شعار قسم مدونات

استقلال السودان.. أسئلة التأسيس وأحاجي الاستمرار

فعاليات توقيع الاتفاق السياسي في السودان (الجزيرة)

لا يواجه السودان في ذكرى استقلاله السابعة والستين وضعا أكثر غموضا مما هو عليه الآن، والحقيقة الدامغة التي يتيقن منها المتابع هي عدم اليقين في الواقع والمستقبل، وربما كان ذلك الأمر سيد الموقف منذ البدء، بل حتى قبله بقليل، ففي التراث السوداني ما يشبه أدبيات النبوءات أو علم الحدثان، وتدور كلها حول أن حالا من عدم الاستقرار ستتتابع على هذه البلاد، لا يدرى متى تنقضي.

يلخص مشهد رفع العلم السوداني الأول نموذجا حقيقيا للسودان وصورته، ربما لا تخطر ببال أحد، قدمها محمد أحمد محجوب في مذكراته "الديمقراطية في الميزان" بصورة سياسية، لكنني سأعيد قراءتها بصورة أخرى.

لم يكن استقلال السودان حالة فردوسية مثالية، ولم يكن الأزهري كجومرت في الشاهنامة يعيش حالة ما قبل انشقاق الصخور عن النيران، بل على العكس كانت الثنائية، والتنوع، وبذور الصدع بارزة منذ المشهد المعبر عن رفع العلم، فمحمد أحمد محجوب، والأزهري رفعا العلم سوية، ولخص محجوب ذلك بأنه تعبير عن الوحدة بين رئيس الحكومة: الأزهري، والمعارضة، أما العسكري الذي حمل العلم وقدمه لهما، والذي تشير بعض الكتابات إلى اسمه: عبد الحميد قسم السيد تاج السر بخيت، ربما يحمل معه رمزية حضور المؤسسة العسكرية السياسي المقبل، في حين أن محمد أحمد محجوب القادم من الدويم وسط السودان، وإسماعيل الأزهري المنحدر من كردفان غربا، مثلا توازنا أبعد من مجرد فكرة السلطة والمعارضة.

كانت الثانية عشرة بالضبط، في جو شتوي معتدل في الخرطوم. خرج الناس هاتفين فرحين، لكن القصر كان يمور بأشياء أخرى، فالحاكم العام الإنجليزي يحزم أمتعته لأن إسماعيل الأزهري وجّه طلبا خطيا له بذلك، والصاغ صلاح سالم يسجل ما يجري، ويواجه إشكاليات تهدئة النار التي اضطرمت في الجنوب.

أما الجنوب، فكان القتال قد بدأ يشتعل فيه للتو منذ 4 أشهر، والسبب سوء فهم فجر برميل البارود. ففي مدينة توريت كان جنود إحدى الوحدات مستعدين للذهاب للخرطوم للمشاركة في احتفال الجلاء المقرر، وفجأة اندلع التمرد، وهذا التمرد كان بسبب تأخير جرى للباخرة المقبلة لحمل الجنود إلى جوبا، كان هذا الكلام كافيا لإشعار الجنوبيين بأنهم ليسوا جزءا من الوطن المقبل، بل سيقاسون الأمرّين على يد "الجلابة" و"تجار الرقيق"، كانت السنوات العشر السابقة كافية لبذر الخوف في نفوس الجنوبيين من الشماليين الذين كان كثير منهم معلمين وموظفين عاديين في منازلهم وأماكن عملهم، وأكلت النار الجميع، لم تبق شيخا، أو طفلا، أو امرأة، وخلد الهادي آدم هذا في قصيدة له، متسائلا: هل الشماليون من قسّم السودان أم آخرون؟

ما الذي أوصل الأمور لهذا الحد؟

لا يمكن تحميل السياسة البريطانية المعروفة بالمناطق المقفلة مسؤولية ما حصل في الجنوب، فالحقيقة أن تباطؤ السياسيين الشماليين في حسم خيارات الفدرالية أو الترحيب بها، وانشغالهم بسؤال هل نتحد مع مصر أم لا؟ كان جزءا من الخلل، هذا علما بأن جمعية اللواء الأبيض التي شكلها الضابط علي عبد اللطيف مطلع العشرينيات، تشكلت من مجموعات من الشماليين والجنوبيين، وكانت رؤيتها وحدة وادي النيل ضمن المملكة المصرية.

ثنائية مزمنة

تقاطعت في حفل الاستقلال ثنائيات أخرى، فحضور السيدين: علي الميرغني، وعبد الرحمن المهدي، ورفع العلم بواسطة المحجوب والأزهري معا، كان ذا دلالة على طريقة أخرى، فالعصر المقبل أراده المحجوب والأزهري -صرّحا أم أضمرا- عصر الأفندية من خريجي المدارس والجامعات، وبمعنى أدق: عصر الخريجين. لكن في الوقت ذاته، كان المجتمع التقليدي خارج الخرطوم والمدن الكبرى مدينا بولائه الروحي وتوجيهه الديني -وبالتبع للأمرين: السياسي- للسيدين معا، علاوة على ما انضوى تحت عباءتهما من طرق صوفية وتوجهات دينية، ولم يكن السيدان في الحقيقة رجلي تصوف وزهادة فقط، لكنهما امتلكا رصيدا من الوعي السياسي سمح لهما بتوجيه كتل الخريجين المختلفة التي تنازعت النقاش حول الاتحاد مع مصر من عدمه، وسمح لهما أيضا بالتفاهم مع الإنجليز طوال فترة حكمهم للسودان.

ولاحقا، سيبقى النزاع بين الحداثة والتقليد حتى يبلغ مداه في قتل الإمام الهادي المهدي عقب أحداث الجزيرة أبا 1970، ليثبت لاحقا أن الديناميكا في السودان تقتضي استيعاب الحداثة للتقليد، وتفهمها إياه، وانتقاله بالتدريج، وفي المقابل، أن يبني التقليد بأبوته وقيمه أدوات وطرقا جديدة للتفاعل مع الواقع، وهو ما أجهضه عدم الاستقرار السياسي ودوران الأفندية حول السلطة لا الوطن.

لم يكن سؤال المركز والهامش مطروحا في الأصل، وكانت محاولات الإجابة عن سؤال التعددية العرقية والمناطقية عبر مجلس سيادة خماسي يمثل مناطق السودان كافة، لكن سؤال المركز والهامش تضخم لاحقا، فغياب الرؤية الموحدة للوطن وفهم واقعه كان أمرا ظاهرا.

يبدو أن سياسيينا الأوائل كانوا إداريين متمكنين، ورجال دولة مميزين، لكن غياب البعد الفكري الذي يسمح بصياغة رؤية موحدة يجمع عليها الكل وينطلقون نحوها، سمح بكثرة الأسئلة وكثرة الإجابات. ومن يطلع على مداولات مجلس النواب الأول يدرك عمق المشكلة، فالجنوبيون يسألون عن حرية الدين وبناء المدارس والمستشفيات في مناطقهم، ويتحول أي نقاش بينهم وبين الأحزاب الأخرى لجدل حول تجارة الرقيق وعلاقات السلطة الراهنة بماضي الجلابة الأسود، رغم كثير من الإجابات المطمئنة من رجال وشيوخ دين بوزن الشيخ علي عبد الرحمن الذي يتناساه الكثيرون في زحام الأسماء الرزينة فكريا ودينيا.

ومما يعضد ما أقول الخلاصة التي يصل إليها محمد أحمد محجوب في نهاية كتابه "الديمقراطية في الميزان"، حيث ينتهي للكلام عن شكل الإدارة في السودان، لكنه لا يقدم تصورا شاملا للوطن وهويته، بل يقرر بجدية أهمية الفدرالية للسودان، وأهمية خيرات الوطن العظيمة، ويفصل فيها بعلم المهني الإداري المباشر للأمور، ومسؤولية رجل الدولة الهمام، لكنه ليس المفكر الذي يصوغ بعين الطائر رؤية كلية تهدي السبيل.. ربما كانت الفرصة سانحة لو أصغت الأحزاب للصادق المهدي في خطابه "الرايات السبع" الذي لا يتذكره أحد كمشروع لرؤية جامعة، فقط يتنبه له بعض شهود العصر الذين هرموا اليوم.

المحصلة كانت قلقا يتزايد يوما بعد آخر، انتهى بانقلابات، وتوزع في الرؤى، وتركيز على السلطة، وبقاء الوطن في حيز الرومانسية والأشعار التي عبرت عن أفكار أصحابها بين قوميين عرب، يعتبرون أن عرب السودان جاؤوا مشاعل نور "عمروا الأرض أينما قطنوا"، وآخرين يعتبرون حضارة السودان نتاج "عزم ترهاقا وإيمان العروبة.. عربا صنعناها ونوبة"، في حين يسعى آخرون للكلام عن الغابة والصحراء تعبيرا عن الثنائية العربية الأفريقية، ويتطرف آخرون فيهتفون "كاذب من ادعى نسبا صريحا للرسول"، وهكذا تدور الأمور.

ما الحل؟

ما أدعو إليه بجدية أن يتنبه السودانيون لكونهم جزءا من الحزام السوداني سواكن- نواكشوط بكل مفرداته الدينية والعرقية، وأن يدركوا أيضا أن هذه الهوية الوسطى المنفتحة على شمالها المصري المتوسطي وشرقها الخليجي والقرن أفريقي تتيح لهم لعب دور الوسيط لا المنحاز، والربط بين الأطراف جميعها لا التقوقع، والانفتاح المتوازن لا التهرؤ التدريجي، وأن ما يمكنهم التمسك به هو بناء علاقات رابطة بين أقاليم السودان المختلفة تحول دون تفككه عبر تعزيز اقتصاده بفرص عادلة للتنمية والاستثمار، واجتذاب السودانيين للعمل في بلدهم، والترحيب بالضيوف بنزاهة تمنع الفساد، فالروابط الاقتصادية تشعر الأطراف كلها بحاجتها لبعضها البعض، مع إستراتيجية إعلامية تمحو الصور الذهنية السالبة المتبادلة بين الأطراف، مما يسمح بنقاشات أكثر نضجا لمصير وطن عزيز وكريم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.