شعار قسم مدونات

أما آن للعقل أن يعود إلى أرضنا؟

مدونات - العربي

نحتاج أكثرَ من أيّ وقت مضى وَحْدةً في المواقف العربيّة والإسلاميّة.. نحتاجُ ذكاءً يتعالى على الأحقاد والجراحات وينفُذ بدقيق فكره إلى الذي يُحاك للجميع دون استثناء.. يستشرف المستقبلَ المحتومَ إذا استمرّت غرائزنا وانفعالاتنا هي التي تحكمنا.. نحتاج زعماءَ يقلبون الطاولة على المتربّصين بالمنطقة، ويعملون على الحوار وتوحيد الصّفوف حتى تخرج المنطقة من أزمتها.. وإنّي على يقين أنّ في زعماء أمّتنا من يملك هذه القوّة المعنوية..

نحتاجُ صوتَ العقل أن يعلُو على صوت الحقد التّاريخي الذي يتردّد صدَاه في نفوسنا.. لأنّ الاستسلام لأحقادنا لن يعني إلا مزيدًا من دِمَاء الأبرياء تُراق بلا مُغيث، ومزيدًا من هدر قوّتنا وذهاب ريحنا ليتمكّن المتربّص من أرضنا وخيراتنا بعد قرون من الأحلام والمحاولات، ومزيدًا من التّقسيم لأوطاننا نسمع طبولَه تُدقّ في كلّ يوم: في ليبيا وسوريا والعراق..

أوقعنا أنفسنا، بسبب حساباتٍ مذهبية مقيتة وبسبب مصالح إقليمية موهومة، في رَحَى فتنة أكَلت كلّ ما قدّمنا لها من إنجازات قديمة وهي قليل.. وأظهرنا من الشّراسة في قتل شعوبنا والاعتداء على إخواننا.

ونحتاج صوتَ الحكمة أن يعلوَ على صوت الانتهازية البغيضة التي عالج بها بعضُهم قضايا المنطقة وأزمات إخوانهم ولا يزال يفعل.. لأنّ الخضوع لانتهازيتنا سيُشعل الأرض أعداءَ من حولنا.. ومن لم يأمنه إخوانه في شدّتهم لن يُسعفوه في رخائهم..
 

لقد أخرَجُوا أفغانستان من التّاريخ، وأجهزوا على العراق في سنوات عجاف فتركوها عاجزة لا تقدر على شيء.. ثمّ نقلوا جحافل أحقادهم إلى سوريا، وتتبّعوا كلّ دروب المجد القديم فيها ليُحيلوها خرابا بعد عمران بلغت أصداؤه السّماءَ..

وهم أولاء يستنزفون الشّعب الفلسطيني منذ عقود ويستوطنون الأرض بلا رادع، ويؤجّجون النّعراتِ المذهبيةَ والعرقيةَ والإيديولوجية في كلّ مكان: في البحرين واليمن والمغرب والعراق وتركيا ومصر..

ونحن، بعد أن سكرنا بخمرة الحقد المذهبي أو العرقي أو الإيديولوجي، رُحنا نخرب بيوتنا بأيدينا، وندعو إلى الانفصال هنا وإلى تقسيم الأرض هناك، ونصطفّ مع الظّالم لمجرّد أنه من حزبنا، ونعتدي حتّى على الحرائر والأطفال من أهلنا..
 

هذا واقع "اللاّنظام الدولي الجديد".. فوضى "خلاّقة" تضافرت عليها إرادة الفوضويين من المتطرّفين في مجتمعاتهم ومجتمعاتنا، وما عُدنا نُدركُ من فرْط الأزمة من الذي يُمسك بخيوط الفوضى.. فتنةٌ تجعل الحليم حيران، وهو يرى عبثا أسطوريًّا يحكم المشهد: استثمار في الإرهاب بطريق مباشر وغير مباشر، واستثمار في محاربة الإرهاب.. وعمليّات تُنفَّذ في "أوقات" حاسمة، كأنّ المعتدَى عليه هو الذي حدّدها واختارها، من فرط ما تخدم مصلحته.. و"أزمات" تُصنع بيد الغباء تُعطي للخصوم مبرّرات ما كان يحلم بها..
 

لقد أوقعنا أنفسنا، بسبب حساباتٍ مذهبية مقيتة وبسبب مصالح إقليمية موهومة، في رَحَى فتنة أكَلت كلّ ما قدّمنا لها من إنجازات قديمة وهي قليل.. وأظهرنا من الشّراسة في قتل شعوبنا والاعتداء على إخواننا، أكثر من قدرتنا على الذّود عن حياضنا وردّ المعتدي عن أرضنا.. وعلّلنا أنفسنا بأسماءَ جميلة تُخفّف عن ضمائرنا بعضَ ألمها إذا كان في ضمائرنا بعض الحياة..

وضيّعنا حتّى ذلك العامل الوحيد الذي كان يجمعنا: لقد كنّا إذا تألّم مجتمع عربي أو مسلم، اندفعنا بما أُوتينا من قوة الخطاب والفعل نردّ الألم عنه، أمّا اليوم، فإنّنا ضيّعنا تلك الحمية الإيجابية التي ورثناها من سنوات المجد والكرامة..

هل نقدر على أن نُرجئ خصوماتنا قليلا إلى ما بعد استقرار منطقتنا، ونحلّها عبر مراكز الحوار والنّدوات والدراسات العلمية ومؤسّسات القرار المشترك؟

والأخطر من ذلك، أنّ البعضَ من بني أوطاننا انقلبوا أدواتٍ في يد الخصم ينشر بهم الألم في أرضنا، يمشون بالموت في طرقاتنا، ويطيرون به في سمائنا يُهدونه للنّساء والأطفال حتْف أُنوفهم، ويهْدمون البيوتات التي ورثوها عن آبائهم وآبائنا، وأنْصِت إلى حلب فإنّ مرثياتها لا تنتهي.. وماتت منهم القلوب، فراحوا يرقصون على جثث الأبرياء من شعوبهم، وعلى بقايا الأوطان، يهدمها الغريب باسمهم تارة، ويسقيها هؤلاء السُّمّ بأيديهم تارة أخرى..
 

استسلمنا من حيث ندري أو لا ندري لإرادة خصوم المنطقة فينا، ورُحنا، من فرط الفتنة التي تعتمل في نفوسنا وأرضنا، نهيّئها لهم ليقتطفوها ناضجة ويتمتّعوا بخيراتها بعد أن يتخلصوا منّا كلّنا.. وما عادوا يُخفُون هذا المقصد عنّا، بعدَ أن أيقنوا أنّنا بلغنا من الشّراسة في تقتيل بعضنا حدًّا لا مردّ عنه، وأنّ الحقدَ المذهبيّ والإيديولوجيّ أعمانا، فما عُدنا نرى عدوّا إلا أخانا الذي يخالفنا في الفكرة والمذهب..
 

فهل نقدر على أن نُخيّب ظنّه فينا؟
هل نقدر على أن نُرجئ خصوماتنا قليلا إلى ما بعد استقرار منطقتنا، ونحلّها عبر مراكز الحوار والنّدوات والدراسات العلمية ومؤسّسات القرار المشترك؟
هل نقدر على أن نحلّ مشاكلنا بالحوار الصّادق المقدِّم لمصلحة المنطقة والأمّة على مصلحتنا الذاتية التي ستضيع إن ضاعت الأمّة؟
هل نقدر على أن نفهم الأولويات ونُقدّم الأهمّ على ما نراه مهمًّا، ونفوّت على المتربصين أن يستثمروا في هذه الفتنة التي نُشعلها بأيدينا، وينفخ فيها الخصوم بأدواتهم الخبيثة حتّى لا تهدأ؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.