شعار قسم مدونات

ألّا ألد بخيمة.. ما الذي يمكن أن أريده أكثر؟

Blogs - refugee

لم أشأ أن أغادر، أين أذهب بطفلين وثالث في أحشائي؟ كيف سأتمكن من عبور الحدود بحمل ثقيل كهذا؟ لم أغادر الطيبة يوماً ولا أعرف غير درعا وطناً.. كيف أهرب من وطن لم أعرف غيره؟

 

لكني أسمع صراخ الأطفال المذعورين حتى في المنام، أرى وجوه أبناء الحي سوداء، محترقة، ولا يمكنني تمييز الأسماء. أتفقد ولدًي في الليلة الواحدة عشرات المرات. لم أشأ أن أغادر، لكنهم يأتون كل يوم، يحمل بعضهم الخبز ويحمل الآخرون سلاحاً، يخبروننا أن علينا أن نغادر، لا أحد بوسعه أن يحمي من يحب في هذه الرقعة من البلاد.

 

ما زلت لا أذكر كيف اتخذت قراري بالهروب، لعله ابني أسد الله ورجاءاته المتكررة بأن نلحق بأبيه، أو خوفي على طفلتي التي لم تتجاوز عامها الثاني.. لا أريد أن أرى وجوه أبنائي تحترق، أعتقد أن هذا ما دفعني للقبول. جاؤوا بأعداد كبيرة، ووعود أكبر، يشتمون الأسد وكل من والاه، ويؤكدون أنهم هنا للمساعدة، لم أحدد بعد ما إذا كانوا أشخاصاً جديرين بالثقة. لكن هذا لم يعد مهماً الآن. فالقصف يمتد بالتدريج للبيوت المليئة بالأطفال، وأنا قبل كل شيء أم.

 

عشرة أيام انقضت، وأولادي يفترشون التراب، وأنا، أحمل طفلاَ ثالثاً لا أعلم أين سيولد. عشرة أيام جعلتني أفكر ما إذا كان على أن أضم أبنائي وأعود، رغم الخراب، رغم الخوف والتهديد.

أخبرتني والدة زوجي عن مكان التجمع، قبل أن تقبلَ الأولاد وتدعو لي بالستر. فالستر أولاً ثم تأتي السلامة وما يتبعها من دعاوى تصيب المرء لربما بالقلق لا بالاطمئنان. سألت أفراد الجيش الحرَ عن الوجهة، فقادوني وأطفالي لمدرسة حكومية. مئات الأشخاص افترشوا الأرض، أصوات عويل، والكثير من الدعوات بالستر. أسمع من بعيد أصوات أطفال، تختلط صرخاتهم ببكاء ولدي، اضطررنا للبقاء في تلك المدرسة لبضعة أيام. تعاظم شعوري بالوحدة، ضمن هذه الجموع من أبناء الحي الذي أعرف جيداً، أتحمل وحدي مسؤولية قرار كهذا.

 

عشرة أيام انقضت، وأولادي يفترشون التراب، وأنا، أحمل طفلاَ ثالثاً لا أعلم أين سيولد. عشرة أيام جعلتني أفكر ما إذا كان على أن أضم أبنائي وأعود، رغم الخراب، رغم الخوف والتهديد. جاء أحدهم ذات ليلة، أخبرنا أن على كل منا أن يدفع 1000 ليرة مقابل ايصالنا للأردن. من لم يدفع طلب منهم التنحي جانباً وانتظار الشاحنات المقبلة. أما نحن، فخرجنا بعد منتصف الليل، وجدت نفسي وسط أكثر من 60 أو 70 شخصأُ في سيارة نقل مليئة بالأطفال، والنساء والأمراض.

 

"معلش يا ماما، اشربوا هالدوا مشان لما تفيق تلاقي حالك منيح ونكون وصلنا بسرعة عند بابا". لم أجد غير هذه الكذبة لأرددها على مسامع طفليَ وأنا أسقيهم بيدي منوماً وزعه عناصر الجيش قبل ان يطلبوا منا اعطائه لهم تحسباً، لئلا يسمع أفراد الجيش النظامي أصواتهم وتذهب جهودنا هباء. لم أسمع أسد الله يغني بعد تلك الليلة. ما زلت أشعر بغصة كلما تذكرت ذلك اليوم، سؤال واحد لم يفارقني طيلة الرحلة ماذا لو لم يستفق أبنائي؟ أأكون قتلتهم بيدي، ومن أجل ماذا؟ حلمُ بنجاة؟ اتشحنا جميعنا بالسواد، ومشينا كثيراً.. لا أذكر كم من الوقت.. لكنني أذكر بوضوح وجه مرافقينا من الجيش الحر، كان لأحدهم ملامح حادة، وشوارب لم تنبت بعد، بدا من بعيد أقرب لطفل منه الى محارب. بينما كان الآخر أكبر عمراً، بندوب غطت وجهه وكفيه.

 

كنا نتوقف كل نصف ساعة أو أكثر، نجلس على ركبنا صامتين، ليتأكد مرافقونا من سلامة الطريق. لم أدرك أننا وصلنا الا حين سمعت الهتافات: "وصلنا، شايفين الحدود"، لم أستطع الهرولة مثلهم، لكنني وصلت، فارقنا المرافقون بعد أن سلمونا للجيش الأردني. مرت دقائق قبل أن أفهم ما حدث، وقبل أن أسلم هويتي للجندي الأردني الواقف أمامي. شيء ما أخبرني الا أعطيه دفتر العائلة، فأخفيته عنه. طوابير من وجوه أعرفها جيداُ، نسوة يحتضن ما تبقى من عائلاتهن، وأخريات يلهجن بالدعاء لحرس الحدود وقيادة البلد، رجال يروحون ويجيئون، ابنتي في حاجة ماسة لحمام دافئ، كان هذا جلً ما أفكر فيه.

 

كان الفجر قد حلً حين انتهينا من تسجيل أسمائنا، قبل أن يتم اصطحابنا الى الزعتري. كنت أعلم حين قررت الخروج من درعا أنني لن أنتهي في مكان يشبه بيتي، لكنني لم أتمالك الا أن أنتحب حين رأيت ما كان من شأنه أن يكون مقراً لي ولأطفالي لفترة طويلة قادمة. شعور بالغثيان أصابني، حين وقعت عيناي على أكوام الأطفال المجمعين في خيمة كبيرة. نساء بملابس مهترئة، ورجال من مختلف الأعمار، لا فرق هنا بين أحد وآخر، فالكل يحمل صفة لاجئ. لكنني لا أستطيع أن أبقى هنا، لا أريد لطفلي أن يرى النور في خيمة على منفذ حدودي. عليً أن أتصل بزوجي.

 

قضينا ليلتنا هناك، يريد ولدَي اللعب مع بقية الأطفال، ليس هنا… لم أقطع بهم تلك المسافة لأفقدهم في أرض لا أعرفها. لم أنم ليلتها، كيف أغفو وبجانبي أكوام من الرجال! وجوه جائعة تتفرس في جسدي طيلة الوقت. لم أقوى على التحرك من مكاني، أدركت مبكراً أن للجوء طعم العلقم.

 

مرَ يومان قبل أن أتمكن من الاتصال بزوجي. كل ما كنت أعرفه أنه يعمل في أحد المقاهي في عمَان، عليه أن يخرجني من هنا بأي ثمن. أدرك تماماَ مدى غضبه حين يعرف أنني قد جئت دون إخباره، لكنني هاتفته على أي حال. " لازم تطلعنا من هون، ما فيني أبقى ولا ليلة، إذا ما جيت رح أهرب مع الاولاد" كان جل استطعت قوله، أحضر زوجي كفيلين أردنيين بدلاً من واحد، لكن هذا لم يفي بالغرض! ما زلت أجهل لم تعسًف القائد الأردني في اخراجنا.

 

مرَ يومان قبل أن أتمكن من الاتصال بزوجي. كل ما كنت أعرفه أنه يعمل في أحد المقاهي في عمَان، عليه أن يخرجني من هنا بأي ثمن.

تمكن زوجي أخيراً من إقناع أحد سائقي الشاحنات بأن يخبئني وأطفالي في الصندوق الخلفي لسيارته، لم يكن الأمر سهلاً، لكنه استجاب رأفة بحالنا ونزولاً عند رجاءات زوجي المتكررة. منعطف آخر خطير ينتظرني، لكنني أوشك على الوصول. تركت حاجياتي ورائي بناء على نصيحة السائق الأردني، تسللت خلسة بعد أن وعدني زوجي بالانتظار خارج المخيم. "يا ماما بدنا نتخبى عن جديد؟" يسألني أسد الله، أشير اليه أن يصمت، يكفيني بكاء أخته المتواصل.

 

أجلس في الزاوية وأنا أدعو ألا يوقفنا أحد، خشيت على السائق أكثر من خشيتي على نفسي، "مافيني أحمل خطيته، مشان يساعدنا يتورط " كنت أحدث نفسي وأنا أتلو ما أسعفتني به ذاكرتي من قرآن. لم أصدق عيني حين احتضنني زوجي. أعلم أن خروجي من الزعتري لا يسقط صفة اللجوء عني ولا عن عائلتي، المهم أنني أتمتع بقدر من الخصوصية.

 

أسكن الآن في عمّان، جاءت وسن في مشفى وليس على أرضية خيمة، ما الذي يمكن أن أريده أكثر؟ أسمع بأذني الكثير من الشكاوى حول تواجدي في المملكة، لكنني أصادف أيضاً الكثير ممن يدركون ما الذي يعنيه أن تترك أرضك وتزحف نحو المجهول. أسمع أن أحوال المعيشة تحسنت كثيراً في المخيمات، لكنني أفضل العودة الى سوريا، على أن أعود بإرادتي الى الخيام، لست أفضل من الباقيين، لكنني أريد أن أقنع نفسي بأنني قادرة على أن أستمر بالحلم.. لا مكان للأحلام في تلك المخيمات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.