مغامرة أميركية في بغداد ستحدد مصير النظام الدولي

*إعداد: فالح حسن

undefinedلم يكد العام 2001 ينقضي بحدثه الأبرز المتمثل في الهجمات التي وقعت على كل من نيويورك وواشنطن الأميركيتين في سبتمبر/أيلول من ذلك العام, حتى بدا أن تلك الأحداث لم تكن إلا مدخلا لأحداث أكبر وأخطر من النواحي الإستراتيجية، وربما ستكون إيذانا ببدء مرحلة جديدة ولكنها غامضة. ومنشأ ذلك الوصف هو أن الجميع -بلا استثناء- باتوا يتحسسون رؤوسهم ويحبسون أنفاسهم، لمجهول قادم بل مجاهيل لا أحد يعرف كيف ستنتهي وربما ينتهي النظام الدولي كله معها.

فلأول مرة تطرح الولايات المتحدة -القوة الأكبر- أسئلة تشكك بجدوى النظام الدولي المعمول به منذ فترة طويلة، من غير أن تطرح بالمقابل نظاما بديلا معقولا أو منسجما مع قناعات الآخرين. ففي فرنسا مثلا عبرت أوساط قريبة من وزارة الخارجية هناك عن القلق من العقيدة الأميركية الأمنية الجديدة (الوقائية)، باعتبار أن تلك العقيدة –وبمعزل عن الأزمة العراقية- تفسح المجال لحصول تجاوزات شاملة، كما أنها -حسب تلك الأوساط- تعيد النظر في المسؤولية المشتركة للقوى العظمى.

فالولايات المتحدة باتت تتصرف في أعقاب أحداث سبتمبر -والتي سنشير إليها بالهجمات- وكأنها بصدد مرحلة بداية التاريخ، بعد أن انطلقت منها أطروحة نهاية التاريخ الشهيرة لفوكوياما. وبدا المسرح الدولي وهو يعيش حالة من الأزمات التي تعرف البداية ولكنها لا تعرف النهاية. وخيمت على ذلك المسرح مظاهر العسكرة والطوارئ التي لاقت في البداية تفهما من المجتمع الدولي، باعتبار أن الهجمات خلقت في الولايات المتحدة حالة من رد الفعل غير المتوقع وبالتالي غير المحسوب بدقة.

غير أن رد الفعل ذاك تحول سريعا، بل بدأ يكشف عن أجندة مستقلة لأركان في الإدارة الأميركية تتجاوز بكثير موضوع تلك الهجمات، أو رد الفعل الحاسم والسريع عليها والذي تمثل في إعلان الحرب على أفغانستان وإسقاط نظام حركة طالبان هناك.
فقد بدا مثلا من سياق الأولويات التي باتت الإدارة تتحدث عنها بمنهجية واستمرار أن هناك موضوعات لم تكن مطروحة، أو على الأقل لم تكن تحتل موقعا متقدما في السياسة الخارجية الأميركية.

ولعل أبرز تلك الأولويات موضوع ما بات يعرف بالإرهاب ثم العراق وأسلحة الدمار الشامل. رغم أن الموضوع الأخير لم يكن مطروحا لا في حرب الخليج الثانية -حيث لم يستخدم أي طرف تلك الأسلحة باستثناء استخدام أميركا لليورانيوم المنضب- ولا في الهجمات التي وقعت بعد عقد من تلك الحرب على الولايات المتحدة.

العلاقة العراقية
ولكن العلاقة العراقية قد تفسر هذا الطرح الذي سيكبر ككرة ثلج بلا حدود. فبمجرد الانتهاء من أفغانستان، توجهت الإدارة الأميركية نحو العراق الذي بات ومنذ فترة مبكرة من العام المنصرم الهدف الأكبر للحملة الأميركية على الإرهاب، رغم عدم وجود أي رابط بين العراق والهجمات. ومنذ وقت مبكر من عام 2001 أكدت مستشارة الأمن القومي الأميركي كونداليزا رايس بوضوح أن الرئيس العراقي صدام حسين "كان يطرح مشكلة قبل 11 سبتمبر/أيلول وما زال". ثم توالت التصريحات بشكل متسارع طغى على أفغانستان أو الهجمات، ليتحول العراق والعراق وحده لأولوية أولى للسياسة الخارجية والدفاعية الأميركية، رغم الحديث عما سيعرف لاحقا بمحور الشر الذي ضم إضافة للعراق كلا من إيران وكوريا الشمالية.


وزير الدفاع الفرنسي السابق آلان ريشار: إن الولايات المتحدة خلقت لنفسها مشكلة باعتبارها العراق عدوا، إذ أن الرئيس بوش أصبح ملزما باتباع إستراتيجية تتفق مع ذلك تجاه بغداد

وبدأت واشنطن أولى خطواتها صوب الموضوع العراقي، بإرسال ديك تشيني نائب الرئيس في مارس/آذار الماضي لمنطقة الشرق الأوسط، في زيارة شملت 11 دولة عربية إضافة لتركيا وإسرائيل، من أجل حشد تأييد مبكر للحرب على العراق. غير أن تلك الزيارة انتهت بفشل كبير أعاد فرملة السياسة الخارجية الأميركية، نتيجة إجماع الدول العربية وتركيا على رفض أي تحرك عسكري ضد العراق، وتوجيه الإدارة بدلا من ذلك إلى تركيز الجهد على الموضوع الفلسطيني، الذي دخل مرحلة حاسمة في ظل الحرب التي أعلنتها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون على الفلسطينيين بلا رحمة.

ذلك الفشل لم يؤد إلى مراجعة الحسابات الأميركية، بل دفع الرئيس بوش في أعقاب لقاء بالبيت الأبيض مع نائبه تشيني العائد من المنطقة إلى القول "من المهم أن يدرك جميع هؤلاء القادة(العرب) طبيعة هذه الإدارة وألا يساورهم أدنى شك في أنه عندما نقول شيئا فإننا نفكر فيه مليا وأن ما نقوله ليس كلاما في الهواء". وكان هذا إيذانا بتطورات سريعة في الموضوع العراقي، حسمت الوجهة النهائية للسياسة الخارجية الأميركية بهذا الخصوص. وعبر عن ذلك وزير الدفاع الفرنسي آلان ريشار بقوله إن الولايات المتحدة خلقت لنفسها مشكلة باعتبارها العراق عدوا.. إذ أن الرئيس بوش أصبح ملزما باتباع إستراتيجية تتفق مع ذلك تجاه بغداد.


undefinedمحور الشر كبديل لإمبراطورية الشر
أعدت الولايات المتحدة أسسا نظرية لسياستها الجديدة، وأضفت عليها كل ما يمكن أن يجعلها إستراتيجية فعلية، تخرج بها من إطار رد الفعل الذي صبغ تحركها إزاء أفغانستان. فقد عمد الرئيس بوش في خطابه عن حالة الاتحاد إلى تصنيف ثلاث دول هي العراق وإيران وكوريا الشمالية، باعتبارها تمثل "محور شر " يتوجب مواجهتها وإن بدرجات مختلفة. ولتوضيح تلك الدرجات أكد وزير الدفاع دونالد رمسفيلد على أن سياسة حكومته تقضي بتغيير النظام في العراق، بينما لا تسعى إلى تغيير النظام الحاكم في إيران أو كوريا الشمالية.

وبدا الرئيس بوش في طرحه لفكرة محور الشر، وكأنه يسير على ذات الطريق التي سار عليها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في إطلاق اسم "إمبراطورية الشر" على الاتحاد السوفياتي السابق، في أوج الحرب الباردة التي يبدو أن بوش يحاول أن يفترض وجودها حتى مع غياب العدو الشيوعي. وتوعد بوش بمواصلة الحرب على التنظيمات التي تعدها واشنطن إرهابية، مشيرا بالاسم إلى حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله وجيش محمد بوصفها منظمات إرهابية.

ثم طرح الرئيس الأميركي في وقت آخر العقيدة الأمنية الجديدة التي تقوم على فكرة الضربات الوقائية، إلى دول قد تمثل في أي وقت من الأوقات في المستقبل تهديدا للولايات المتحدة. وكان العراق حاضرا في ذهن بوش عندما طرح تلك العقيدة، الأمر الذي أثار مخاوف وزير الخارجية الفرنسية دومينيك دو فيلبان، من أن يتحول العراق وهو دولة عضو في الأمم المتحدة إلى أول حقل تجارب لهذه العقيدة الأميركية الجديدة. فالإدارة الأميركية أعلنت بوضوح أن طموحات العراق بشأن التسلح ستطرح في المدى القريب مشكلة أمنية. واعتبر جوزيف تشيرنسيوني المتخصص في المسائل الإستراتيجية بمؤسسة كارنيغي أن المسألة في أوساط الحزب الجمهوري "لم تعد معرفة ما إذا كان يجب مهاجمة العراق أم لا، وإنما بالأحرى متى سيتم ذلك".

واعتمدت واشنطن في هذا الاتجاه أسسا تحدد بموجبها حيثيات الاتهام التي ستوجه للعراق. فقد حاولت الإدارة -دون جدوى- ربط العراق بالإرهاب وتحديدا بالهجمات أو بالجمرة الخبيثة في وقت لاحق. غير أن تلك المحاولات لم تكلل بالنجاح ولم تستطع كل الإمكانات الاستخبارية الأميركية إيجاد أي رابط بين الأحداث التي جرت وبين العراق. وسرعان ما تم التحول إلى موضوع أسلحة الدمار الشامل الذي أصبح محور سياسة أميركا العراقية. واعتبر الناطق باسم رئيس الوزراء البريطاني أن أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب هما جزء من عملية منطقية بدأت في 11 سبتمبر/أيلول.

بدأت مسيرة الإدارة الأميركية باتجاه الحرب في وقت مبكر من عام 2002. فقد قالت صحيفة نيويورك تايمز يوم28/4 إن الإدارة تتوقع أن تطلق في مطلع عام 2003 هجوما جويا وبريا واسعا على العراق، يشارك فيه ما بين 70 و 250 ألف جندي. وطرحت واشنطن منذ ذلك الوقت مسألة عودة المفتشين الدوليين إلى العراق، بعد أن غادروه عام 1998 قبيل عملية ثعلب الصحراء.

رد الفعل الدولي

undefinedوتجاوبا مع هذا الوضع بدأت كل من فرنسا وروسيا والصين وعدد من الدول العربية طرح موضوع عودة المفتشين، كمخرج قد يقلل من احتمالات الحرب التي حسمت أميركيا، وإن ارتبطت بأمور أهمها الإعداد العسكري الذي تقدم على بلورة تحالفات أدركت واشنطن مبكرا استحالتها أو صعوبتها. وفي هذا السياق قال الأميرال ستيف بيكر -الذي قاد حاملة الطائرات ثيودور روزفلت أثناء حرب الخليج- إن الولايات المتحدة قد تهاجم العراق إذا كانت واثقة من أن لديها "قوة ساحقة" كي تنجح المهمة. وأوضح أن مخزون الأسلحة المتطورة محدود بسبب حرب أفغانستان، مؤكدا أن المصانع تعمل على مدار الساعة لتوريد المطلوب.

بدأ العراق في هذه الأثناء -وبتشجيع من روسيا والصين- حوارا مع الأمم المتحدة في مارس/آذار من العام المنصرم، ضمنه عشرين سؤالا وجهها إلى الأمين العام للمنظمة الدولية كوفي أنان. وتضمنت تلك الأسئلة التي قال عنها أنان إنها إيضاحات وليست شروطا مسبقة "التهديدات الأميركية بتغيير نظام الحكم في بغداد وما إذا كان المفتشون العائدون سيكون بينهم أفراد اشتركوا من قبل في أنشطة تجسس أم لا. وسأل العراق أيضا كم من الوقت سيبقى المفتشون، وهل يمكن ضمان إزالة منطقتي حظر الطيران فوق شمالي العراق وجنوبيه، وهل يمكن تعويض العراق عن الدمار الذي أصاب مرافق بنيته الأساسية الاقتصادية والتعليمية وغيرها، والانتهاكات الأخرى لسيادته. كذلك أثار العراق مدى السماح له بالدفاع عن نفسه عبر امتلاك أسلحة دفاعية تقليدية ".

كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت تدفع باتجاه مباحثات سريعة بين أنان والعراق، ذات هدف محدد تمثل في عودة المفتشين لمزاولة عملهم هناك. هذا قبل أن تتغير الأولويات الأميركية في وقت لاحق من العام المنصرم وتحديدا في الثاني من أغسطس/ آب الماضي، عندما قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي شين مكورماك إن سياسة واشنطن تجاه تغيير النظام في بغداد ليس لها علاقة بمسألة عودة المفتشين. وأكد إبقاء الولايات المتحدة لسياستها الساعية للإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين.

كان الدفع باتجاه الحرب يتزايد في واشنطن في وقت تشهد فيه المنطقة توترا عاليا، بسبب التهديد بالحرب ذاتها وبسبب التصعيد الخطير الذي تقوم به القوات الإسرائيلية بشكل غير مسبوق ضد المدنيين الفلسطينيين. وبدأ في المنطقة وضع جديد بالغ الخطورة، تمثل في إطلاق واشنطن يد شارون لقمع وتطويع الإرادة الفلسطينية بمستوى من العنف، والاستخدام غير المحدود لآلة الحرب الإسرائيلية ضد الانتفاضة.

من بغداد إلى القدس وليس العكس


تبنت إدارة بوش مبدأ جديدا يستلهم أطروحة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر والتي ترى أن الطريق إلى بغداد لا يمر بالقدس بل العكس حيث الطريق إلى القدس يجب أن يمر من بغداد، وهو تحول يحمل من الدلالات الكثير

وبرز عامل جديد تمثل في جنوح واشنطن نحو سياسة غير مسبوقة لا تقوم على استرضاء العرب من أجل إنشاء تحالف ضد العراق، بل إطلاق حربين في وقت واحد. الأولى في فلسطين على يد "رجل السلام" شارون كما وصفه الرئيس بوش، وأخرى يجري الإعداد لها في العراق. والجديد في الموضوع هو تلك الأطروحة التي بشر بها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، والتي ترى أن الطريق إلى بغداد لا يمر بالقدس بل العكس، حيث الطريق إلى القدس يجب أن يمر من بغداد. وهو تحول يحمل من الدلالات الكثير. وتعبيرا عن هذا التوجه نفى بول وولفويتز نائب وزير الدفاع -وهو عراب الحرب الأميركية على العراق- أن يكون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المتصاعد يمنع الولايات المتحدة في الوقت الراهن من اتخاذ أي خطوة تجاه العراق، خاصة أن العديد من الزعماء العرب أكدوا علنا معارضتهم لأي حملة أميركية على بغداد باعتبارها تعمق من أزمة الشرق الأوسط.


undefinedفي الثامن من أبريل/ نيسان من العام الماضي أعلن العراق عن إيقاف تصدير نفطه لمدة شهر عبر الموانئ التركية، للضغط من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. وفي التاسع عشر من الشهر نفسه تبنى مجلس الشيوخ الأميركي بأغلبية ساحقة قرارا يمنع بموجبه شركات النفط الأميركية من شراء النفط العراقي. وبمقتضى التعديل فإنه لن يمكن أيضا استئناف هذه الواردات، إلى أن يوقف العراق تهريب المنتجات النفطية خارج برنامج بيع النفط الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، وإنهاء سياسة دفع أموال لأسر منفذي التفجيرات الفدائية ضد إسرائيل.

وبدأ العامل الإسرائيلي يدخل في الموضوع العراقي بشكل أكثر سفورا، ليتحول الأمر تدريجا إلى نوع من الشراكة الإستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب بخصوص العراق، وبما يؤكد أطروحة كيسنجر. ففي رسالة له إلى الإدارة الأميركية أشارت إليها صحيفة هآرتس، شدد شارون على أن "الولايات المتحدة بتأخيرها الهجوم على نظام صدام حسين لن تجد في المستقبل ظروفا أفضل لمثل هذه العملية". كما علق وزير الخارجية –وقتذاك- شمعون بيريز في حديث لشبكة CNN الأميركية على الموضوع بالقول "إن المشكلة ليست في معرفة ما إذا كان يجب ضرب العراق بل متى يجب القيام بذلك".

تطورات عربية إيجابية

undefinedعربيا شهد العام المنصرم اختراقات واسعة فيما يتعلق بالعلاقات مع العراق. فقد قام الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بزيارة لبغداد، هي الأولى من نوعها للعاصمة العراقية منذ 12 عاما. وأكد موسى في تلك الزيارة على وجود إجماع عربي معارض لأي ضربة أميركية للعراق. غير أن الحدث الأكثر أهمية على صعيد العلاقات العراقية العربية، تمثل في العناق الحار بين ولي العهد السعودي ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقية ومصافحة الوفدين الكويتي والعراقي لأول مرة منذ حرب الخليج.

كما شهدت القمة إعلان وزير الخارجية العراقي ناجي صبري تعهد بلاده خطيا عدم تكرار اجتياح الكويت، وذلك عبر موافقته على الصياغة النهائية للبند الخاص "بالحالة بين العراق والكويت" في البيان الختامي للقمة. ونص البند عن الحالة بين العراق والكويت والذي وافق عليه البلدان على "الترحيب بتأكيد العراق على احترام استقلال وسيادة الكويت وضمان أمنها مما يؤدي إلى تجنب كل ما من شأنه تكرار ما حدث في عام 1990". وفوق هذا أعلن البيان الختامي للقمة "الرفض القاطع" لأي هجوم عسكري على العراق، وهو تطور لزم المسؤولون الأميركيون الصمت إزاءه.


كان يمكن للتطورات التي أعقبت قمة بيروت، والانفتاح الذي شهدته العلاقات العراقية السعودية والعراقية الكويتية، وما أعقب ذلك من تطورات بين بغداد والكويت، أن تؤدي لمناخ أفضل، لولا الظروف الدولية الضاغطة باتجاه الحرب والحرب فقط ..

ورغم ما أثارته من جدل، فقد جاءت رسالة الاعتذار التي توجه بها الرئيس العراقي للكويت، والمباحثات التي عقدت لاحقا في العاصمة الأردنية عمان بين وفود من العراق والكويت والسعودية لبحث مصير مفقودي الحرب، كحلقات متصلة من الأحداث التي أشرت لانفتاح ممكن في العالم العربي، لولا الظروف الدولية التي أصبحت ضغوطها أكبر وأمضى في ظل الوضع المتوتر الذي تغذيه الاستعدادات للحرب.

دوليا كان صدور القرار 1441 بعودة المفتشين للعراق وفق شروط صارمة جدا وقبول بغداد به، أحد أهم أحداث العام المنصرم. فهذا القرار جاء بعد مخاض طويل ومفاوضات شاقة، فرضت-ولو إلى حين- كلمة للقوى الكبرى فيما تعتبره الولايات المتحدة شأنا خاصا بها كالموضوع العراقي. غير أن القرار ورغم أعبائه الثقيلة التي يلقيها على العراق، حقق تقدما جوهريا باتجاه لجم اندفاعة الولايات المتحدة نحو الحرب، وذلك بفكه الارتباط بين التفتيش وتلقائية الحرب من جهة، وضرورة العودة لمجلس الأمن من أجل إعلان تلك الحرب من جهة أخرى (أنظر مقالة منير شفيق في الجزيرة نت: معادلة جديدة بعد القرار 1441).

كان قبول العراق بالقرار مكملا للتقدم الجوهري الذي تحقق على الصعيد الدولي. فإضافة إلى منع أو تأجيل الحرب وتأكيد سلطة مجلس الأمن الدولي، فقد عزز العراق بموافقته تلك مكسبا عسكريا إستراتيجيا مهما، بغض النظر عن نتائج التفتيش أو سلوك الولايات المتحدة لاحقا. إذ أن موافقة العراق وتعاونه مع فرق التفتيش جرد واشنطن من إمكانية ضم العالم إلى حرب تستطيع معها الاحتفاظ ليس فقط بالشرعية، وإنما بالموارد التي تتيح لها الاستمرار بالحرب إلى نهايات بعيدة. فواشنطن تستطيع في أي وقت إعلان الحرب، غير أنها ستكون وحيدة إلا من تحالفات ثنائية بسيطة، لا تكسبها الشرعية أو العون اللازم لخوض حرب مجهولة وخطيرة بكل المقاييس.

المجهول القادم

undefinedويؤكد مسؤول غربي-شارك في مفاوضات بنيويورك حول تأثير نشوب حرب في الشرق الأوسط إحدى المناطق الأكثر إستراتيجية وحساسية في العالم- أن ضمان نهاية إيجابية لتدخل في العراق مجرد "وهم". وأضاف أن الشرق الأوسط يجسد "خلاصة كل التصدعات في العالم".

ويلخص غراهام فولر المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية في مقال له في الجزيرة نت بتاريخ 28/5/2002 الوضع بقوله "يبدو أن الرئيس(بوش) يرسم السياسات بدون أن تتضح له الرؤية على المدى البعيد. وقد يكون واضحا من حيث رغبته في وقف كل أشكال الإرهاب، لكن العالم يثبت أنه معقد أكثر مما يتمناه الرئيس، ولذلك فإن هذا العالم يضع قيودا ومعوقات أمام حرية بوش في العمل".

إلا أن مستشار الرئيس الأميركي للشؤون الاقتصادية لورانس لينزي يرى غير ذلك. إذ قال في حديث لصحيفة واشنطن تايمز عن الكلفة الاقتصادية لأي عمل عسكري ضد العراق "في ظل أي سيناريو فإن التأثير السلبي سيكون بسيطا نسبيا مقارنة بالمزايا الاقتصادية إذا نفذنا الحرب بنجاح. القضية الرئيسية هي أن النفط وتغيير النظام في العراق سيسهل زيادة إنتاج النفط العالمي مما يساعد على خفض الأسعار".

وإذا كان العراق قد احتل الحيز الأكبر من الاهتمام في العام الماضي، فإن كل التوقعات تشير إلى أن مصير ذلك البلد قد يقرر بدوره مصائر الكثير من السياسات والإستراتيجيات أو ربما النظام الدولي ككل. فأجندة التغيير الأميركية طويلة وتتجاوز العراق وإن بدأت فيه. وأكدت هذا مستشارة الأمن القومي الأميركي كوندوليزا رايس التي تحدثت عن المبادئ الجيو إستراتيجية لما بعد الحرب الباردة للولايات المتحدة، قائلة إن بلادها قوة محررة ستكرس نفسها "لإحلال الديمقراطية ومسيرة الحرية في العالم الإسلامي".

وفي ضوء قلب المعادلة الفلسطينية باتجاه العراق أولا، سيحدد التدخل الأميركي هناك ساحة الفصل القادمة، وهي ساحة يؤكد عدد من الدبلوماسيين والمسؤولين الدوليين أن الجدل القائم بشأنها يطرح بشكل ملح مسألة المسؤولية عن قرارات من شأنها التأثير على مصير العالم، مؤكدين أن ما سيسفر عنه هذا الجدل سيكون حاسما لمستقبل النظام الدولي.
_______________
* الجزيرة نت

المصدر : الجزيرة + وكالات