شعار قسم مدونات

العلمانية هي الحل!

blogs - بابا الفاتيكان

وسط أجواء الاحتفال بأعياد الميلاد في أوروبا، تأكد أن الناس حكومات وشعوبا هنا تقدس دينها كثيرا وتجعله فرحة كبيرة وتحاول إظهاره بأفضل صورة، لاسيما الحكومات والجهات الرسمية التي تعلن، قانوناً، أنها دولا علمانية أو لائكية تضع الدين في المقام الأول على رأس الدولة بشعاراته فوق القطع والأوراق النقدية وفي الشوارع والممرات والميادين وتخصص، ابتداء من نوفمبر، أسواقا شعبية للاحتفاءات الدينية في ثوب اجتماعي تجاري وتشرع جميع الكنائس والمعابد والكاتدرائيات الكبرى أبوابها للزائرين وتدق أجراسها كل ليلة مرات عديدة وتنظم حفلات وعروضا في باحاتها، يمر رجالها يحملون الصلبان والقضبان يباركون الناس ويصلون لهم! وهنا في سويسرا الاهتمام والتقديس لا يقل شأنا عما هو عليه الحال في إيطاليا، التي توجد فيها دولة الفاتيكان، ولا عن إسبانيا التي تنفذ منذ خمسة قرون ونيّف وصية إيزابيلا لاكاتوليكا بحذافيرها، وأعني تحديدا ما يتعلق بالنصرانية السياسية.

ففرنسا، التي يتخذها شعوب شمالنا الإفريقي قبلة ووجهة إيديولوجية وثقافية وقدوة أخلاقية وحضارية، وهي التي لا تنفك تكرر أنها لائكية وتصر على إثبات حياديتها (neutralité) لا تختلف عن سابقاتها تقديسا للصليب على حساب مبدأ العلمانية وفصل الدّين عن الدولة؛ وهنا أتحدث أكثر عن الموقف الرسمي الحكومي للدولة الفرنسية، راعية العلمانية أو اللائكية، هذا الموقف الذي عودنا التناقضات وارتداء الأقنعة لإقناع من يصدقه مثلا بأن العلم الفرنسي أبيض وأخضر يتوسطه هلال ونجمة حمراء، فغاية الفرنسيس ليست أن يقنعوك بالحقيقة، بل ما يريدون إقناعَك به فقط، ولو كان كذبا أو وهما! وقس ذلك على بقية دول حلف الشمال الأطلسي وهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فالابتذال السياسي والأخلاقي ملة واحدة ولو اختلفت مشاربها وتفاوتت درجاتها.

إن العلمانية التي يلبس بها الغرب على الرأي العام اليوم لا تختلف كثيرا عن محاكم التفتيش بالأمس؛ فمحاكم التفتيش لا تسمح لمخالفي النصرانية بالهرطقة (مخالفة تعاليم الكنيسة) وعلمانية اليوم أيضا هي فرضٌ للنصرانية في صورة مهذبة بأدوات العصر، بالإشهار والدعاية والاحتفالات المجتمعية الموجهة وفقا لما تقتضيه حرية الرأي والتعبير وحرية المعتقد وحقوق الإنسان وبنود هيئة الأمم المتحدة ونصوص مجلس الأمن وقرارات محكمة العدل التي يجتمع أعضاؤها على مصالح مشتركة تحركها إرادة سياسية واحدة، وتوجهها إرادة دينية مهما اختلفت مذاهبها تظل موحدة تحمل رمزا واحدا ويترأسها الفاتيكان روحيا وعائلة روتشيلد ماديا. ثم إن المنظمات والهيئات سالفة الذكر هي الدول ذاتها التي تحمل الصليب رمزا للدولة، وهي ذاتها من وضعت تلك البنود والقرارات واللوائح، فكيف سيُسائل المسائل نفسه؟ الأمر أشبه ما يكون بقول المتنبي في عجُز أحد أبياته فيك الخصام وأنت الخصم والحكم. 

إن غطاء العلمانية هو الملجأ الذي لجأ إليه الغرب بعد الثورات الحديثة التي قامت في وجه تسلط السلطة السياسية الباذخة وسطو السلطة الكنسية الجائرة اللتين اتحدتا لتدمير الوجود الإنساني باسم الصليب
إن غطاء العلمانية هو الملجأ الذي لجأ إليه الغرب بعد الثورات الحديثة التي قامت في وجه تسلط السلطة السياسية الباذخة وسطو السلطة الكنسية الجائرة اللتين اتحدتا لتدمير الوجود الإنساني باسم الصليب
 

بعد كل زيارة لدولة غربية جديدة أطرح على نفسي الأسئلة ذاتها، جلها وجوديّ آني وبعضها تقليدي لا بد منه يتعلق بحاضرنا ومآلنا، قفزا على التقليدي من الأسئلة التي تبدأ بـ: لماذا تقدموا وتأخرنا؟ وكيف قاموا وسقطنا؟ وتنتهي بـ: متى وكيف سننهض من جديد؟ لأننا نعرف أجوبتها معرفة جيدة ونطرح الأسئلة ذاتها دوما، أكثر ما أتساءل عنه بيني وبين نفسي هو: ترانا لو أعيد المشهد ذاته أمامنا مرة أخرى وتوقف الزمن في لحظته الفارقة حين التقينا وجها لوجه في اتجاهين متعاكسين، هل سنعيد الخطأ ذاتَه من جديد؟ ثم أمضي إلى سفر جديد وأترك الواقع خلفي يجيب. 

سؤال واحد سئمت تكراره بين أبناء جيلي ومن يلُونهم: لماذا لا نطبق العلمانية كي ننجح مثلهم؟ في حقيقة الأمر، علمانيتنا ألعنُ من علمانيتهم، إذا أردت أن تعرف معنى العلمانية في صيغتها العربية فانظر إلى العلماني والليبرالي والتنويري الذين لو أتيحت لأحدهم فرصة السيادة الغربية في بلادنا العربية لأجلس الإسلامي إلى جانب الشيطان ليتفرّجا على إبداعاته وهو يفصل العقل عن المنطق والإنسان عن إنسانيته، لا الدين عن الدولة فحسب. تعلو ادعاءات أدعياء العلمانية والتنوير العربي معلنة ألا خلاص للأمة إلا بالعلمانية، رافعة شعار العلمانية هي الحل، مؤكدة أنه ما وصل الغرب إلى ناطحات السحاب ولا إلى القطار السريع سالكا نفقا في الأرض وسلما في السماء يصعد فيه إلا بفصله الدين عن الدولة.
 

تتناسى أن هذه الشعوب ترفع دينها وتمجّده في كل جزئية من جزئيات الحياة ابتداء من المدارس الابتدائية التي تخصص حصصا دينية نصرانية لتلاميذها، باختلاف أصولهم العرقية والدينية، مرورا بسن الشباب الذي تتم خلاله مراسم الزواج ومظاهر الفرح والابتهاج داخل الكنيسة، وصولا إلى القبر الذي يوضع فوقه صليب كبير بعد الموت. عفوا، أسقطت سهوا مرحلة مهمة قبل الموت عند حائط المبكى يرتدي فيها الناجح برئاسة العالم القبعة السوداء قبل دخول الإدارة البيضاء وحمل الصليب للشروع في مزاولة ابتزاز العالم بإعلان الحرب على الإرهاب.

إن غطاء العلمانية أو اللائكية هو الملجأ الوحيد الذي لجأ إليه الغرب بعد الثورات الحديثة التي قامت في وجه تسلط السلطة السياسية الباذخة وسطو السلطة الكنسية الجائرة اللتين اتحدتا لتدمير الوجود الإنساني باسم الصليب، فما كان لمحو عار ثلاثة أو أربعة قرون من محاكم التفتيش إلا إيجاد حل ظاهرُه سياسي وباطنه ديني يرضي جميع الأطراف، يُرمى طعما للشعوب التي تتراقص باسمه وهي تحتفي بشعائر وطقوس تجار الصليب في أعياد الميلاد السنوية والمناسبات الدينية الموسمية.

من يتحدث في الدين يكون مؤهلا لا معينا من الدولة، بل مجازا من لجنة علمية مرموقة مستقلة يرجع إليه الناس في أمر دينهم متى أرادوا، دون أن يفتن العامة عبر الشاشات والإذاعات!
من يتحدث في الدين يكون مؤهلا لا معينا من الدولة، بل مجازا من لجنة علمية مرموقة مستقلة يرجع إليه الناس في أمر دينهم متى أرادوا، دون أن يفتن العامة عبر الشاشات والإذاعات!
 

ما أرمي إليه هنا أبعد من الدين، بيد أنني لم أهتد بعد إلى توصيف دقيق لما يحدث باسم العلمانية، عبورا بمطية الدين، لأن العقل الغربي لم يبدع لنا في إيجاد تعبيرات مركبة موازية لما يسمى الإسلام السياسي وتنظيم الدولة الإسلامية بقدر ما أبدع في هذه التعبيرات التي يرددها تنويريونا اجترارا كي نطلق مثلها على مستعملي الصليب خلف ستار العلمانية فنقول النصرانية السياسية أو التجارة الصليبية باسم العلمانية. أظن أن الغرب لو طبق مبدأ واحدا فقط من مبادئ العلمانية الذي يعد أيضا بندا رئيسيا من بنود الاتفاقية الأوروبية، وهو حق الجميع في ممارسة معتقداتهم والاحتفاء بها جماعيا لرأينا المنارات تعلو في أوروبا والأذان يُرفع في مكبرات الصوت وتبريكات وتهاني رمضان والأعياد ويوم الجمعة تُكتب في الممرات ومداخل المدن بالأضواء البراقة في اللافتات، كما يحدث خلال الاحتفالات النصرانية التي أراها أمامي هذه الأيام في سويسرا وفي جميع البلدان الغربية عموما.

 

ولَما فصلت قوانين خصيصا لمنع حجاب المرأة المسلمة، ولَتم تقديم قائمة مأكولات حلال وفقا للشريعة الإسلامية موازية لقائمة المأكولات الموجودة في مطاعم المدارس والجامعات، وهو ما لا يوافق منطق أدعياء العلمانية عندنا القائل إننا نعيش في بلدانهم مبررين عدم حدوث ذلك عندهم كما لا يحدث في بلاد مسلمة، وإنْ كان دستور تلك الدولة ينص على أن الإسلام دين الدولة وليس الشعب فقط، أما إذا بدا لنا أن نقتدي -ولو افتراضا- بالغرب في علمانيته كي ننجح فإن المخالط للبيئة الغربية الذي أقام فيها طويلا وصال أكثر من بلد ولم يكن مقياسه ما يقرأ من الخربشات أو ما يلحظ من الزيارات السياحية القصيرة يدرك جيدا أننا إذا أسقطنا مبادئ العلمانية الغربية على بلادنا فإنا سنتخذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية شعارات في عملتنا، كما هو الحال في الدولار تمثيلا لا حصرا.
 

وأننا سنوسع نطاق الإسلام حتى نكون علمانيين أكثر، فنسمح بممارسة بعض المعتقدات مع غلبة الشعائر الإسلامية، كما هو الحال في جميع دول أوروبا التي تدّعي العلمانية، وسنجعل المسؤول قبل أن يعين في منصبه يمر بالمسجد كي يباركه الإمام كما يحدث في الفاتيكان أو في الكنيست أو مع رئيس العالم أمام حائط المبكى، وسنعين في القضاء عالما بالشريعة الإسلامية ونقيم نظام الحسبة في الأسواق والمتاجر العمومية، ثم ندعي أنه نظام عالمي حديث، ونلغي الضرائب ونقيم الصندوق الإسلامي للزكاة لفصل الدين عن الدولة، فلا دخل للمسجد بعد اليوم في جمع الأموال، بل الدولة هي من تقوم على جمع أموال المسلمين وتوزيعها.
 

ولا حديث للطبيب ولا للمهندس ولا للطيار ولا للميكانيكي ولا للبواب ولا لبائع السجائر، لا حديث لهم بعد اليوم في الدين والإفتاء للمسلمين، بل من يتحدث في الدين وتكون له السلطة الروحية والعلمية الذي يكون مؤهلا، لا معينا من الدولة، بل مجازا من لجنة علمية مرموقة مستقلة استقلالا حقيقيا يرجع إليه الناس في أمر دينهم متى أرادوا، دون أن يفتن العامة عبر الشاشات والإذاعات، أو باحثا متخصصا في الدراسات الإسلامية أو مقارنة الأديان، ثم نعصم الإسلام بشريعته وشعائره ومناهج دراسات أجيالنا بمختلف أطوارها، نعصمها من تدخلات الغرب العلماني إذا ما عاملناه بمبادئ علمانيته. أظن أن هذا هو عين العلمانية فإذا كانت هذه هي العلمانية، فالعلمانية هي الحل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.