شاهد- فتحية العارضة.. والدة مخطط "نفق الحرية" وماشية دروب السجون

منذ 7 سنوات لم تزر الحاجة فتحية ابنها محمود، وآخر ما يعلق بذهنها صورته القديمة وصوته في مكالمة هاتفية يجريها بين الحين والآخر، وفيها يخبرها عن اشتياقه لها وكيف سيقضي كل حياته بين أحضانها بعد تحرره.

نابلس– بما تبقى لديها من قوة وبكفيها النحيلتين، تحمل فتحية العارضة (أم محمد) صورة جماعية لنجلها الأسير محمود العارضة ورفاقه الخمسة الذين حرروا أنفسهم في أعقد وأخطر عملية هروب من سجون الاحتلال الإسرائيلي فجر السادس من سبتمبر/أيلول الجاري.

هذه الصورة ترافق أم محمد (80 عاما) منذ عدة أيام وتصحبها من غرفة لأخرى داخل منزلها وحيثما وجهت وجهها، فهي آخر ما لديها من صور وملصقات أعدت للأسرى الستة أبطال عملية "نفق الحرية" التي تصبر بها نفسها وتعرضها أمام وسائل الإعلام التي ما انفكت تستعرض بطولة نجلها ورفاقه.

وبمنزلها في بلدة عرابة قضاء مدينة جنين (شمالي الضفة الغربية)، استقبلتنا الحاجة فتحية ونجلها الأكبر محمد، بينما كان الأحفاد وبعض الأقارب يودعون وفودا من المسؤولين، والشخصيات العامة، والأسرى المحررين، وأهالي القرية، وآخرين جاؤوا من كل حدب وصوب للتضامن مع العائلة ومؤازرتها.

للاستخدام الداخلي فقط - الاسير محمود العارضة قائد عملية الهروب من سجن جلبوع- الضفة الغربية- جنين- عرابة- الجزيرة نت3
الأسير محمود العارضة قائد عملية الهروب من سجن جلبوع (الجزيرة)

الخوف من المصير

ورغم التعب وصعوبة وضعها الصحي وجسدها الذي أنهكه مرض "الضغط والسكري" وأمراض مزمنة أخرى مثل "حزام النار" الذي ظهر على وجهها وكادت تبيض عيناها حزنا، أخذت أم محمد تسرد حكايتها المرة مع الاحتلال الإسرائيلي وتنقلها بين سجونه طوال ثلث قرن أو يزيد.

ومن حيث انتهت قصة الهروب الأخيرة بإعادة اعتقال الاحتلال نجلها محمود، حدثتنا كيف استقبلت النبأ ونجاح العملية. ولأن قلبها متعلق بمحمود لم تنم بعد صلاة فجر ذلك اليوم، وظلت تتقلب بفراشها حتى جاءها ابنها محمد بالخبر "يمّا (أمي)، محمود و5 أسرى آخرين فروا من سجنهم".

للاستخدام الداخلي فقط - الاسير محمود العارضة قائد عملية الهروب من سجن جلبوع- الضفة الغربية- جنين- عرابة- الجزيرة نت3
الأسير محمود العارضة قائد عملية الهروب من سجن جلبوع ورفاقه الخمسة (الجزيرة)

لم تصدق ما سمعت، ولوهلة ظنت أنه حلم وراحت تفكر كيف أن سجلا من زيارات السجون الممتد عبر عشرات السنوات ومئات الزيارات سيطوى للأبد، فأول وآخر أبنائها في الأسر قد تحرر، لتصحو بعد دقائق على وجع أكبر خلط فرحتها بحزن المصير الذي ينتظره الأسرى "الاعتقال أو الاستشهاد".

تقول أم محمد "ظللت على هذا الحال أواسي نفسي، وكنت أدعو الله بأن يحفظهم ويحقق مرادهم، وتمنيت -رغم خوفي عليه- لو أضمه لحضني مرة".

ومنذ 7 سنوات لم تزر الحاجة فتحية ابنها محمود، وآخر ما يعلق بذهنها صورته القديمة وصوته في مكالمة هاتفية يجريها بين الحين والآخر، كان يخبرها فيها عن اشتياقه لها، وكيف سيقضي كل حياته بين أحضانها بعد تحرره.

شعارات خطت على الجدران من وحي عملية نفق الحرية- الضفة الغربية- جنين- عرابة- الجزيرة نت8
شعارات خطت على الجدران من وحي عملية نفق الحرية (الجزيرة)

العقاب الجماعي

ثمة خوف آخر كان يطارد الحاجة أم محمد ويطغى على شوقها لرؤيته الذي بدأ مع الساعات الأولى لهروب محمود، حيث توالت اقتحامات جيش الاحتلال للمنزل وتهديداته باعتقال أبنائها؛ فاعتقل بداية ولديها رداد وشداد، ثم محمد وأحمد وابنتها باسمة وقد أفرج عنهم بعد تحقيق مضن.

وهذه الاعتقالات لم ترهب أم محمد فقد جرَّب 5 من أبنائها غياهب السجون وزنازينها المظلمة، ففي عام 1991 اعتقل نجلها محمود، ثم أفرج عنه بعد نحو 4 سنوات، ليعتقل بعدها مرة ثانية ويحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

ثم اعتقل أولادها رداد (قضى 20 عاما) ومثلها قضى شقيقه أحمد، بينما اعتقل شداد (7 سنوات) وابنتها "ومهجة قلبها" هدى (6 سنوات) ليصبح سجل العائلة حافلا بآلام الاعتقال ومآسيه.

وبآهات اختلجت في الصدر ودمعات لم تفارق مقلتيها خلال اللقاء، استذكرت أم محمد أياما وسنوات كانت قضتها على "دروب السجون"، وكيف سارت على قدميها عشرات الكيلومترات، لا سيما خلال الإغلاقات والاجتياحات إبان انتفاضة الأقصى.

شعارات خطت على الجدران من وحي عملية نفق الحرية- الضفة الغربية- جنين- عرابة- الجزيرة نت8
شعارات خطت على الجدران من وحي عملية نفق الحرية (الجزيرة)

واستذكرت جلسات المحاكم وإحضار الاحتلال أبناءها مكبلين محاولا إذلالهم والنيل من عزيمتها ومعنوياتها.

وتقول إنه حين حكم القاضي بحبس محمود مدى الحياة ورداد 20 عاما، أرادها أن تحضر جلسة النطق بالحكم ليزيد وجعها ويضاعف أمراضها بقهرها "فطلب مني أبنائي عدم الحضور وأفشلنا خطة القاضي ومكره، وكسرنا شوكته".

ومنذ بدء الاعتقالات لم تجتمع أم محمد مع أبنائها جميعا على مائدة طعام واحدة، وتوفي زوجها كمدا عليهم، ليطلق عليها أهالي قريتها -بلدة عرَّابة- لقب "خنساء فلسطين" و"أم الأسرى الصابرة"، وتقول إن قلبها "مجمور" على رؤياهم مجتمعين قبل رحيلها.

لم يكن محمود العارضة مدللا لدى والدته، بل كانت ترى به "الرجل المجاهد" والطفل الذكي والمتفوق بدراسته وارتياده للمساجد وحفظ القرآن والمحبوب من الجميع وصاحب إرادة وعزيمة يقل نظيرها.

محمد العارضة شقيق الاسير محمود العارضة قائد عملية الهروب- الضفة الغربية- جنين- عرابة- الجزيرة نت5
محمد العارضة شقيق الأسير محمود العارضة قائد عملية الهروب: الأيام الخمسة من الحرية التي عاشها محمود والأسرى بكل تفاصيلها أنستهم سنوات عجاف قضوها بالمعتقل (الجزيرة)

5 أيام.. عمر جديد

وهذه الإرادة كما يقول شقيقه الأكبر محمد -الذي استكمل الحديث عن والدته بعدما أُجهدت- تجلت في إصراره ونجاحه في الهروب من سجون الاحتلال بعد محاولات أفضت به للعزل والعقاب بعد كشف الاحتلال لها.

ولا يعرف محمد أين كانت ستكون وجهة شقيقه محمود ورفاقه الأسرى، ولماذا لم ينسق لإتمام الهروب خارج السجن، لكن ما هو متأكد منه أنهم أرادوا الحرية بعيدا عن السجن وعذاباته "ولو خارج وطنهم".

ويقول إن الانتصار ولد منذ اللحظة الأولى التي حفروا بها النفق، وتكلل بخروجهم منه ورؤيتهم لقراهم وبلداتهم الفلسطينية "والتجوال بين الأراضي وأكلهم من خيراتها من البطيخ والصبر والبرتقال".

ويضيف "هذه الأيام الخمسة من الحرية عاشها محمود والأسرى بكل تفاصيلها، وقد أنستهم مشاهد فلسطين التاريخية سنوات عجاف قضوها بالمعتقل، وهذا بالنسبة لهم شيء كبير وسيروون حوله قصصا وحكايات".
وفي منزل العائلة صدحت أغاني المقاومة وعلت جدرانه صور لمحمود وأشقائه الأسرى وخطت عبارات تحييهم وتثني على شجاعتهم في عملية "نفق الحرية" بعضها أخذ عن لسان والدته.

المصدر : الجزيرة