دور الدين في حياة الفرد والمجتمع الأميركي


 

على العكس من معظم المجتمعات الغربية العلمانية، ظل الدين يمثل قيمة أساسية في حياة الأميركيين وملمحا مميزا للمجتمع على مدار التاريخ الأميركي، بل يمكن القول إن المجتمع الأميركي أسس تاريخيا على أساس ديني. ورغم علمانية الدولة التي تم إقرارها منذ البدايات الأولى لجيل المؤسسين وحرصهم على فصل الدولة الناشئة عن الكنيسة، يظل المجتمع الأميركي واحدا من أكثر المجتمعات العلمانية محافظة وتدينا.
 


 
 

 

"
تثير موجة التدين المتصاعدة منذ السبعينيات وبروز دور الدين في أميركا قضايا خلافية وانقسامات تجعل المواطن الأميركي في حالة استقطاب دائم
"

تشير نتائج استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة إلى أن معظم الأميركيين يعتبرون أنفسهم مؤمنين ومتدينين، ففي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب Gallup في منتصف التسعينيات أعرب 96% من عينة الدراسة عن إيمانهم بالله، كما أن 71% قالوا إنهم منتمون إلى كنيسة أو معبد يهودي، كما أكد 45% من العينة أنهم يمارسون العبادات والطقوس بصورة منتظمة. ما يزيد عن 56% من الأميركيين يصفون أنفسهم بأنهم بروتستانت، بينما 27 % يعتبرون انفسهم كاثوليكا و2% يهود.
 
وتلفت الانتباه زيادة معدلات نمو الكنائس الإنجيلية Evangelicals من حيث زيادة عدد أعضائها وزيادة نفوذها وتأثيرها في المجتمع والسياسة الأميركية، (30% بروتستانت بيض أنجيليون محافظون طبقا لإحصاء غالوب 2003 مقابل 20% من البروتستانت الليبراليين العلمانيين).
 
وتؤيد إحصاءات مؤسسة بيو PEW نتائج استطلاعات الرأي لغالوب Gallup. كما يؤمن معظم الأميركيين بالوقائع والمعجزات الدينية والتاريخية المذكورة في الكتاب المقدس، مثل قصة الخلق وطوفان نوح وشق موسى البحر بعصاه ومعجزات السيد المسيح وغيرها بصورة حرفية. ويضاف إلى ذلك الإيمان بعودة المسيح ومعارك آخر الزمان خاصة عند الطائفة الإنجيلية. كما يعتقد معظم الأميركيين في الغيبيات والجنة والنار والأرواح الشريرة وغيرها.
 

تتنوع مظاهر التدين في المجتمع الأميركي من تعميد الأطفال في الكنائس الكاثولكية وتنشئة الاطفال على الأخلاق المسيحية إلى الحرص على الذهاب إلى الكنيسة بصورة منتظمة. ومن تسمية المدن في مختلف الولايات بأسماء مدن مستقاة من الكتاب المقدس إلى المشاركة في الأنشطة الاجتماعية التي تنظمها وتشرف عليها الكنائس.
 

ومن الصلاة عند البدء في تناول الطعام إلى حضور عشرات الآلاف لقداس أو محاضرة في ستاد كرة قدم أو بيسبول في المدن الكبرى، ومن وضع رمز أو شعار ديني على السيارة الخاصة إلى اتخاذ مواقف سياسية لتحقيق معتقدات دينية، ومن قيام أتباع طائفة المورمن بطرق الأبواب للدعوة لأفكارهم إلى مطالبة أولياء أمور الطلاب بوضع الوصايا العشر في حجرات الدراسة، ومن استعمال ألفاظ ذات دلالة دينية (عند تشميت العاطس مثلا) إلى إنتاج أفلام سينمائية تتناول حياة وآلام المسيح. 
 
جيل الطفرة العددية بعد الحرب العالمية يعود إلى الكنيسة
تختلف التفسيرات والأسباب التى أدت إلى ما نراه الآن في المجتمع الأميركي من مظاهر العودة إلى الدين وصعود دور الكنيسة في حياة الفرد والمجتمع، ومن بين هذه التفسيرات التي لا يلتفت إليها الكثيرون ظاهرة جيل الطفرة الكمية في عدد المواليد التي اعقبت الحرب العالمية الثانية الذي يسمى في الثقافة الأميركية بـBaby Boomers، حيث اتجه الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية وما سبقها من سنوات الإحباط وتدني معدلات النمو الاقتصادي إلى زيادة عدد المواليد بصورة غير مسبوقة ليولد جيل جديد ينشأ في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية مغايرة، أهم ما يميزها أجواء الرخاء والرفاهية.
 
ويلاحظ الباحثون منذ فترة أن هذا الجيل الكبير الذي يبلغ متوسط أعماره الآن 50 سنة يعود إلى الدين في صورته المؤسسية المنظمة.
 

 

رغم كل ما يقال عن تدين المجتمع الأميركي وأهمية دور الدين في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، لا يزال الدين في اعتقاد وسلوك معظم الأميركيين شأنا شخصيا لا يتجاوز قناعات الفرد وطريقة معيشته. وذلك نظرا للتوازن الكائن في المجتمع بين الدين والمحافظة من جانب والعلمانية وحرية الاختيار واحترام الحياة الخاصة للأخرين من جانب آخر.
 
ويضاف إلى جملة الأسباب التى تجعل الدين شأنا شخصيا وأقل تأثيرا في حياة المجتمع ثقافة الفردية والتمحور حول الذات التي تميز الثقافة المادية الرأسمالية وتجعل الفرد لا يهتم كثيرا يما يجري خارج حدود بيته إلا بما يعود عليه من مصلحة شخصية، حتى إن الفرد الأميركي في علاقته بالدين والكنيسة يعتبر انتقائيا إلى حد بعيد، حيث يأخذ منها ما يتوافق مع رؤيته واحتياجاته. ولعل ظاهرة سهولة الانتماء والتنقل بين الكنائس المختلفة تكون قد نتجت بسبب هذه الطبيعة.

 
من الأمور التي حالت كذلك دون أن يفرض فرد أو جماعة بعينها ما تؤمن بها من أفكار دينية على بقية أفراد المجتمع الحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة والحياة العامة في الثقافة الأميركية أن المحكمة الأميركية العليا كانت ولا تزال تكبح جماح من يحاول أن يتجاوز هذه الحدود من الجانبين سواء كان المحافظ أو الليبرالي.
 
 


المشهد الثقافي العام للمجتمع الأميركي يقوم على منظومة من الثنائيات المتقاربة والمتطابقة في بعض الأحيان، مثل ثنائية المحافظين/ الليبراليين، المتدينين/ العلمانيين، الجمهوريين/ الديمقراطيين، الولايات الحمراء/ الولايات الزرقاء، ثقافة الجنوب والغرب الأوسط/ ثقافة الشمال والمدن الكبرى، وبين هذه الثنائيات هناك أطياف مختلفة من الاتجاهات والمواقف ولكنها تظل محدودة على مستوى الكم والتأثير.
 

"
يؤكد بعض المحافظين أن التراث التاريخي والثقافي الأميركي قائم على التراث اليهودي المسيحي Judeo- Christian ما يوضح لماذا يتخذ المواطن الأميركي العادي مواقف مؤيدة لإسرائيل
"

من أهم القضايا التي تثير الانقسام بين الأميركيين القضايا الأخلاقية التي تتعلق بالفرد والأسرة والمجتمع مثل قضايا الإجهاض، وتدريس الدين في المدارس العامة، وحقوق الشواذ جنسيا والتجارب العلمية على الأجنة وتجارب الخلايا الجذعية، واستخدام الرموز الدينية في الأعياد، والحريات العامة، والهجرة غير الشرعية، والهوية الثقافية.
 
فعلى سبيل المثال رفض قاض فدرالي أميركي في ولاية بنسلفانيا قبل أشهر قليلة تدريس نظرية "التصميم الذكي" للكون باعتبارها بديلا لنظرية التطور والارتقاء لعالم الأحياء البريطاني تشارلز دارون. واعتبر القاضي أنها نظرية غير علمية. ونص قرار المحكمة على مخالفة الاقتراح للدستور الأميركي الذي يتبنى الفصل بين الدين والدولة في المؤسسات التعليمية الأميركية.
 
المجتمع الأميركي منقسم إزاء هذا المشهد إلى ثلاث فرق:
  1. الفريق الأول: من المتدينين الذين يؤمنون بالنظرية التي فحواها أنه لا بد أن وراء هذا الكون البالغ التعقيد خالقا وأنه لم يتطور من تلقاء ذاته. ويحاول هذا الفريق الضغط لتدريس النظرية في المدارس العامة.
  2. الفريق الثاني: يرفض بأي شكل مناقشة النظرية ويعتبر أن محاولات الضغط لتدريسها يقوض أسس الدولة العلمانية في الولايات المتحدة.
  3. الفريق الثالث: لا يمانع من تدريس النظريتين جنبا إلى جنب دون إصدار أحكام تقييمية لصحة أو خطأ أي منهما.
غير أنه لم يمنع من أن القانون والثقافة السائدة في أميركا من حيث علمانية الدولة لا تتبنى نهجا دينيا محددا، رغم أن الدين يلعب دورا محوريا كسبب رئيس وراء انقسام المشهد الثقافي في المجتمع الأميركي. وتظهر الإحصاءات واستطلاعات الرأي كيف أن الاختلافات بين الأميركيين في القضايا الاجتماعية تقوم غالبا على أساس ديني.
 
ففي قضية مثل حق الشواذ في الزواج وطبقا لاستطلاعات بيو PEW في الفترة من 2004 حتى 2006  يعارض 60% من الأميركيين معظمهم من المتدينين زواج الشواذ. وتستمر قضية الإجهاض في تقسيم المجتمع إلى فئات متباينة، ففي استطلاع لمنتدى بيو في يوليو/ تموز 2006 لا يمانع 30% من الأميركيين الإجهاض، بينما لا يمانع 24% الاجهاض ولكن بشروط، ويعارض 35% منح الأم حق الإجهاض مع وجود بعض الاستثناءات ولا يوافق ما يزيد على 11% على الإجهاض على الإطلاق. ذلك بينما يعتقد اثنان من كل ثلاثة أميركيين أنه يمكن التوصل إلى حل وسط وأرضية مشتركة لاتفاق حول القضية.
 

"
يحكم سلوك المجتمع علمانية الدولة احترام الحريات العامة وخصوصية الأفراد وسلطة القانون وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو اللون
"

داخل المؤسسات الدينية تعتبر الطائفة الإنجيلية التي تتخذ من الجنوب الأميركي قاعدة لها من أكثر فئات المجتمع تمسكا باتخاذ مواقف محافظة مقارنة ببقية أعضاء المذهب البروتستانتي وبقية المذاهب المسيحية في الولايات المتحدة بصورة عامة.

 
ففي استطلاع  لقياس اتجاهات الرأي العام حول الدين ودوره في الحياة العامة أجرته مجموعة مارتيللا Marttila للاتصالات في أكتوبر/ تشرين الأول 2005 أظهرت النتائج أن 76% من الإنجيليين يعتقدون أن المسيحية تتعرض للهجوم والاستهداف داخل الولايات المتحدة، وذلك مقابل 48% من المسيحيين الذين يترددون على الكنيسة بصورة غير منتظمة.
 
ويوافق 89% من الإنجيليين على ضرورة وضع لوحات في المؤسسات الحكومية والعامة تحتوي على الوصايا العشر، بينما تصل نسبة الموافقة بين المسيحيين الذين يترددون على الكنيسة بصورة غير منتظمة 51%، وكانت النتيجة تقريبا متطابقة في قضايا مثل تنظيم صلوات في المدارس العامة وغيرها.

 



من أكثر الأمثلة وضوحا على دور وتأثير الدين في الحياة العامة والسياسة الداخلية الأميركية عملية التصويت في الانتخابات التشريعية والرئاسية، فغالبا ما يصوت المحافظون والمتدينون لصالح الحزب الجمهوري، ما يجعل قادة ومرشحي الحزب ينحازون في برامجهم الانتخابية إلى الأفكار المحافظة.
 
إذا ما أضفنا إلى ذلك محاولات بعض المحافظين التأكيد على أن التراث التاريخي والثقافي الأميركي قائم على ما يطلق عليه التراث اليهودي المسيحي Judeo- Christian والربط بين المصير المشترك لليهود والمسيحيين والتحالف الإستراتيجي بينهما. واقتناع كثير من الأميركيين بهذه الفرضية خاصة المتدينين، لأصبح واضحا لماذا يتخذ المواطن الأميركي العادي مواقف مؤيدة لإسرائيل. 
_______________
المصدر : الجزيرة