شعار قسم ميدان

مُجرم أم بطل.. هكذا تحدَّث أوبنهايمر قبل 70 عاما

مقدمة الترجمة

قبل أيام قليلة، طُرِح فيلم "أوبنهايمر" من إخراج كريستوفر نولان في دور العرض، وانتظره كثيرون حول العالم، لا سيما المهتمين بتاريخ الحرب العالمية الثانية وبدايات الحرب الباردة، وتاريخ السلاح النووي والتجارب الذرية الأولى في روسيا والولايات المتحدة، وتاريخ الفيزياء في مرحلة هيمن فيها علماء كبار من أمثال ألبرت أينشتاين ونيلز بور وفرنر هايزنبِرغ، والمهتمين بدهاليز السياسة الأميركية التي نالت نصيب الأسد من الفيلم، بما في ذلك التحوُّل من التحالف مع الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب العالمية، إلى الخصومة معه طيلة الحرب الباردة.

لقد أظهر الفيلم تأرجُحا حيال روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي اللامع الذي أشرف على مشروع "لوس ألاموس"، حيث وُلِدت القنبلة النووية الأميركية التي أُلقيت في الأخير على مدينتَيْ هيروشيما وناغازاكي. فتارةً يظهر الرجل بوصفه مُتحرِّرا وخارجا على النص يريد تقييد استخدام السلاح النووي، ويتعاطف مع الشيوعيين الأميركيين قبل حملة مطاردتهم في العصر المكارثي الذي كان هو نفسه إحدى ضحاياه كما يُبيِّن الفيلم، وتارةً يظهر بوصفه المواطن الأميركي الوفي المُلتزِم بسياسة بلاده والحريص على عودة جنودها إلى وطنهم بأسرع ما يُمكن، والمُحتفي بإلقاء القنبلتين على اليابان والمتجاهل لآراء أنصار السلام الذين رفضوا من البداية المشاركة في المشروع.

تعدَّدت الآراء حول الفيلم بين مَن رآه تبييضا لجريمة واضحة لا لبس فيها، ومَن رآه عرضا موضوعيا لرجل تصدَّر لمهمة وطنية لن يتردَّد عالِم نابغ في أي بلد عن تقديمها لبلاده إن واتته الفرصة في ظل حرب بحجم الحرب العالمية الثانية. وبدلا من الغوص في تفاصيل تلك الآراء وما عرضه الفيلم، قد يكون من الجدير الاطلاع على بعض ما كتبه أوبنهايمر بنفسه عام 1953 في مقال طويل نُشر في مجلة "فورين أفيرز" التي يصدرها مجلس العلاقات الخارجية ونعرض هنا أجزاء مُهمة منه، وهو مقال كتبه الرجل لمجتمع صناع القرار الأميركي في مُستهل الحرب الباردة، ولذا يُمكن اعتباره توثيقا حقيقيا لموقفه في تلك اللحظة بوصفه مواطنا أميركيا وعالِم فيزياء ومسؤولا سابقا في البرنامج الذري، بعيدا عن إدانته أو تبرئته على المستوى الأخلاقي في أحداث الفيلم. كما أن المقال يُعَدُّ برهانا على ما امتلكه الرجل من بصيرة في تلك اللحظة، حيث تنبَّأ بتطوُّرات في سباق التسلُّح الذري حدثت بالفعل بعد سنوات طويلة، أبرزها تبلور التعاون بين واشنطن وموسكو لحظر انتشار السلاح، وتبادل المعلومات المفتوح بينهما.

 

روبرت أوبِّنهايمر، الفيزيائي اللامع الذي أشرف على مشروع "لوس ألاموس" حيث وُلِدت القنبلة النووية الأميركية التي ألقيت في الأخير على مدينتيْ هيروشيما وناغازاكي. (أسوشيتد برس)

نص الترجمة

لعل من المُمكن في ضوء تاريخنا البشري الطويل، إن كان ثمَّة تاريخ بشري سيُكتب بالفعل، أن تظهر القنبلة الذرية في صورة غير مختلفة كثيرا عمَّا ظهرت عليه في ضوء الانفجار الذري الأول. ويرجع ذلك في جزء منه إلى المزاج العام لتلك اللحظة، وفي جزء آخر إلى الانطباع الذي تركته القنبلة من أنها لم تكُن نهاية حرب كُبرى وبشعة فحسب، بل ونهاية أي حروب من هذا النوع للبشرية بأسرِها. بعد عامين من نهاية الحرب، كتب العقيد "ستيمسون" في مجلة فورين أفيرز أن "الذرة المُنشطِرة دون قيد لا يمكنها إلا أن تصبح مصدرَ ذعرٍ متناميا لنا جميعا، وأن السلام الدائم والحرية لا يمكن تحقيقهما حتى يجد العالم سبيلا إلى إدارة الذرة غير المُنشطِرة في المقام الأول".

بعد الحرب بوقت قصير، طرحت الولايات المتحدة بعض المقترحات المتواضعة للتعامل مع ملف الذرة بطريقة ودية ومنفتحة ومُتعاوِنة، لكنها ماتت منذ وقت طويل جدا كما توقع كثيرون، إذ إن الودية والانفتاح والتعاون ليست مبادئ تُقدِّرها الحكومة السوفياتية في هذا العالم. لم يكن صعبا علينا أن نطرح مُقترحات أقل وديَّة، لكننا لم نفعل لأسباب غنية عن الذكر، منها صعوبات التفاوض مع الاتحاد السوفياتي، والعراقيل الغريبة التي جسَّدتها "العدوانية" التلقائية والسرية الضاربة بجذورها في مؤسسات البلدان الشيوعية، علاوة على الصعوبات العادية والمعهودة في تطوير آليات لتنظيم التسليح في عالم لا يظهر فيه أفق التسوية السياسية.

عوضا عن ذلك، كان لزاما علينا التعامل مع الدلائل الكثيرة على "العدوانية السوفياتية"، والدلائل المتزايدة على القوة السوفاتية في الوقت نفسه، وكذلك مع الأوجه الحتمية والمأساوية للضعف والتشرذم والانقسام في صفوف ما نسميه العالم الحُر (أي الدول الغربية)*. في خضم كل ذلك، نُظِر إلى دور الذرة نظرة بسيطة، ومن ثمَّ كانت السياسة المنبثقة عنها بسيطة أيضا: لنبني دِرعا أساسه الذرة، وأساسه أيضا القوة الصناعية لأميركا، وأساسه كذلك الضعف السياسي والعسكري للاتحاد السوفياتي (وكان الجيش السوفياتي حينها خارجا لتوِّه من الحرب العالمية الثانية بعد معارك أشد وطأة واستنزاف أكبر بكثير من نظيره الأميركي، فكان قويا على المستوى الدولي، لكن ضعيفا نسبيا بالمقارنة مع واشنطن)*. لقد نصَّت القاعدة التي وضعناها بخصوص الذرة على الآتي: "دعونا نكن في مقدمة السباق، ودعونا نتأكد من أننا دائما نسبق عدوَّنا".

بيد أن هذه السياسات قد تبدو اليوم غير كافية، والسبب يمكن فهمه حين ننظر إلى طبيعة سباق التسلُّح، وحين نقارن النطاق الزمني للتطوُّرات الذرية في بلادنا وخارجها مع النطاق الزمني للتحوُّلات السياسية العميقة في العالم. هناك ثلاثة بلدان عزمت على دخول هذا السباق، هي بلادنا والاتحاد السوفياتي وبريطانيا. بالنسبة للسوفيات، فإنهم نفَّذوا ثلاثة انفجارات ذرية، ويُنتجون مواد انشطارية بكميات لا بأس بها، ولا يسعني هنا تقديم الدليل رغم أنني أرغب في ذلك. بيد أن ذلك قد يكون دليلا على ما تريدنا الحكومة السوفياية أن نعتقد، وليس دليلا على ما هو كائن بالفعل. يمكنني رغم ذلك أن أُبدي تخميناتي بخصوص موقع الاتحاد السوفياتي مقارنة بنا في مجال التسليح الذري. إنني أعتقد بأن السوفيات يتأخرون عنا بأربع سنوات، وأن نطاق عملياتهم أصغر مما كان عندنا بالفعل قبل أربع سنوات، أو نحو نِصفه تقريبا. يبدو ذلك مريحا لنا، وكأن مهمة أن نكون في مقدمة السباق قد تحقَّقت بالفعل، لكن يجب علينا أن نعرف عن ماهية ما يتأخرون فيه بالضبط، والسرعة التي يُمكن أن يتغيَّر بها الوضع.

على أعتاب عالم الذرة

يقول أوبنهايمر: لقد طوَّرنا القنبلة الذرية تحت وطأة الخوف من أن يصل إليها الألمان قبلنا، وناقشنا طويلا استخدام القنبلة ضد اليابان، وكان العقيد ستيمسون هو من بادر بتلك النقاشات وترأسها، حتى قررنا استخدام القنبلة في الأخير. (غيتي)

حين ضُرِبَت هيروشيما، فعلتها طائرة واحدة دون أي مقاومة جوية. لقد طِرنا على ارتفاع متوسط وبسرعة منخفضة فوق المدينة، وألقينا قنبلة واحدة بطاقة تعادل 15 ألف طن من المتفجرات. وقد قتلت القنبلة أكثر من 70 ألف شخص، وخلَّفت رقما مماثلا من الضحايا، ودمَّرت تقريبا مدينة متوسطة الحجم. لقد كان ذلك في بالنا منذ البداية، وقد قُلنا إن المسألة ليست مسألة قُنبلة واحدة، أو عشر قنابل، أو مئة قنبلة، أو حتى ألف قنبلة. لقد علمنا -أو ظننا لأسباب وجيهة جدا- أن المسألة ليست شدة التفجير وما يكافئه من ملايين الأطنان من المتفجرات، بل المسألة هي إمكانية تكييف ذلك السلاح، لا لإبطاء قاذفة قنابل متوسطة فحسب في مجال نمتلك فيه تفوُّقا جويا واضحا، بل ولابتكار وسائل قذف تلك الذخيرة الذرية بشكل أكثر مرونة وحداثة، بحيث تكون عرقلته أشد صعوبة، وبحيث يصبح مناسبا أكثر للمعارك القتالية التي قد نواجهها اليوم.

ما يسعني قوله هنا هو إنني لم أناقش تلك الاحتمالات بصراحة مع عالِم أو مسؤول، جنبا إلى جنب مع الحقائق المتعلقة بها، إلا وانتابه شعور كبير بالقلق والاكتئاب. إن أقل ما يمكننا استنتاجه اليوم هو أن حقيقة تأخُّر السوفيات عنا بأربع سنوات لا يُرجِّح أن يريحنا بحال، وأن الوصول إلى القنبلة الذرية رقم 20 ألفا يوما ما، رغم ما يُشكِّله من فائدة في ملء حاويات الذخيرة الهائلة لدينا، لن يعدل كفَّة ألفيْ قنبلة في حوزتهم بالمعنى الإستراتيجي العميق للكلمة. وكما أكَّد "جوردون دين"، رئيس مفوضية الطاقة الذرية الأميركية، سيأتي زمان يُصبح فيه فن إيصال الذخائر إلى أهدافها وفن الدفاع هما لُب الجدوى العسكرية أكثر بكثير من التفوُّق في الذخائر نفسها.

لقد طوَّرنا القنبلة الذرية تحت وطأة الخوف من أن يصل إليها الألمان قبلنا، وناقشنا طويلا استخدام القنبلة ضد اليابان، وكان العقيد ستيمسون هو مَن بادر بتلك النقاشات وترأسها، حتى قررنا استخدام القنبلة في الأخير. وقد اتخذنا قرار تعزيز مخزوننا وقوة سلاحنا، واحتفظنا منذ البداية بالحق في حرية استخدامه، ويعلم الجميع أننا نخطط لاستخدامه، كما يعلمون أن خطتنا هي الالتزام الصلب باستخدامه في تنفيذ هجوم إستراتيجي على عدو لنا. ثم إن هناك سِمات أخرى لسباق التسلُّح الذري. لقد فعلنا القليل لتأمين دفاعاتنا بوجه الذرة، بل وأقل بكثير بوجه المشكلة الصعبة والمأساوية بخصوص الدفاع عن حلفائنا في أوروبا، وهي مُشكلة غير هيِّنة.

إن السلاح الذري ليس إلا جزءا من ترسانة نأمل بأن تردع الحكومة السوفياتية، ومجرد وسيلة نظن أنها قد تُنهي أي حرب حالما تبدأ. ولعل القنبلة الإجراء العسكري الوحيد الذي يضعه الجميع في حسبانه للحيلولة دون وقوع معركة كبيرة في أوروبا تحوِّل القارة إلى نُسخة كبرى ومُفجِعة من كوريا (كانت الحرب الكورية قد بدأت للتو بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وهي حرب قسمت شبه الجزيرة إلى كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية حتى يومنا هذا)*. إن القنبلة الذرية هي الوسيلة العسكرية الوحيدة التي تُجبر الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على التواصل مع بعضهما بعضا.

هنالك أيضا أوجه غريبة لسباق التسلُّح الذري، فثمَّة جمود شديد على مستوى السياسة، مع تراكم سريع ومُخيف لذخيرة مُميتة عند الطرفين. حين نفكر في شروط الحديث عن المستقبل، لا أستغرب التشاؤم الذي يُبديه رجال كثيرون بعد النقاش حول الموضوع. هناك أمران يرغب الجميع في رؤيتهما، لكنَّ قليلين يعتقدون بأنهما سيحدثان قريبا: الأول هو الإصلاح الفوري للاتحاد السوفياتي أو انهياره الفوري، والثاني هو إدارة الذخائر الذرية بوصفها جزءا من تسوية سياسية مقبولة وكريمة ومُمكنة وإنسانية بالنسبة لنا.

بيد أن أيًّا من ذلك لا يبدو مُرجحا قريبا. إن أغلب الأميركيين وكل الأوروبيين تقريبا ينظرون إلى احتمالية اندلاع حرب في المستقبل القريب بوصفه كارثة، ولذا فإن التصوُّر الغالب هو أننا بصدد فترة طويلة من الحرب الباردة يبقى فيها معنا الصراع والتوتر والسلاح. وهُنا تكمُن المشكلة، إذ إن الساعة الذرية ستدُق أسرع وأسرع طوال تلك الفترة. بإمكاننا أن نتوقَّع وضعا تملك فيه كل قوى من القوتين العظميين القدرة على إفناء الحضارة والحياة عند عدوها، مع المخاطرة بإفناء الحضارة والحياة في عُقر دارها، وكأننا أشبه بعقربين في زُجاجة يملك كلٌّ منهما إمكانية قتل الآخر، لكن فقط إن خاطر بحياته هو.

هنالك ثلاثة أشياء حاسمة جدا يجب أن نتذكرها جيدا في هذا الصدد، وسيكون خطيرا أن ننسى أحدها: أولها "عدوانية" السوفيات وقوتهم، وثانيها ملمح الضعف في الحاجة إلى الوحدة وبعض الاستقرار والقوة المُسلَّحة عند أصدقائنا في العالم الحُر، وثالثها التهلكة الكامنة في الذرة.

الملف الذري.. الصراحة مع شعبنا وحلفائنا

يقول أوبنهايمر: معرفة خصائص سلاحنا الذري وتأثيراته المُحتملة وكمياته المتاحة والتغيُّرات التي قد تطرأ، ليس من الأمور التي ينبغي التكتُّم حولها، ولا تقديراتنا العامة لموقع العدو في سباق التسلُّح. (غيتي)

هنالك ثلاثة إصلاحات تبدو بديهية ومهمة وحتمية أود مناقشتها باختصار. أولها أن نتيح لأنفسنا في هذه الأوقات الحرِجة استخدام الموارد الكامنة في بلد مثل بلدنا ولدى حكومة مثل حكومتنا، وهو ما لا يحدث اليوم. وثانيها أن نتيح تلك الموارد لتحالف من الحكومات يربطها ميثاق واحد. وثالثها اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنُّب أو تخفيف أو تقليل المخاطر التي تحدَّثت عنها.

في البداية نحن بحاجة إلى الصراحة من جانب مسؤولي الحكومة الأميركية، مع غيرهم من المسؤولين، ومع نواب الكونغرس، ومع شعب بلادنا. إننا لا نعمل على الوجه الأمثل حين تكون الحقائق المهمة والظروف الضرورية التي تُقيِّد وتُحدِّد خياراتنا مجهولة لنا، ولا نعمل على الوجه الأمثل حين يعلم تلك الأمور قلة من الرجال تحفُّهم السرية والرهبة. إن ما قدمته هنا من تقييم عام لمسألة سباق التسلُّح الذري يمكن إيجاده بالطبع في الصحافة، مع قدر وافر من المعلومات المُفصَّلة بعضها صائب والكثير منها خاطئ.

إن حيوية بلادنا تنبع من أمرين: التفاعل بين مختلف الآراء والنقاشات التي تجري في عدد متنوِّع من المؤسسات التنفيذية والتشريعية، وتساهم في صناعة السياسات الأميركية، والرأي العام المبني على الثقة في علمه بالحقيقة، وهو رأي عام غير موجود حاليا فيما يتعلق بالملف الذري. صحيح أننا ما دمنا نعيش في خطر الحرب، فإن أسرارها من المهم أن تبقى سرية، على الأقل لبعض الوقت إن لم يكن للأبد، ومن تلك الأسرار وأهمها ما يتعلَّق بالطاقة الذرية؛ لكن معرفة خصائص سلاحنا الذري وتأثيراته المُحتملة وكمياته المتاحة والتغيُّرات التي قد تطرأ على أيٍّ من ذلك في الأعوام المُقبلة ليس من الأمور التي ينبغي التكتُّم حولها، ولا تقديراتنا العامة لموقع العدو في سباق التسلُّح.

لقد طُرِحَت حُجج كثيرة ضد طرح تلك المعلومات الأساسية للرأي العام، وبعضها كان وجيها في الماضي، مثل إمكانية حصول أعدائنا على معلومات حيوية. لكن رأيي الآن هو أن العدو يملك تلك المعلومات بالفعل، ورأيي أيضا هو أن معرفة العدو بتلك الحقائق الأساسية مفيد جدا للسلام العالمي، بل إن عدم معرفته بها خطير جدا. عموما، لا أعتقد أن بلدا مثل بلدنا يُمكن له أن يظل باقيا إذا ما كُنا خائفين من شعبنا. وفي خطوة أولى، نحتاج إلى الشجاعة والحكمة كي ننشر كل ما يحتاج العدو لمعرفته الآن، وأن نشرح ماهية سباق التسلُّح. حين نُطلِع الشعب الأميركي بمسؤولية على ما يجري، لا نكون قد حللنا المُعضلة التي نحن بصددها، لكننا على الأقل نكون قد امتلكنا حرية جديدة في مواجهتها.

بخصوص الوضع في الشرق الأقصى، يبدو مُقلقا أن واحدا من أسباب عدم استخدام السلاح الذري في كوريا هو أن حلفاءنا لا يُفضلون استخدامه هناك. ولسنا هنا بصدد مناقشة ما إذ كان استخدامه صوابا أم خطأ، ففي كلتا الحالتين يجب أن يتأسس قرارنا على أرضية صلبة أعمق من مجرد أن حكومات حلفائنا، التي تعلم أقل عن الملف الذري مما نعلم نحن، تخالفنا الرأي.

أخيرا، لا أعتقد بإمكانية اتخاذنا إجراءات للدفاع عن شعبنا وحياتنا ومؤسساتنا ومُدننا، بحيث تكون حلا أبديا لمشكلة الذرة، لكن هذا لا يعني التكاسل عن بذل جهود أكبر مما نفعل اليوم. إن الرأي السائد والمعروف حاليا ليس متفائلا. لقد قدَّر الفريق "فاندِنبِرغ" مؤخرا بأننا إن حالفنا الحظ فسنعترض من 20% إلى 30% من أي هجوم مُعادٍ لنا، ولا يبدو ذلك مُطمئنا. هناك تطوُّرات تقنية لم تُطبَّق في هذا المجال وقد تساعدنا، وهي التطوُّرات الطبيعية في مجال الذخيرة والطيران والصواريخ، وفي آليات الحصول على المعلومات وتحليلها. وفوق كل ذلك، هناك تحدي الاستخدام الفعَّال للمسافة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.

يعني كل ذلك أن التهديد ليس مُلِحا جدا، وهو أمر يُثبِّط الاتحاد السوفياتي عن استخدامه. ويعني أن الوقت الذي سيستغرقه الاتحاد السوفياتي كي يثق بقدرته على تدمير القوة الصناعية لبلادنا سيكون بعيدا نوعا ما. ويعني ذلك بالنسبة لحلفائنا، الأكثر عُرضة للخطر والذين لا يمكن الدفاع عنهم بالشكل الأمثل حاليا، أن حضور أميركا الفعلي والقوي سيبقى ضمانة صلبة تُقلِّص احتمالات نشوب الحرب في أوروبا.

إن تدشين نظام دفاع أكثر فاعلية سيكون ذا جدوى أكبر عندما يحين الوقت لنقاش جدي حول تنظيم الذخيرة الذرية. بحلول ذلك الوقت، سيكون هناك تراكم هائل لمواد السلاح الذري، وهامش مُقلق من عدم اليقين حيال تقييم أثره، وسيكون ذلك مُقلقا جدا إذا ما ظللنا نعيش في عالم تحفه الشكوك والعداوات والسرية مثل عالمنا اليوم. وسيُحتِّم علينا ذلك حينها تدشين نظام صلب وواسع جدا للذخيرة الذرية، بحيث يكون حجم القوات والأسلحة الموجودة أقل كثيرا مما يُتيح لبلد أن يُدمر بلدا كبيرا آخر، وبشكل يجعل التملُّص من النظام إما أكبر من أن ينجح أحدهم في إخفائه، وإما أصغر من أن تكون له تبعات إستراتيجية حاسمة، وذلك بالنظر لطبيعة الأنظمة الدفاعية التي ستكون سائدة حينئذ. إن الدفاع وإدارة الذرة معا سيُكمِّلان بعضهما بعضا، وهُنا أيضا سيكون ما نستطيع فعله لحماية أنفسنا مفيدا لمنحنا درجة من حرية اتخاذ القرار.

تلك هي المسارات التي يمكن أن نسلكها، وهي ليست بجديدة، فقد نوقشت على مدار سنوات، لكنَّ أحدا لم يُبادر بتنفيذها، وفي رأيي أنها لم تُفهَم عموما بمعناها العميق. إننا يجب أن نُدرك حقيقة واضحة مفادها أننا ومؤسساتنا لن نصادف حروبا ذرية كثيرة، ومن المهم ألا تكون هناك واحدة أبدا. ولذا نحن بحاجة إلى تحرير مواردنا الضخمة لتشكيل مصيرنا.

____________________________

ترجمة: ماجدة معروف

هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة