العلاقة بين الدولة والدين في الولايات المتحدة


undefined
ريا ميارسكوف

 

دور الدين في الحياة العامة كان دائما موضوعا مثيرا للجدل منذ نشأة الولايات المتحدة الأميركية. واليوم يبدو النقاش محتدما خاصة مع صعود "اليمين الديني" كقوة سياسية في الولايات المتحدة.
 
وبينما طلبت بعض المجموعات حذف عبارة "بأمر الرب" من ميثاق الولاء للدولة، ينص البرنامج السياسي للحزب الجمهوري في ولاية تكساس للعام 2006 على أن أحد أهدافه هو "تبديد أسطورة فصل الدين عن الدولة". فما حدود وطبيعة وإشكاليات العلاقة بين الدين والدولة في الولايات المتحدة الأميركية؟
 
 
 

 
فكرة فصل الدين عن الدولة هي فكرة جديدة نسبيا من الناحية التاريخية، فهي نتاج عصر التنوير والثورة الفلسفية التي حدثت في أوروبا في القرن الثامن عشر.
 
وكان مجيء عصر التنوير إيذانا بنهاية حقبة حكم الملوك بموجب "الحق الإلهي"، الذي كان يقوم على أساس فكرة أنهم كانوا مختارين من قبل الرب.
 

وبعد التنوير سعى الناس إلى البحث عن أساس عقلاني غير ديني للقوانين التي تحكمهم، واعتبر الدين مسألة رأي شخصي بدلا من كونه ميدان سباق لقوانين الحكومة. ولم يلهم عصر التنوير الثورة الأميركية والمؤسسات الفلسفية للأمة الجديدة فقط، ولكنه أثر أيضا في الدساتير والفلسفات السياسية لكثير من دول أوروبا الغربية.
 

"
ينص البرنامج السياسي للحزب الجمهوري في ولاية تكساس للعام 2006 على أن أحد أهدافه هو "تبديد أسطورة فصل الدين عن الدولة" "

قامت أول 13 مستعمرة في الولايات المتحدة الأميركية على أيدي المتطهرين Puritans الذين فروا من الاضطهاد الديني في أوروبا. وكان البيوريتانيون شديدي التدين وكانوا يؤمنون بأن المؤسسات الدينية غرست وحافظت على الفضيلة في المجتمع، لكنهم أيدوا الحرية الدينية بدلا من مؤسسة دينية عالمية ترعاها الدولة.
 
وابتكرت المستعمرات التي أصبحت النواة الأولى للولايات بعد الثورة الأميركية مجموعة كبيرة من الحلول لإحداث توازن بين الدين والسلطة وأيدت بعض الولايات مثل ولاية فرجينيا الفصل الكامل بين الدين والسلطة السياسية في دستور ولايتهم. وأدمجت ولايات أخرى بعض المعتقدات الدينية في الحياة العامة.
 
على سبيل المثال فرضت ولاية بنسلفانيا على مواطنيها الإيمان بالجنة والنار، لكنها لم تفرض عليهم مزيدا من المعتقدات المحددة.
 
وبعض الولايات أيدت فصل الدين عن الدولة لأنهم كانوا يخشون أن تعمل السلطة السياسية على إفساد المؤسسات الدينية، وليس العكس.
 

 
كان الرئيس توماس جيفرسون أول من أشار إلى "جدار الفصل بين الدين والدولة" في رسائله المتبادلة مع الرئيس جيمس ماديسون. ورغم أن هذين الرئيسين المؤسسين احتفظا بهذه الفكرة في التعديل الأول للدستور، الذي عدل عام 1791 فقد يستغرق الأمر سنوات أخرى طويلة قبل التوصل إلى أي نوع من الإجماع الوطني على الحدود الفاصلة بين الدين والدولة.
 
ولم يحدث أي تغيير حتى تمرير التعديل الخامس عشر، عام 1868، الذي أصبحت فيه حرية الدين حرية محمية فدراليا وأمكن تطبيق التعديل الأول في الولايات، ولم يحدث أي تغيير آخر حتى العام 1947.
 

في العام 1947 أصدرت المحكمة العليا قرارات كثيرة مختلفة تتعلق بالمؤسسات الدينية، حيث قضت المحكمة العليا بدستورية قيام الحكومة بتعويض الآباء الذين دفعوا مصاريف نقل أبنائهم بالحافلات إلى المدارس الدينية، بينما حظر قرار العام 1962 الصلاة في المدارس العامة.
 
وفي العام 2005 نظرت المحكمة العليا في قضيتين تتعلقان بتقديم عرض مسرحي للوصايا العشر في الأماكن العامة، واحدة في مبنى البرلمان بولاية تكساس والأخرى في دار القضاء بولاية كنتاكي.
 
وقضت المحكمة بأن العرض في مبنى البرلمان كان علمانيا في طبيعته ويمكن أن يستمر، في حين أن العرض في دار القضاء في كنتاكي كان محاولة ترويج للدين ومن ثم يجب نقله من هذا المكان.
 
ورغم أن عددا من القضايا قد حددت معايير تراعى عند تقييم انتهاك محتمل لعلاقة الدين بالدولة فليس هناك خط واحد يمكن اتباعه، وعموما ترى المحكمة عدم دستورية أي قوانين قد تفرض معتقدا دينيا معينا على المواطنين، يمكن أن تؤول على أنها موافقة حكومية لدين معين.
 

 

"
من دلائل تأثير المسيحية في الأميركان عبارة "أمة واحدة بأمر الرب" الموجودة في قسم الولاء للدولة وعبارة "نثق في الرب" المنقوشة على العملة
"

فيما يتعلق بالدرجة التي يتم بها الفصل بين المؤسسات الدينية والمؤسسات الحكومية فإن فرنسا وإنجلترا مقارنتان شيقتان بالولايات المتحدة.
 
فليس في إنجلترا فصل بين مؤسسات الكنيسة والدولة، والكنيسة الإنجليزية -أو الانجليكانية- هي الكنيسة الأم ورئيس الدولة -ملكة إنجلترا- هو أيضا رئيس الكنيسة الإنجليزية، ورئيس الوزراء هو الذي يختار بطريرك الكنيسة الإنجليزية، وهذا الاختيار يجب أن يقر من قبل الملك أو الملكة.
 
ولكن رغم الحقيقة بأن الحكومة تقر دينا وطنيا، ليس هناك تشريع أو إجراءات حكومية تمنع حرية ممارسة معتقدات دينية أخرى، ورئيس الوزراء الحالي توني بلير نفسه كاثوليكي وليس إنجليكانيا.
 

أما فرنسا فإنها تهتم أكثر من الولايات المتحدة بالفصل بين الكنيسة والدولة وتصنف على أنها دولة علمانية.
 
ورغم أن أتباع الكنيسة الكاثوليكية قاموا بأدوار سياسية مؤثرة كمستشارين للملوك في فرنسا ما قبل الثورة -الثورة الفرنسية عام 1789- لم يعد للكنيسة مكان في السياسة.
 
ووضع قانون العام 1905 مبادئ العلمانية الفرنسية، ونص على أن الحكومة لن تمول أو تدعم المنظمات الدينية ويمنع تدريس الدين في المدارس ويمنع ارتداء الرموز الدينية في الأماكن العامة، في حين أن الناس أحرار في اتباع أي ديانة خاصة، ولا يمكن إلزام أي شخص باعتناق دين ما.
 
لكن قانون جاك شيراك للعام 2004 السيئ السمعة المؤيد لقوانين العام 1905 بحظر ارتداء الطلبة للرموز الدينية الواضحة في المدارس العامة كالحجاب الإسلامي والقلنسوة اليهودية والصليب المسيحي أثار جدلا واسعا في أنحاء الدولة ورأى كثيرون أنه بدأ يتدخل في حرية ممارسة الدين.
 

 
لقد بات واضحا أن كثيرا من الأميركيين لا يوافقون على أن الحكومة يجب أن تظل خارج هيمنة الدين، فالكثيرون يصنفون الولايات المتحدة على أنها دولة مسيحية ويستشهدون بعبارة "أمة واحدة بأمر الرب" الموجودة في قسم الولاء للدولة وعبارة "نثق في الرب" المنقوشة على العملة الأميركية. كما أن جورج بوش يعتبر من قبل الكثيريين أكثر الرؤساء تدينا خلال عقود مضت.
 

ويشير استطلاع للرأي أجرته أسوشيتدبرس أن 40% من الأميركيين يعتقدون أن القادة الدينيين يجب أن يكون لهم رأي في السياسة العامة.
 
وأشار استطلاع آخر لشبكة التلفزة المحافظة فوكس نيوز إلى أن 77% من الأميركيين يشعرون بأن المحاكم تمادت كثيرا في إبعاد الدين عن الحياة العامة، كما أوضح نفس الاستطلاع السابق أن 66% يؤيدون عرض الوصايا العشر في المدارس العامة، وصوت 76% لصالح عرضها في المباني الحكومية. وطالبت بعض الجماعات الدينية بعودة الشعائر الدينية إلى المدارس، رغم حظر المحكمة العليا لهذا الأمر منذ أكثر من 40 عاما مضت.
 
من الواضح إذن أن الحد الفاصل بين الكنيسة والدولة أقل أهمية من الجدار الذي وصفه الرئيس الأميركي توماس جيفرسون. ولما كان تشكيل هيئة المحكمة العليا يتغير أو الرأي العام يتبدل فربما تقدم لنا حينئذ أحكام المحاكم اللاحقة تفسيرات مختلفة حول تلك المادة الدستورية المنظمة لعلاقة الدولة بالدين، وإلى أن يحين هذا الوقت فإن الجدل سيستمر.
_______________
باحثة في معهد الأمن الدولي بواشنطن

المصدر : الجزيرة