فلسطين في جدلية الصراع الحمساوي الفتحاوي
تدخل وسائل الإعلام في أتون معركة ردود الفعل، وربما تساهم أحيانا في تأجيج انفعالات المقتتلين من خلال استضافة أشخاص يمثلون النعرات الفصائلية ويشنون هجوما لاذعا على المناوئين. ويبدو أن تركيز وسائل الإعلام على الحدث بحد ذاته يؤثر سلبا على البحث عن الحقيقة، فتتوه المادة العلمية لصالح المادة الدعائية أو ذات الملامح الظرفية.
وهذا المقال عبارة عن محاولة للبحث في الإطار الجدلي للصراع الفتحاوي الحمساوي، والبحث في مدى مساهمته في تقزيم القضية الفلسطينية أو دفعها إلى الأمام على المستويات السياسية ومستوى المقاومة المسلحة.
الاقتتال الفلسطيني الداخلي كان متوقعا، بل حتميا وذلك لأسباب عدة منها:
-
أسس اتفاق أوسلو للاحتراب الفلسطيني لأنه اشترط على السلطة الفلسطينية ملاحقة الإرهاب، وتم تشكيل أجهزة أمنية فلسطينية من شأنها أن تحافظ على الأمن الإسرائيلي بشعارات وطنية. كما أن الاقتتال الداخلي الفلسطيني متضمَّن في الاتفاق مع إسرائيل، ولم يكن من الممكن تفاديه إلا بإلغاء الاتفاق.
-
الفصائل الفلسطينية تتصرف كقبائل عربية، وتحقن نفسها بتعصبية متصاعدة تجعل من الآخرين على الساحة عدوا تجب إزالته. التربية الفصائلية مقيتة وحاقدة وتزرع الكراهية والبغضاء في النفوس. لم يكن من المتوقع أن تجلس الفصائل معا في حوار تسوده النوايا الطيبة، ولم يكن الحوار سوى هدف إعلامي لكل فصيل مع وجود نوايا مبيتة لإلغاء الآخر.
" يرى المتتبع لنشاطات القيادة الفلسطينية أن سقف المطالب الفلسطينية استمر في الهبوط عبر السنوات، وأن المحرمات الفلسطينية لم يتم التمسك بها، وأن الثوابت الفلسطينية عبارة عن متغيرات " |
القضية الفلسطينية عبارة عن قضية كبيرة جدا وأكبر بكثير من الشعب الفلسطيني، وتشكل هما إستراتيجيا لملايين العرب والمسلمين. اتفاق أوسلو عبارة عن جحر صغير لا يكاد يتسع لضب.
لم يراع الموقعون على اتفاق أوسلو ثقل القضية الفلسطينية، وخاضوا مسيرة تفاوضية دون مراعاة التوازن بين فكرة التفاوض وأهمية القضية التي يتفاوضون بشأنها، وأخلّوا بذلك بالبعد المنطقي التاريخي لتقدير مشاعر الناس وقناعاتهم وتطلعاتهم.
يرى المتتبع لنشاطات القيادة الفلسطينية أن سقف المطالب الفلسطينية استمر في الهبوط عبر السنوات، وأن المحرمات الفلسطينية لم يتم التمسك بها، وأن الثوابت الفلسطينية عبارة عن متغيرات.
يتطلب تجاوز المحرمات والتنازل التدريجي عن الأهداف لدى أي مجتمع تدهورا أخلاقيا لأن المعايير الجديدة تقفز عن المستوى الأخلاقي المعمول به لصالح مستوى أخلاقي جديد. لا يمكن لورِع مثلا أن يدخل في عالم الرذيلة إلا إذا قرر التخلي عن قناعاته، ولا يمكن لوطني أن يقبل بغزاة إلا إذا تخلى عن انتمائه الوطني.
" أضحت الأرض المحتلة/67 مهيأة ومؤهلة للاقتتال الداخلي، ولو لم تكن حماس في طليعة المعارضة لكان غيرها. لكل فعل رد فعل، ولكل واقع ما يضاده ويعمل على تغييره، وكل مقولة تحمل في الداخل نفيها " |
أضحت الأرض المحتلة/67 مهيأة ومؤهلة للاقتتال الداخلي، ولو لم تكن حماس في طليعة المعارضة لكان غيرها. لكل فعل رد فعل، ولكل واقع ما يضاده ويعمل على تغييره، وكل مقولة تحمل في الداخل نفيها.
ظهرت بوادر الاقتتال الداخلي الفلسطيني في العمليات الاستشهادية التي كانت تشنها حماس ضد التجمعات السكانية اليهودية. جزء من هذه العمليات كان يصب مباشرة في فكرة المقاومة بدون ذيول سياسية داخلية، وجزء آخر كان يُقصد منه تعطيل المسيرة التفاوضية وإعادة خلط الأوراق على الساحة الفلسطينية. نجحت حركة حماس في كبح جماح عملية التفاوض، واستطاعت أن تكسب لنفسها الوقت للإعداد والاستعداد على صعيدي مناكفة السلطة الفلسطينية ومقاومة الاحتلال. يبدو أن فتح لم تفهم تماما رسالة العمليات هذه وأصرت على الانفراد.
ربما لا تعبر الضدية عن نفسها بمثل هذا الوعي الذي أطرحه في هذا المقال، لكنها تتطور تدريجيا من خلال النزاعات الظرفية التي تستمر في الظهور على مدار الساعة. تعكس الخلافات نفسها في النهاية على شكل احتكاكات وصدامات محدودة وحشد متواصل للمناصرين والمؤيدين. لم تبخل الساحة الفلسطينية بالتطورات اليومية الظرفية التي ساهمت تراكميا في تأجيج المشاعر وتصاعد وتيرة المشاحنات الداخلية. نمت عناصر البغضاء والكراهية، وظهرت بوادر الثارات الدموية التي عبرت عن نفسها بتسلح الأشقياء الزعران، وتسلح العديد من العائلات في غزة والضفة الغربية.
أصبح إطلاق النار في الشارع الفلسطيني عبارة عن ظاهرة يومية، وبالكاد كان يمر يوم بدون قتلى أو جرحى سواء في الصراع بين عصابات اللصوص والبلطجية أو بين فصيلي فتح وحماس. ألقت الدموية بثقلها على الشارع الفلسطيني حتى أصبح من المعتاد أن تسمع في الشارع الفلسطيني من يتمنى عودة الاحتلال المباشر. مع هذا، بقي صاحب القرار الفلسطيني مغيبا نفسه مكتفيا بوعود إقامة العدل وردع الفالتين أمنيا.
لم يكن من المتوقع أن تصمد الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مواجهة حماس ذلك لأن الأولى تعطي الولاء، والثانية تتميز بالانتماء. لم يظهر في التاريخ أن انتصر أصحاب الولاءات على أصحاب الانتماء. الولاء يُباع ويُشترى، أما الانتماء فليس مطروحا في السوق، وهو متأصل ونابع من قناعات ذاتية وجماعية.
صنعت حماس بسيطرتها على قطاع غزة واقعا جديدا مفروضا ليس على الساحة الفلسطينية فحسب وإنما على المنطقة أيضا. ومن المحتمل أن تكرس هذا الواقع بطريقة أو بأخرى في الضفة الغربية لكي تكون أكثر تأثيرا في صياغة مستقبل القضية الفلسطينية. طبعا، التكتيك العسكري الذي تم تبنيه في غزة لا يصلح في الضفة الغربية لأسباب عدة منها وجود الاحتلال الصهيوني المباشر.
" لقد اعوجت الساحة الفلسطينية كثيرا، وأمامها فرصة الآن للتقويم، وإذا فشلت حماس في إقامة الميزان فإن التاريخ لن يلفها برحمته. لقد مهدت القيادة الفلسطينية الطريق أمام قوى التاريخ ومنطق الصراع الدائر للعمل، وحجم القضية الفلسطينية لا يمكن أن يعبر في كيس صغير لا يتسع لحفنة تراب " |
رد فعل إسرائيل على ما جرى في غزة يعطي مؤشرا قويا على مدى رفض المنادين بالمفاوضات مع إسرائيل لما جرى في غزة. انطلقت التهديدات ضد حماس وضد قطاع غزة من أفواه المسؤولين الإسرائيليين، وساندهم بداية في ذلك بعض الأنظمة العربية. تراجعت الأنظمة بعد ذلك عن موقفها، لكن إسرائيل أصرت على ضرب حصار شديد على القطاع ولكن إلى الحد الذي لا يؤدي إلى مجاعة، والهدف هو استعمال معاناة الناس للضغط على حماس والعودة إلى الأوضاع في القطاع إلى ما قبل الرابع عشر من يوليو/تموز 2007.
لم تتلكأ أميركا في دعم الموقف الإسرائيلي، وعملت على دعم فتح بقيادة عباس وأمرت باستئناف ضخ الأموال إلى حكومة الطوارئ الفلسطينية لدفع الرواتب ولتسهيل القيام بأعمالها.
هناك قراءات لمستقبل القضية أجملها فيما يلي: من يرى في إسرائيل وأميركا عدوين للشعب الفلسطيني يخلص إلى القول بأن ما فعلته حماس يصب في مصلحة القضية الفلسطينية؛ والعكس صحيح. من يرى في الرواتب ولقمة الخبز القيمة العليا ينتهي إلى القول بأن حماس تدمر مصالحه الشخصية بغض النظر عن مستقبل القضية.
القراءة الثانية لها علاقة بطاولة المفاوضات. من يرى أن الشعب الفلسطيني يستطيع الحصول على حقوقه من خلال المفاوضات يستنتج أن حماس اقترفت خطيئة، أما الذي رأى في طاولة المفاوضات إثما وطنيا ودينيا فيبارك لحماس ما قامت به.
في قراءة التدين، يحمّل أغلب الذين يرفضون الدين كمحرك سياسي حماس مختلف الخطايا، وعلى العكس منهم من يرون في الدين سياسة ومنهاج حياة.
في القراءة التاريخية، ووفق المعطيات الموضوعية لطبيعة الصراع وحجم القضية الفلسطينية، أرى أن ما قامت به حماس يساهم في تصحيح الأوضاع الفلسطينية وفي إعادة القضية إلى موقعها الصحيح ومنزلتها الحقيقية. هناك معاناة وهناك دم قد نزف وعائلات قد فقدت، لكن التاريخ يبدي الأسف دون أن يتوقف عن الحركة.