شعار قسم مدونات

يا صديقي.. من أنت لتهتك ستر الآخرين؟

blogs ظاهرة الإلحاد

ذكر الدّكتور محمّد راتب النّابلسي في إحدى محاضراته هذه القصّة: في حيّ من أحياء دِمشق التّراثي اسمه سوق سَاروجة، في جامع اسمه جامع الورد كان يخطب بي المفتي العام وكان رجل صالح -وهذه قصّة قديمة جدًا- هذا الخطيب رأى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلّم- في المنام، قال النّبيّ الكريم لخطيب هذا المسجد قُل لجارك فلان: "أنّه رفيقي في الجنّة"، فهذا الخطيب تأثّر تأثّرًا بالغًا؛ وهو صاحب دراسات وعِلْم وفِهم وتجويد وقرآن وخَطابة، وجاره إنسان بسيط، فذهب إليه وقال له: لك عندي بشارة من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم-، ولكنّني والله لن أقولها لك إلَّا إذا أخبرتني ماذا فعلت مع ربّك؟!

 

رفض الرّجل أن يقول شيئًا، وبعد إلحاح منقطع النّظير ذَكر قائلًا: تزوّجت امرأةً وفي الشّهر الخامس من زواجي كان حملها في الشّهر التّاسع! -إذن هذا الجنين ليس منه-، وكان بإمكاني أن أطلّقها، وأسحقها، والدّولة معي والشّريعة معي وأهلها معي!؛ ابنتهم زانية!، لكن أردت أن أحملها على التّوبة؛ فجاء بوَلَّادة في اللّيل، ولدت وحمل هو المولود تحت عباءته ووقف أمام جامع الورد إلى أن نوى الإمام فرض الصّلاة ولا يوجد أحد، فدخل إلى المسجد ووضع المولود خلف الباب والتحق بالمصلّين، فلمّا انتهت الصّلاة بكى هذا المولود، فاستغرب النّاس وتحلّقوا حوله، هو تأخّر حتّى تأكّد أنّ معظم المصلّين تحلّقوا حول المولود، فاقترب منهم وقال: خير ما القصّة؟، فقالوا تعال انظر لقيط!، قال اعطوني إيّاه أنا أكفله!، فأخذه أمام الحيّ بأكمله على أنّه لقيط.

إنّ الله لا يرفع ستره عن عبدٍ إلَّا وقد استنفذ رصيده من السّتر، حينها فقط ينكشف أمره، فلن يهلك النّاس حتّى يعذروا من أنفسهم

يقول الدّكتور النّابلسي: أنا علّقت على هذه القصّة بقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) فالعدل قسري والإحسان طوْعي، لكن هذا نقل امرأة من أن تًفضح بل قد تقتل؛ لأنّها زانية، وجعلها امرأة صالحة بهذه الطّريقة، في حالات دقيقة جدًا الإحسان يفوق العدل. جميعنا، إلَّا من رَحِم ربّي، عند المواقف الصّعبة والأحداث العصيبة نكاد نصدم عند رؤيتها أو سماعها، ولعلّ أقسى ما قد نُعايشه منها الخيانة الزّوجيّة والعلاقات المُحرّمة، أمر يصعب على النّفس تقبّله، مهما كانت المبرّرات والأسباب فإنّها لا تهوّن من حجم الكارثة وفجاعتها وقُبحها، نُصاب بدهشة، فاقدين إثرها النّطق للحظات وربمّا لوقت طويل، متفكّرين في الفعل وعواقبه على كلّ من له صِلة به من قريب أو بعيد، ناكرين على فاعله متحاملين عليه، ناعتين إيّاه بأشدّ الألفاظ والكلمات إيلامًا، متعاطفين كلّ العطف مع من وقع عليه الفعل.

هلّا توقّفنا هنا؟ ولنرَى المشهد من زاويته الأخرى: هل تفكّر صاحب الفعلة بأنّه قد يكون يومًا بطل قصّة الفضيحة القادمة؟! لا أظنّ ذلك! فكلّ صاحب معصية أو خطيئة لا يَخطُر بباله أو يتصوّر أنّه قد يكون يوما في هذا الوضع الذّي لا يُحسد عليه! إلى أن يأتي اليوم الذّي ينكشف فيه أمره، ومن هول المشهد لا يكاد يُصدّق أنّه فُضح على رؤوس الخلائق، وكلّ من تراه عيناه أو لم تره ينهش في سمعته وعرضه، وهو لا يكاد ينبس بحرف ولا يقدر على الإنكار، لا شجاعة له ولا قوّة!

فيا مسكين، ما أهونك على النّاس! وما أصغرك أمام نفسك! أنت من خطوتَ تلك الخطوات الواحدة تلو الأخرى، ربمّا البداية لم تكن منك وقد سيق الأمر إليك -نعم يُغريك الشّيطان ولكن لا يجبرك!- أنت من اخترت هذا الطريق وقرّرت أن تُكمل فيه، لم تستطع أن تكبح جماح شهوتك ورغباتك، فُتنتَ فُتونًا عظيمًا وكنتَ تظنّ أنّك أبعد ما تكون عنه، خُيّل إليك أنّها ستكون نزوة عابرة ولحظات قليلة ومن ثمَّ تتركها وتتوب إلى الله.

وها أنت اليوم وحدك! قد ضاقت عليك الأرض بما رحبت، تتخبّط فيها كأنّه مسّك جنّ من الشّيطان، تمرّ الثّواني عليك سنينًا، ترقُب وتنتظر ماذا سيحلّ بِك؟ يدور برأسك ألف ألف سؤال: كيف ستسير الحياة بعد كلّ هذا؟ ما الذّي سيحدث وما الذّي سيتغيّر؟ وكيف ستعيش وسط كلّ هذا العار الذّي يعلق بك والذّي سيظلّ يلاحقك؟ هل ستقدر على هذا الحِمل؟ هل تستطيع أن تنسى وتُنسي من حولك كلّ ما جرى؟ هل ستكرّر ما كان لو عاد بك الزّمن قليلا إلى الوراء؟ ولو سنحت لك الفرصة لتفعل هذا ثانية أتفعله؟!

تفكّر ألف مرّة بأن تُنهي حياتك البائسة لتستريح وتُريح، ولكن أنّى لك هذا؟ المصيبة جلل والفعل شنيع، وأن تنهي حياتك بهذه الطريقة مصيبة أكبر! ولا عين لك بأن تقابل الله وأنت على هذا الحال. غرّك عقلك البأس وشيطانك المريد وأوهموك بأنّك (مستور) ما دُمت تُخفي الأمر وتتظاهر بغيره فإنّك ستكون بعيدًا عن السقوط والفضيحة! أظننتَ أنّ ذنبا تعصي به الله وفعلًا تظلم به غيرك وتنتهك عِرضه وحقّه وتتمادى فيه أن يظلّ طوال العمر مستورًا؟!

مواقف بسيطة تعرّينا أمام أنفسنا، فالنّفوس ضعيفة والفتن خطّافة للحدّ الذي لا يكاد يسلم منها أحد، حتّى الصّحابة والسّلف الصّالح كانوا يتعوّذون منها، ولسنا نحن بكلّ ما فينا من ضعف بأقدر منهم على مجابهتها
مواقف بسيطة تعرّينا أمام أنفسنا، فالنّفوس ضعيفة والفتن خطّافة للحدّ الذي لا يكاد يسلم منها أحد، حتّى الصّحابة والسّلف الصّالح كانوا يتعوّذون منها، ولسنا نحن بكلّ ما فينا من ضعف بأقدر منهم على مجابهتها
 

إنّ الله لا يرفع ستره عن عبدٍ إلَّا وقد استنفذ رصيده من السّتر، حينها فقط ينكشف أمره، فلن يهلك النّاس حتّى يعذروا من أنفسهم. نفوسنا جميعًا تسيطر عليها رغباتها وشهواتها بعض الوقت، تسقطنا أرضا وتغلبنا أحيانا، والحصيف من يفلت من بين شباكها، وليست كلّ السّقطات سواء، فسقطة عن سقطة تفرق، لكن لا نتحامل ونقسم ظهرا أراد أن يستقيم، ولا نغْتر بمبادئنا فربمّا لم تُختبر بعد. نعم، لعلّ الكثير من مبادئنا وأخلاقنا لم تُختبر حتّى الآن، لم نمُتحن فيها لنرى هل سنثبت عليها أم لا، لدينا في مصر مثل شعبي يقول: "كلّ اللّي على الشّط عوّام"، بمعنى كلّ الذي خارج الأمر يقول لو كنت مكانه لفعلت كذا وكذا، ولكن ما أدراك لو كنت مكانه ربمّا هوت بك نفسك وذهبت مبادئك أدراج الرّياح!

لا يسلم أحد من الزلل! فهناك الملتزم لأنّه إلى الآن لم تأتِ إليه الفرصة للمعصية. وهناك المحترم لأنّه إلى الآن لم يتعرّض إلى موقف يختبر أخلاقه وسلوكه. وهناك الشريف لأنّه إلى الآن لم تسنح له الفرصة بعد ليسرق. وهناك المتديّن لأنّه إلى الآن لم تطرأ في باله أسئلة تشكّكه في دينه. وهناك الزّاهد لأنّه إلى الآن لم تأتِ الدنيا راغمة تحت قدميه. مواقف بسيطة تعرّينا أمام أنفسنا، فالنّفوس ضعيفة والفتن خطّافة للحدّ الذي لا يكاد يسلم منها أحد، حتّى الصّحابة والسّلف الصّالح كانوا يتعوّذون منها، ولسنا نحن بكلّ ما فينا من ضعف بأقدر منهم على مجابهتها. ننغمس فيها لنتفاجئ يومًا أنّنا أصبحنا ذلك الشّخص، أو فعلنا تلك الفِعلة التّي طالما كنّا نذكرها من قبل ونتعوّذ منها.

بعض الأخطاء تقْسم الظهر، تزرع الخيبة، تقتل، وتقهر الرّجال قبل النّساء، لحظات تصبح الحياة بعدها غير ما كانت عليه قبلها، لنا الحقّ كلّ الحقّ بالحساب والعقاب لكلّ من أخطأ وأذنب وتطاول على حقوقنا، هذا أقلّ ما نفعله، لكن أحذّر نفسي وإيّاكم من الظّلم والتّجبُّر (الفُجر) في ردّة الفعل، ونعوذ بالله من أن نكون ممّن يفجرون وتستهويهم أنفسهم بالانتقام الذّي ما بعده انتقام، قال تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ".

وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ، جاءت هنا بمعنى لا يدفعكم إلى التّجبّر وعدم الإقساط والعدل، لعلّ من أخطأ، وعزمنا على كسره، ندم واعترف بذنبه وتاب، فلنعاقب بقدَر ولنترك ما بقي لله وللأيّام، ربمّا لو أغلقنا كلّ أبوابنا في وجهه، لاستمرّ في فعله وذنبه وأوصله ذلك إلى الفجور، فربمّا يلقى في فعله السّيّء ما ينسيه ويشغله عنّا، يجد فيه مهربًا من قسوتنا وجَلدنا المستمرّ له وتذكيره ومعايرته بفعلته. كل ما أريد قوله ألّا نغلق الباب نهائيًا ولا ننسى فضلا كان بيننا يوما، فقط نتركه مواربا للطّرف الآخر (ربمّا تكون المُنجية له)، لعلّه بها يصلح ما أفسده، ولعلّنا بالتماس صدقه نستردّ تلك الثّقة التّي أضاعها يوما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.