شعار قسم مدونات

تغريدة خارج السرب

الشرطة الأميركية اتخذت إجراءات أمنية بجامعة كولومبيا أثناء احتجاج الطلاب على حرب غزة (الأناضول)

أثار شيئا من الامتعاض في نفسي كلام قرأته، وعدم تقبل الكلام في ظرف ما لا يعني بالضرورة مجانبته للصواب أو مجافاته للواقع، فقد تذكر فيه أشياء حقيقية، وإنما العلة قد تكون في أنه يأتي في غير محله، أو ربما يجيء ضمن سياق فيه تغييب لما هو أهم منه وأولى بأن يقال.

لم يكن الكلام جديدا علي تماما، فقد سمعت أو قرأت مرارا ما يشبهه، وأطلقه حدث مقتل سبعة أشخاص يحملون جنسيات غربية، يعملون مع منظمة "المطبخ المركزي العالمي"، وذلك في غارة إسرائيلية على غزة في الأول من أبريل الجاري، وقد سبب ذلك انتقادات حادة للسلوك الإسرائيلي من الدول التي يحمل الضحايا جنسياتها، ومطالبات بالتحقيق فيما جرى والمحاسبة عليه.

وفي التعليق على ردة الفعل هذه صدرت انتقادات لهذه الدول من شخصيات عربية، على اعتبار أن الدم الفلسطيني في غزة يهدر بغزارة منذ أشهر، ولم نجد من تلك الدول مثل هذه الاعتراضات التي أحدثها أن قتل فقط بضعة أشخاص، والحدث مع ما تبعه من تعليقات أخذني إلى وقفات عدة.

الاهتمام لآلام الإنسان، وإن كان مفروضا حضوره على الدوام، فمن الطبيعي ألا يكون في مستوى واحد تجاه كل الأحداث، وإنما يتبع درجة المسؤولية تجاه هذا الإنسان الذي يلاقي الآلام.

لا شك – أولا- أن الشعور بآلام الآخرين لمجرد أنهم بشر، وبغض النظر عن العرق واللون والجغرافيا، والعمل بالتالي على رفع الظلم عنهم، وإبعاد شبح الموت والقتل عندما يلاحقهم، لا سيما عندما يأخذ صورة تبلغ حدودا فظيعة وقاسية، كما يجري في غزة.

ذلك الشعور بالآلام دليل إنسانية حية، ينبغي أن يكون له حضوره وتأثيره في المجتمعات البشرية كافة، وهذا بالإضافة إلى كونه شعورا نبيلا فإنه مسؤولية لا بد أن تترجم على الأرض فعلا مؤثرا في منع الظلم من أن يسود، وحقن الدماء البريئة من أن تراق، وهذه المسؤولية تحملها المنظمات الدولية، والحكومات التي لم يعد تأثيرها محصورا في حدود دولها، كما تحملها الشعوب التي تستطيع إذا قالت كلمتها أن تضغط على الحكومات للقيام بما ينبغي عليها.

ما ذكرناه حقيقة أولى، لا تنفي ولا تتعارض مع حقيقة ثانية، هي أن الاهتمام لآلام الإنسان، وإن كان مفروضا حضوره على الدوام، فمن الطبيعي ألا يكون في مستوى واحد تجاه كل الأحداث، وإنما يتبع درجة المسؤولية تجاه هذا الإنسان الذي يلاقي الآلام؛ وبالتالي بدا لي من غير الإنصاف أن نلوم حكومة دولة ما إذا أبدت حرصا على حياة مواطنيها يفوق ما تبديه بشأن الآخرين، وما يقال هنا عن الحكومة يصح قوله أيضا عن شعب الدولة ومؤسساتها.

المسألة بالنسبة لي بدت بسيطة، وتشبه تقديرنا لحقيقة أن الشعور الإنساني تجاه الأطفال مطلوب، لكن ذلك لن يصل إلى درجة أن يعطي شخص ما مقدار عطف ومحبة لأي منهم تماثل تلك التي تكون لأبنائه، وفي وقوفي عند هذه القناعة التي أحملها وجدت نفسي كمن يغرد خارج السرب.

في بحث الأسئلة عن إجابات، تذكرت مقولة جولدا مائير بعد حرق المسجد الأقصى: "لم أنم طوال الليل، كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجا من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده"، أفيكون الخلل في أن الآخرين بنوا قوتهم، أم في أننا استسغنا ضعفنا؟!

بسطت المسألة كما أراها لمحاوري، فأبدى تحفظه على ما قلته، معتبرا أن هذا التشخيص لا يختزل المسألة كلها، وأن الدماء التي تسيل في غزة لو كانت في دولة غربية، فإن قوة التصدي للكارثة لن تقتصر على تلك الدولة، بل ستشمل الغرب بأجمعه.

والحق أنني وجدت فيما قاله جانبا آخر معتبرا، حول تفكيري في اتجاه جديد، وفجر تساؤلات جديدة عن كلفة الدم؛ فلماذا يسفك المجرمون دماءنا دون أي حساب، بينما يحسبون لدماء الآخرين ألف حساب؟ أين موضع الخلل؟ أهو فينا أم في الآخرين؟ هل استرخص المجرمون دماءنا، أم نحن من جعلها رخيصة؟

لكني أعود إلى القول إنني لا أستطيع لوم الآخرين إن وجدوا أن بينهم روابط تدفعهم لتشكيل جبهة متضامنة، تشكل قوة رادعة ترهب وتخيف من يفكر بالنيل منهم، لكن، ألسنا أولى بذلك منهم؟ أليست الروابط بيننا في دول العرب والمسلمين أكثر بكثير مما بينهم؟ فلماذا لا نقيم لهذه الروابط وزنا؟ لماذا لا نثور كما ينبغي للدم المسفوك في غزة، ونعتب على الآخرين أنهم لم يثوروا له؟!

في بحث الأسئلة عن إجابات، تذكرت مقولة جولدا مائير بعد حرق المسجد الأقصى: "لم أنم طوال الليل، كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجا من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده"، أفيكون الخلل في أن الآخرين بنوا قوتهم، أم في أننا استسغنا ضعفنا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.