تردي الاقتصاد الإسرائيلي يقود إلى تغيرات سياسية

Thousends of Israeli union workers demonstrate 27 May 2003 as they take part in a march in west Jerusalem around government buildings to protest against a new economic plan by the local government concerning their pension plans

خاص-الجزيرة نت

كشف مرور ثلاثة أعوام على انتفاضة الأقصى مدى التكلفة العالية التي يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي، فبعد أن وصلت إسرائيل إلى أفضل سنوات عمرها نموا وازدهارا من الناحية الاقتصادية في العام الذي اندلعت فيه الانتفاضة تعاني الآن من الكساد والركود والتراجع والانكماش.

واتضح بعد مرور هذه السنوات الثلاث أن الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها إسرائيل جراء الانتفاضة الفلسطينية لا تؤثر بشكل ملموس في الموقف السياسي الإسرائيلي، فقد ازداد تأييد الناخب الإسرائيلي لأحزاب اليمين الملتزمة بخيار سحق الانتفاضة بالقوة، وأسفرت الانتخابات الأخيرة التي جرت مطلع العام الجاري عن هزيمة ساحقة لحزب العمل الذي تبنت قيادته سياسة العودة للمفاوضات مع الفلسطينيين.

الوضع الراهن في إسرائيل من خسائر اقتصادية وتعنت سياسي يطرح سؤالا حول قدرات الاقتصاد الإسرائيلي وإلى أي مدى سيمكنه تحمل تكاليف الانتفاضة.

للإجابة على هذا السؤال سنعرض لوضع الاقتصاد الإسرائيلي ونقاط القوة التي يتمتع بها، ثم نتعرض للخسائر التي لحقت به جراء الانتفاضة ونحاول تحديد المدى الذي يتمكن به الاقتصاد الإسرائيلي من تحمل هذه الخسائر.

أوضاع الاقتصاد الإسرائيلي
من المعروف أن الاقتصاد الإسرائيلي قد تقدم ونما طوال عقد التسعينيات بشكل هائل حتى أصبح مستوى معيشة الفرد الإسرائيلي يضاهي معيشة مواطني البلدان الصناعية المتقدمة، فسجل متوسط دخل الفرد الإسرائيلي في نهاية القرن أكثر من 17 ألف دولار في العام، وهو ما يعادل حوالي عشرة أضعاف متوسط دخل الفرد في مصر أو سوريا، ويزيد عن متوسط دخل الفرد في إسبانيا أو اليونان أو نيوزيلندا.

ويعود النمو الهائل في الاقتصاد الإسرائيلي إلى ثلاثة عوامل:

  • الأول هو تدفق ما يقارب مليون مهاجر من بلدان ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل، وهي هجرة لم تعهدها البلاد منذ خمسينيات القرن الماضي. وتميز هؤلاء المهاجرون بأنهم من ذوي مستوى ثقافي ومهني عال جدا، وقد تم استيعابهم بفضل تدفق عشرة مليارات دولار من القروض بأسعار فائدة منخفضة بفضل الضمانات الأميركية.
  • الثاني هو الدخول في عملية التسوية السياسية في الشرق الأوسط ما أشاع جوا من الاستقرار النسبي في مطلع التسعينيات فدفع بالشركات العالمية لضخ أموالها للاستثمار في إسرائيل. فبينما لم تتجاوز قيمة الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل 400 مليون دولار في السنة لأعوام الثمانينيات فقد بلغت هذه الاستثمارات في منتصف التسعينيات حوالي 2.5 مليار دولار في العام.
  • الثالث هو عملية الإصلاح الاقتصادي التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية عام 1985 وأخذت تحقق إنجازات مهمة في مطلع التسعينات على صعيد تقليص العجز في ميزانية الحكومة وفي ميزان المدفوعات التجاري، وعلى صعيد إنهاء التضخم المالي وثبات الأسعار، وعلى صعيد أرباح الاقتصاد الإسرائيلي في الأسواق العالمية. وكانت الحكومة الإسرائيلية في تلك الأثناء أقدمت على اتخاذ خطوات هامة على طريق الخصخصة وتحرير السوق المالي من كثير من القيود التي كانت مفروضة عليه.

فتضافرت العوامل الثلاثة وحققت نموا كبيرا طوال عقد التسعينيات فأخذ الناتج المحلي الإجمالي ينمو بمعدلات من 5% إلى 6% في النصف الأول من العقد ومن 3% إلى 4% في النصف الثاني منه.


زادت في العقد الماضي أهمية صناعة التقنية العالية في إسرائيل وأخذت تحتل مكانة ريادية في إنتاج بعض الأجهزة الحربية والطبية وأجهزة الاتصالات وتصدرها للخارج

ورافق النمو تطور هام في بنية الاقتصاد تجلى في تراجع أهمية الزراعة إذ أصبحت لا تشكل أكثر من 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وزادت أهمية صناعة التقنية العالية وخاصة في مجال التصدير، إذ أصبحت إسرائيل تحتل مكانة ريادية في إنتاج بعض الأجهزة الحربية والطبية وأجهزة الاتصالات.

وأحرزت صناعة برامج المعلومات (Software) تقدما ملحوظا تمكنت على أساسه إسرائيل من تبوؤ مكانة قيادية في الأسواق العالمية في منتجات إدارة المعلومات وحماية الحاسوب والبرامج التعليمية.

وشهد عقد التسعينيات من ناحية أخرى عملية إصلاح في علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة التشريعية والسلطة القضائية، فأدت زيادة قدرة السلطة القضائية على المحاسبة والمساءلة إلى دعم الشفافية وسيادة القانون بشكل يشجع الاستثمارات الأجنبية.

خسائر الاقتصاد الإسرائيلي إثر الانتفاضة
اندلعت الانتفاضة في 28 سبتمبر/أيلول 2000، وكانت إسرائيل شهدت في هذا العام أفضل مستوى نمو في تاريخها منذ عقود. فبعد أن كان النمو في النصف الأول من عقد التسعينيات بين 5% إلى 6% وفي النصف الثاني من 3% إلى 4% سجلت الأشهر التسعة الأولى من العام 2000 معدل نمو بلغ نحو 8%، وهي نسبة عالية جدا تذكر بالقوة الاقتصادية التي عاشتها دول جنوب شرق آسيا قبل الأزمة التي قوضتها في نهاية التسعينيات.

ومع اندلاع الانتفاضة توقف النمو وأصبح في الأشهر الأخيرة من السنة يتراجع فوصل معدل النمو في نهاية العام إلى مستوى 6.4%، وكان البنك المركزي قدر الخسارة في العام 2000 بنحو ملياري دولار.

واستمرت معدلات النمو تتراجع في إسرائيل خلال العامين التاليين (2001 و2002) فتسببت في تراجع متوسط دخل الفرد بنسبة 2.9% عام 2001 عما كان عليه في العام 2000 ، وبمقدار 0.3% عام 2002 عما كان عليه في العام 2001.

هذا التراجع في معدلات النمو خلال عامين متتاليين بشكل لم تشهده إسرائيل من قبل، يعود السبب الرئيسي وراءه إلى انخفاض حجم الاستثمار المحلي والأجنبي، فقد تراجع مستوى الادخار المحلي عام 2001 مقدار 2.6% وفي العام 2002 تراجع بمقدار 8%.

أما بالنسبة للاستثمار الأجنبي في إسرائيل فبينما وصل إلى أكثر من مليار ونصف دولار في الربع الأول من العام 2000 تراجع إلى حوالي نصف مليار دولار في الربع الأخير من نفس العام، ثم عاد وارتفع قليلا عام 2001 ليعود ويتراجع عام 2002 فيسجل معدلات سالبة في الربع الأخير منه.

undefinedوقد تأثر القطاع السياحي في إسرائيل بشكل كبير إثر تصاعد الأحداث، فبعد أن كان متوسط عدد السياح الشهري في الأشهر التسعة الأولى من العام 2000 يصل إلى 225 ألف سائح، هبط عدد السياح ليصل في الشهر العاشر إلى 150 ألف سائح وأخذ عدد السياح في التراجع ليصل إلى نحو 50 ألف سائح في الشهر نفسه من العام 2002.

ونتيجة لتراجع النمو وخسارة الدخل أرتفع معدل البطالة وانخفضت الضرائب التي تجبيها الحكومة، وبسبب الأحداث المتصاعدة زادت نفقات الدولة على الجانب العسكري، ما وسع الهوة بين نفقات الحكومة ووارداتها وزاد من عجز الميزانية، فبينما سجل عجز الميزانية الإسرائيلية تراجعا مستمرا من العام 1996 حتى كاد يختفي في العام 2000 عاد وارتفع عام 2001 إلى أن وصل 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ثم ارتفع إلى 4% عام 2002.

وأدى الخلاف الذي نشب بين قطبي الحكومة الائتلافية (حزب الليكود وحزب العمل) العام الماضي بسبب عدم الاتفاق حول الوسيلة لعلاج مسألة عجز الميزانية إلى انهيار الائتلاف وخروج حزب العمل من الحكومة.

فحزب الليكود كان يرى تخفيض المصاريف الاجتماعية (علاوات الأطفال، ومساعدات العاطلين عن العمل، ومعاشات التقاعد) بينما حزب العمل كان يحمل رأيا آخر بحيث يتم تخفيض العجز من خلال تخفيض النفقات الحكومية التي تصب في اتجاه دعم سكان المستعمرات الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وعند تشكيل الحكومة الجديدة في هذا العام أرسل وزير المالية الجديد (بنيامين نتنياهو) وفدا من وزارته إلى واشنطن لإجراء محادثات بغية الحصول على مساعدات جديدة.

كما عمد نتنياهو إلى تقليص نفقات الحكومة وفقا للرؤية الليكودية ما قاد إلى خلاف مع اتحاد نقابات العمال (الهستدروت)، فنظمت الأخيرة إضرابات متتالية في كثير من القطاعات، ما يبرز الخلاف الحاصل في الشارع الإسرائيلي حول من يتحمل تكاليف مواجهة الانتفاضة رغم أن نتيجة الانتخابات الحكومية أبرزت اختيار الغالبية لقيادة تعمل على مواجهة الانتفاضة بالقوة العسكرية العالية.

من يتحمل التكلفة الاقتصادية لسياسة المواجهة؟
وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو إلى متى سيستمر الخلاف حول من يمول سياسة المواجهة؟ وفي ظل استمرار أجواء عدم الاستقرار وفقدان الأمان لمدة طويلة، ستبقى معدلات النمو وخاصة لقطاع الاستثمارات الأجنبية وقطاع السياحة في ركود وانكماش.

ورغم قدرة المساعدات الأميركية لتغطية العجز وتسديد تكاليف الإنفاق العسكري ولكنها لن تستطيع أن تشجع الاستثمارات الأجنبية ولن تنعش قطاع السياحة.


رغم قدرة المساعدات الأميركية على تغطية العجز وتسديد تكاليف الإنفاق العسكري فإنها لن تستطيع أن تشجع الاستثمارات الأجنبية ولن تنعش قطاع السياحة

وفي حال استمرار الانكماش الاقتصادي لمدة طويلة نسبيا (ما بين سنة وسنتين) فلا بد أن يتغير رأي الغالبية الإسرائيلية تجاه سياسة الحكومة الراهنة.

وفي ظل تزايد إضرابات العمال ستكون الحكومة مضطرة إلى اتباع واحد من ثلاثة أساليب، أولها الاستمرار في الاستدانة الخارجية ما سيزيد من حجم الدين الخارجي لحدود كبيرة تضر بالثقة في الاقتصاد الإسرائيلي.

والوسيلة الثانية هي الاستدانة من البنك المركزي الإسرائيلي الذي يعني زيادة مستمرة في طبع النقود، ما سيقود إلى التضخم وارتفاع الأسعار وإسرائيل لها تجربة قاسية في استعمال هذا الخيار في سبعينيات القرن الماضي عندما ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير وتصاعدت الأسعار بشكل غير معقول وصلت لأكثر من 300% سنويا في منتصف الثمانينيات.

أما الخيار الثالث فهو زيادة الضرائب ما سيعمل على تقليص حجم الدخل المتاح للمواطنين، وبالتالي قوتهم الشرائية ويعمل على تفاقم الكساد.

ولعل إسرائيل تلجأ حاليا للخيار الأول، فالمساعدات الأميركية الطارئة التي اعتمدت مؤخرا تقدم حلا على المدى القصير ولكنها دون شك ليست حلا على المدى الطويل.

وبذلك يمكننا القول إنه إذا استمرت الانتفاضة واستمرت أجواء عدم الاستقرار وفقدان الأمن لمدة طويلة نسبيا فإن تفاقم الوضع الاقتصادي سيفرض في النهاية تغيرا في سياسة الحكومة المركزية.

المصدر : الجزيرة