الحركة الإسلامية في تركيا: أزمة العلمانية الشاملة
وقد قسمت المقالة إلى قسمين يتناول كل قسم مجموعة من المحاور تعالج أزمة العلمانية التركية في ظل تنامي وجود الحركات والتيار الإسلامي.
القسم الأول
الحركة الإسلامية التركية
موت الميراث العثماني
تصدع العلمانية
الأولى: تلك التي تصدر من المعسكر العلماني الراديكالي التركي وأوساط غربية معادية لكل ما يمت إلى الإسلام بصلة، تتمحور هذه الاتهامات حول مؤامرة أسطورية ينسجها الإسلاميون للسيطرة على الحكم في واحدة من أكبر بلدان العالم الإسلامي بهدف القضاء على الحداثة التركية ودفع عقارب الساعة إلى الوراء.
" التيار الاسلامي في تركيا الحديثة لا يمثل استمرارا للميراث العثماني ومؤسسة الخلافة، والإسلاميون الأتراك ينتمون إلى فئة الأنتلجنسيا الحديثة " |
كانت تركيا هي أرض انطلاق الدولة العثمانية ومقر سلطنتها وعاصمتها طوال 700 عام، وهي الدولة التي حضنت الخلافة الإسلامية لقرون خمسة من تاريخها. ولأن الدولة العثمانية ولدت في تخوم الإسلام، من رحم حركة غزو وجهاد واسعة النطاق، فقد استقرت في هذا الجزء من العالم الإسلامي روح نضالية عميقة الجذور، مسلحة بالشعور بالمسؤولية تجاه الإسلام، دينا وأمة وميراثا. ولكن الحرب العالمية الأولى وضعت نهاية مؤلمة للدولة العثمانية وللخلافة الإسلامية معا.
بكلمة أخرى، تركيا الجمهورية، بعلمانييها وإسلامييها، سارت شوطا كبيرا في القطيعة مع الميراث العثماني السياسي، سلطنة وخلافة. بل إن نهاية السلطنة والخلافة لم تأت إلا بعد أن فقدت كلتاهما مبرر وجودها.
يرتبط معنى تركيا الحديثة ومبناها بمؤسس الجمهورية مصطفى كمال (أتاتورك لاحقا). كان مصطفى كمال ضابطا عثمانيا من طراز رفيع، تخرج في المدرسة الحربية العثمانية الحديثة. وليس صحيحا أنه كان عضوا في جمعية الاتحاد والترقي، التي سيطرت على مقاليد الدولة العثمانية منذ انقلابي 1908-1909.
الصحيح أن علاقته بالضباط الرئيسيين في الاتحاد والترقي لم تكن حسنة، وقد اصطدم مصطفى كمال بأنور باشا، وزير الدفاع وأحد القادة الرئيسيين للجمعية، منذ سنوات المقاومة العثمانية للغزو الإيطالي لليبيا في 1919، وبعد إقرار الدولة العثمانية بهزيمتها في الحرب الأولى وخسارتها لكل ولاياتها العربية، تعرضت منطقة الأناضول التركية لغزو يوناني، بينما قسمت البلاد إلى قطاعات نفوذ لدول الحلفاء. كان الإنزال اليوناني في منطقة أزمير إهانة بالغة للأتراك، ما دفع مصطفى كمال إلى الاستقالة من منصبه العسكري والتوجه إلى الأناضول حيث اختير لقيادة المقاومة للقوات اليونانية المحتلة.
" مصطفى كمال استشعر خطر النشاطات الإسلامية على الجمهورية الوليدة، فتخلص من الخلافة والمؤسسات المرتبطة بها وقمع معارضيه بعنف " |
نجاحات المقاومة في الأناضول ووقوع الحكومة العثمانية في إسطنبول تحت النفوذ البريطاني، جعلت من مصطفى كمال بطلا تركيا وإسلاميا. ولكن الأهم من ذلك، كان تحول أنقرة، مقر قيادة أتاتورك، إلى مركز منافس لإسطنبول. المجلس الوطني الكبير، الذي أسس في أنقرة كبرلمان للقوى الشعبية المنخرطة في المقاومة، أصبح بديلا للبرلمان العثماني في إسطنبول، ورابطة الدفاع عن الأناضول والرومللي، التي قادت حركة المقاومة، أصبحت حكومة موازية لحكومة اسطنبول.
" منذ الثلاثينيات والأربعينيات بدأ النظام العلماني يتشقق، وجرى إدراك أن مشروع أتاتورك وضع الدولة في حالة صدام مع الضمير الجمعي للأتراك " |
لا يمكن تصنيف النورسية ضمن الحركات الإسلامية السياسية، ولكنها بلا شك واحدة من أهم حركات الإحياء الإسلامي الديني في القرن العشرين. وربما كانت النورسية أقرب إلى نموذج الجمعية الشرعية في مصر، رغم الاختلاف في التوجهات العقدية بين الاثنتين. ولا يزال التيار النورسي نشطا في تركيا اليوم، لاسيما في مجالات النشر والمؤتمرات والإعلام. ولكن تفكك النورسيين إلى مجموعات متعددة، يدعي كل منها شرعية التعبير عن ميراث بديع الزمان، أضعف أثر التيار. العامل الآخر الذي أسهم في إضعاف النورسيين كان بلا شك بروز القوى الإسلامية السياسية ونجاحاتها الانتخابية المتكررة.
ولأن تصور الحلفاء لعالم ما بعد النازية كان تصورا ديمقراطيا، فقد بادر إينونو للسماح بتعددية محسوبة للأحزاب، وهو ما أدى إلى خروج مجموعة ليبرالية من حزب الشعب الجمهوري الحاكم، بقيادة عدنان مندريس، يرافقه جلال بايار والمؤرخ فؤاد كوبروللو، لتشكيل الحزب الديمقراطي.
بيد أن التحول الرئيس الذي صنعته حقبة مندريس كان فتح المجال للتفكير الإسلامي السياسي في تركيا. كانت القوى الإسلامية السياسية قد انتشرت في كل أنحاء العالم الإسلامي، من مصر وسوريا والعراق والسودان إلى باكستان وإندونيسيا. وبكسر شوكة الدولة العلمانية المناهضة للدين كدين بدأت مجموعة من أبناء الأنتلجنسيا التركية في بلورة تصور سياسي إسلامي لتركيا الحديثة.
_______________
باحث فلسطيني