شعار قسم ميدان

"الحالة الغريبة للطفل ساشا إيغر".. ماذا لو كان المرض النفسي يحدث حينما يهاجم الجسم نفسه؟

مقدمة الترجمة:

لماذا وكيف يحدث المرض النفسي؟ وهل له مسببات عضوية؟ ولماذا يصاب بعض الأشخاص بالأمراض النفسية دون غيرهم؟ حين يتعلق الأمر بالأمراض النفسية تحديدا، تظل هناك الكثير من الأجوبة الناقصة. يطرح هذا المقال نظرية مثيرة للاهتمام حول وجود أصول فسيولوجية/مناعية للعديد من الاضطرابات النفسية، من خلال دراسة حالة الطفل ساشا إيغر الذي أُصيب بأعراض نفسية عنيفة بين عشية وضحاها، رغم أنه، أو أيّا من أفراد عائلته، لم يسبق لهم أن عانوا من أي شكل من أشكال الاضطرابات النفسية المعروفة.

 

نص الترجمة:

في أحد أيام فبراير/شباط عام 2009، اعتقد صبي يبلغ من العمر 13 عاما يُدعى "ساشا إيغر" أن هناك أشخاصا قادمين لإيذاء عائلته. تابعته والدته "هيلين" بقلقٍ متزايد في ذلك المساء، خاصة بعدما نسي ابنها الذي كان يتمتع بصحة جيدة قواعد لعبة الورق المفضلة لديه. في صباح اليوم التالي، بدأت الأم في إجراء مكالمات هاتفية لطلب المساعدة، بحلول ذلك الوقت، كان ساشا يصول ويجول هائما بلا هدف في الفناء، يمزق الورق، ويملأ به جيوبه. وصفت هيلين حالة ابنها لاحقا بقولها: "بدا ابني كأنه رجل عجوز مصاب بالخرف".

 

بعد ظهر ذلك اليوم، دخل ساشا المشفى ليُعرَض على مجموعة من المتخصصين، اعتقد أحدهم أن الطفل ربما يكون مصابا باضطراب ثنائي القطب، لذا خضع لجرعة من مضادات الذهان، لكن الأدوية لم تساعده على التحسن. في هذا الوقت، أدركت والدته هيلين، وهي طبيبة نفسية للأطفال في جامعة ديوك الأميركية، أن حالته تزداد سوءا. الغريب أن هذه الأعراض ظهرت على ساشا بين عشية وضحاها تقريبا، وبعضها -مثل اتساع حدقة العين والتلعثم في الكلام- لا يشير إلى مرض نفسي، بل إلى خلل وظيفي بالجهاز العصبي، وهذا ما اقترحه الوالدان، لكن الأطباء اعتقدوا أن حالة الوالدين النفسية جعلتهما ينكران مرض ابنهما.

 

في هذه الأثناء، ازدادت حالة ساشا اضطرابا، ورفض تناول الطعام الذي رأى أن مذاقه يشبه مياه الصرف الصحي. بعد خمسة أيام فقط من بداية سلوكه الغريب، انتقل إلى وحدة العناية المركزة، وكان تحت تأثير المسكنات الشديدة، ويحيا على المحاليل. لم يعلم أحد من الأطباء السبب وراء ما يحدث. اعتقد والداه أن هناك احتمالا بأن تزداد حالة ابنهما سوءا، وقد يموت في النهاية، لكن أحد زملاء والدته هيلين، وهو طبيب أعصاب يُدعى "محمد ميقاتي"، استمع إلى قصتهم وأجرى بعض الاختبارات البسيطة بسؤالهم:

المرض النفسي

– هل يمكن لساشا أن يلمس أنفه؟

– يفعل ذلك بصعوبة.

– هل يمكنه رسم ساعة؟

– نعم، لكن بدون عقارب.

 

كان ميقاتي شاهدا على حالة مشابهة لساشا قبل عدة سنوات لطفل يبلغ 11 عاما، ظل يعاني لمدة ثلاثة أشهر، لكنه تعافى تلقائيا فيما بعد. اعتقد ميقاتي أن السبب كان التهاب الدماغ، مشتبها في أن ساشا ربما يعاني من مرض مشابه، لذا أمر بإجراء فحص لمراقبة النشاط الكهربائي في الدماغ. تابع "دانيال إيغر"، والد ساشا، الإبرة وهي تتراقص على الآلة طوال الليل، ومن المفترض أن تكون هذه علامة على وجود خلل وظيفي في الدماغ. كان دانيال يأمل أن يكون هذا دليلا يساعد على تشخيص الحالة ووصف علاج مناسب لها.

 

إذا كان ساشا يعاني من التهاب الدماغ، فما سبب ذلك؟ توصل العلماء منذ فترة طويلة أن الهلاوس والأوهام يمكن أن تظهر لو أصابت عدوى ما الدماغ وسبّبت له التهابا، لكن ميقاتي استبعد احتمال العدوى. في المقابل، كان ميقاتي يدرك أن هناك أنواعا من التهاب الدماغ تنشأ بسبب المناعة الذاتية (المناعة الذاتية هي حالة مرضية تحدث نتيجة فشل الجهاز المناعي لجسم الكائن الحي بالتعرف على الأعضاء والأجزاء الداخلية الخاصة به، فيتعامل معها كأنها غريبة عنه ويبدأ بمهاجمتها).

 

قبل عامين فقط من تلك الواقعة، اكتشف العلماء حالة واحدة ظهرت عندما هاجم الجهاز المناعي -ربما بسبب عدوى شائعة في أماكن أخرى من الجسم- عن طريق الخطأ مستقبِلات مهمة وحيوية في الدماغ. تشابهت أعراض هذه الحالة مع الأعراض الناجمة عن الفصام، لكن العلاج الصحيح لم يكن إخضاع المريض لمضادات الذهان، ولكن بدلا من ذلك تناول المريض علاجات تستهدف جهاز المناعة. بمراجعة هذه الاستنتاجات، قرر ميقاتي حقن ساشا بمجموعة من الأجسام المضادة التي يمكن أن تهدئ من هجمات المناعة الذاتية، وبالفعل تحسن الصبي على الفور، دب اللون في وجهه من جديد، واستعاد تركيزه وهدوءه مرة أخرى، وبدأ يشتهي الطعام ويطلبه.

 

أخيرا شعر والدا الطفل بارتياح شديد، ولكن حينما تذكرا كم التبريرات ومحاولاتهما لإقناع الأطباء باستنتاجاتهما أصابهما الحزن جرّاء ما واجهاه من مقاومة شديدة، وتساءلا عما حدث للمرضى الذين كان آباؤهم أكثر استسلاما في مواجهة الأطباء، أو لم يكن لديهم طبيب نفسي للأطفال في العائلة. تعليقا على ذلك، تقول هيلين: "لو لم أكن طبيبة نفسية للأطفال، بجانب اتصالاتي وعلاقاتي، لكان ابني الآن في عداد الموتى، يا إلهي! مجرد تخيل ذلك يُثير في نفسي الرعب". أثارت التجربة أيضا سؤالا أعمق بكثير: هل يمكن أن يكون اضطراب المناعة الذاتية الذي يصيب الدماغ هو السبب الرئيسي للعديد من الأمراض النفسية؟ وما هي هذه الأمراض؟

 

الجنون والمناعة

الجنون و المناعة

تعود الفكرة التي تشير إلى أن الجنون قد يكون له سبب بيولوجي منفصل عن كونه مجرد عطب في رأسك إلى أواخر القرن التاسع عشر على الأقل، عندما كانت المصحات النفسية في أوروبا مليئة بالمرضى الذين يعانون من أوهامٍ، والمختلين عقليا (أو المصابين بالخرف) الذين يعانون من مرض الزهري العصبي (وهو مضاعفات لمرض تناسلي بلغ مرحلة متأخرة). الأمر لا يقف عند هذا الحد، ففكرة أن استهداف الجهاز المناعي أو التركيز على أمراضه ومعالجتها يمكن أن يعالج الجنون لها تاريخ أيضا.

 

في عام 1927، حصل الطبيب النفسي النمساوي "يوليوس فاجنر ياورغ" على جائزة نوبل عن "علاجه الحراري" الذي تعمد من خلاله إصابة المرضى بالملاريا ليسبب لهم حمى (العلاج بالحرارة "Thermotherapy" هو إدخال أي مادة ترفع درجة حرارة الجسم، بهدف تحفيز مجموعة من العمليات تؤدي إلى تخفيف الألم والتقليل من التفاعلات الالتهابية، والتشنج العضلي). نجح علاجه مع بعض المرضى، لكن في المقابل مات القليل منهم بسبب الملاريا.

 

بعد ما يقرب من قرن من الزمان، عادت هذه الفكرة إلى الظهور من جديد، مدفوعة جزئيا بالملاحظات التي تربط بين اضطرابات جهاز المناعة والحالات النفسية، إذ توصل العلماء، مثلا، إلى أن تنشيط أجهزة المناعة لدى الناس كما لو كانوا يحاربون عدوى فيروسية يمكن أن يسبب لهم شعورا باليأس العميق، ويحفز الأفكار الانتحارية. لسنواتٍ عديدة، اعتقد العلماء أن الدماغ معزول أو منفصل غالبا عن جهاز المناعة بسبب ما يُسمى بالحاجز الدموي الدماغي (هو حاجز بين الأوعية الدموية في الدماغ والخلايا الأخرى لأنسجة الدماغ، ويوفر حماية للدماغ من الكائنات المُمرِضة والسموم التي قد تكون موجودة في الدم).

 

فشل العلماء حينها في التوصل إلى فهم آلية ميكانيكية واضحة (أو فهم التفاصيل) لكيفية تسبب الجهاز المناعي في حدوث اضطرابات سلوكية. لكن في عام 2007، وصف طبيب الأعصاب في جامعة بنسلفانيا "جوزيف دالماو" حالة أطلق عليها اسم "التهاب الدماغ بأضداد المستقبلات" أو "نمدا (NMDA)"، إذ تحفز هذه الالتهابات جهاز المناعة ليهاجم مستقبلا حيويا ونشطا في الدماغ؛ فينتج عن ذلك أعراض عصبية ونفسية خطيرة.

لاحظ العلماء سابقا أن بعض أمراض المناعة الذاتية، مثل الذئبة الحمراء مرتبطة بالذهان (اضطراب عقلي خطير يسبب الهلوسة والتوهم طوال الوقت، وفيه ينفصل الشخص تماما عن الواقع). بدأ يساورهم الشك في أن بعض أنواع العدوى قد أسهم من خلال تنشيط جهاز المناعة في حدوث أعراض نفسية. قدّم "دالماو" دليلا بالغ الدقة يثبت فيه أن الجهاز المناعي يمكن أن يهاجم الدماغ، كما أن تطوير الاختبارات الخاصة بالاضطرابات النفسية، وحقيقة أن المرضى يمكنهم التعافي بالعلاج، أثار موجة من الاهتمام بأمراض المناعة الذاتية للجهاز العصبي المركزي.

 

في المجمل، حدد العلماء العديد من الأمراض العقلية المرتبطة بالمناعة، منها الحالات الشبيهة بالخرف، والصرع، و"متلازمة الشخص المتيبس (Stiff person syndrome)"، وهو اضطراب عصبي نادر لأسباب غير معروفة يتميز بالجمود والتيبس التدريجي للمريض، وهو شبيه بمرض باركنسون (المعروف باسم الشلل الرعاش)، ويشك العديد من الخبراء في وجود المزيد من هذه الاضطرابات.‏ في هذا الصدد تقول "هيذر فان ماتر"، أخصائية أمراض روماتيزم الأطفال بمستشفى ديوك الأميركية، والتي اعتنت بساشا: "إن ما حدث يُعدّ طفرة هائلة"، إذ تعالج هي وزملاؤها الأشخاص الذين تخلى الناس عنهم منذ عشر سنوات. تستكمل "فان ماتر" حديثها قائلة: "يمكننا تحسين حالتهم النفسية بما توصلنا إليه من اكتشافات حتى الآن، وأعتقد أن هذه أعظم مكافأة يمكننا تقديمها إليهم".

 

يتساءل بعض العلماء الآن عما إذا كانت أعراض أمراض، مثل الاكتئاب والفصام والاضطراب ثنائي القطب، ترتبط بطريقة ما بمشكلات في الجهاز المناعي، وتوصلوا إلى أدلة لدعم هذه الفكرة. يرى "روبرت يولكن"، العالم في جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة، أن حوالي ثلث المصابين بالفصام تظهر عليهم علامات نشاط في الجهاز المناعي (على الرغم من أن هذا ربما يكون مرتبطا بعوامل أخرى، مثل التدخين والسمنة). وتُعدّ أمراض المناعة الذاتية شائعة بين مرضى الفصام وأسرهم أكثر من عامة الناس، وهذا قد يشير إلى ضعف وراثي مشترك. لاحظ العلماء أيضا أن المرضى المصابين باضطراب ثنائي القطب والاكتئاب يعانون من اضطرابات مناعية.

 

في السياق ذاته، كشفتْ دراسة حديثة أجراها علماء في مركز الأبحاث الأميركي "مايو كلينك (Mayo Clinic)"، المختص بالمشكلات العصبية المتعلقة بالمناعة الذاتية، أنه عند مقارنة المرضى النفسيين بمجموعة من الأشخاص الأصحاء، اكتشفوا أنهم أكثر عرضة لإيواء الأجسام المضادة التي تستهدف أنسجة المخ، وأحد الآثار المترتبة على ذلك هو أن بعض الأعراض النفسية لهؤلاء المرضى ربما تكون ناجمة عن مشكلات المناعة الذاتية، وربما يمكن لهؤلاء المرضى الاستفادة من العلاج المناعي.

يزداد اهتمام العلماء أيضا بالعلاقة بين الاكتئاب و"الالتهاب الجهازي (systemic inflammation)" الذي يحدث نتيجة لإطلاق السيتوكينات المُحرضة للالتهابات من الخلايا المرتبطة بالمناعة، أو استجابة الجهاز المناعي للعدوى، أو أسباب أخرى محتملة مثل اتباع نظام غذائي سيئ، أو الإصابة بالسمنة، أو الإجهاد والضغوطات المزمنة، أو الصدمة.

 

تشير الدراسات إلى أن حوالي ثلث الأشخاص المصابين بالاكتئاب لديهم مستويات عالية من علامات الالتهاب في دمائهم. افترض العلماء أن الشعور بالضيق والقلق والخمول الناتج عن الاكتئاب قد يكون حقا نوعا من السلوك المرضي، وغريزة للاستكانة من أجل التعافي، بمعنى أننا إذا نظرنا إلى العدوى أو المرض في سياقهما المناسب، سنكتشف أنهما يساعداننا على النجاة. لكن تبدأ المشكلات في الظهور إن ظل الجهاز المناعي نشطا لفترة طويلة، وربما يؤدي ذلك إلى الاكتئاب السريري (أكثر أنواع الاكتئاب حدة).

 

هذا الفهم الجديد لدور الجهاز المناعي في تحديد كيف نشعر ونتصرف، يقترح سبلا جديدة لعلاج الأمراض النفسية. في عام 2013، لاحظ علماء جامعة إيموري الأميركية وجود علامات تحسن على مرضى الاكتئاب الذين عانوا من مستويات عالية من الالتهاب الجهازي -ولم تأتِ العلاجات المعتادة بنتيجة معهم- عندما تلقوا مثبطا للمناعة. كانت المفاجأة هي ما توصل إليه باحثون آخرون، وهو أن الأسبرين الذي ربما يُعَد أقدم عقار مضاد للالتهاب، قد يكون مفيدا باعتباره علاجا إضافيا لمرض انفصام الشخصية.

 

التمسك بالأمل

التمسك بالأمل

اكتشف العلماء حالات مشابهة لحالة ساشا الذي انتكس بعد عام ونصف من شفائه. كانت هذه هي الحالة الأولى من بين خمس حالات انتكاسة كبرى، تطلبت حالتان منها البقاء في المشفى لمدة أشهر. على الرغم من تشخيص إصابة ساشا بالتهاب الدماغ المناعي الذاتي (Autoimmune encephalitis)‏، وهو نوع من التهاب الدماغ الذي قد يحدث نتيجة لمجموعة من الأمراض المناعية الذاتية، فإن العلماء لم يحددوا بعدُ الأجسام المضادة التي تسبب الاضطرابات والخلل في دماغه.

 

يبلغ ساشا الآن 21 عاما، ويصف شعوره كما لو أن لديه جمرا متقدا في دماغه ويحتاج إلى تبريد، للتخفيف من ذلك الشعور يستخدم عقاقير قوية طُوّرت في الأصل لمرض السرطان، والتي تثبط من نشاط الجهاز المناعي. على الرغم من توقف عمل ذاكرته أثناء الانتكاسات، واضطراره للتغيب عن المدرسة الثانوية لعدة أشهر على مر السنين، فإنه مع ذلك تمكن من التخرج بدرجة امتياز، والتحق بالجامعة، وكتب في استمارة الالتحاق بالكلية: "إذا تسنى لي أن أكتب كتابا، سأطلق عليه ذكريات ممزقة، لأنني اضطررت بعد كل دخول إلى المشفى أن أعيد بناء حياتي من الصفر".

 

يأمل والدا ساشا في الحصول على علاج لابنهما يساعد جهازه المناعي ليعمل على نحو طبيعي، تقول أمه هيلين: "كل ما آمله فقط هو أن يتماسك إلى أن يظهر هذا العلاج". شاركت هي وزوجها دانيال في تأسيس تحالف غير ربحي لالتهاب الدماغ الذي قد يحدث نتيجة لمجموعة من الأمراض المناعية الذاتية. وبعد هذه الرحلة الطويلة التي خاضوها، أصبح أحد أهداف أسرة إيغر هو -ببساطة- زيادة الوعي حول هذا المرض، ويراودهم تساؤلات حول الحالات النفسية الأخرى التي قد تكون في الأصل اضطرابات في الجهاز المناعي، ولكنها متخفية. في النهاية، أصبح هدفهم الأكبر هو تصحيح المفاهيم الخاطئة بين الطب النفسي وعلم الأعصاب. تعليقا على ذلك، تقول هيلين: "المشكلة أنه يُنظَر إلى الذهان في الغالب على أنه مرض في حد ذاته، في حين أن الذهان مثل الحمى، يُعَد عرضا للكثير من الأمراض المختلفة".

——————————————————————————-

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : مواقع إلكترونية