شعار قسم مدونات

منسيةٌ لكنّها في القلب تحيا

blogs- يانون
لا تُفكرْ في السفرِ إلى بلاد أخرى قبل أن تطأ قدماك كل شبرٍ من أرض بلادك، وفي فلسطين عليك أن تلمس كل حجر وتحْتكَّ بكل ذرة تراب، وأن تقف عند كل تلةٍ وهضبة؛ لتحث الترابَ والحجر على الصمود والمقاومة أكثر، وأن يبقى راسخاً وثابتاً ومحافظاً على عروبتهِ وفلسطينيته. لا، بل في الواقع، عليك أن توثِّقَ علاقتكَ بالحجارة؛ فمنها يُستمد الأمل والصمود.
 

في تمام الساعة الثامنة وبضع دقائق، من دوار الشهداء في دمشق الصغرى -نابلس- انطلقت حافلات الملتقى الفلسطيني للتصوير والاستكشاف باتجاه أصغر قرية في الضفة الغربية، تقع قضاء نابلس، "يانون"، أو"يانوحا" كما عُرفت بمخطوطات العهد الكنعاني، أو"يانو" كما ذُكرت في الخرائط الرومانية. معنى اسم القرية قديما هو "الهادئة المطمئنة"، إلا أن الهدوء والاطمئنان هو الشيء الأساسي الذي تفتقده القرية في الوقت الحالي، فمن يمينها مستوطنة وأخرى على يسارها، ومن الجهة الجنوبية ثالثة تحاول ابتلاعها، فمن مساحتها البالغة 16.450 دونم، تبتلع البؤر الاستيطانية 13 ألفَ دونم من أراضيها أي ما يعادل 80 بالمئة من إجمالي مساحة القرية، وكما يحفر الخلد الأرض فيفسد مزروعاتها، هكذا فعل الاحتلال حين قسم يانون إلى قسمين يفصل بينهما سهل كبير.
 

يحدثنا أهالي القرية "يانون" أن مشهد دخول المستوطنين إلى قريتهم بات مشهداً معتاداً، فهم يدخلون بخيولهم أو سيراً على اﻷقدام، ويهددون الآمنين في بيوتهم بالسلاح.

اقتربنا من يانون، ولكن بسبب وعورة الطريق وانعدام خدمات الطرق، توقفت الباصات على مسافة أبعد من حدود القرية؛ لنكمل نحن سيراً على الأقدام، حين تقترب من يانون فإن أوّل شيءٍ تلمحه هو بيوت قرميدية قديمة، تعود للعهد العثماني، بناها البشناق حين منحهم السلطان عبد الحميد الثاني منطقة قرية يانون وما حولها ليسكنوا فيها، ولكن بعد فترة غادر البشناق أرض يانون، وبقي فيها سكانها الأصليون من الفلاحين.

تتابع السير حتى ترى عين ماء يانون، التي كانت في مرحلة ما مصدر الماء للفلاحين وزراعتهم ومواشيهم، إلا أن المستوطنين أحرقوا محرك هذه العين، ولوثوا ماءها حين أصبحوا يجلبون كلابهم ليغسلوها في عين الماء، وكما عكر المستوطنون صفو هذه البلاد حين أتوها محتلين، فإنهم لوثوا المياه التي يشرب منها الأهالي؛ ما اضطر الأهالي لشراء الماء من القرى المجاورة؛ ﻷن أهالي يانون مزارعون وفلاحون يربون المواشي. استقبلنا الأهالي -وبلفتةٍ كريمة منهم- بقطع من الجُبن الحُلو، الذي كانت أعدته لنا نساء القرية.

كلما أوغلت في القرية أكثر، فإنك تبصر العراقة تختال في أزقة شوارعها البسيطة الضيقة، فكل بيوت يانون هي بيوتٌ من الحجارة القديمة، وبيوتها قليلة تحتضن بداخلها أهل يانون الذين يبلغ تعدادهم 37 نسمة، هذه البيوت يرجع وجودها إلى فترة العشرينيات وما يتبعها، علماً بأنَّ المزارعين كانوا موجودين فيها من فترات تسبق ذلك كما ذكرت، تتابع السير فتَشْتم ُرائحة الأصالة تنبعث من أحجارها وترابها تخبرك عن عبق تاريخ كان هنا منذ سنين ولم يزل.
 

وما رأيناه أنه لا يوجد في يانون بناء جديد غير بناء "مدرسة يانون"، وبالمناسبة، تعد مدرسة يانون أصغر مدرسة في الشرق الأوسط بعدد طلابها التسعة، فأكبر صف يمكن أن ترى فيه كرسيين ومقعدين، بالإضافة إلى طاولة المعلم.

وسيكون لك في يانون نصيب من الشعور بالغصة والأسى، فحين تصل إلى آخر بيت في القرية فإنك لن تستطيع التقدم بعدها إلا عشرة أمتار، إن تخطيتها فإنك ستصبح داخل "دولة" أخرى، فعند تلك الأمتار تنتهي حدود الدولة الفلسطينية.

يحدثنا أهالي القرية أن مشهد دخول المستوطنين إلى قريتهم بات مشهداً معتاداً، فهم يدخلون بخيولهم أو سيراً على اﻷقدام، ويهددون الآمنين في بيوتهم بالسلاح، ولكن عبثاً يحاولون أن ينتزعوا الأهالي من أراضيهم، فأهالي يانون صابرون مرابطون، لا يزعزع بقاءهم مستوطنٌ أوروبي ولا كيانٌ معادٍ عزيمته وموقفه أوهن من بيت العنكبوت؛ فمقاومة الفلسطيني ودفاعه عن أرضه والذود عنها قدر وواجب كتُب عليه في اللوح المحفوظ.

أدركتنا صلاة الجمعة، فتوجهنا إلى مسجد يانون، مسجد قديم مرمم، وهو واحد من مسجدين في القرية، أرضيته جميعها قطع صغيرة تترتب على شكل رسومات طبيعية وأشكال هندسية، لتكون لوحة فسيفساء تفرش أرض المسجد على الرغم من أنها تضررت بسبب حفر أرض المسجد من قبل الأهالي قديماً لاعتقادهم بوجود كنز تحتها، إلا أنه تم ترميم لوحة الفسيفساء هذه وتم تدارك بعض الضرر الذي حل بها، وترجع دائرة الأرصاد أصل هذه الفسيفساء إلى العهد الأموي.
 

كان "مقام النبي نون" وجهتنا التالية، فَسِرنا مع الحجارة التي ترتبت وتناسقت لتدلنا على الطريق، وكأنها ترحب بنا، كما رحبت بعهود سابقة، وكما رحبت بخيل الخلفاء والسلاطين، وحجارةٌ أخرى تطلب منك أن ترتاح قليلاً وتتكئ عليها، فصعود التلة كان شاقاً بعض الشيء، وصلنا إلى أعلى التلة؛ حيث يقع مقام النبي نون، أحد المعالم التي تعود للعصر الأموي في القرية، والنبي نون هو أحد الأنبياء الشَعبويين الذين دَرج ذكرهم في تلك الحقبة من الزمن.
 

فلنؤمن بقيمة التجول في بلادنا ولندرك أهميته، ولتعلن أقلامنا وعدسات كاميرتنا التضامن والولاء مع بلادنا ضد المحتلين.

ما إن تُديرَ ظهركَ حتى ترى قبالة التلة، منظراً في غايةِ الدهشة والجمال، فلا تكَّل عيَنك ولا تملُ من النظرِ إليه، وتتمنى لو أنه يُتاح لك الجلوس أكثر في المكان، ففي الجهة المقابلة تَظهرُ جبال الأغوار، وكذلك "قمة قرن سُرطبة" أو "قمة هيردوس" وكما تعرف كذلك باسم "قلعة ألكسندريوم"، وهي قمةٌ وعرةٌ وصعبةُ التسلق، وسميت بذلك نسبة لبانيها الإسكندر المكابي، وكلمة "سُرطبة" معناها "الجَّزار"، فكما يقال، إن الإسكندر قتل كثيراً من الناس في ذلك المكان، وعلى هذه التلة التقطنا الصورة الجماعية، وهناك كانت نهاية رحلتنا في يانون، الهادئة المطمئنة، أو كما يجب أن يكون معنى الاسم في الوقت الحالي، المُقَاوِمة الصَّامدة.
 

غادرنا يانون، ولكن.. كأن شيئا من أرواحنا بقي هناك!، أو كأن البلاد التي إليها تنتمي وإياها تحب لا تميز أسماء قراها وبلداتها عن بعض، فتحس بكل بقعة من وطنك بأن شيئاً منها فيك، شيءٌ ما في قلبي يخفق حين عدت لأتذكر يانون، ويبدو أن قلمي لم يكن ليحيط بكل شيء رأيته هناك، وكل شعور خالجني أيضاً!

ما أجمل أن تتجول في بلادك، وأن تعيش قصص الصمود والمقاومة عن كثب، فتقتبس روحك آيات الصبر وأقوال الثبات من حجارة البلاد وعيون الصابرين، فلنؤمن بقيمة التجول في بلادنا ولندرك أهميته، ولتعلن أقلامنا وعدسات كاميرتنا التضامن والولاء مع بلادنا ضد المحتلين، فليس مهماً أي الجيشين ينتصر على أرض الواقع الآن، ولكن جيش من تنتشر روايته أكثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.