هل يمكن للطبيب النفسي أن يتلاعب بعقلي وأن يجعلني مَجنونًا؟

لعلّ الطب النفسي أحد أسوأ المجالات سمعةً في مجتمعاتنا العربية، فهناك العديد من التصوّرات الشائعة عنه، والتي تثير الاشمئزاز والسخرية في نفوس الناس عند السماع به. وقد ارتبط الطب النفسي عند العديد من الأشخاص بمصطلحات مثل "الجنون" أو "فقدان العقل" أو الجوانب المظلمة والمخيفة من النفس. كما أن تاريخ مؤسسة الطب النفسي وممارسته شكّلت وعزّزت من هذه التصورات في الكثير من الأحيان، وتحديدًا خلال النصف الأول من القرن العشرين. فهل الطب النفسي خدعة؟! وما أهمّ التصورات الشائعة الخاطئة عن الطب النفسي؟ ولماذا يصدّقها الناس إذن؟!

 

دعونا في البداية نتفق على أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره كما تقول القاعدة الفقهية، لذلك فإن التحامل المُسبَق والمواقف الشخصية العاطفية إذا وُجدت، فإنّ أي دليل علميّ أو حجج منطقية لن تجدي معها، سواء كان ذلك في اتجاه الدفاع عن القضية أو الهجوم عليها. ولذلك، هذا التقرير لا يطمح للتبشير بالطب النفسي بشكل عاطفي كأنه الخلاص الوحيد، أو الاعتماد على قصص نجاح شخصية للعلاج النفسي، ولا يطمح حتى إلى تخطئة هذه التصوّرات تمامًا، بل يستعرض أهم التصوّرات الشائعة عن الطب النفسي، وأسباب شيوعها، قبل نقدها وترشيدها بالدليل العلمي والتاريخي والمنطقي كذلك. لا يمكن القولُ إن الطبّ النفسي مجالٌ خالٍ من العيوب أو الأخطاء، إلّا أنّ هذه التصوّرات غالبًا ما تكون بعيدةً جدًّا عن الحقيقة، فهيّا بنا نستكشفها معًا.

هل يمكن للطبيب النفسي أن يتلاعب بعقلي أو أن يجعلني مجنونًا؟

من المخاوف الشائعة لأولئك الذين لا يعرفون العلاج النفسي عن قرب، هي أنّهم يفترضون أنّ الطبيب النفسي شخص ذكي جدًّا يجلس خلف المكتب، قد يقوم بتنويمي مغناطيسيًّا أثناء الحديث، وقد يلج إلى أسرار عقلي ومخاوفي، ومن ثمّ يمكنه أن يتلاعب بي أو أن يجعلني مجنونًا. وقد يترافق هذا أيضًا مع اعتقاد بمؤامرة ضمنية تخدم الجانب المادي للطبيب أو المعالج، بأنّك لو ذهبت إلى الطبيب النفسي دون وجود اضطراب نفسي حقيقي ما، فإنّ من مصلحة الطبيب النفسي أن يُشعركَ بوجود اضطراب أو بأن يتسبّب لكَ بأحدها كي تستمرّ بمراجعته والعودة إليه فيجني الأرباح ويكتسب من بقائك مريضًا.

إن ذهبت إلى أقرب عيادة مرخّصة للعلاج النفسي، ففي الغالب لن تجد المعالج أو الطبيب يستخدم تقنية التنويم المغناطيسي، فهذه التقنية ليست من التقنيات العلاجية الشائعة اليوم. ثمّة أخطاء عدّة في هذه التصوّرات المغلوطة، إذ الطبيب أو المعالج النفسي مُلزَم بمواثيق أخلاقية عدّة ويخضع للرقابة، وقد يُعرّض مزاولته للمهنة للخطر في حال ضُبط بممارسة واحدة يُسيء فيها استخدام موقعه بوصفه طبيبًا أو معالجًا، أو عند إقدامه على أي تلاعب غير مهني، خاصّة أنّ الأطباء النفسيين والمعالجين النفسيين يتدرّبون ويخضعون لمحدّدات أخلاقية ومهنية أكثر من غيرهم في المجالات الأخرى. فالعلاج النفسي المهيمن اليوم هو العلاج الواعي والهادئ الذي يُسمّى بالعلاج المعرفي السلوكي (CBT)، وهي جلسة علاجية هادئة تتم فيها مناقشة المراجع حيال أفكاره وسلوكياته ومشاعره وهو في حالة يقظة عبر تقنيات علاجية متعدّدة.

 

كما ينبغي التنويه هنا إلى أنّه يجب على الإنسان توخي الحذر أمام أي دعاية للعلاج بالتنويم المغناطيسي، الذي قد يكون مدخلًا للاحتيال، فالعلاج بالتنويم المغناطيسي مجال محصور للغاية من جهة علمية، وقد فنّدت الأبحاث جزءًا كبيرًا من ادّعاءاته، فيما أثبتت بعض الدراسات أثره العلاجي على مستوى ضيّق ومحدود من الاضطرابات، كما أنُّه لا يُمارَس من قبل أيّ شخص، إذ قلّة قليلة فقط من يمارس التنويم المغناطيسي بقصد العلاج، وهذه الفئة يجب أن تحصل على شهادة مزاولة خاصّة بهذه التقنية، ويجب أن تُصرّح باستخدام هذه التقنية، والإعلان عنها علنيًّا وبوضوح، ولا يمكن أن يُخضَع أي مُراجع للتنويم المغناطيسي دون إرادة مُسبقة منه.

 

هل من الممكن أن أكون سليمًا فيجعلني الطبيب النفسي مريضًا كي يربح من قدومي المتكرّر إليه؟ هذا أمر غير وارد، بل كثيرًا ما تكون خلاصات الأطباء النفسيين لمراجعيهم بأنّ ما لديك لا يرقى لأن يكون اضطرابًا نفسيًّا، وأنّه مجرد تغيّر عاطفي أو شعوري تبعًا لظروف مؤقتة. كما أنّ الطبيب لا يقوم بالتشخيص بمعزل عن مرجعية تشخيصية، ويجب أن يُحدّد الخطة العلاجية وعدد الجلسات المتوقّعة منذ البداية بناءً على تشخيصه، بحيث يحدّد لكَ نوع الاضطراب وشدّته، ولهذا لو افترضنا أنّ الطبيب قد أوهمك بوجود مرض أو اضطراب ما، فبإمكانك مراجعة هذا التشخيص مع أي طبيب آخر للتحقّق منه.

هل الأدوية النفسية تُسبِّب الإدمان والخمول وتغيّر من شخصيتك؟

من التصوّرات الشائعة لدى العديد من الناس اعتقادهم بأنّ الأدوية النفسية تُسبّب الإدمان، أو أنّها تمسخ الشخصية وتحوّل مَن يتلقّاها إلى كائن سلبي لا شخصية له. يرجع هذا المعتقد الشائع إلى العديد من الممارسات الطبيّة التاريخية التي كانت تستخدم بعض الأساليب، مثل الجراحة الفصّية التي كانت تُستخدم لعلاج بعض الاضطرابات النفسية مثل الفصام والهلاوس، وقد يرجع هذا إلى فترة شاع فيها استسهال الأطباء صرف المُهدّئات العصبية للمُراجعين والمَرضى باعتبارها طريقة لتهدئتهم وتخفيف معاناتهم.

 

لكنّ معظم هذه الممارسات قد أُعيد ضبطها وتقييدها، كما أنّ الطب النفسي قد تقدّم كثيرًا في مجال الأدوية النفسية، وقد كشفت البحوث العلمية والممارسات الطبّية عن آليات دوائية متعدّدة ومتقدّمة وأكثر تخصيصًا، وأمام الطبيب النفسي اليوم بدائل واسعة ومتعدّدة لا تتضمّن الأعراض الجانبية التي كان يخشاها النّاس وأُسيء تصويرها في الأفلام وفي الصحف والإعلام.

 

لا تسبّب الأدوية النفسية الإدمان كما هو شائع، خاصّة أنّ الأطباء النفسيين يصفون كلّ دواء ضمن جرعة محدّدة بحسب كلّ حالة وبما يضمن عدم الإضرار بصاحبه وعدم تحوّله إلى "إدمان" بالمعنى الطبّي، فمن الشائع أن يخلط النّاس بين (الاعتمادية) وبين (الإدمان)، وغالبًا ما يتمّ استخدام دلالات اعتمادية الجسد على الدواء بمعنى الإدمان، وهذا غير دقيق، فالاعتمادية تعني أنّ تتأثّر الحالة الصحّية في حال انسحاب الدواء الفجائي، لكن هذا التوصيف لا يلزم منه طبيًّا أنّ الشخص قد صار مُدمنًا، فالإدمان بمعناه الطبّي هو التغيير السلوكي الناجم عن الاختلالات البيوكيميائية في الدماغ بحيث يُصبح تعاطي المواد المخدّرة هو الأولوية الرئيسية للمدمن بصرف النظر عن مدى الضرر الذي قد يحصل له وللآخرين، لكنّ الاعتمادية لا ينجم عنها سلوكيات غير عقلانية مماثلة في حال انسحاب الدواء.

ومن الجدير بالذكر أنّ هناك تضخيمًا مبالغًا فيه للأعراض الجانبية للأدوية النفسية، إذ مهما كان الحقل الطبّي الذي نتحدّث عنه، باطنيًّا أم عظامًا أم مناعة أو أيًّا كان، فإنّ كلّ دواء لديه احتمالية بإحداث ضرر ما في الجسد، بوصفه استجابة سلبية للتغييرات التي يفرضها الدواء في الجسم، وعندما يُفكِّر الأطباء في وصف دواء ما، فإنّهم يقومون بموازنة الأضرار المحتملة مقابل الفوائد المتوقّعة أو المرجوّة من هذا الدواء. هذا يشمل حقل الطبّ النفسي أيضًا، لا يقوم الطبيب بوصف الدواء للمراجع إلّا حين تكون الفوائد المتوقّعة تفوق الأضرار المُحتَمَلة للدواء، كما أنّه من واجب الطبيب أن يُوضِّح للمراجع الأعراض الجانبية للدواء ومناقشته في مدى تقبّله لها وآليات التأقلم الممكنة، واقتراح البدائل بحسب تفضيل المراجع.

 

هل العلاج النفسي يستخدم التعذيب بالكهرباء وأساليب غير إنسانية؟

واحدة من أكثر ممارسات الطب النفسي إخافةً للنّاس هي تقنية العلاج الكهربائي (Electroconvulsive therapy)، وهو علاج فعّال طبيًّا وسريع لعلاج العديد من الاضطرابات النفسية الحادّة التي لا تستجيب للأدوية أو التي يتعذّر أن تتناول أدوية بعينها بسبب ظروف صحّية أخرى مثل الحمل، حيث يُعتقد أنّ تمرير التيار الكهربائي يُعيد اتّزان كيمياء الدماغ، وقد أثبت فاعلية ممتازة طبيًّا لدى العديد من المرضى والحالات.

لكنّ تصوير الأفلام والسينما لهذه التقنية العلاجية أحدث تشويهًا لما يجري اليوم على أرض الواقع داخل المستشفيات وأقسام الطبّ النفسي، فهذه الممارسة حسّاسة ومضبوطة أخلاقيًّا بحيث لا تنتهك المبادئ الإنسانية العامّة، وحيث إنّها لا تُعطى إلّا ضمن إطار اختياري وطَوعي للمَرضى، أي إن المريض الذي لا يوافق على هذا الإجراء لا يخضع له، إلّا في حالات قليلة ونادرة قد يحدّدها القضاء بحسب قانون الدولة في حال كان القاضي يرى بمشورة لجنة طبّية أنّ إخضاع الفرد المُراجع لهذا العلاج سيعود عليه بالنفع والعافية والسلامة. كما أنّ هذه التقنية تُعدّ تقنية آمنة وتخضع لاعتبارات وإجراءات العمليات الطبّية الأخرى، فتكون تحت إشراف أطباء التخدير والطبيب النفسي وكوادر تمريضية وطبّية احترافية، وتجري ضمن سياق آمن ومريح.

 

ومن باب الإنصاف العلمي، فإنّ كثيرًا من هذه الاعتراضات على الممارسات العلاجية للطبّ النفسي تصحّ أيضًا في سياق الممارسات العلاجية للطب في جميع حقوله، أي إنّ مشكلات الطب النفسي الحديث هي مشكلات الطب نفسه عمومًا، ولا ينفرد الطبّ النفسي بمشكلات خاصّة إلّا في حالات نادرة، بفعل امتداده إلى جوانب نفسية واجتماعية. وإذا أردتَ -عزيزي القارئ- أن تتخيّل ما نقصده في هذه النقطة، فبإمكانك أن ترى الممارسات الطبّية العلاجية المستخدمة لعلاج مرضى السرطان على سبيل المثال لترى أنّها أيضًا يُمكِن رؤيتها من بعيد على أنها ممارسات غير إنسانية، ولكنّها في حقيقتها ممارسة طبّية تخدم غايات علاجية، وإن كانت ذات آثار جانبية قاسية ومؤلمة، فإن هذا لا يُبرّر التخلّي عن هذه الأساليب أو أن نُسلِم المرضى لمرضهم العضال وموتهم المحتوم.

هل التشخيص النفسي خرافة ومجرّد ادّعاء من الأطباء النفسيين؟

المعالج النفسي "ديفيد روزنهان"

لعلّك سمعت عن تجربة روزنهان الشهيرة، التي قام بها المعالج النفسي "ديفيد روزنهان" من جامعة ستانفورد هو ومجموعة من زملائه بادّعاء أنّهم يسمعون أصواتًا ويتوهّمون أمورًا لا أساس لها، بالإضافة إلى بعض التغيرات في السلوك مثل عدم الاعتناء بالنفس وغيرها. كان الهدف من التجربة اختبارُ فيما إذا كان الأطباء النفسيون في المستشفيات قادرين على تمييز المريض من غيره، من خلال معايير تشخيصية مضبوطة. وما وجده روزنهان هو أنّ الأطبّاء كانوا عاجزين عن اكتشاف الادّعاءات في الـ8 حالات، فتمّ إدخالهم جميعا بتشخيص الفصام "سكيزوفرينيا". ليس هذا فقط، بل استمرّ احتجازهم في المصحّات النفسية لمدة تتراوح ما بين 7 إلى 52 يومًا، رغم ادّعائهم جميعًا بأن الأصوات اختفت وأن الأمور عادت إلى طبيعتها وتصرفهم بشكل "طبيعي".

 

طرحت هذه التجربة الكثير من التساؤلات المثيرة للجدل حول مدى دقّة المعايير التي يمتلكها الأطباء والأخصائيون النفسيون لتشخيص الاضطراب النفسي، حيث كانت خلاصة روزنهان من التجربة هي "أننا لا نستطيع تمييز [العاقل] من [المجنون] في المصحّات النفسية". تجربة مثيرة، أليس كذلك؟ حسنًا، قد تبدو كذلك، لكنّها في الحقيقة لا تقوّض أسس الطب النفسي ولا تدحض النظام الذي يقوم عليه التشخيص النفسي بالطريقة التي يُروِّج لها معادو الطبّ النفسي.

 

في الحقيقة، تمّ توجيه العديد من الانتقادات لتجربة روزنهان على مستوى دقة منهجيتها العلمية، من اعتبارها محطّ شكّ كبير إلى اعتبارها غير علمية أصلًا. أحد أهمّ الانتقادات هو التشكيك في أهمية خلاصة الدراسة ككل، على اعتبار أنّ ما يقوله المريض (ما يسمى التاريخ المَرَضي للمراجع أو الإقرار الذاتي – ما يخبرك به المريض عن نفسه وعن الأعراض التي يُعاني منها أو Self-reporting) هو أحد الأساسات التي تقوم عليها ممارسة الطبّ أصلًا. فحتّى لو جاء المريض يدّعي أعراضًا ليست حقيقية في تخصص طبي آخر، فسيحدث الشيء نفسه، مع اعتبار الفروقات تبعًا لأننا في الطب النفسي، إذ لا يملك فحوصات بيولوجية ذات دقة عالية في تشخيص جميع الأمراض. كما أنّ افتراض المعالج أو المختصّ لصواب وصحّة ما يقوله المريض عن نفسه، يُعدّ من المبادئ الأخلاقية الأساسية في الطبّ، أي إنّ أي طبيب ابتداءً يجدر به تصديق المريض ما لم يثبت عكس هذا.

 

بالإضافة إلى ذلك، يتساءل أصحاب هذا الانتقاد عن مدى تأثير كون العديد من هؤلاء المرضى المدّعين متخصصين في المجال، ما سهّل عليهم سهولة الادّعاء والتمثيل. كما أنّنا لا نمتلك دراسات أخرى كرّرت التجربة وأثبتت صحّة ما استنتجه روزنهان بعدها، وهذه مشكلة كبيرة في تعميم النتائج، ناهيك بمشكلة العينة الصغيرة جدًّا من جهة بحثية (8 أشخاص). بل على العكس، هناك دليل على دراسة حديثة حاولت تكرار ما فعله واستنتجت أنه ليس من السهل خداع الأطباء. كما أنّ التجربة اختبرت معايير تشخيص جزء محدود جدًّا من الاضطرابات، وهي الاضطرابات الذهانية (هذا مع ضرورة اعتبار الاختلافات في التصنيف بين الماضي والحاضر أيضًا).

هل الطبيب النفسي يُساعد المريض حقًّا؟

قد يسمع الإنسان بتجارب أشخاص آخرين من حوله حول طبيعة العلاج النفسي، فيشكّل ظنونًا خاطئة، وتَعلَق في ذهنه التجارب السيئة منها، وهذا يرجع لانحياز إدراكي لدى الإنسان يجعل ذاكرته وانتباهه حساستين للتجارب السيئة. كلّ إنسان له تجربته الخاصة في العلاج النفسي، كما أنّ الفروقات الفردية بين المعالجين والأطباء النفسيين تؤدي دورًا مهمًّا في تشكيل هذه الخبرة وهذه التصوّرات. هناك من يعتقد أنّ الطبيب النفسي يُقدّم الأدوية فحسب، وهذا خطأ شائع آخر، فالطبيب النفسي يقرّر إذا ما كانت الحالة تستدعي التدخّل الدوائي من عدمه، وليست جميع الاضطرابات تستدعي التدخّل الدوائي، كما أنّ شدّة الاضطراب الواحد تحدّد إذا ما كانت الحالة تحتاج إلى تدخّل دوائيّ أم لا.

 

هل الطبيب النفسي يُساعد؟ لَمْ يكتسب الطب النفسي والعلاج النفسي كلّ هذا الزخم وهذه المكانة العلمية بفضل نظرياته فحسب، وإنّما بفضل استحقاقه لهذا الاهتمام ولقدرته على إثبات نفسه وفاعليته في إنقاذ الناس وفي علاجهم وفي تحسين حياتهم وتقليل معاناتهم وفي تطوّر مساراتهم المهنية والأكاديمية وفي تحسين جودة علاقاتهم الزوجية والعاطفية، فالعلاج النفسي أثبت فاعلية عالية تفوق أيّ عصر آخر عرف النّاس فيه الإشكالات النفسية. ويعرف الأطباء مدى جودة تدخّلاتهم العلاجية عن طريق العديد من الأبحاث التي تتبّع تشخيصات نفسية عديدة لمجموعات يتلقّى كلّ منها علاجات مختلفة وأدوية مختلفة أو بدون أدوية، ومن ثمّ تتبّع التحسّن أو التدهور بالأفراد بعد تحييد إحصائي للمتغيّرات الأخرى في حياتهم.

 

وقد تسمع أنّ الطبيب أو المعالج النفسي لا يفعل شيئًا سوى أنّه يسمح لك بالفضفضة والترويح عن نفسك، وبتفريغ ما في داخلك، وأنّه يحدّثك تمامًا كما يفعل صديقك، ولهذا قد ينصحك أحدهم بأن تذهب فتتحدّث مع صديقك بدلًا من الذهاب إلى المعالج النفسي، لأنّ كل ما سيفعله لكَ المعالج لن يختلف عن حديثك مع صديقك وإفصاحكَ له.

 

بالرغم من أنّ الحقيقة هي أنّ المعالج النفسي يتبع تقنيات علاجية مدروسة، قد تبدو من الظاهر كما لو أنّها مجرّد أسئلة عادية، لكنّها مقصودة ومبنية على أسس نظرية يُريد المعالج النفسي التحقّق منها ورؤية مدى انعكاساتها على تفكير المراجع أو على مزاجه أو شعوره، ومن ثمّ أخذ آليات علاجية وتفكيكية بناءً على ذلك. ومن الجدير بالذكر أنّ العديد من الدراسات أشارت إلى أنّ الفضفضة إلى الأصدقاء بحدّ ذاتها لا تؤدّي دائمًا إلى نتائج إيجابية، بل قد تزيد الأمور سوءًا، فبعض الفضفضة قد تؤدّي إلى شعور مؤقّت بالرّاحة ولكن يعقبها شعور سيّئ وتدميري على المستوى البعيد، خاصّة إن كانت هذه النقاشات تفرّغ المشاعر السلبية دون أن تعالجها أو أن تناقشها نقاشًا واعيًا قائمًا على أسس العلاج النفسي.

هل المرض النفسي مجرّد اختلالات بيولوجية وعصبية؟

كيف ينظر الأطباء النفسيون إلى الاضطرابات النفسية؟ هل الاضطراب النفسي وراثي؟ وهل الاضطراب النفسي مجرّد انعكاس سلوكي أو شعوري لتغيّر في كيمياء المخ، أم مجرّد اختلال في النواقل العصبية؟

 

بالفعل فإنّ المدرسة البيولوجية في الطبّ النفسي هي إحدى أقوى المقاربات في الطب النفسي وأكثرها حضورًا في الأبحاث والممارسة والدراسات، خاصّة الأبحاث التي تدعمها شركات الأدوية لأسباب اقتصادية كما هو معلوم، بالإضافة لممارسات بعض الأطباء الذين قد يفضلون اللجوء إلى الأدوية النفسية بإفراط، كي يسهّلوا على أنفسهم مهمة تحسين المراجعين ويجنّبوا أنفسهم عناء خوض العلاج النفسي بتقنياته التفصيلية والدقيقة وهو ما قد يتطلّب وقتًا وجُهدًا.

 

يؤدي العامل الوراثي دورًا مهمًّا في تحديد الاضطرابات النفسية، لكن هذه الأهمية من حيث النسبة تتفاوت بحسب الاضطرابات النفسية، فبعض الاضطرابات يشكّل العامل الوراثي فيه حضورًا مهمًّا ويعدّ مؤشرًا قويًا، مثل اضطراب ثنائي القطب واضطراب الفصام على سبيل المثال، فيما تقلّ نسبة حضور هذا العامل في اضطرابات أخرى. وبالرغم من هذا فإنّ النموذج السائد اليوم في فهم الاضطرابات النفسية وعلاجها هو النموذج "البيو-نفسي-اجتماعي (BioPsychoSocial Model) الذي يعتبر أنّ السلوك البشري السوي وغير السوي يُسهم في تشكيله ثلاث عوامل رئيسة متداخلة:

  • العامل البيولوجي: ويشمل الوراثة، والوظائف الحيوية للجسم، والدماغ والأعصاب والهرمونات.
  • العامل الاجتماعي: الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والتنشئة العائلية ووضع الأسرة، وحالة الزواج (مطلق، أرمل، أعزب…).
  • العامل النفسي: المشاعر، والأفكار، والسلوك، والإدراك، والشخصية.

هذه الخرافات أو المعتقدات الشائعة عن الطب النفسي -مؤسسةً وممارسةً- مجرّدُ جزء من مجموعة من التصوّرات والمعتقدات الخاطئة حول الاضطرابات النفسية وحول العلاج النفسي والأدوية النفسية، فهناك أفكار مغلوطة أخرى مثل أنّ المصابين باضطرابات نفسية يكونون أكثر عنفًا أو خطرًا على الآخرين، أو أن الأطباء النفسيين جميعهم معقّدون أو مصابون باضطرابات نفسية، أو أنّ الأطباء النفسيين يُصابون بالجنون أو الأمراض النفسية بسبب تعاملهم مع حالات معقّدة ومريضة. ولهذا، إن كنت تهتم بتصحيح هذه التصورات، ننصحك بمتابعة مقالاتنا ضمن قالب أخطاء شائعة، وأبرزها: هل تكسيرك وضربك للأشياء من حولك مفيد لتفريغ الغضب؟ وهل المؤمن منيع من الإصابة بالاضطراب النفسي؟

___________________________________

المصادر والمراجع:

  1. Myths, Misconceptions, and Invalid Assumptions of Counseling and Psychotherapy – Jeffrey Kottler (2020)
  2. The Great Pretender – Susannah Cahalan (2019)
  3. Antipsychiatry: Meeting the challenge – Desai, N. G. (2005)
  4. Philosophical Issues in Psychiatry – Kenneth S. Kendler. (2012)
  5. Antipsychiatry: Quackery Squared – Thomas Szas (2009)
  6. Neuroscience of Clinical Psychiatry: The Pathophysiology of Behavior and Mental Illness, Second Edition. Edmund S. Higgins (2013)
المصدر : الجزيرة