طاقته منذ الصيف الماضي. أظهر ويب أن المجرات تَشكَّلت في وقت أبكر بكثير مما اعتقد علماء الفلك سابقا، وتبين أن بعضها بدا أضخمَ بصورة غير متوقعة وزاخرا بالنجوم. (بمعنى أن هذه المجرات لم تكن حينذاك صغيرة أو شابة كما اعتقد العلماء، بل بدت ناضجة تماما كمجرتنا حاليا في الوقت الذي كان من المفترض فيه أنه فجر الكون). آنس العلماء رياحا جديدة تهب على جوهم المستقِر لترمي بهم في واقع جديد لا يمكن فيه تطبيق نظرياتهم الحالية.

أدرك جميع مَن في الأوساط الفلكية أن تلسكوب ويب سيُفضي إلى نتائج ثورية. وعن ذلك يقول عالم الفلك جويل ليجا من جامعة ولاية بنسلفانيا: "كانت لدينا قائمة واضحة للغاية بالأشياء التي اعتقدنا أن ويب سيُذهلنا بها تماما، لكنه أسفر عن أشياء لم تجرِ من قبل في خاطرنا، كاكتشافه تلك المجرات الكونية المُتخمة بالنجوم في الوقت الذي لم يكن من المفترض فيه أن تظهر أيٌّ من هذه المجرات على هذا النحو. بدت الفكرة حينها بعيدة للغاية لدرجة أن أحدا لم يفكر في البحث عنها".

التلسكوب كآلة زمن

في الأسابيع الأولى من إطلاق جيمس ويب إلى الفضاء، تسابق علماء الفلك للعثور على أبعد المجرات في الكون. وفي أثناء ذلك، مضت النتائج تُوغل في الغرابة. (شترستوك)

إن أدوات الفضاء على غرار تلسكوب هابل وجيمس ويب أشبه بآلات الزمن، فعندما تُلقي تلك المراصد الفضائية بنظرة إلى أعماق الكون، فإن ضوء النجوم الذي تستقبله وتنعم به هو الضوء الذي ترك مصدره منذ دهور مضت، وانطلق يشق طريقه في الفضاء منذ ذلك الحين متجها نحونا (ما يعني أن شكل النجوم والمجرات التي رصدتها التلسكوبات وباتت بحوزتنا الآن هو شكلها منذ دهور مضت وليس شكلها الحالي). ولكي نفهم بداية الكون، ينبغي لعلماء الفلك البحث عن أبعد المجرات في الكون، فقبل اختراع جيمس ويب مثلا، اعتقد العلماء أن تلك المجرات المُبكرة البعيدة سارت بوتيرة بطيئة إلى أن تشكَّلت عن طريق انهيار سُحب غاز الهيدروجين على نفسها لتنفجر مُحدثة اشتعالا غاية في القوة، فتشكَّلت إثر ذلك النجوم، ثم بدأت الجاذبية بعد ذلك في تجميع الأجرام السماوية القديمة معا لتشكيل المجرات.

كان من المفترض لكل هذه المواد المتباينة أن تستغرق ما لا يقل عن مليار سنة لكي تتجمع في محيط كوني ضخم وتُشكِّل المجرات، لكن ما غفل عنه العلماء في ذلك الوقت أن أبعد مجرة سبق ورصدها تلسكوب هابل كانت بالتأكيد ساطعة للغاية بالنسبة للظروف الكونية حينها، ما يشير إلى وجود مجموعة من النجوم أضخم بكثير من المتوقع، غير أن علماء الفلك لم يعيروا هذه المسألة انتباها كبيرا (معتقدين أن هذه المجرات الساطعة لا يمكن أن تكون المجرات الأولى في الكون). وتوقعوا بدلا من ذلك أن التلسكوب ويب، برؤيته فائقة القوة بالأشعة تحت الحمراء، هو مَن سيكشف عن المجرات الأولى التي توقعوها ولم يتمكَّن هابل من رصدها.

في الأسابيع الأولى من إطلاق جيمس ويب إلى الفضاء، تسابق علماء الفلك للعثور على أبعد المجرات في الكون. وفي أثناء ذلك، مضت النتائج تُوغل في الغرابة، ولبث العلماء بين هذه النتائج حائرين متسائلين عما إذا كانت البيانات خاطئة بالفعل، لأن المجرات القديمة التي رصدها ويب بدت غاية في الضخامة والسطوع. وسرعان ما أثبتت النتائج أن الكون المبكر اتبع -بطريقة ما- نهجا جريئا، صاخبا وساطعا، بدرجة مذهلة.

مجرات مدهشة

شارك عالم الفلك جويل ليجا في نشر دراسة جديدة في فبراير/شباط الماضي (2023) تشير إلى وجود ست مجرات ضخمة تشكَّلت على الأرجح في الفترة بين 500-700 مليون سنة بعد الانفجار العظيم، وقد تبلغ كتلة إحدى هذه المجرات ضِعْف كتلة شمسنا بمئة مليار مرة، وعن هذا يقول معلِّقا: "إن الأجسام التي نعثر عليها تفوق في ضخامتها مجرة درب التبانة، وهو ما يُعَدُّ أمرا مذهلا". تحتوي مجرتنا بالمثل على مليارات النجوم التي قد تُضاهي تقريبا عدد النجوم الموجودة في هذه المجرات الضخمة المبكرة، لكن الفرق هنا أن مجرتنا استغرقت نحو 13 مليار سنة لتصل إلى حجمها الحالي.

يبدو لوهلة أن هذا الواقع الجديد يُهدد طريقة العلماء الأساسية في فهم الكون بأسره، ومن هنا يأتي السؤال الأهم: "إذا بدت نقطة بداية الكون على هذا النحو، فهل يمكن للنموذج القياسي لعلم الكونيات -الذي يُعَدُّ أكثر نظرياتنا صلابة ورسوخا حول أصول الكون وتركيبه- أن يكون خاطئا؟". مع هذا التساؤل، يعتقد علماء الفلك حاليا أن النظرية ما زالت قادرة على استيعاب مفاجآت التلسكوب الجديد، إذ أظهرتْ عمليات المحاكاة الحاسوبية الحديثة التي استرشدتْ بالنموذج القياسي أن ثمة احتمالية لقدرة الكون بالفعل على تكوين مثل هذه المجرات المبكرة التي عثر عليها ويب. تعليقا على ذلك، يقول ليجا: "في الوقت الذي تبدو فيه البيانات غير مُتسِقة مع النماذج الكونية، يراودني شعور بأن ما سنواجهه من أزمات لن يكون متعلِّقا بعلم الكونيات، وإنما بالطريقة التي نتبنَّاها حقا في فهمنا لكيفية تشكُّل المجرات".

تلسكوب "جيمس ويب" قادر على اختراق السحب الغبارية في سديم الجبار (الفرنسية)

تعود التفسيرات المحتملة للكيفية التي أخطأ بها علماء الفلك في فهم المجرات المبكرة إلى أسباب عدة، منها أن النجوم الأولى ربما تشكَّلت بكفاءة أكبر بكثير مما كنا نعتقد عن طريق آليات لم يفكر فيها العلماء من قبل. ومن جانبها، تتساءل أليسون كيركباتريك، عالِمة الفلك في جامعة كانساس الأميركية التي تدرس تطور المجرات، عما إذا كان الغبار الكوني في هذه المجرات قد خدع ويب وأضفى على النجوم هالة معينة لتبدو أقدم مما هي عليه في الواقع، أو لعل الغبار الكوني حينذاك كان مختلفا تماما.

على الجانب الآخر، يعتقد إيفو لابي، عالِم الفلك بجامعة سوينبرن للتكنولوجيا في أستراليا، أن الثقوب السوداء ربما أدت هي الأخرى دورا في لمعان المجرات المبكرة، لأنها تغدو أحد أكثر الأجسام سطوعا عندما تتغذى على المادة الكونية التي تتوهج بمجرد أن تمتصها الثقوب السوداء. وعن ذلك يقول لابي: "إذا ألقيت الكثير من الغاز في ثقب أسود، فسيبدأ الأخير في اللمعان بشدة لدرجة قد يفوق لمعانه المجرة بأكملها، لهذا قد تبدو المجرات المبكرة مشرقة وزاخرة بالنجوم". لكنَّ أيًّا من هذه الاحتمالات لن يُبطل حقيقة أن الجزر الكونية الأولى لم تكن كما توقعنا. ولتأكيد ذلك تقول كيركباتريك: "حتى مع مراعاة بعض الظواهر الجديدة والغريبة، بدا كل شيء موغِلا في الضخامة في وقت مبكر جدا من عمر الكون".

يعتقد إيفو لابي، عالِم الفلك بجامعة سوينبرن للتكنولوجيا في أستراليا، أن الثقوب السوداء ربما أدت هي الأخرى دورا في لمعان المجرات المبكرة. (شترستوك)

ستتطلب دراسة هذه المسائل مزيدا من الملاحظات المُجمعة من تلسكوب جيمس ويب، وبالأخص تلك الملاحظات التي قد يتمخض عنها قياسات أكثر تفصيلا لضوء النجوم، والمعروفة باسم التحليل الطيفي (تساعد هذه التقنية العلماء على تحديد كيمياء الجرم السماوي الذي انطلق منه هذا الضوء).

لكي يضع العلماء لاضطرابهم هذا نهاية، فإنهم في حاجة إلى تحليل مزيد من البيانات للتأكد من أن تلك المجرات التي اكتشفوها وتتسم بطابع شديد الغرابة تعكس السمات الحقيقية التي انطوت عليها المجرات في ذلك الوقت. وإذا أيقنوا أنها كانت قديمة وكبيرة كما تبدو، فإن فهم تركيبها سيساعدهم على معرفة الظروف التي تشكَّلت فيها. يبذل الباحثون حاليا مساعيهم لدراسة هذه النتائج، وفي انتظار بيانات طيفية جديدة من المتوقع أن تصدر هذا الربيع.

عالم جديد جريء

وفقا لهذه المستجدات المفاجئة، لا يعلم علماء الفلك والمنظِّرين -أولئك الذين يرصدون العجائب الكونية ويفسرونها- ما سينتظرهم بمجرد الانتهاء من تحليل البيانات. تقول رين سويس، عالِمة الفلك في جامعة كاليفورنيا بسانتا كروز وجامعة ستانفورد: "قد يستغرق الأمر ما يقرب من خمس سنوات حتى نستقر تماما في عالمنا الجديد الذي أزاح جيمس ويب الستار عنه". إن نظرنا إلى الموضوع من ناحية أخرى، فسنجد أن هذه الاكتشافات الجديدة أضفت بعض الدراما ومشاعر القلق على مجال كان مستقرا تماما.

في السياق ذاته، تقول إيريكا نيلسون، عالِمة الفلك بجامعة كولورادو بولدر بالولايات المتحدة: "إنه أمر مذهل! يكاد المرء لا يُصدِّق كيف بدا الكون أغرب بكثير مما اعتقدنا". لكن من ناحية أخرى، يمكننا متابعة ما يحدث باعتباره أمرا ممتعا فحسب! عندما تلقَّت عالِمة الفلك أليسون كيركباتريك سؤالا عما إذا كانت تشعر بالتوتر حيال الغموض واللايقين الذي تنطوي عليه مهنتها، قهقهت بمرح قائلة: "إنها بداية الكون! ومعرفة ما حدث في ذلك الوقت ليس بالخطر الذي قد يُنغِّص صفو حياتي، لذا من الممتع حقا التفكير في مثل هذه الأشياء".

بالتحدث مع علماء الفلك حول ما توصل إليه ويب حتى الآن، اتفق الجميع على عبارة واحدة ما انفكت تتردد على ألسنتهم: "لم يكن من المفترض حدوث ذلك". لم يكن من المفترض أن تتشكَّل المجرات على هذا النحو، ولم يكن من المفترض أن يتبدى الفجر الكوني بهذه الطريقة. على الجانب الآخر، يخامرني شعور بالمتعة كلما تأملت في هذه الاعتراضات التي تُلقي الضوء على بعض غطرسة البشر الذين تنطوي دواخلهم على نِيَّات حسنة، خاصة هؤلاء الذين يتملَّكهم فضول شديد حول كيفية عمل الأشياء، ولِمَ تعمل على هذا النحو. غير أن للكون بالطبع رأيا آخر، إذ يتواصل معنا عبر تلسكوب عملاق يطفو على بُعد مليون ميل من الأرض موجِّها حديثه إلينا: "هكذا تسير الأمور وفق هذا النسق". على ما يبدو أن هذا ما كان عليه حال الكون دائما، وكل ما نفعله الآن لا يتعدى كونه مجرد محاولات منا لاكتشاف عجائبه فقط.

_____________________________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير المترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة