مصمم الأزياء ساتيا بول.. جمع بين التراث والحشمة في تصميمات الساري الهندي

أضحى الساري الهندي مع ساتيا بول علامة تجارية كبرى تعبر عن هوية المرأة واستقلالها وأصالتها واحترامها لعاداتها وتقاليدها.

مصمم الأزياء الهندي ساتيا بول (مواقع التواصل الاجتماعي)

يظل مصمم الأزياء الهندي ساتيا بول (1942-2021) الذي رحل قبل أسابيع قليلة أحد أبرز رواد فن الموضة داخل الهند. وبفضل التجديد الذي أدخله على مجال الموضة، كان ساتيا في طليعة التجارب الفنية الهندية الأكثر وعيا بالتراث المحلّي وثقافته وتاريخه.

وحقق ساتيا التميز مقارنة مع أسماء أخرى انحرفت عن مسار الموضة بالجري وراء الصيحات الغربية المعاصرة ونجومها، التي تظهر هنا وهناك، ولا سيما في بريطانيا. إذ ظلت بعض تصاميم الأزياء المُنجزة داخل الهند بمنزلة نماذج بريطانية مُصغرة نُفّذت على أرض الهند بمواد محلّية لا أكثر.

وكان ساتيا بول على وعي منذ البداية بأن الموضة ليست تزويقا أو حتى عملية رتق ونسج وتوليف للأثواب، بقدر ما تتضمن بعدا فكريا وروحانيا، يتمثل في قدرة هذا الزي على التماشي مع جوهر الحياة الحقيقية للشعوب، التي تنتج هذا النوع من الأزياء. ومن ثم، رأى أن الهرولة وراء الموضة الغربية مجرد وهم.

هذا التعلق بتراث الآخر على أنه خلاص فني، لا يقود المرء إلى ابتداع أشكال جديدة مبتكرة، بقدر ما يحكم على هذا الآخر بوعي شقي لا يخرج عن التنميطات البصرية وإعادة التدوير الفني والجمالي. وذلك ما يجعل هذه التصاميم تعيش وهما لحداثة فنية متصدعة، لأن التصاميم منهارة في أساسها وخارجة عن شروطها الجمالية وسياقاتها التاريخية الغربية.

حياة بسيطة

ولد ساتيا بول سنة 1942 في باكستان، وهناك قضى مراحل طفولته قبل أن يهاجر مع عائلته صوب الهند. لم يستطع الدراسة والحصول على شهادة في التصميم والغرافيك، بل ظلّ يشتغل سنوات طويلة في شركات تصنيع الأثواب، قبل أن يعمل على فتح متجره الخاص في بداية الثمانينيات. واستطاع بحكم شغفه بلباس المرأة الهندية التعلم لوحده بعيدا عن المدارس والأكاديميات، في وقت لم يكن والد ساتيا بول يملك شيئا من المال بعد قدومه من باكستان.

لكن نجم ساتيا سطع بعد سنوات قليلة في مجال تصميم الملابس، بعد تجديد ما يعرف اليوم بالساري الهندي، فتحول المتجر الصغير إلى شركة ثم بعد سنوات أصبح علامة تجارية عالمية تستثمر الملايين من الدولارات لخلق مراكز ومحالّ وشركات داخل عدد من المدن الهندية، خاصة في مومباي ونيودلهي.

وفي المرحلة التي قضاها ساتيا بول منهمكا في العمل في منتصف الثمانينيات، تتلمذ على يده كثير من الطلبة الذين أصبحوا اليوم من صنّاع الموضة في الهند، بفضل ما كان يتيح لهم ساتيا من حرية في الاشتغال وتجاوز الأشكال والقوالب المعروفة، التي يدرسونها في المعاهد.

ويقول المصمم ماسابا غوبتا عن الرحلة الطويلة التي قضاها في شركة ساتيا بول "انضممت إلى العلامة التجارية في سن الـ23، وتأكدت أن المهمة أفضل تدريب يمكن للمرء أن يحصل عليه في مجال الموضة.. ففي ذلك الوقت كانت بالنسبة لي أفضل تجربة تعليمية أطلقت عليها لاحقا اسم (مرحلة تدريب)".

إن الطريقة التي كان يشتغل بها ساتيا تجعل الطلبة يرتادون شركته للتعلم والعمل لاحقا، فقد كان يمنحهم الحرية التي يفتقرون إليها داخل معاهدهم ذات التأثير الغربي، بل أكثر من ذلك، كان يمنحهم حرية إطلاق العنان لمخيلتهم الإبداعية وجعلها ترتاد عوالم أخرى من الموضة بالطريقة التي كان يقول لهم فيها "انسوا ما تعلمتموه عندي". وهذ الأمر هو ما كان يميز تصاميم ساتيا داخل الهند، فأغلب مصمّميه هم فنانون عاشقون للألوان، كما أحبها ساتيا نفسه.

ويقول المصمم الهندي كوشيك فيليندرا في حديث خاص لصحيفة "غارديان" (Guardian) البريطانية "طالما فكرت أنه فنان، يعمل بألوانه مثل الرسام".

الحق في الجمال

التفكير في الموضة بوصفها عملا فنيا قاده بشكل مبكر إلى اجتراح مشروع جمالي لا علاقة له بالغرب ولا بأي اتجاه فني معاصر يستلهم خصوصيات متعددة لهويات الآخر ويجعلها تستوطن تصميماته، وإنما يعمل على استلهام الموروث البصري الهندي وتاريخه وتطويعه إلى أن يغدو الأساس الهوياتي، الذي يشيد عليه مفهوم الموضة لديه.

نقّاد الفن عبر العالم يرون أن ساتيا لا يعبّر إلا عن نفسه وهواجسه وخصوصيات تراث بلده، معتمدا على تصاميم معاصرة تستلهم جودة الأثواب ورهافتها، التي تبرز جمال المرأة وحريتها وحشمتها عن طريق تشذيب هذا اللباس التاريخي وإضفاء نوع من الأبعاد الجمالية التي تمتح معينها من الفن المعاصر، ويكتفي فقط بالأشكال الغربية لا بمحتوياتها وما تحمله من مضامين وسياقات تاريخية طالما عدّها ساتيا بول خارجة عن وعي المرأة الهندية البسيطة.

ثورة الأزياء التراثية

وشكّل تجديد الساري ثورة في عالم الأزياء الهندية، في وقت ظلّ فيه المصممون يحاكون بأفكارهم وتصوراتهم اللباس الغربي، حتى جاء ساتيا بول ففتح قارة مجهولة في دنيا الموضة الهندية وعلى شواطئ التراث الهندي، وأحالها قاطرة تعمل على تثمين مختلف التصورات الفنية التي تحرر المخيلة البشرية من ركام الشوائب المفاهيمية وتياراتها، وتعمل على اجتراح مشروع فني لا يرى وجوده إلا في مرآة نفسه.

هذه الصفات المتفرّدة لدى ساتيا جعلته الأقرب إلى قلوب الممثلين والمخرجين السينمائيين في بوليود، خاصة أن المسلسلات الدرامية والسينمائية كان لها دور كبير في إبراز ساتيا بول، بوضع تصميماته في قلب الصناعة السينمائية من أفلام وحفلات وكرنفالات وسهرات.

وحظيت تصاميم ساتيا المميزة ببساطتها وألوانها المزركشة والقماش الطويل بإقبال من نجمات بوليود مثل كاريشما كابور وكارينا كابور وإيشووريا راي ومادهوري ديكشن وفيديا بالان، وأبرزت تلك النجمات الساري الجديد في كثير من المناسبات الفنية والأفلام الهندية منذ منتصف الثمانينيات، ولا سيما في الأفلام التاريخية والملحمية والعائلية حيث تبرز خصوصيات الساري في أحضان الحياة الاجتماعية، مثل "ديفداس" ( Devdas) و"كابي خوشي كابي جام" (Kabhi Khushi Kabhie Gham).

 

تهميش ثم مجد

ورغم هذا الطموح الفريد الذي ميّز أعمال ساتيا، فإنه بقي مهمّشًا من المؤسسات الفنية في بداية حياته، لكن الغريب والمدهش في مساره الإبداعي، هو أنه في الوقت الذي غيّبته شركات الموضة الهندية وتجاهلت تصاميمه التجديدية، كان إيمانه باستقلالية المرأة الهندية البسيطة قويا من خلال "الساري" وقدرة هذا اللباس على أن يكون متعدد الاستعمالات. وقاد المرأة الهندية إلى إحداث ثورة بهذا اللباس الذي أضحى علامة تجارية كبرى تعبّر عن هويتها واستقلالها وأصالتها واحترامها لعاداتها وتقاليدها.

هو الذي فطن منذ نزوحه مع عائلته من باكستان إلى أن المجتمع الهندي من المجتمعات المُركبّة التي لن تستطيع القوى الخارجية (الاستعمار مثلا) إحداث تغيير في نسيجها الاجتماعي أو التأثير في أنماط تفكيرها ومدى تعلقها بعاداتها وتقاليدها؛ إنه تفكير سابق جعله يختار"الساري" ليكون لباس المرأة الرسمي.

المصدر : مواقع إلكترونية