شعار قسم مدونات

اللهم جمّلنا بأخطائنا..

blogs حزن
إنني أكتب إلى نفسي قبل أن أكتب لكم. إلقاء المواعظ على الآخرين سهل جدا، لكنه يصبح مسؤولا وقاصدا وحقيقيا عندما ينطلق منك. ولا أريد هنا أن أعظ نفسي أو أعظكم، لكن أحاول أن أتفكر معكم بشأن واحدة من أسوأ ممارساتنا النفسية التي تؤدي إلى اضطرابات.

قرأت في "اعترافات جان جاك روسو" الكاتب والفيلسوف: "أريد ان أعرض الإنسان طبقا لطبيعة حقيقته البشعة، وهذا الإنسان هو أنا". رأى حقيقة النفس بشعة لأنها "مفزعة وإلزامية وسرية". لا ندركها، ولا نبالي أولا بماهيتها، ثم تخيفنا أو تستفزنا وتتعبنا، فنجهد في البحث عنها ووضع تصنيفات لها وتقييمات عنها، ولما تنتجه منا كشخصيات ومسارات، مع أنها فاعل في ذلك من بين فاعلين آخرين.. لكنها الفاعل الأهم.

ونحتفظ في دواخلنا بحقائق عن أنفسنا، إن امتلكنا الحقيقة، وفيها نقوم بعمليات البحث والتنقيب والحتّ أيضا حتى نعرف لما نحن هكذا؟ لما نتصرف على الطريقة هاته؟ لما نفكر بالأمور تلك؟ لما نسير في غير الطريق الذي تمنيناه؟ أو فيما إن كنا نستحق أن نكون تعساء؟ على هذا الطريق، نقسو على أنفسنا، ولا نقبلها، وفي أحيان كثيرة نعمى عن الإشارات التي ترسلها لنا لنهدأ ونتلطف بها ونجلس إليها، لكننا نرفض، ونتدرج في لوم النفس وصولا إلى مرحلة جلد الذات.

القرآن الكريم يسمي النفس التي تقرع صاحبها على الذنب والخطأ بـ"النفس اللوامة"، وقد فسرها المفسر الشهير، أبو إسحاق الثعلبي، بالقول إنها "النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها" وفسرها الإمام الحسن البصري، بالقول إنها "نفس المؤمن، لا يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أرادت بكذا وما أرادت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه ".

إنه من الأساسي والملح والصحي أن نلوم أنفسنا، ونرى الخطأ خطأ فنعود عنه، ونتعلم من الذنب الفضيلة، لكن هل ندرك أو نتحكم في الفاصل الدقيق بين اللوم والعودة عن الخطأ/الذنب، وبين السادية كاضطراب نفسي نتلذذ فيه بإيقاع الألم بأنفسنا ! ويقود إلى تقزيم حسناتها واختصار إيجابياتها، وتقليل فاعليتها، وقد يقودك إلى مرحلة اللاجدوى ويدخلك في الاكتئاب!

في
في "اعترافات جان جاك روسو" وضع نفسه في مواجهته، قُبالته، وفي تجرد نزع عنها حماية المبررات الذاتية، وسلط عليها الصدق. حينها فقط خرج لنا كاتب من تحت الشمس.

كيف تكون سليما معافى النفس وأنت تجهزها دائما للعقاب؟ عقاب النفس وعقاب الآخرين/المجتمع. وأنت تحجزها بين هذين الاثنين، وتحجزها أيضا في ما بعد الخطأ/الذنب، وتستمر برهنها، وأنت التائب، بالعقاب الإلهي، وحتى بعقاب ميتافيزيقي وأنت تتخبط ! أليست الأخطاء هي معلمنا؟ والتجربة هي صاقلتنا؟ أليس "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" كما قال الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-.

في "اعترافات جان جاك روسو" وضع نفسه في مواجهته، قُبالته، وفي تجرد نزع عنها حماية المبررات الذاتية، وسلط عليها الصدق. حينها فقط خرج لنا كاتب من تحت الشمس، بالوجه الكامل لشخص دون تعدد، لكن الأهم أنه بلغ نفسه، ووقف بعاره وذنوبه ورهافته وحسناته كإنسان غير كامل. 

هذا القبول بما نحن عليه، بعدم اكتمالنا، بسيرورة نحت الحياة فينا، هو ما يغيرنا حقا لنصبح أفضل لا الخوف من عواقب الخطأ والذنب أو من تبعاتهما أو من تهديدات العقاب. إنه التجمّل بأخطائنا.. طريق هذا القبول ليس معبّدا فـ"كل من يكون أكثر يقظة يكون أكثر ألماً، وكل من هو أكثر وعيا يكون أكثر شحوباً" كما يقول إمام الصوفية، جلال الدين الرومي. يقول روسو"إنني مخلوق، لست كأحد منهم، فقد اعتقدت ولي القدرة على الاعتقاد بأن كينونتي ليست كأي منهم، فإن لم أكن الأفضل، فأنا المُغاير على أقل تقدير" كلنا ذلك المُغاير .. لكن ماذا نفعل لنتراحم معه؟

التراحم مع الأنا لا يعني تركها على هواها، الهوى لا يميز بين الخطأ والصحيح، لكن يعني أن لا تتحكم بنا لذة العقاب، ولنأخذ من شرح سيغموند فرويد لمبدأ اللذة، قوله إن هذا الأخيرمشتق من مبدأ الثبات، أي بمعنى الحفاظ على الاستثارة في أدنى حد لها، ولنطوعه فيصبح: الحفاظ على التقريع واللوم في مستويات صحية.

لذة العقاب تقتل النفس بالذات كما يقتلها عدم العودة عن الخطأ والذنب، أما الخطأ فلنتعلم منه، ولنبدل سيئاتنا حسنات، ونؤمن بأننا الزرع الصالح والطاقة الخلاقة. نحن جيدون كإنسان غير كامل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.