شعار قسم ميدان

من المشاركة إلى الاعتزال.. هل ودّع السلفيون في المغرب السياسة إلى الأبد؟

كشأن باقي التجارب الإسلامية في المملكة المغربية، عرفت السلفية في المغرب مسارا مختلفا قليلا عن المسار الكلاسيكي الذي عاشه التيار السلفي في عدد من بلدان المشرق، وهي قصة بدأت بحضور مدوٍّ، ثم معارك مُستميتة للبقاء، ثم دخول برفق إلى الساحة السياسية، تلاه انسحاب صامت في الوقت الذي يعيش فيه المغرب على خضم تغيُّرات سياسية عميقة داخلية وخارجية.

سلفية المغرب: من الحكم إلى المقاومة إلى "الجهاد"

"كانت سلفيتنا تمرُّدا على الاستعمار الذي هاجمنا في عقر دارنا واحتقر مقدَّساتنا".

(الزعيم السياسي المغربي علال الفاسي)

على عكس بعض الدول العربية، سجَّل المغرب حضورا مبكرا للسلفية بوصفها منهجا عقديا، وذلك إبان عهد الدولة المرابطية ما بين نهاية القرن الحادي عشر إلى منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، إذ كان المرابطون يتبنون التوجه السلفي في محاربتهم للبدع الصوفية التي أنكروها، بجانب اعتمادهم المذهب المالكي مذهبا فقهيا في بلاد المغرب، وهو ما دفعهم مثلا إلى إحراق كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي كونه روَّج للصوفية والمذهب الشافعي. (1)

السلطان "محمد بن عبد الله" (مواقع التواصل)

لم تكن الحركة السلفية في عهد المرابطين تتبنَّى منهج السلفية المعاصرة نفسه، بل كانت أقرب إلى عقيدة راسخة بضرورة اتباع القرون الثلاثة الأولى. بيد أن هذا التوجه الذي انتهجته دولة "يوسف بن تاشفين" تغيَّر بعد وصول الدولة الموحِّدية إلى الحكم، فقرَّبت الأشاعرة وأبعدت التيار العقدي السلفي. ولكن في الأخير عادت السلفية في عهد الدولة العلوية، وخصوصا في عهد السلطان "محمد بن عبد الله" وابنه السلطان المولى "سليمان" اللذين نصرا العقيدة السلفية وحثَّا العامة على الابتعاد عن "البدع" الصوفية.

مع بداية القرن العشرين، استهلَّت السلفية في المغرب دورها الجديد إبان الاحتلال الفرنسي للبلاد، حيث كان المجتمع المغربي حينها يعيش على وقع الجهل والخرافة اللذين لعب المستعمر دورا كبيرا في تأسيس وجود مجتمعي لهما. وقد خاضت "السلفية الوطنية" معاركها استنادا إلى هدفين أساسيين: أولا محاربة البدع الصوفية والمعتقدات الخرافية التي تشرَّبها المجتمع المغربي، وثانيا خوض حرب ثقافية ودينية مفتوحة مع المستعمر من أجل الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للمغرب في وجه الأجندات الفرنسية والإسبانية التي حاولت تغيير التوجُّهات الدينية والفكرية والثقافية للمغاربة. وفي قيادة هذا المشروع، برزت الكثير من القيادات السلفية الوطنية الإصلاحية مثل الزعيم الاستقلالي الشهير "علال الفاسي" و"محمد مختار السوسي" و"بوشعيب الدكالي" و"محمد بلعربي العلوي". (2)

الزعيم الاستقلالي "علال الفاسي" (مواقع التواصل)

لعب التيار السلفي الإصلاحي دورا مهما فيما سُمِّي بالجهاد الفكري، وشحذ الناس من أجل مواجهة الاستعمار بالالتفاف حول الحركة الوطنية التي حاولت توحيد جبهات النضال السياسي والمُسلَّح في سبيل تحرير المغرب. وبعد نيل المملكة لاستقلالها، ظهرت نسخة جديدة من السلفية في البلاد سُميَّت بـ "السلفية العلمية"، وذلك على يد الشيخ "محمد تقي الدين الهلالي"، الذي يعُدُّه كثيرون الأب الروحي للسلفية بالمغرب وواحدا ممن أدخلوا نزعة مشرقية على السلفية المغربية التقليدية بعد أن تتلمذ على يد عدد من المشايخ في مصر والعراق والمملكة العربية السعودية مثل "محمد رشيد رضا". (3)

عاد تقي الدين الهلالي إلى المغرب وحاول تأسيس مدرسة سلفية جديدة لمواجهة الصوفية المنتشرة في المغرب، ونأى بنفسه عن المعارك السياسية بانصرافه وأتباع تياره الجديد عن الانخراط في الأحزاب السياسية أو الجمعيات، إذ رأى أن ذلك يُبعدهم عن المقاصد الحقيقية لمشروع التأسيس العقدي السليم القائم على العلوم الشرعية.

الشيخ "محمد تقي الدين الهلالي"، الذي يعُدُّه كثيرون الأب الروحي للسلفية بالمغرب.

مع حلول الثمانينيات، أخذت السلفية المغربية زخما أوسع بعد فتح "أبواب الجهاد" في وجه الراغبين بالسفر إلى أفغانستان لمحاربة الاتحاد السوفيتي، وبعد نهاية الحرب الأفغانية، عاش السلفيون المغاربة الذين أُطلق عليهم وصف "الجهاديين" إشكالية البطالة التي عانى منها جزء كبير من "الأفغان العرب"، إذ اعتبرتهم أغلب الحكومات قنابل موقوتة تُهدِّد مجتمعاتهم. ثمَّ توجَّهت أنظار المجاهدين المغاربة حينها إلى العراق الذي أشعل آنذاك حرب الخليج الأولى سنة 1991 بعد غزوه للكويت، فانقسم السلفيون المغاربة إلى فريقيْن، فريق اعتبر الدفاع عن العراق فرضا لأنه بلد مسلم يعاني من محاولة احتلال أجنبية تتبناها الولايات المتحدة الأميركية، وفريق رفض ذلك الطرح وذهب إلى موافقة رأي المملكة العربية السعودية التي أفتى عدد من علمائها بجواز الاستعانة بغير المسلم لمواجهة المسلم الظالم، وهو تيار السلفية العلمية. (4)

سلفية مراكش: رأس الحربة الجديد

لعل أبرز ما كشفته موجة الربيع العربي لمتابعي ومحللي السلفية هو أن التيار السلفي أبعد كثيرا عن التجانس الذي اعتقده كثيرون، إذ يتكوَّن التيار من عدد من الفِرَق المختلفة التي يعارض بعضها بعضا، وهو ما جعل الانشقاقات في الحركة السلفية واضحة ومكشوفة حول عدد من القضايا الكبرى، ولعل نماذج مصر والجزائر وسوريا غنية بالأمثلة في هذا الصدد. ولذا، لم تقف الانقسامات داخل الصف السلفي بالمغرب على وجود تياريْن أحدهما جهادي وثانيهما تقليدي أقرب "للسلفية العلمية السعودية" التي تعتزل السياسة، بل وانقسم هذا التيار الأخير نفسه إلى مجموعات عدة أهمها على الإطلاق التيار السلفي بمدينة مراكش.

دخلت الدعوة السلفية المعاصرة إلى المغرب من بوابة الدار البيضاء، لكنها سرعان ما تراجعت لأسباب كثيرة منها إلحاق عدد من دور القرآن بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة. ومع حلول الثمانينيات، اتجه الثقل السلفي جنوبا نحو مراكش، حيث ظهر أول تنظيم سلفي بالمدينة سنة 1981 عبر جمعية "دار القرآن الكريم". وقد نشطت هذه الجمعية نشاطا ملحوظا، وتمكَّنت من استضافة أقطاب السلفية المعروفين على الصعيد الإسلامي مثل "أبو بكر الجزائري" و"ناصر الدين الألباني" وآخرين. غير أن الانقاسامات في التيار السلفي استمرت، إذ انشق بعض أفراد جمعية دار القرآن الكريم لتأسيس تنظيم ثانٍ حمل اسم "جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة" بقيادة اسم سيكون له شأن كبير داخل التيار السلفي هو "محمد المغراوي"، الشيخ السلفي الذي تمكَّن من الحصول على تزكية لجمعيته من "عبد العزيز بن باز"، رئيس هيئة كبار العلماء السعودية الراحل. (5)

انتشرت جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة سريعا في مراكش، وسرعان ما هيمنت على المدينة لسببين رئيسيين بعيدا عن تزكية ابن باز: علاقة محمد المغراوي الوطيدة بالسلطات المحلية الإدارية والمنتخبة، وعلاقته المميزة ببعض قيادات حزب الاستقلال الذي تمتَّع حينئذ بحضور واسع في المدينة وتحكَّم في البلدية، وهي الجهة المخوَّل لها منح تصاريح بناء دور القرآن، وفي المقابل، حشدت الجمعية أتباعها للتصويت لصالح حزب الاستقلال في شتى الاستحقاقات الانتخابية. وإلى جانب مراكش، انتشرت الجمعية في عدد من المدن المغربية بواسطة جمعيات تحمل أسماء مغايرة مثل جمعية "دار قرآن الإمام البخاري" بأكادير و"دار القرآن التابعة لجمعية البر لإحياء السنة النبوية الشريفة" بمدينة فاس، وقد تبنَّت هذه الأفرع الخط الأيديولوجي نفسه للجمعية الأم بمدينة مراكش. (6)

السلفيون تحت مجهر تفجيرات البيضاء

أكَّد محمد المغراوي مرات ومرات أنه ليس من داعمي الاحتجاجات، حتى وإن كان ذلك بسبب إغلاق بعض دور القرآن التابعة لجمعيته.

بعد أحداث 11 (سبتمبر/أيلول) سنة 2001، بدأت علاقة التيار السلفي بمختلف مكوناته تعرف بعضا من التوتر مع السلطات المغربية التي أخذت تُحقِّق في توجهاته بعد سنوات من التمتُّع بهامش من الحرية سمحت به السلطات في مجال الدعوة وتعليم العلوم الشرعية والإسلامية. وقد وجد التيار السلفي التقليدي نفسه في قلب معركة سياسية لم يكن أبدا يريد خوضها.

من جهته، أكَّد محمد المغراوي مرات ومرات أنه ليس من داعمي الاحتجاجات، حتى وإن كان ذلك بسبب إغلاق بعض دور القرآن التابعة لجمعيته، فضلا عن ابتعاده عن دعم أي حضور سياسي للسلفيين في الساحة المغربية، فقد صرَّح آنذاك قائلا: "عاصرت أحداثا كثيرة طيلة 40 سنة، لكنني أحاول التزام الهدوء والسلامة في الأمر.. عندما جاءت الثورة إلى إيران تفاعل معها الكثيرون، لكنني كنت أطالب بالتأني والتساؤل هل شيعة اليوم كشيعة أمس؟ وخلال الغزو العراقي للكويت، الكثيرون ساندوا صدام في عمله هذا، واعتبروا الأمر جهادا، لكنني دعوت إلى التريث وقلت (إن) صدام عُرف بقتل العلماء والأبرياء، أما عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر سئلت، فكان جوابي أنه يمكنني التعليق على ما حدث بعد مرور 5 سنوات". (7)

لكن كل هذه الحيطة والحذر فقدت جدواها بعد أن شهدت مدينة الدار البيضاء تفجيرات دامية في يوم 16 مايو/أيار 2003، ومن ثمَّ وجد السلفيون أنفسهم على اختلافهم متهمين بدعم التفجيرات، إما بالمشاركة مباشرة وإما بالتحريض عبر الدروس والمواعظ التي ألقوها في المساجد. وقد حاول المغراوي بكل جهده التعامل بحزم مع كل فرد من جمعيته لطَّخ ثوب الطاعة الأبيض الذي بذله للسلطات، فتبرَّأ من أحد أتباعه الذين ذهبوا إلى العراق معتبرا إياه منتحرا لا مجاهدا. وبعد تفجيرات الدار البيضاء، سارعت جمعيته إلى إصدار أول بلاغ استنكاري لما حدث واصفا معالجة الدولة بأنها عادلة. ورغم كل ذلك، بدأت دور القرآن التابعة للجمعية المراكشية في غلق أبوابها ما بين عامَيْ 2003-2008، واختار المغراوي بعدها الخروج إلى منفاه الاختياري بالسعودية بسبب الضغط الكبير من طرف السلطات على تحرُّكات السلفيين عموما، ومعالجة الإعلام المغربي للأحداث تحت شعار "ليس في القنافذ أملس".

قدَّمت أحداث ما بعد التفجير إلى الساحة الإعلامية أسماء سلفية أخرى ربما لم تكن بثقل الدعوة السلفية نفسها بمدينة مراكش، مثل "حسن الكتاني" و"أبو حفص" و"عمر الحدوشي" و"محمد الفيزازي" الذين زُجَّ بهم في السجن بتهمة "التأطير المعنوي لأعمال الإرهاب"، وتلقوا أحكاما ثقيلة بالسجن. وبعد ثلاث سنوات فحسب على الأحداث، شرع عدد كبير من أتباع التيار السلفي المسجونين ببعض "المراجعات" الفكرية التي انتهت بعقد جلسات حوار بينهم وبين الدولة للوصول إلى حل لهذا الملف الشائك. وقد أفضى الحوار إلى نتيجة قسمت السلفيين خلف القضبان إلى ثلاثة فرقاء: فريق أول بريء من العنف والإرهاب، وفريق ثانٍ تشرَّب بعض الأفكار المتشدِّدة فوجبت محاربته بفكر معتدل، وفريق ثالث ثبت تورطه في الدم فوجب عليه العقاب. هذا واستمرت المناظرات والمراجعات والتحقيقات إلى أن وصل إلى الساحة المغربية ضيف ثوري جديد سُمي في المشرق بـ "الربيع العربي". (8)

السلفيون يدخلون عوالم السياسة

شكَّلت ثورات الربيع العربي هزَّة حقيقية للساحة السياسية والاجتماعية والدينية في العالم العربي، ولم يكن المغرب استثناء رغم أن الرياح التي وصلته لم تكن بالقوة نفسها، وذلك لأسباب كثيرة منها طبيعة النظام الحاكم، والعلاقة بين المجتمع والقصر الملكي، وأسباب أخرى عديدة لا يتسع المجال هنا لذكرها.

لم يكن السلفيون في المغرب يُبدون قبل الربيع العربي اهتماما بالعمل السياسي إلا في بعض الاستثناءات القليلة، وذلك لحساسيتهم من فكرة "التحزُّب"، لكن مع وصول رياح التغيير إلى المغرب وبروز حركة "20 فبراير" بدأ عدد من القيادات السلفية إعادة التفكير في توجُّهه السياسي، إذ بدا أن المشاركة السياسية قد تكون ذات فائدة، كما رأى البعض أن الديمقراطية جديرة بأن يُعاد التفكير فيها من زوايا مختلفة.

كان أول القافزين إلى مضمار السياسة التيار السلفي المراكشي بقيادة محمد المغراوي، الذي انتقل من رفضه التام المشاركة السياسية إلى تأييدها، إذ أيَّد المسيرات الشعبية لحركة 20 فبراير واعتبرها فرصة لرفع الضغط عن التيار السلفي بالمغرب (قبل أن يتراجع عن ذلك فيما بعد). وقد أفتى عدد من الشيوخ السلفيين أيضا بجواز المشاركة في الانتخابات لدعم الحزب الأقرب لمبادئهم (في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية)، كما شاركت بعض القيادات السلفية في النقاش العمومي حول التعديلات الدستورية لسنة 2011 في سبيل "حماية الهوية الإسلامية للدولة ومواجهة التيارات العلمانية"، في حين دعت جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة إلى التصويت لصالح الدستور الجديد تغليبا لمراعاة المصالح العليا للبلاد في تلك الظروف الحساسة، واعترافا بدور الدستور الجديد في تأكيد الهوية الإسلامية. (9)

محمد الفيزازي (ويكيبيديا)

أما قيادات ما اصطلح على تسميتها إعلاميا بالسلفية الجهادية، فقد استفادوا في 4 فبراير/شباط 2012 من عفو ملكي، والتحقوا سريعا بالمطالبين بعودة السلفيين إلى السياسة سواء بالانضواء تحت لواء الأحزاب المحافظة أو بتأسيس حزب جديد وفق ما دعا له "محمد الفزازي"، الذي رأى حاجة ملحَّة لتأسيس حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية، وقال إنه "يجب أن يعلم مَن لا يعلم أننا أحرص الناس على الاشتغال بالسياسة، لا بل نحن سياسيون حتى النخاع"، فيما عملت قيادات سلفية أخرى على تأسيس تنظيمات دعوية تجنُّبا لأي صدام جديد بالدولة. (10)

دعم أغلب التيار السلفي حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2011 التي مثَّلت طريقا مفتوحا للإسلاميين نحو الحكومة، إذ اعتُبِر إخوان بنكيران أقرب الأحزاب إلى السلفيين نظرا لخلفتيهم الإسلامية ودفاعهم عن التيار السلفي سابقا أثناء إغلاق دور القرآن. وقد استغل "مصطفى الرميد"، وزير العدل والحريات السابق، المناخ المنفتح نسبيا آنذاك لإقناع وزير الداخلية بمشروعية إعادة فتح دور القرآن المُغلقة، كما لعب القيادي الإسلامي ذو الميول الحقوقية دور الوسيط بين السلفيين والدولة بصفته محاميا لهم في مراحل سابقة. (11) غير أن الربيع العربي الذي جمع شتات التيار السلفي ذي المشارب المتعدِّدة كان هو نفسه السبب في تفرقتهم مجددا، ليس بسبب التطورات الداخلية هذه المرة، بل لأسباب خارجية لها علاقة بالانقلاب العسكري الذي شهدته مصر عام 2013 على يد وزير الدفاع "عبد الفتاح السيسي".

ظهرت الخلافات عندما نشر "عادل رفوش"، وهو من قيادات جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة، قصيدة تحمل عنوان "يا خادم الحرمين"، لام فيها ملك السعودية الملك عبد الله على موقف بلاده الداعم "للانقلابيين" في مصر ضد الرئيس المصري الراحل الذي انقلب عليه الجيش "محمد مرسي"، فما كان من المغراوي إلا أن أصدر بيانا قال فيه إن ما كتبه رفوش لا يُمثِّل إلا شخصه، وإن الجمعية بريئة مما جاء في القصيدة، داعيا كاتبها إلى سحبها والاعتذار عما جاء فيها. (12) (13)

زادت هذا الانشقاقات حِدَّة عندما أعلن "حماد القباج"، عضو المكتب التنفيذي لجمعية الدعوة والقرآن والذراع الأيمن للمغراوي، استقالته من إدارة المكتب الإعلامي للجمعية، داعيا رئيس الجمعية إلى التراجع عن بيانه "مهما كانت الإكراهات". وقد قال القباج إنه رغم مخالفته للإخوان المسلمين فإنه متضامن معهم بسبب ما لحقهم من ظلم واضطهاد، كما طالب هيئة علماء السعودية بنُصح ملكهم منتقدا مَن وصفهم بداعمي الاستبداد والإمبريالية، ثمَّ أضاف: "عار عليكم أن تعاملوا جماعة الإخوان بما لا تستحلونه في النصارى.. اعتبروهم أقلية.. احفظوا حقوقهم كما تحفظون حقوق الأقباط". (14)

مع مرور الوقت، زادت حِدَّة الخلافات بين القيادة التقليدية للجمعية مُمثَّلة بالمغراوي، وبين المنشقين عنها الذين أطلق عليهم مراقبون "السلفية الإصلاحية"، ثمَّ أتت انتخابات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016 لترسِّخ هذه الهُوَّة العميقة بين الفريقين، إذ اختار كل طرف منهما دعم حزب مغاير في المعركة الانتخابية الطاحنة الدائرة حينئذ بين العدالة والتنمية من جهة وحزب الأصالة والمعاصرة من جهة أخرى.

نهاية سريعة لتجربة محتشمة

اكتست انتخابات 2016 بحُلَّة الصراع الأيديولوجي بعد أن أكَّد "إلياس العماري"، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، أنه سيدخل الانتخابات للإطاحة "بالإسلاميين". وقد ركَّز العدالة والتنمية حينها في حملته الانتخابية على ما سمَّاه الخطر الكبير الذي شكَّله الحزب المنافس على الهوية الإسلامية للبلاد، حاشدا بذلك أصوات أبناء الحركة الإسلامية، سواء تلك المتأثرة بمدرسة الإخوان المسلمين أو الأخرى المتشرِّبة بالنظرة السلفية للدين. ووصل هذا الحشد الأيديولوجي إلى ذروته عندما أعلن الحزب ترشيح حماد القباج، القيادي السابق في جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش، ولكن سرعان ما منعت السلطات ترشحه، وذلك بسبب مواقفه المناهضة للمبادئ الأساسية للديمقراطية التي أقرَّها دستور المملكة، "من خلال إشاعة أفكار متطرِّفة تحرِّض على التمييز والكراهية وبث الحقد والتفرقة والعنف في أوساط مكونات المجتمع المغربي"، حسب الرسالة التي وصلت إلى القباج من ولاية جهة مراكش آسفي. (15)

حماد القباج

من جهته اتخذ المغراوي قرارا براغماتيا آخر حين طالب أعضاء جمعيته بالتصويت لحزب الأصالة والمعاصرة الذي ساعد على إعادة فتح دور القرآن التي أُغلقت مرة أخرى سنة 2013، إذ قال في تسجيل مُسرَّب لمجلس جمعه بأعضاء جمعيته: "إن القرآن نعمة، وقد منَّ الله علينا بإعادة فتح دور القرآن، وهذه النعمة تستلزم شكر الله تبارك وتعالى وشكر كل مَن أعان على تحقيقها، لذلك ينبغي أن تصوتوا أنتم وزوجاتكم وأولادكم لحزب الأصالة والمعاصرة". (16) أثار هذا الموقف غضب عدد من الأصوات الإسلامية وعلى رأسها القيادات المستقيلة من الجمعية المراكشية، التي استنكرت أن يضع المغراوي يده في يد الأصالة والمعاصرة الذي ما انفك يؤكِّد أنه جاء بمشروع "حداثي" ليُنهي حقبة الإسلاميين. هذا وعبَّر حماد القباج في بيان له عن رفضه استغلال القرآن واستغلال تعطُّش الناس لمقرَّاتِه المستقلة وكتاتيبه الأوقافية في تنافس انتخابي لصالح حزب يريد إفساد المشهد السياسي وإجهاض مشروع الإصلاح الذي انخرط فيه المغرب مع دستور 2011 على حد وصفه. (17)

مع فوز العدالة والتنمية بالانتخابات ثم الإطاحة ببنكيران من قيادة الحزب والحكومة لصالح العثماني، وانخفاض خطاب الهوية والأيديولوجيا في خطاب الإسلاميين بالمغرب، خفت الحضور السلفي في الساحة السياسية خفوتا ملحوظا، إذ اقتصر على بعض المواقف الفردية، حتى حينما تعلَّق الأمر بقضايا حساسة مثل فرنسة التعليم وتقنين مخدر الكيف والتطبيع مع إسرائيل. وقد بقيت المواقف السلفية فردية دون أن يصاحبها تحرُّك مجتمعي بسبب عدم فاعليتها السياسية وغياب إطارها التنظيمي، باستثناء جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة التي انغلقت على نفسها بعد الانتخابات وأعادت التركيز على مبدأ اعتزال السياسة كما كانت قبل 2011.

ظهر الانعزال السياسي السلفي جليًّا في الانتخابات المغربية الأخيرة بسبتمبر/أيلول 2021، التي أنهت حُكم العدالة والتنمية. ولم يحظَ الحزب بأي دعم سلفي في الانتخابات الأخيرة بسبب التحفُّظ الكبير على تسييره لعدد من الملفات التي تقاطعت مع اهتمامات الحركة الإسلامية بالمغرب، وبسبب عدم احترامه للوعود التي قطعها على نفسه تجاه التيار السلفي، وهي السعي أولا لتسوية ملف المعتقلين السلفيين، وثانيا تخلِّي الحزب عن التزامه بإدماج عدد من مطالب التيار السلفي في برنامجه السياسي، وهو ما لم يتحقق بعد أن أُطيح بعبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، والعائد مؤخرا لقيادة العدالة والتنمية. (18)

لم يتحمَّس السلفيون المغاربة يوما للمشاركة السياسية، وذلك بسبب انتشار مبادئ اعتزال "فتنة السياسة"، ورغم محاولتهم الدخول إلى مجال التدافع المجتمعي السياسي، فإن تجربتهم لم تُكلَّل بالنجاح في نهاية المطاف، ومن ثمَّ انحسرت سريعا تجربة تسيُّس التيار السلفي على غرار ما جرى في عدد من الدول العربية الأخرى التي استغلت انفتاح الربيع العربي لتجهر بصوتها فيما يتعلَّق بمجريات الشأن العام، قبل أن يخفُت صوتها سريعا فعادت إلى خطابها الدعوي وعملها الخيري حين انحسرت رياح الربيع، تاركة توابع الفشل السياسي لتقع على كاهل الإسلاميين غير السلفيين بالدرجة الأولى.

_______________________________________________________

المصادر:

  1. سلفيات المغرب: نحو التقارب والإنخراط في الشأن السياسي
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5. الحركات السلفية في المغرب بحث أنثروبولوجي سوسيولوجي: الدكتور عبد الحكيم أبو اللوز / مركز دراسات الوحدة العربية (صورة رسالة التزكية بعد المصادر).
  6. المصدر السابق.
  7. المصدر السابق.
  8. سلفيات المغرب: نحو التقارب والإنخراط في الشأن السياسي
  9. بين الدعوة والسياسة: كيف أدى التسيس إلى انقسام السلفيين في المغرب؟
  10. التوجه الحزبي للسلفيين في المغرب؟
  11. بين الدعوة والسياسة: كيف أدى التسيس إلى انقسام السلفيين في المغرب؟
  12. بيان وتوضيح بشأن قصيدة: «يا خادم الحرمين» وتداعياتها..
  13. المصدر السابق.
  14. ملك السعودية يشعل فتيل الخلاف بين القبّاج والمغراوي
  15. سلطات المغرب تمنع "سلفيا" من الترشح مع العدالة والتنمية
  16. القباج: صفقة بين المغراوي و"البام" أعادت فتح "دور القرآن"
  17. المصدر السابق.
  18. ÉLECTIONS DU 8 SEPTEMBRE: LA GIFLE DES SALAFISTES AU PJD
المصدر : الجزيرة