العشاء الأخير وكيف تكونت قائمة "الواسطات" في فيسبوك؟

وصلت قوة زوكربيرغ إلى أن يطلب منه رئيس أقوى دولة بالعالم أن يمنحه الحق في التحدث عبر المنصة بحرية ويدعوه لتناول العشاء ويقايضه.

كومبو يجمع ترامب وزوكربيرغ
الصفقة المزعومة، كما أفاد تشافكين، ستسمح لترامب وكذلسياسيين الآخرين بمواصلة قول ما يريدون على الشبكة الاجتماعية دون التحقق من صحة كلامهم (رويترز)

يبدو أن العملاق التكنولوجي "فيسبوك" (Facebook) أصبح في عين العاصفة طوال الوقت، فمنذ فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" (Cambridge Analytica) التي شقت الطريق للرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يكاد لا يمر شهر دون أن نسمع بمشكلة جديدة بطلتها المنصة الاجتماعية الكبرى في العالم.

ومؤخرا نشرت صحيفة وول ستريت جورنال (The Wall Street Journal) بعض المقالات على شكل "بودكاست" (Podcast)، تناولت فيها الحديث عن مذكرات داخلية حصلت عليها من أحد موظفي شركة فيسبوك التي يبدو أنه غاضب بشكل كبير على سياسة رئيسها التنفيذي مارك زوكربيرغ.

فهو لم يكتف بتسليمها للصحافة، بل سلمها إلى الكونغرس الأميركي ولجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، وهي الجهة المنظمة لسوق الأوراق المالية، مما يجعل الكرة الآن في ملعب المشرعين والقضاء، وهذا ليس بالأمر السهل في الولايات المتحدة.

ومع أن القضايا التي طرحتها التسريبات مهمة وخطيرة وتبيّن كيف أن زوكربيرغ وإدارته على علم بتأثير منصته السام على فئات كبيرة من المستخدمين، إلا أن أهم ما جاء فيها كان ذكر "القائمة البيضاء" أو القائمة "إكس" في المذكرات، وكيف تكونت هذه القائمة.

وعند قراءة المادة المنشورة في وول ستريت جورنال، يتبيّن بشكل لا ريب فيه أننا أمام إمبراطورية تحاول بشكل كبير السيطرة على العالم وقياداته.

العشاء الأخير

هناك مثل فرنسي يقول "يهدي المرء بيضة ليهدى بقرة".

في عام 2019، ذلك العام البعيد وقبل جائحة كورونا وقبل أكثر من عام من الانتخابات الرئاسية عام 2020، كانت هناك أخبار عن عشاء في أكتوبر/تشرين الأول بين مؤسس فيسبوك زوكربيرغ ورئيس الولايات المتحدة آنذاك دونالد ترامب.

كان زوكربيرغ في واشنطن العاصمة لحضور جلسة استماع في الكونغرس بشأن عملته الرقمية "ليبرا" (Libra). أثناء وجوده في المدينة قبِل دعوة من ترامب لتناول العشاء في البيت الأبيض.

Facebook Chairman and CEO Mark Zuckerberg testifies in front of a projection of a
ثيل أخبر أحد "المقربين" عن "تفاهم" مفترض بين زوكربيرغ وكوشنر بأن يستمر فيسبوك في تجنب التحقق من صحة الخطاب السياسي لترامب (رويترز)

ووصف بيان على موقع فيسبوك في ذلك الوقت الوجبة بأنها "عادية" تمامًا.

فقد قال متحدث باسم فيسبوك لموقع "إن بي سي نيوز" (NBC News) في عام 2019 "كما هو معتاد بالنسبة لرئيس تنفيذي لشركة أميركية كبرى، قبل مارك دعوة لتناول العشاء مع الرئيس والسيدة الأولى في البيت الأبيض"، دون تقديم أي تفاصيل أخرى حول ما تمت مناقشته.

ولكن ووفقًا لكتاب جديد بعنوان "ذا كونتراراين" (The Contrarian)، الذي صدر يوم الثلاثاء الماضي للمراسل ماكس شافكين، يلقي صاحب رأس المال المغامر في وادي السيليكون بيتر ثيل -وهو داعم قوي لترامب- بعض الضوء على ما ناقشه ترامب وزوكربيرغ خلال عشاء 2019 العادي.

وكان ثيل حاضرا في عشاء 2019 إلى جانب ترامب وزوكربيرغ وجاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب. ووفقًا لمقتطف من الكتاب، نُشر في مجلة "إن واي" (NY)، أخبر ثيل أحد "المقربين" عن "تفاهم" مفترض بين زوكربيرغ وكوشنر بأن يستمر فيسبوك في تجنب التحقق من صحة الخطاب السياسي.

الصفقة المزعومة، كما أفاد تشافكين، ستسمح لترامب -وكذلك السياسيين الآخرين- بمواصلة قول ما يريدون على الشبكة الاجتماعية دون التحقق من صحة كلامهم.

وطالما استمر فيسبوك في تجنب التحقق من صحة الخطاب السياسي، فإن ترامب سيتجنب أي "لوائح قاسية" تستهدف فيسبوك، بحسب الكتاب.

القائمة "البيضاء" أم قائمة "الواسطات"؟

تفاصيل العشاء الأخير مع ترامب والذي ظهر مؤخرا، تزامن مع ظهور تسريبات صحيفة وول ستريت جورنال التي كان من أبرز ما كشفت عنه وجود ما يسمى بالقائمة البيضاء التي تحتوي على مجموعة من الحسابات لمشاهير ومنظمات ومواقع تقول التسريبات إنهم محميون من الرقابة على ما ينشرون في فيسبوك.

ولم تأت التسريبات على ذكر أسماء من القائمة، ولكنها ذكرت بعض المواقف منها حادثة لاعب كرة القدم البرازيلي نيمار، الذي ذكرت التسريبات أنه سمح له بمخالفة قواعد النشر على المنصة عندما لجأ مهاجم باريس سان جيرمان إلى فيسبوك و"إنستغرام" (Instagram)، حيث لديه 161 مليون متابع، للدفاع عن نفسه عندما اتهمته امرأة بالاغتصاب في عام 2019.

الغريب في الأمر أن تحقيق صحيفة وول ستريت جورنال يذكر أن الوثيقة التي بين يديه هي تحذير لإدارة المنصة من أن سياسة القائمة البيضاء يمكن أن تضر بسمعة الشركة ويمكن من خلالها أن تضع الشركة أمام معارك قانونية لا حصر لها.

وقد ذكرت الصحيفة أنها عندما سألت المتحدث في فيسبوك عن حقيقة وجود مثل هذه القائمة، أخبرها أنها موجودة وأنهم على علم بالمشاكل التي تسببها وأنهم في طريق حل هذه المشاكل، ولكن السؤال الذي لم يجب عليه: لماذا من الأساس يجب أن تكون هناك قائمة إعفاء؟

ولتحليل الموقف للإجابة على هذا السؤال يجب الرجوع إلى بدايات فيسبوك. ففي بداية ظهور المنصة وانتشارها لم يكن هناك العديد من القوانين المنظمة للمحتوى المنشور على الإنترنت، فما عدا صور العري والسب والمضايقات الواضحة، لم يكن هناك شيء ممنوع على فيسبوك.

ولكن ومنذ بدأت المنصة بالتحول للعالمية فقد شرعت بوضع قوانين على المحتوى المسيء بشكل تدريجي وتبعا للقوانين التي تفرضها كل دولة، ومع التطور أصبحت آلية الرقابة في فيسبوك أكثر صرامة في بعض المواضيع، مما تسبب في الحرج للشركة أمام العديد من المستخدمين.

فبمنطق التجارة والنمو للأعمال لا يمكن أن تعلق عمل حساب شخصية مشهورة على منصتك يتابعها ملايين المستخدمين لمجرد أنه ذكر كلمة لا تسمح بها الرقابة، أو إنذاره، فهذا سوف يعني بشكل كبير أن هذه الشخصية ستذهب مع متابعيها إلى منصة أخرى تجد فيها حرية التعبير.

من هنا جاءت الفكرة بأهمية حماية هذه الحسابات من الرقابة المفروضة على بقية الأشخاص، وهكذا أصبحت هذه القائمة تنمو وتكبر، حيث تذكر الوثائق أنها تحوي ملايين الحسابات لمشاهير وسياسيين ورجال أعمال ورياضيين حول العالم.

Libra logo- - ANKARA, TURKEY - JULY 12: Screens of a smart phone and a laptop display the logos of Libra and Facebook in Ankara, Turkey on July 12, 2019.
زوكربيرغ قبل دعوة من ترامب لتناول العشاء في البيت الأبيض أثناء وجوده بواشنطن لحضور جلسة استماع في الكونغرس بشأن عملته الرقمية "ليبرا" (وكالة الأناضول)

من كان يضيف هؤلاء؟ وبناء على ماذا؟

يذكر التقرير أنه كان بإمكان أي موظف في فيسبوك إدراج أسماء في هذه القائمة، إذ لم تكن هناك قوانين معينة مثل عدد المتابعين لتزكية حساب ما، بل ترك الأمر لتقدير الموظفين، ومن هنا ظهرت مشكلة "القائمة البيضاء".

فبحسب الوثائق المسربة من وول ستريت جورنال، هناك واحدة معنونة "بمشكلة القائمة البيضاء" تذكر أن مجموعة من الموظفين أخبروا الشركة أن القائمة بدأت تكبر وأصبح هناك العديد من الشكاوى التي تتهم الشركة بالمحاباة، وأن هذا سوف يعرض الشركة للمساءلات.

ولكن الإدارة في فيسبوك، وربما بعد استشارة قانونية، توصلت لحل غريب وهو تغيير تسميتها إلى "شيك إكس" (x check) الذي يعطي الإيحاء بأن الحسابات في هذه القائمة عليها تشديد في مراجعة المحتوى، ولكن الواقع هو تغيير التسمية هو فقط للتمويه إذا تسربت القائمة أو طلبت في التحقيق بينما الممارسات بقيت كما هي، بحسب تقرير وول ستريت جورنال.

زوكربيرغ.. وصكوك الغفران

نرجع لحادثة العشاء الأخير بين زوكربيرغ وترامب الذي كان يعرف بلا شك بأمر هذه القائمة، فقد ذكر التقرير أن ترامب وابنه دونالد جونيور من ضمن الشخصيات التي كانت في القائمة المسربة، هذا العشاء الذي من خلاله تم الحديث عن إعطاء "صك" الحرية للرئيس الأميركي للحديث عبر المنصة كما يشاء قبل انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2020، وقد تم سحبه منه وتعليق الحساب بعد خسارته الانتخابات الأميركية، وصدر قرار لمجلس الرقابة في فيسبوك بوقف حساب الرئيس السابق وتعليقه لمدة عامين بتهمة إساءة السلوك على المنصة.

هذه الحادثة التي تظهر كيف وصلت قوة زوكربيرغ بأن يطلب منه رئيس أقوى دولة في العالم أن يمنحه الحق في التحدث على المنصة بحرية ويدعوه لتناول العشاء ويقايضه، وكيف قام زوكربيرغ بعد ذلك بإغلاق الباب في وجه ترامب بعد خسارته الانتخابات وعدم وجود أي فائدة من متابعة الاتفاق المذكور في الكتاب.

وتبين الحادثة بشكل جلي كيف أن هذه المنصة ستكون الخطر الأكبر على الديمقراطية في العالم ما لم يتم احتواؤها، فهي تظهر أن هناك دولة افتراضية كبرى تسيطر على العالم، تعداد سكانها يتجاوز 2.5 مليار مستخدم، وأن "رئيس" أو ربما "بابا" -إذا أردنا توصيفا أفضل لزوكربيرغ حيث إن سلطته على اتباعه لا تحكمها الجغرافيا- هذه الدولة يمكنه التحكم في ما يقوله رؤساء الدول الأخرى.

المصدر : الجزيرة