شعار قسم مدونات

أرواحٌ مرهقة.. ماذا إن شعرنا بأحزان الآخرين؟

مدونات - رجل حزين كئابة اكتئاب

إنّ للأرواح حِمل وطاقة تُستنزف وتُنهك مع مرور الوقت والمواقف، تذبُل وينطفئ بريقها شيئا فشيئا حتّى تَعْتُم. فكما أنّ الجسد يتعب ويرهقه العمل الشّاقّ والسّهر وتفتكّ به الأمراض وتُضعفه كثرة التّفكير، كذلك الرّوح تفقد طاقتها جزءا تلو الآخر حتّى تَخِرّ قواها لِتصل لمرحلة لا تقوى بعدها على مواجهة أقلّ وأضعف الظّروف والمواقف.لاحقًا تعلّمت أنّ لحظات اليأس التّي نمرّ بها، من اكتئاب واستسلام لواقعٍ مرير دون مقاومة، ما هي إلَّا نتاجٌ طبيعيّ ومتوقّع لمراحل من حياتنا أرهقتنا فيها كثرة العلاقات المؤذية، وأنهكنا الفشل حدّ الخيبة، فكلّ المسافات التّي حاولنا قطعها والأهداف التّي أردنا بلوغها قد بَاءت بالفشل، تجرّعنا مرارة الصبر حتّى ارتوينا، وابتلعنا مُرّ الكلام وأكثره تجريحًا مِرارا وتِكرارا، وقدّمنا التّنازلات مرّة تلو الأخرى، وتغافلنا بما يكفي لإبقاء وِدّ!..

   
أحيانا نُقابل أشخاصًا قد انغلقوا على أنفسهم غير مبالين بشيء، قيّدتهم الهموم والمشاكل والانكسارات المتتالية حتّى عزلتهم عن العالم الخارجي، تاركين ضجيجه آوين إلى ركن بعيد، أرواحهم أُرهقت بما يكفي، ولا جَلدة لديهم ولا صبر، لم يعودوا قادرين على مُوَاسَاة غيرهم ولا أن يربّتوا على كتف أحد، فبهم من التّعب ما يكفي ليشغلهم عن العالم كلّه، وصلوا لـمرحلة اللّاشعور، تغيّروا رُغمًا عنهم!، لم يعد فارقًا معهم من يعاتبهم أو زعل منهم؛ جالدين أنفسهم بقسوة، محاولين الخروج من هذه الحالة لكنّهم لا يعرفون من أين البداية؛ نراهم بغير الهيئة! وردّة فعل مغايرة لما أعتدناه منهم: كمن اعتدناه في ما مضى لديه من الصّبر ليشرح ويبرّر لنا تصرّفاته التّي فهمناها بشكل خاطئ، يظلّ يحاول حتّى نفهمه تماما حينها فقط يهدأ. ومع مرور الأيّام يُصبح على غير الحال! غير مبالٍ لشيء!، لم يعد قادرًا على كثرة التّبرير؛ بل وأكثر من هذا قد نجده إن أسئنا الفهم وأفصحنا له عن هذا، قد يؤكّده لنا ليُنهي سريعًا حالة الجدل القائمة، أو يكتفي بالصّمت ويتركنا نتحدّث دون أن تنبس شفتاه بحرف، وإن أثقلنا عليه يغادرنا صامتا متنازلا عن حقّه في الرّدّ.

   

أقلّ التّقدير والإحسان بمن تجمعنا بهم علاقة طيّبة: أن نرأف بهم في أشدّ لحظاتهم ضعفا، نشعر بهم، ونحسّ بأرواحهم المرهقة والموجوعة

وكمْ من زوج (ة) ملّ المشاكل الدائمة وكثرة اللّوم ورمي المسؤوليّات عليه طيلة الوقت وفي شتّى الحالات، أنهكته كثرة التحكّمات والشّكوك. وأصبحنا نلومه بأنّه تغيّر، ولم يعد مثلما كان في الماضي؛ لم يَعُد يتحمّل، وأصبح شاردا أغلب الأوقات، ناشدًا راحته في أمور أخرى تشغله أو خارج المنزل. ألا يستدعي هذا أن نفكّر ولو لمرّة بأن نراجع أنفسنا في طريقة تعاملنا وأسلوبنا معه!، أليس من الوارد أن تكون هي السبب؟، بكلّ تأكيد لو نَملك القليل من الإنصاف سندرك هذا، بعيدًا عن الأسباب الأخرى. الحياة لا يمكن أن تستمرّ أبدًا كما نريد!، فالله تعالى لم يخلقنا نسخا متشابهة. فكثرة التّذمّر والعتب، وصبّ الغضب، وإلقاء التّهم، وإلصاق العيوب، ومحاولة السّيطرة على الطّرف الآخر لن تبني حياة سعيدة، فمن تحمّلك اليوم لن يتحمّلك غدًا، فما بالك بحياة طويلة قد تدوم لأعوام.

  

وكمْ من شخص كانت تجمعنا به علاقة طيّبة فيما مضى، ومع مرور الزّمن أصبحنا غير قادرين على أن نُهاتِفه لنطمئنّ عليه حتّى في أوقات فراغنا! هل تفكّرتم في الأمر لماذا هو دون غيره وصلنا معه إلى هذه المرحلة رغم ما كان بيننا؟!، بكلّ تأكيد هناك أسباب كثيرة لكن أقواها طريقة تعامله معنا، وردّة فعله في كلّ مرّة حاولنا فيها التواصل معه والاطمئنان عليه، من عتّبٍ زائد عن الحدّ (تقطيم)، لماذا لم نعد نسأل عنه؟، ولماذا نسيناه؟، ولماذا ولماذا.. ألَّا يعلم أنّ الحياة تمرّ بنا سريعًا وأنّ كلٌّ منّا أصبح لديه التزامات ومسؤوليّات؟ وهذا لا يعني بالضرورة أننا نسينا بعض وانقطعت الموّدة!؛ وهذا ما يثبته الواقع مع هؤلاء الأشخاص الذّين يقدّرون ظروفنا وانشغالنا عنهم ويلتمسون لنا الأعذار مثلما نقدّرهم ونعذرهم، دون أن يلقي أحدٌ منّا باللّوم على الآخر ناعتًا إيّاه بالمُقصّر و..، فكِلانا يعلم أنّ ما في القلب يبقى في القلب لا تغيّره الظّروف ما بقيت المودّة وبقي التّقدير.

     undefined

 

والصّديق الذّي نراه قد تغيّر علينا، فلم يعد كما عهِدناه واسع الصّدر، طويل البال، حَسن الظّنّ والتّصرّف. لماذا تغيّر؟ لماذا نجده يمرّ بنا ولا يكاد يرانا؟ أو يلقي السّلام ويمرّ مرورا عابرًا لا ودّ فيه!، نجده متاحًا طيلة الوقت لكنّه لا يهتمّ لوجودنا، وإن بادرناهُ بالحديث يردّ بشكل مقتضب وبحروف تخرج منه بصعوبة وكأنّنا أجبرناه على هذا. ألَّا نعلم أنّنا وبنسبة كبيرة من دفعناه وأوصلناه لتلك الحالة؟ في كلّ مرّة أسأنا فهمه وأسأنا الظنّ به، بكثرة تذمّرنا وشكوانا وشكوكنا وأخطائنا، وكثرة تحسّسنا تجاهه من أبسط وأقلّ الكلمات والمواقف نركن إلى اللّوم والعتاب.

"فسلامٌ على الذّين.. إنْ خاننا التَّعبيرُ.. لم يخُنْهُم الفهم ..
وإذا أفسَدْنا مفرداتِنا .. أصْلَحُوا نواياهُم" 

     
فأقلّ التّقدير والإحسان بمن تجمعنا بهم علاقة طيّبة: أن نرأف بهم في أشدّ لحظاتهم ضعفا، نشعر بهم، ونحسّ بأرواحهم المرهقة والموجوعة، لا نضغط عليهم حتّى نخرجهم عن وعيهم، فليست كلّ الجروح تُرى ولا كلّ الآلام لها نئنّ. بعض الأوقات والمواقف لا يَطلب فيها المرء من أحد البكاء، أو الشّفقة والعطف عليه، ولا النّصح حتّى، لكن كلّ ما ينشده أن يعطوه فرصة ليستجمع قواه وينهض دون أن يخسر أحدا، ودون أن يكثروا الضّغط عليه، فلا نضيّق عليه حتّى خلوته بنفسه!. أنشدكم الإحساس بالأرواح كما الأبدان، فالرّوح أرقّ وأضعف بكثير، وإن تغاضت وتحمّلت يومًا، هذا لا يعطينا التّصريح والإذن لنثقل عليها حتّى تضير وتضيق، فربّما قشّة زائدة عن الحِمل تقسم الظّهر.

   
"فقد يأتي خَدْشٌ صغيرٌ جداً.. أصْغَر من أنْ تشعرَ به.. ولكنّهُ يَهُدُّك! تُواجِه العَاصِفَة.. وتهدُّكَ نَسْمَة"! فلكلّ منّا مشاكله وهمومه وأحزانه المقبورة، التّي لا يراها ولا يعلم بها أحدٍ سواه. فإن ظهر منّا يوما سوء على غير العادة خلّوا بيننا وبين حسن الظنّ حتمًا سَيُصلِح الأمر، ولا تثقلوا علينا؛ فترهقوا أرواحنا فقد تفقدوننا دون أن تشعروا. فالأرواح إن أُرهقت غادرت دون استئذان! فلن ننسى أبدًا من تحامل وتفهّمنا في لحظات اليأس والتّعب، ولن ننسى من مال حين أردنا الاتّكاء عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.