شعار قسم مدونات

نظرة في كتاب "تعليل الأحكام"

مدونات كتب دينية
المتعارف بين الأصوليين والفقهاء؛ تعليل الأحكام بالعلة، لكن ماذا لو عللنا الأحكام بالحكمة؟! ما دامت هي المقصودة أصالة، وهي الباعث على الحكم ابتداء، البحث عن الإجابة سيدفع صاحب كتاب "تعليل الأحكام" الشيخ مصطفى شلبي إلى القيام بدراسة تاريخية حول موضوع التعليل قبل مرحلة التأليف الأصولي، ليتوصل من خلالها إلى استنتاجين رئيسيين:
– الأول: أن التأليف الأصولي غلب عليه طابع التكلف في التأصيل لمسالك العلة، فكثرة الشروط والاعتراضات قلصت من مرونة التعليل، فكان ذلك سببا في ضعف حركة الاجتهاد وتضييق فسحة التعليل الذي هو أساس الاجتهاد.
– الثاني: سيرحل الشيخ إلى عصر الرسالة والاجتهاد المطلق ليستقرئ مسالك التعليل في القرآن الكريم والسنة النبوية، ويتتبع عمل الصحابة التابعين بدقة ليكشف مواطن التعليل في اجتهاداتهم الفقهية، ليخلص إلى النتائج التالية:

– أن التعليل قبل مرحلة التأليف الأصولي اتسم بمرونة مسالكه بحيث لم يقتصر على العلل الظاهرة المنضبطة، بل علل بكل وصف صالح وإن لم يتوفر فيه شرط الانضباط والظهور، يقول صاحب "تعليل الأحكام" مقارنا بين المسلك القرآني في التعليل ونظيره الأصولي: "لم يكتف القرآن بالتعليل الذي أقره وتمسك به جمهرة أهل الأصول بل علل بكل ما يصلح للتعليل به من حكمة ومصلحة ومفسدة ونفع وضر"، وليبرهن على صحة دعواه ساق العشرات من النماذج التطبيقية من القرآن وغيره ومنها على سبيل التمثيل:

سبب الامتناع عن التصريح بجواز التعليل بالحكمة سدا لباب التعدي على حدود الشريعة ورسومها، كما فعل الباطنية قديما والحداثيون حديثا.

1) التعليل بالعلة (الوصف الظاهر المنضبط): كما في قوله تعالى: "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ"، فقد رتب الشارع الحكم وهو جواز قصر الصلاة بالوصف الظاهر المنضبط الذي هو السفر.
2) تعليل الأمر بكونه أزكى كما في جواز مراجعة الأزواج في قوله تعالى: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، فالتعليل بتزكية القلب وتطهير النفس تعليل بمعنيين خفيين غير ظاهرين.
3) تعليل حكم تحريم الخمر الوارد في سورة المائدة بالحكمة من تحريمه وهي المفاسد المترتبة عن شربه.

وكذلك فعل الصحابة فقد عللوا بعموم المصلحة أو الحكمة وهي ما يترتب على الفعل من مصالح ومنافع أو مضار ومفاسد، ولم يتتبعوا الأوصاف الظاهرة المنضبطة، فمثلا جمع القرآن اعترض عليه أبو بكر في بداية بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، لكن في الأخير فاء إلى رأي عمر الذي علل اجتهاده بكونه خيرا.
يبقى التساؤل إذا كان التعليل بالحكمة بهذا الجلاء والوضوح في المصادر النقلية، فما الذي دفع بالأصوليين إلى اعتماد العلة وإهمال الحكمة، والجواب أن ذلك لعلتين الأولى علمية منهجية والثانية نفسية ذرائعية:

– الأولى: سببها الحاجة إلى تقنين الفقه، والتأصيل للمذاهب الفقهية، جعل الفقهاء يلجؤون إلى العلة لأنها سهلت عليهم تخريج المسائل الفقهية على أصول أئمتهم، وضبط الأقيسة.
– الثانية: سبب الامتناع عن التصريح بجواز التعليل بالحكمة سدا لباب التعدي على حدود الشريعة ورسومها، كما فعل الباطنية قديما والحداثيون حديثا. ورغم ذلك كثير من الأصوليون استحسنوا التعليل بالحكمة كالكرخي (ت332هـ)، والجصاص (ت370هـ)، والجويني (478هـ)، والرازي (606هـ)، والعز بن عبد السلام (660هـ)، وابنتيمية (782هـ).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.