حيض مبكر وسمنة.. حفيدات اليوم يدفعن ثمن استخدام الجدات المبيدات الحشرية

اعتمد فرانكلين سي نيلسون في تركيبته السحرية "فليت" على الزيوت المعدنية، و5% من مادة "دي دي تي" (DDT) السامة.

درجة تركيز مادة "د. ترانس سفينوثرين" ترتفع في مبيدات الحشرات المنزلية لأكثر من 90% وتسمم الإنسان إذا استنشقها (غيتي)

إذا كنت من أبناء الجيل الذهبي فربما لا زلت تكررين كلمات إعلان "فليت" الأصلي: "ينتشر ويتوغل ويتسرب ويقتل ويستمر". لإعلاء البسمة على وجه من يشاركك تلك الذكريات، لكن المؤسف في ما اكتشفه باحثون في جامعة كاليفورنيا قبل أسابيع قليلة بأن استخدام الجدات الأميركيات للمبيدات الحشرية -المحظورة منذ عقود- يؤثر على الحفيدات، وإن توقفن عن استخدام المبيدات بعد عقود، ويصيبهن بالحيض المبكر والسمنة، وهما عاملان خطيران أساسيان للإصابة بسرطان الثدي وأمراض القلب والأوعية الدموية.

دافعي عن بيتك

سنعود قليلا للوراء عند ظهور منتج "فليت" (FLIT) لأول مرة، فهو الاسم التجاري لمبيد حشري اخترعه الكيميائي فرانكلين سي نيلسون، وأنتجته شركة "ستاندرد للزيوت" (Standard Oil Company) بولاية نيوجيرسي الأميركية، ووصل إلى أيدي المستهلكين عام 1928، بهدف قتل الذباب والبعوض، بعدما أصبح الاختراع الجديد موضوع أضخم حملة إعلانية في ذلك الوقت.

اعتمد فرانكلين بتركيبته السحرية على الزيوت المعدنية، و5% من مادة "دي دي تي" (DDT)، ولم تختلف فكرة الإعلان الأول لـ"فليت" عام 1928 عما نراه اليوم؛ حيث بدأت الفكرة برسوم كاريكاتيرية تصور صرصورا ضخما يتسلل بشراسة إلى غرفة نوم طفل يدعى "هنري"، وما أن ترى الأم الذعر مرسوما على وجه ابنها، تطلب منه إحضار "فليت" بأسرع ما يمكن، وتطلق الرذاذ من العبوة بكل قوة، ثم تنام الأسرة في سلام، حتى أصبحت جملة: "هنري، أسرع وأحضر فليت" من أقوى العبارات المستخدمة بين الحربين العالميتين في الرسوم الكاريكاتيرية للسخرية من الأعداء.

استمر استخدام مادة "دي دي تي" أو "ثنائي كلورو ثنائي الفينيل ثلاثي كلورو الإيثان" كمبيد حشري على نطاق عالمي، قبل أن يكتشف تأثيرها السلبي واسع النطاق على البيئة، وحظر استخدامها في الولايات المتحدة منذ عام 1972، وتصنيفها مادة مسرطنة بشرية محتملة بعد إصابة الحيوانات التي تعرضت لها بأورام في الكبد والخصيتين.

يؤدي الاستنشاق المستمر لجرعات عالية من مادة "د. ترانس سفينوثرين" إلى شلل في الجهاز التنفسي والوفاة (غيتي)

وبعد التوقف عن استخدام "دي دي تي" في الولايات المتحدة، انخفض تركيزها في البيئة والحيوانات، ولكن المادة معروفة بشدة ثباتها في البيئة، وتراكمها في الأنسجة الدهنية للكائن الحي، وقدرتها على الارتفاع لمسافات طويلة في الغلاف الجوي العلوي، مما دفع بعض البلدان للتفاوض حول التحكم في استخدام مادة "دي دي تي"، في تسعينيات القرن الماضي، تحت رعاية برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

تعرف هذه المعاهدة باسم اتفاقية "ستوكهولم بشأن الملوثات العضوية الثابتة"، وتتضمن إعفاء محدودا لاستخدام "دي دي تي" للسيطرة على البعوض الذي ينقل الميكروب المسبب للملاريا في بعض الدول، وترك الأمر للبلدان الفردية لتقرير إذا كانت ستستخدم "دي دي تي"، مما سمح بإعادة استخدام اسم العلامة التجارية لـ"فليت" لمنتجات أخرى للإبادة الحشرية، مع المكونات النشطة نفسها.

بصمة دائمة على الصحة

يمكننا تخيل مقدار الضرر الواقع علينا إذا علمنا أنه بعد حظر دام 4 عقود قام الباحثون في جامعة كاليفورنيا، ومعهد الصحة العامة في أوكلاند بجمع عينات دم مؤرشفة من 15 ألف امرأة كن حوامل عندما كانت المبيدات الحشرية شائعة، ثم عمل الباحثون مع بنات هؤلاء النسوة وحفيداتهن، وجمعوا عينات دمهن لمعرفة كيف أثرت مادة "دي دي تي" عليهن قبل ولادتهن.

ووجد الباحثون أن النساء في العشرينيات والثلاثينيات من العمر اللواتي لديهن جدات تعرضن لهذه المادة كن أكثر عرضة للإصابة بالسمنة 3 مرات أكثر من المعتاد، في عمر 11 عاما تقريبا، واختبرن الحيض في سن صغيرة، وهي المؤشرات المبكرة للإصابة بمرض سرطان الثدي وارتفاع ضغط الدم والسكري في وقت لاحق من العمر، مما يجعل النساء اللائي يسرن على الأرض الآن -حفيدات أولئك الحوامل- معرضات للخطر.

وجاءت نتيجة الدراسة مؤكدة لنتائج دراسات سابقة، منها تلك المنشورة في مجلة "منظورات الصحة البيئية" (Environmental Health Perspectives) عام 2007، التي أثبتت أن بنات النساء الأميركيات الحوامل اللائي تعرضن سابقا لمادة "دي دي تي" كن أكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي 5 مرات.

هل استخدمت فليت اليوم؟

ما زال "فليت" صاحب مكانة في البيوت العربية، مما دفع "محاسن" (65 عاما) للتعجب من خبر حظره منذ القرن الماضي، وتتذكر -في حديثها للجزيرة نت- أيام طفولتها مع مبيد "بوليس النجدة"؛ وهو عبارة عن زجاجة بها محلول مركز، تشتريه من محلات العطارة مقابل 5 قروش، وتخففه والدتها بالمياه والكيروسين، وتحرص -بفطرتها كأم- على رشه بعيدا عن الطعام.

عرفت "محاسن" في صغرها رائحة "أكسوفين" أو "أوكسي فلورفين" (Oxyfluorfen)، كنوع آخر لمبيدات الحشرات، لا سيما حشرات الرأس، وما زالت تتعايش معها في بيئتها الريفية، حيث يتبرع به الفلاحون، ويخلطونه بالكيروسين، لرش الشوارع في الصيف، حين ينتشر البعوض، ويؤرق الأهالي في نومهم.

وصدر تقرير لـ"وكالة حماية البيئة الأميركية" (EPA) عام 2002 لتصنيف "أوكسي فلورفين" على أنه مادة مسرطنة محتملة للإنسان، بناء على دراسات أثبتت إصابة الفئران المعرضة له بالأورام الغدية ذات الخلايا الكبدية، وإحداث إصابات بمخ الأسماك التي تعيش في المسطحات المائية المجاورة لمناطق استخدامه، لترسب المادة في القاع وعدم تحللها لعقود، ورغم ذلك فلا يزال "أكسوفين" وسيلة الفلاحين في بعض الدول للتخلص من حشرات المحاصيل الزراعية، وحشرات الدواجن.

ولدى سؤالها عن المبيدات الحشرية التي تستخدمها، وإذا كانت تتبع التحذيرات المدونة على العبوة، اتجهت "ياسمين" (50 عاما) إلى منتج شهير استخدمته قبل ساعات لقتل الحشرات الزاحفة، وبدأت تقرأ مكوناته، باحثة عن مادة "دي دي تي" المسرطنة، لتجد "د. ترانس سفينوثرين" (CYPHENOTHRIN) كمكون أساسي.

وفي حديثها للجزيرة نت، أكدت "ياسمين" أنها المرة الأولى التي تنتبه فيها لضرورة قراءة تعليمات السلامة، وعبارات التحذير، وإذا كان المنتج يتبع النظام المنسق لتصنيف المواد الكيميائية "جي إتش إس" (GHS)، الصادر عن الأمم المتحدة، للدلالة على مدى خطورة مكونات المبيد على الإنسان والبيئة، ودرجة سميته.

وترتفع درجة تركيز مادة "د. ترانس سفينوثرين" في مبيدات الحشرات المنزلية لأكثر من 90%، وتسمم الإنسان إذا استنشقها، أو سقطت على الجلد، أو اتصلت بشكل مباشر مع الجروح المفتوحة. وما زالت تلك المادة قيد المراجعة الدولية، نظرا لأن درجة سميتها للحشرات أعلى بمقدار ألف مرة مقارنة بالثدييات، لكن المركز الوطني للمعلومات التقنية الحيوي (NCBI) أدرجها كمادة شديدة السمية، بعدما تسببت في وفاة الكلاب والقطط.

وأثبت تماثل تأثيرها السلبي مع تلك التي تسببها مادة "دي دي تي"، وظهور حالات إصابة بالربو على المستخدمين، كما أنه في الحالات القصوى يمكن أن يؤدي الاستنشاق المستمر لجرعات عالية من مادة "د. ترانس سفينوثرين" إلى شلل في الجهاز التنفسي والوفاة، لعدم وجود ترياق للتسمم من تلك المادة.

المصدر : مواقع إلكترونية