خدام الرب في المملكة.. ماذا تعرف عن التبشير المسيحي في المغرب؟

بوجه مكشوف وبلكنة مراكشية واضحة، خرج "محمد السوسي"، الصانع التقليدي في مدينة المرابطين مراكش، على قناة "مغربي ومسيحي" للحديث عن تجربته التي خرج فيها من الإسلام واعتنق المسيحية بوصفها ديانةً وعقيدة جديدة مغايرةً لما هو مألوف في تلك الرقعة الجغرافية، ومخالفةً لما يدين به الغالبية العظمى من المغاربة.(1)(2)

 

تعرَّف "محمد" على المسيحية حينما طرقت بابه مبشرة إنجيلية قادمة من سويسرا، وكان الرجل المراكشي يبحث عن بعض الأجوبة لأسئلة راودته كثيرا. وقد بدأ رحلته نحو المسيحية من نسخة فرنسية للإنجيل، وبعد علم المبشرة السويسرية بأن "السوسي" غير قادر على الذهاب إلى الكنيسة بسبب المشكلات التي قد يسببها له هذا الأمر، طلبت منه التواصل مع شاب مراكشي مسيحي ساعده على القيام بالخطوات الأولى في دينه الجديد.

 

على المنوال نفسه مع اختلاف التفاصيل، اختارت فئة محدودة من المغاربة الخروج من الإسلام واعتناق المسيحية، بعد أن كانت حكرا على الأوروبيين المقيمين في البلاد وبعض المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، قبل أن تتمكن بالاعتماد على التبشير الغربي أحيانا والمغربي في أحيان أخرى من الحلول محل اليهودية بوصفها ثاني الديانات تمثيلا في المغرب، بعد أن بقي هذا المركز حكرا على اليهود الذين عاشوا في المغرب الأقصى قرونا قبل الفتح الإسلامي. ورغم أنه لا توجد حتى الآن إحصائيات رسمية عن عدد المغاربة المسيحيين، إلا أن تقريرا للخارجية الأميركية حول الحريات الدينية عام 2016 أشار إلى أن عددهم يُقدَّر بـ2000 إلى 6000 مسيحي موزعين في شتى أنحاء المغرب، في حين تزعم التنسيقيات المسيحية أن عددهم أكثر من ذلك بكثير. لذلك، سنسعى في هذا التقرير لقراءة الحضور المسيحي في المغرب من حيث تاريخه، وتأثيره اليوم، والموقف الرسمي المغربي منه.

 

African Christian migrants attend a church in Rabat ahead of the Pope's visit in Rabat, Morocco March 24, 2019. Picture taken March 24, 2019. REUTERS/Youssef Boudlal

يطلق المغاربة لفظة "نصراني" على الأوروبيين حصرا، فلا يُستعمَل هذا اللفظ في الحديث عن باقي مسيحيي العالم إلا نادرا، بل وفي أحيان كثيرة قد يطلق اللفظ على الأوروبي الذي أسلم. ورغم أن علاقة مغاربة اليوم بالمسيحية محدودة جدا، فإن علاقة المغرب الكبير (ومن ضمنه المغرب الأقصى) بالمسيحية علاقة قديمة، إذ يعود التعارف الأول بين الطرفين إلى القرن الأول الميلادي رغم شُح الدلائل المادية على هذه البداية، حيث اتسمت الديانة المسيحية بالسرية في المغرب بسبب محاربتها من طرف الإمبراطورية الرومانية، لكن علماء ومؤرخين مسيحيين قالوا بأن رجلين من الحواريين حلوا ببلاد المغرب، وهما "القديس فيليب" و"سيمون القناني" الذي بُعث الى أرض البربر، دونما الإشارة بالتفصيل إلى الطريقة التي دخلت بها المسيحية إلى هذه البلاد.(3)

 

بعد وصولها إلى المغرب، وجدت المسيحية في أفريقيا أرضا مناسبة لنشر العقيدة الجديدة، وكانت أفريقيا آخر المقاطعات الرومانية التي وصل إليها الإنجيل والمبشرون به، وقد عاش أهل القارة في حالة من العبودية والظلم والاستبداد والاستغلال الطبقي آنذاك، ومن ثَم مثَّلت التعاليم المسيحية فرصة حقيقية للانعتاق من هذا الوضع المزري بجعل الناس سواسية أمام إله واحد. وعُدَّ ذلك بالطبع ضربا من الخيال في إمبراطورية تستنزف محاصيل أفريقيا وخيراتها لإرسالها إلى روما، فيما يعيش رعاياها المحليون تحت سياط الفقر والجوع والاسترقاق والضرائب الباهظة.

 

بدأ بناء المعابد والكنائس في المدن الصغيرة وفي القرى، رغم عملية القمع التي مارستها السلطات الرومانية للحد من انتشار الدين المسيحي، وسُلَّ السيف ضد المتنصرين الجدد كما قال العالم اللاهوتي الأمازيغي "ترتليانوس" (160/220)، ودشن الرومان المذابح بقطع رؤوس 12 مسيحيا سنة 180 بمدينة صغيرة تدعى "شيلي" في عهد الإمبراطور الروماني "كومودوس" (161/192)، وقد واجه المسيحيون هذا التطهير الديني بالسخرية من آلهة الرومان ومحاولة كسب أرضية أكبر للانتشار وسط الطبقات الفقيرة.(4)

مع نهاية القرن الثاني الميلادي، كانت المسيحية قد انتشرت انتشارا لا بأس به في شمال أفريقيا. ففي عام 150، عُقِد أول مجمع كنسي بقيادة "أغريبيانوس"، أسقف قرطاج، وضم عددا من الأساقفة من شتى المدن، وكان الهدف منه النظر في إعادة تعميد الهراطقة الذين عادوا إلى الكنيسة، ثم تدارس ما يجب اتخاذه من تدابير لمواجهة الاضطهاد الروماني. ثم في عام 217، عُقِد مجمع آخر حضره سبعون حبرا أعلن فيه الأسقف "أغريبيانوس" هذه المرة تحديه المباشر للسلطات الرومانية حين قال: "يمكنكم الفتك بقرطاج إذا ما أردتم تحطيم جميع المسيحيين"، وهو ما فُسِّر على أنه رسالة من الكنيسة للإمبراطور بأن المسيحية انتشرت بما يكفي في شمال أفريقيا، وقويت شوكتها للوقوف بوجهه.

 

لم تتحمل السلطات الرومانية هذا التحدي، فأعلنت حربا شعواء على المسيحيين وقتلت الكثير منهم، لكن في نهاية القرن الثالث الميلادي بدأت هدنة بين الكنيسة والسلطة مكَّنت المسيحيين من إعادة تنظيم أمورهم ونشر عقيدتهم، فيما غضت السلطة الطرف عن بناء الكنائس السرية وممارسة الشعائر الدينية، وانخرط المسيحيون في الجيش والوظائف العامة دون معارضة من طرف الكنيسة. بيد أنه مع وصول الإمبراطور "دقلديانوس" (244/305) إلى سدة الحكم، تغير الوضع تماما بسبب تخوفه من تنامي أعداد المسيحيين في المدن، بل وداخل فرق الجيش، فأصدر قرارا أمر فيه جميع رعاياه من مدنيين وعسكريين باعتناق الوثنية، وفرض عبادة شخصه على الجميع. قابل المسيحيون هذه الأوامر بالرفض، وفروا من الجيش بدعم من الكنيسة، لتبدأ معركة حرق الكتب وهدم الكنائس ومنع المسيحيين من الاجتماع.(5)

 

ظلت معركة الشد والجذب حاضرة بين الكنيسة والإمبراطورية، إلا أن الإمبراطور "جاليريوس" (250/311) طلب إيقاف الحرب بين الطرفين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد استمرت الهدنة حتى اعتناق الإمبراطورية الرومانية نفسها للمسيحية عام 324 في عهد "قسطنطين". أدى قسطنطين دورا مزدوجا، فقد كان حاميا للمسيحيين، وقسا وثنيا في الوقت ذاته، وذلك لدواع سياسية أبرزها إخضاع القوميات والديانات المختلفة لسلطانه دون مشكلات.

الإمبراطور"قسطنطين" (يمين) والإمبراطور "جاليريوس" (يسار)

لكن هذا الاستقرار السياسي للمسيحيين، واعتناق الرومان لديانتهم، لم يخدم المسيحية في بلاد المغرب، بل على النقيض تماما، بدأ بريق الديانة يخفت بعد أن شرع البربر في الخروج عنها، إذ إنهم اعتنقوها أول الأمر لمواجهة الإمبراطورية الرومانية الظالمة، ومن ثَم بمجرد اعتناق الرومان للمسيحية وتدشينهم عهدا جديدا حاربوا فيه الوثنية ومظاهرها، أخذ البربر في البحث عن ديانة أخرى تعطيهم الحق في المواجهة السياسية مع الرومان. بقيت المسيحية حاضرة في الساحل الخاضع لسيطرة الرومانيين، لكنها تراجعت كثيرا في المدن الداخلية غير الخاضعة لسلطانهم أو لسلطان الكنيسة الأفريقية التي عانت بدورها من انقسامات داخلية حادة.(6)

 

انتعشت المسيحية بعد ذلك في عهد الدولة البيزنطية التي أبدت اهتماما بالغا بها، فأعادت بناء الكنائس وشجعت البعثات التبشيرية، إلا أن الوضع الكارثي للكنيسة الأفريقية لم يساعد على إعادة انتشار المسيحية لأسباب عديدة، منها خلافات الإدارة والفساد والتدهور الأخلاقي للقساوسة الذين لم يكونوا واجهة مشرِّفة لديانتهم التي بشَّروا بها، فظل الحال على ما هو عليه حتى قدم الفتح الإسلامي الذي اكتسح بلاد المغرب وأنهى الوجود المسيحي تقريبا باستثناء بعض معتنقي المسيحية.(7)

 

بعد سقوط الأندلس وعودة المسيحية لكامل الأرض الأوروبية، كان لزاما الانطلاق مجددا نحو القارة الأفريقية من بوابتها الشمالية "المغرب العربي" للحد من حضور الإسلام في القارة العجوز. وقد انطلقت الإرساليات التبشيرية عام 1630 حين اعترف المجمع الرهباني التابع للكنيسة الكاثوليكية بتنظيم إرسالي يسمى "إرسالية مراكش" خوَّلت له الكنيسة صلاحيات الإشراف على العمل التبشيري بالمغرب، وكانت الطائفة الفرنسيسكانية هي المسؤولة عن هذا المشروع، وكلَّفت رهبان الأبرشية الإسبانية في "سان دييغو" بالإشراف على تحقيقه بسبب قربهم من المغرب من جهة، وعلاقاتهم التاريخية به من جهة أخرى.(7)

بدأت هذه الإرساليات التبشيرية تأخذ طابعا أكثر جدية مع الهجمة الكولونيالية على المغرب في القرن التاسع عشر الميلادي، إذ تطور العمل التبشيري في ظل السياسة الكولونيالية بعد توقيع سلطان المغرب "مولاي عبد الرحمن" اتفاقية اعترف بموجبها وبشكل رسمي بهذا النشاط الفرنسيسكاني. تكونت الإرسالية حينها من أبوين كاثوليكيين فقط في البداية، لكن بعد موافقة الحبر الأعظم، عيَّن الكاردينال المسؤول عن الجمعية الرهبانية وكيلا رسوليا يشرف على إرسالية تستهدف كلا من مراكش وتطوان والصويرة. أخذت القضية الدينية بعدا سياسيا حسب ما كشفه تقرير فرنسي أُعِدّ عام 1885م حول دور المبشرين في المشاريع التوسعية لأوروبا في أفريقيا المسلمة، حيث رأى بأن التعليم المدرسي وحده لن يكفي في عملية الإخضاع الثقافي لأبناء شمال أفريقيا من المسلمين، وأنه تتوجب الاستعانة بالتبشير الديني وإعطاء رجال الدين الفرنسيين حرية تحرك أكبر في المغرب والجزائر.(8)

 

رغم كل هذه الجهود المكثفة للتبشير بين صفوف المغاربة، فإن الإسلام ظل ثابتًا في عقولهم ووجدانهم، وذلك بحسب ما كشفته المفوضية الفرنسية بطنجة في رسالة لوزير الخارجية الفرنسي بباريس، والتي قالت فيها إن نجاح الدعوة في المغرب صعب للغاية، لأنه بلد ضرب فيه ما أسموه بـ "التعصب الإسلامي". بعد هذا الفشل، حاول المبشرون ممارسة نشاطهم الديني تحت غطاء الأنشطة الاجتماعية ذات الطابع "الإنساني"، عبر فتح مستوصفات ومعامل للخياطة والتطريز للنساء. وبعد فشل هذه المساعي، توجَّه المبشرون نحو اليهود المغاربة الذين لم يتجاوبوا، لتمسكهم بعقيدتهم وكتابهم وثقافتهم الضاربة في القدم.

 

بعد توقيع معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب في 30 مارس/آذار 1912، حاول الجنرال "ليوطي" إعادة الكَرّة مجددا لتنصير المغاربة بعد أن اعتبرت لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) أنه من الضروري دعم التغلغل الفرنسي العسكري بتأسيس مراكز تبشيرية في عدد من المدن المغربية، ومن ثَم ارتفع عدد المبشرين إلى حوالي مئتي راهب وراهبة فرنسية، بالإضافة إلى بعض الرهبان الإسبان. وقد انطلقت حركة تأسيس المدارس المسيحية واستحداث مؤسسات اجتماعية وطبية، كما تأسست عام 1921 مجلة "المغرب الكاثوليكي" التي عُدَّت المنبر الرسمي للكاثوليك الفرنسيين في المغرب، الذين لم يستطيعوا كبح جماح رغباتهم في نشر المسيحية بين المغاربة المسلمين.(9)

الجنرال "ليوطي"

في عام 1928، استفاق المغرب على الثمار الفعلية لهذه الأنشطة التبشيرية، بعد أن أعلن الطالب "محمد بن عبد الجليل" الذي درس بباريس اعتناقه المسيحية التي تعرف عليها في فرنسا عبر المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون"، والذي كان بمثابة أبيه الروحي، من خلال المراسلات التي جرت بينهما طيلة سنوات واستطاع فيها ماسينيون أن يجيب عن أسئلة كثيرة شغلت الشاب المسلم حول المسيحية، ومن ثَم أقنعه باعتناقها قبل أن يتوجه إلى الرهبنة بعد ذلك.(10)

 

استنكرت الأوساط المسلمة المغربية هذا الحدث، واعتبرته نتيجة للنشاطات التبشيرية، وتذكيرا بأهمية الوقوف في وجهها، وحينها أبدت الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب تفهمها لهذا الأمر، وأكدت احترامها لديانة المغاربة وثقافتهم، بعد أن بدأت تشعر بأن الأعمال التبشيرية أضحت عبئا ثقيلا على أجندتها السياسية والعسكرية، خصوصا بعد أن تعالت أصوات اليسار الفرنسي، منادية بوضع حد لطغيان الكنيسة الكاثوليكية في المستعمرات لأسباب أيديولوجية خاصة.

 

نال المغرب استقلاله عام 1956، وفقد الكثير من مجتمعه اليهودي بعد أن هاجروا إلى فلسطين المحتلة، إلا أن المسيحية أعلنت عن نفسها من آن لآخر عبر محاولات تبشيرية غربية واجهتها السلطات المغربية بلا هوادة، لا سيما أن الدستور المغربي يجرم التبشير وزعزعة عقائد المسلمين.

 

كانت أبرز هذه المحاولات في 28 مارس/آذار 2009، حين أعلنت وزارة الداخلية المغربية في بيان لها إيقاف خمسة مبشِرين، بتهمة تحريض المسلمين على الدخول في المسيحية، وذلك أثناء اجتماع للتنصير كان يحضره مغاربة. وبعد ذلك بعام، رحَّلت السلطات المغربية عشرين مبشِّرًا، بينهم 16 بريطانيّا وأميركيّا من معتنقي المذهب الإنجيلي بعد نشاطهم في أعمال التنصير عبر مؤسسة "قرية الأمل" بمنطقة "عين اللوح" بإقليم إفران شمالي المغرب.(11)

Pope Francis greets women during a visit to a rural social service run by the Daughters of Charity of St. Vincent de Paul in Temara, near Rabat, Morocco March 31, 2019. Vatican Media/­Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

ومع يقظة السلطات، سَعت الجمعيات التبشيرية للتحرك سرا داخل المغرب، وتمكنت بفضل أدوات "الإعلام التبشيري" من الوصول إلى عدد محدود من المغاربة الذين تركوا الإسلام. وعلى رأس تلك الأدوات ظهرت بعض برامج إذاعة "مونت كارلو" الفرنسية التي وقفت وراء تنصير الإعلامي المغربي "الأخ رشيد"، المعروف ببرامجه المثيرة للجدل التي ينتقد فيها الإسلام والنبي محمد على قناة الحياة المسيحية.

 

بيد أن هذا النوع من التبشير الذي أسس النواة الأولى للمسيحية في المغرب لم يعد كافيا، كما أنه بات محفوفا بالمخاطر بسبب رفض السلطات المغربية للتبشير بشكل عام. ولذا اتخذت المسيحية في المغرب منحى جديدا مع بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، تعتمد فيه أولا على المسيحيين المغاربة لأخذ المشعل من الأوروبيين ومواصلة "الدعوة إلى المسيح"، ثم على الإعلام عبر عدد من البرامج التبشيرية التي تبث على التلفاز والراديو، وتكمل العمل الذي تقوم به الجمعيات التبشيرية المسيحية في العالم.(12)

 

وقد منحت الشبكة العنكبوتية من جهتها مجالا واسعا للعمل التبشيري في المغرب، وأهم قنوات الدعوة المسيحية هو بلا شك برنامج "مغربي ومسيحي" الذي يبث عبر منصة يوتيوب وعلى منصات التواصل الاجتماعي، ويقدم فيه عدد من المسيحيين المغاربة رسائلهم إلى الجمهور المغربي، مستعينين بترانيم بألحان مغربية وآيات من الإنجيل مترجمة إلى الدارجة المحلية.(13)

بدأ بث برنامج "مغربي ومسيحي" منذ حوالي خمس سنوات، وشارك فيه "الأخ رشيد" عند انطلاقه بحضوره حلقات عدة يمكن تصنيفها على أنها "مدخل للمسيحية"، بالإضافة إلى استضافة البرنامج عددا من الشخصيات المغربية التي تنصرت للحديث عن تجربتها. يبدو حضور "الأخ رشيد" منطقيا، لأن عددا من إيميلات التواصل مع قناة "مغربي ومسيحي" تابعة لقناة الحياة التبشيرية، التي تعمل بالشراكة مع منظمة "جويس ماير التبشيرية" وينشط فيها مسيحيون مصريون ومغاربة، وإن لم يُشر إلى ذلك مباشرة، ويبدو أن القناة بدأت العمل على مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب دون إظهار هويتها بوضوح.

 

تقدم هذه التجربة الإعلامية المسيحية المغربية عددا من المواضيع المختلفة، مثل الروحانيات والأخلاق والحديث عن السيد المسيح مع تقديم تجارب عدد من المتنصرين، إلا أنها تركز على أمر واحد بجلاء، وهو التأكيد على أن الديانة المسيحية غير متناقضة قط مع الهوية الوطنية المغربية. في أحد الفيديوهات يظهر "الأخ رشيد" بجلباب مغربي تقليدي، ومن خلفه ديكور مركب لخيمة تقليدية، ويتحدث بلكنة "قروية" للتأكيد على أنه ابن المغرب قلبا وقالبا، وأن المسيحي ليس ذلك الغربي القادم من أوروبا أو أميركا، بل قد يكون ذلك الجار أو التاجر أو الطبيب أو المهندس المغربي المسلم سابقا. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن فكرة التفرقة بين الجنسية والديانة على بديهيتها فإنها تبقى صعبة الهضم على المجتمع المغربي الذي يعرِّف نفسه بوصفه مجتمعا مسلما حصرا. هذا ويحرص رشيد على استضافة المسيحيين المغاربة للمناقشة حول العبادات والطقوس المسيحية دائما داخل صالون مغربي تقليدي وأمام الشاي والحلويات المغربية.

 

يحاول صناع هذا المحتوى التبشيري تجنب التعرض للإسلام بالنقد أو الإساءة، مبتعدين عما تقدمه قناة "الحياة"، إذ تظل الانتقادات والتشكيكات ضمن إطار نقاش يؤكد تفهمه للآخر المسلم وطريقة تفكيره الرافضة للمسيحية باعتبار أن الجميع "مر من هنا"، فيحرص هؤلاء بالشراكة مع عدد من المواقع والصفحات التبشيرية على الاكتفاء بترجمة أسس المسيحية إلى الدارجة لتقريبها من المجتمع المغربي بطبقاته المختلفة.

 

في أحد الفيديوهات التي نشرتها قناة "مغربي ومسيحي"، دار حوار بين شخصين يتحدثان عن المشاركة السياسية في المغرب والمواطنة الكاملة للمسيحيين وعدد من القضايا الأخرى، ووجَّه المتحاوران عددا من الرسائل إلى المجتمع المغربي والسلطات المحلية خصوصا، وأكدا على أن المواطن المسيحي يشارك في الانتخابات ويطيع الحاكم ويتقرب إلى الله بدفع الضرائب التي تفرضها الحكومة. لكن هذه الرسائل لم تكن كافية لحل الإشكال الرئيس بين السلطات والمسيحيين المغاربة بسبب التبشير.(14)

Adam Rabti, a native Moroccan converted to Christianity, poses for photo with a cross in a house used as a church in Ain Atiq district in the outskirts of Rabat
آدم ربطي، مغربي الأصل تحول إلى المسيحية، يقف لالتقاط صورة له مع صليب في منزل يستخدم ككنيسة في منطقة عين عتيق بضواحي الرباط

يعتنق أغلب المسيحيين المغاربة المذهب الأنغليكاني الذي يعتبر التبشير ركنا ركينا في مشروعه الديني القائم على دعوة المسلمين واليهود والملحدين واللادينيين وغيرهم إلى الإيمان بالمسيحية بوصفها طريق الخلاص الوحيد. وقد أكدت "الأخت إيمان"، إحدى أبرز المقدمات المسيحيات للبرامج التبشيرية، على أن التبشير فريضة على المسيحي "الذي يريد إنقاذ الآخرين من الهلاك". هذا وشكَّلت مسألة التبشير نقطة خلاف بين المسيحيين المغاربة والبابا فرنسيس أثناء زيارته للمغرب في مارس/آذار 2019، حينما طلب راعي الكنيسة الكاثوليكية من المسيحيين الكف عن التبشير في المغرب، وهو ما اعتبره "الأخ رشيد" خروجا عن صريح آيات الإنجيل التي تأمر المسيحي بتبليغ رسالته للجميع دون استثناء، متهما الكنيسة بالتواطؤ لأنها قبلت سابقا الوجود في المغرب مقابل الالتزام بعدم التبشير.(15)(16)

 

من جهة أخرى، يهدف عدد من قادة المسيحية في المغرب إلى إقناع السلطات بأنه يمكن الاعتماد عليها لمواجهة ما يوصف بالتطرف الإسلامي.(17) من جهتها، تسعى الحكومة المغربية إلى الحفاظ على التوازن في تعاملها مع الأقلية المسيحية، بين مواجهة التبشير وعدم الاعتراف بالمسيحية ديانة رسمية في المغرب تارة، وتجنُّب الدخول في دوامة الاعتقالات والتضييق المباشر تارة أخرى، والذي لربما يؤدي إلى أزمات داخلية وخارجية للمغرب. وفي هذا الصدد، كشفت بعض المصادر أن القس "جون لوك بلان"، رئيس المجلس المسيحي لكنائس المغرب، التقى سابقا "أحمد التوفيق"، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، للعمل على إقرار "نظام أساسي للمسيحيين".(19) وفي الوقت نفسه، حذر "مصطفى الرميد"، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، من تهديد التبشير المسيحي على النسيج الاجتماعي إذا ما اتسعت دائرة الأفراد المعتنقين لها، مضيفا أن "موضوع حرية المعتقد لا يشكل تهديدا للدولة في المدى القريب، لكن من المؤكد أنه يشكل خطرا لها على المدى البعيد".(20) وقد أثار زميله وزير العدل "أوجار" غضب الجمعيات والتنسيقيات المسيحية (غير المعترف بها في المغرب) بعد أن حصر حق الحرية في الاعتقاد على المسيحيين الأجانب من أوروبيين وأفارقة، وهو ما اعتبروه "استخفافا بالمسيحية" التي باتت الديانة الثانية في المغرب بعد الإسلام.(21)

 

وبالرغم من أن نسبة المسيحيين المغاربة تعدّ منخفضة وأن نسبة توسعها تبقى محدودة، إلا أن المؤشرات تدل على أنها -رغم المحدودية- آخذة في الازدياد، متجاوزة عدد اليهود المغاربة الذين لا يتجاوز عددهم اليوم 1600 شخص، بعد أن تخطّى عددهم في الماضي القريب رُبع المليون قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. يعيش إذن بضعة آلاف من المسيحيين المغاربة الآن في المملكة المغربية التي تفخر بهويتها الإسلامية، وهو ما "يبشر" بتحديات كبيرة للدولة والمجتمع المغربي على حد سواء في المستقبل القريب.(22)

————————————————————————————————

المصادر

  1. مغربي ومسيحي 136: اختبار الاخ محمد السويسي
  2. 5 مظلات يحتمي بها "المغاربة المسيحيون" للخروج للعلن
  3. مجلة دراسات تاريخية أيلول 2011، حركة التنصير الديني في شمال أفريقيا خلال ق 2 و3 ميلادي، عبد الحميد عمران
  4. المصدر السابق
  5. المصدر السابق
  6. الديانة المسيحية في بلاد المغرب قبل الفتح الإسلامي، د عبد الرؤوف أحمد عرسان جرار، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم الإنسانية، جامعة بابل.
  7. المصدر السابق
  8. احتلال الجزائر .. رياح التنصير تهب على المغرب الأمازيغي – العربي
  9. عندما وضع ليوطي الإطار القانوني للدعاية الكاثوليكية بالمغرب
  10. جون بن عبد الجليل.. كاهن مغربي كان اسمه محمّد!
  11. قضية التبشير في المغرب بين الشد والجذب
  12. المصدر السابق
  13. Moroccan and Christian
  14. مغربي ومسيحي 98: الواجبات
  15. البابا لمسيحيي المغرب: من فضلكم لا داعي للتبشير
  16. تعليق الأخ رشيد على زيارة البابا للمغرب ولقائه بالملك محمد السادس
  17. القس آدم الرباطي لـ”سيت أنفو”: الوهابية فكر دخيل والخوف من “كنيسة سطات” يُغذي الكراهية
  18. التطبيع من منظور مغربي مسيحي
  19. قضية التبشير في المغرب بين الشد والجذب
  20. تصريحات وزيري العدل وحقوق الإنسان تغضب "مسيحيين مغاربة "
  21. المصدر السابق
  22. 5 مظلات يحتمي بها "المغاربة المسيحيون" للخروج للعلن
المصدر : الجزيرة