الإسلاميون والسلطة


undefined

*بقلم الدكتور: عبد النور بن عنتر

تتعدد وتتشعب العوامل المحددة للصراع بين الإسلاميين والحكومات العربية والذي اتخذ طابعا دمويا رهيبا في الجزائر (مائة ألف قتيل و20 مليار دولار خسائر). يشمل تحليلنا للظاهرة موضوع الدراسة العالم العربي ككل، لكننا سنركز من خلال معطيات التحليل على سوريا ومصر والجزائر.

– مقاربة لظاهرة الصراع
بين الإسلاميين والسلطة

– أسباب وعوامل الصراع
– عوامل استمرار المواجهة
– الإسلاميون وتوظيف الإسلام
بين الأهداف المعلنة والخفية

– هل دخل العالم العربي مرحلة
ما بعد الإسلام السياسي؟

– الإسلاميون والسلطة:
نحو التهدئة والمصالحة؟

مقاربة لظاهرة الصراع بين الإسلاميين والسلطة:
ملاحظات أولية

أولاً: الدول التي عرفت مواجهة عنيفة بين الإسلاميين والسلطة كانت في السابق أنظمة "تقدمية" نافذة داخل النظام الإقليمي العربي. تطرح هذه القضية تساؤلات مركزية: ألا يعبر استفحال الظاهرة الإسلامية، لاسيما في شقها الجهادي-التكفيري، في هذه الدول بعنف عن انكسار المشروع التقدمي الاشتراكي للأنظمة؟ ألا يشكل تطرف هذه الأنظمة في طروحاتها الأيديولوجية أحد العوامل المكونة لتطرف الحركات الإسلامية كونها نمت وترعرعت في بيئة سياسية تعودت على أسلوب العنف لتسوية القضايا السياسية العالقة؟ أليست الحركات الإسلامية الأكثر اعتدالا، والتي دخلت المعترك السياسي، ظهرت وتطورت في دول "محافظة" عُرفت أنظمتها بـ "اعتدالها"؟ من هذا المنطلق، يمكن استنتاج فرضية مؤداها أن التطرف الأيديولوجي الرسمي (القومي، التقدمي، الاشتراكي، العلماني) ساهم مع مرور الزمن في ظهور تطرف عقائدي من طبيعة دينية، خاصة أن تلك الأنظمة فشلت في مشاريعها. وما يدعم هذه الفرضية مثال تونس، التي اتسم نظامها في عهد بورقيبة بـ"الاعتدال"، ولما عرفت الظاهرة الإسلامية منذ السبعينيات، فإن ذلك لم يؤد إلى العنف (رغم بعض الأعمال)، وحتى لما تشدد النظام مع حكم بن علي، فإن الإسلاميين لم يلجؤوا إلى العنف، وكأن التعامل مع النظام في السابق خلق نوعا من "التقاليد السياسية" جعلتهم يبقون ضمن سقف العمل السلمي رغم حظر نشاطهم وحدة العنف السلطوي.

ثانياً: التيار الإسلامي عموما والجهادي-التكفيري خصوصا ظهر بقوة في أقوى الدول العربية من حيث إرساء قواعد دولة قوية، خوض تجارب تحديثية شاملة ومن حيث التوجهات السياسية والإستراتيجية إقليميا ودوليا (مصر، سوريا، الجزائر). كما أن الحركات الإسلامية الأقوى ظهرت في دول (مصر وسوريا) عرفت أنشط التيارات القومية واليسارية. وبالتالي فالدول الأكثر قومية أيديولوجيا صارت في حقبة من الزمن أكثر إسلامية. على عكس مصر وسوريا، لم تعرف الجزائر استقطابا أيديولوجيا بين العروبيين والإسلاميين، وإنما بين الإسلاميين واليساريين. النموذج الآخر والمختلف كثيرا عن هذا النموذج الذي انتقل من مناخ قومي، اشتراكي علماني إلى مناخ إسلامي، هو نموذج الدول التي عرفت (لبنان واليمن) وتعرف (السودان والصومال) حروبا أهلية. ففي هذه الدول، الاستقطاب السياسي لم يكن ثنائي القطبية (إسلاميون-سلطة)، بسبب تعدد التيارات وتشابكها جراء جو الحرب الأهلية، وكذلك بسبب التعدد العرقي والطائفي مثل لبنان وإلى حد ما العراق. اليمن قد يتطور باتجاه الاستقطاب الثنائي، لكن ثقل العامل القبلي في اللعبة السياسية سيخفف من حدته.

ثالثا: بعض الأنظمة "المحافظة" عملت في خضم صراعها الأيديولوجي مع منافساتها "التقدمية" على استخدام الورقة الدينية بدعم الحركات الإسلامية ضد هذه الأخيرة، مما يفسر، جزئيا، تمركز الإسلاميين في دول لا تستمد شرعيتها من الدين أساسا، وهذا ما يفسر أيضا، جزئيا، بقاء الأنظمة "المحافظة" في منأى عن المد الأصولي. لكن بعد حرب الخليج و"الطلاق" بين بعض الأنظمة "المحافظة" لاسيما السعودية والحركات الإسلامية، ضرب الإرهاب الأصولي في المملكة التي سبق أن عرفت تمردا إسلاميا؛ تمثل في استيلاء مجموعة إسلامية على المسجد الحرام في مكة عام 1979. الدولة الخليجية الأخرى التي شهدت عنفا إسلاميا هي البحرين إذ ضلع حزب الله المحلي في عمليات إرهابية. لكن بصفة عامة، تمكنت الأنظمة التي تستمد سلطتها من الإسلام ومن المرجعية القبلية من كبح جماح تطرف الحركات الإسلامية، مما حال دون تعميم العنف، فسايرت هذه الحركات فتجنبت الصدام معها. هناك أنظمة "تقدمية" استخدمت أيضا هذه الورقة لخدمة إستراتيجياتها الإقليمية والدولية. ليبيا شكلت في مطلع الثمانينيات "الفيلق الإسلامي" الذي شارك في ما بعد بعض عناصره من أصل طارقي (من الطوارق) في تمرد حركات (إسلامية وغير إسلامية) الأزواد شمالي مالي والنيجر في مطلع التسعينيات، مما هدد الأمن الجزائري والإقليمي عموما. لكنها انقلبت على الإسلاميين لما استهدفها، خاصة في 1995، عنف الجماعات الليبية (الجماعة الإسلامية المقاتلة التي تضم العديد من الأفغان الليبيين، وحركة الشهداء الإسلامية). والعراق خلال صراعه الإيديولوجي حول الزعامة مع سوريا ساند في السبعينيات جماعة إسلامية مسلحة سورية (حزب التحرير الإسلامي).


بعض الأنظمة "المحافظة" عملت في خضم صراعها الأيديولوجي مع منافساتها "التقدمية" على استخدام الورقة الدينية بدعم الحركات الإسلامية ضد هذه الأخيرة، مما يفسر، جزئيا، تمركز الإسلاميين في دول لا تستمد شرعيتها من الدين أساسا، وهذا ما يفسر أيضا، جزئيا، بقاء الأنظمة "المحافظة" في منأى عن المد الأصولي

رابعا: العنف الرسمي يعد أحد محددات الرد الإسلامي العنيف الذي يقود بدوره إلى عنف رسمي مضاد، لكنه يبقى عاملا من جملة عوامل كما يظهر من التجربة الجزائرية. يقال عادة إن إلغاء المسار الانتخابي الذي كان سيصل ديمقراطيا بالإسلاميين إلى الحكم هو سبب لجوئهم إلى العنف كرد فعل على العنف الرسمي. وفي هذا مبالغة بل وحتى مغالطة. العنف الإسلامي يعود إلى الثمانينيات لما أعلن مصطفى بويعلي حربا على النظام، لإقامة دولة إسلامية، والتي بدأت عام 1982 وتوقفت عام 1987 لما قتلته قوات الأمن. بعض أعضاء تنظيم بويعلي (الحركة الإسلامية في الجزائر) الذين أفرج عنهم عام 1989 أصبحوا عام 1992 من أنشط أعضاء الجماعة الإسلامية المسلحة.

وللتذكير فإن أول عملية إرهابية إسلامية في الجزائر (هجوم على موقع لحرس الحدود في قمار في الجنوب الشرقي للبلاد) تقدمت شهرا قبل الدور الأول من الانتخابات التشريعية
في ديسمبر/كانون الأول 1991. وفي الواقع، هذه العملية أكدت صحة المعلومات المتداولة في الأوساط الإسلامية الجهادية التوجه، في ربيع وصيف 1991 القائلة إن "مجاهدين" على أهبة الاستعداد لإعلان الجهاد ضد السلطة.

أسباب وعوامل الصراع

1- الحركات الإسلامية حركات رافضة للواقع؛ ترفض الأنظمة الحاكمة برمتها. ونسبة كبيرة منها حركات إقصائية ترفض الآخر-السياسي وترفض الحكم مستبعدة إمكانية التعايش معه. الحركات الأكثر تطرفا كفرت النخب الحاكمة والمجتمع وانتهجت الأسلوب الجهادي لتغيير الوضع على أساس أنه لا تعايش مع المرتدين والكفرة، فكان العنف سبيلها لإزاحة السلطة وإقامة دولتها الإسلامية المنشودة. فردت السلطة بزيادة حدة عنفها. هكذا دخلت بعض البلدان حلقة العنف والعنف الرسمي المضاد الذي طاول المعتدلين من الإسلاميين. أما التي تنبذ العنف، فهي الأخرى عازمة أن تحل محل الأنظمة لتطبق الشريعة الإسلامية وتقيم الدولة الإسلامية. وبحكم استخدامها للخطاب الديني في بيئة اجتماعية متدينة إلى حد كبير، أو على الأقل متقبلة للمفردات الدينية، فإن هذه الحركات تمكنت من تحريك وتعبئة الجماهير مما أعطاها ثقلا سياسيا وجعلها المنافس القوي والمعارض للأنظمة الحاكمة.

2- ومما أسهم في انتشار العنف الإسلامي وجود الحامل الاجتماعي للطروحات الإسلامية بسبب انتشار الفساد الحكومي، وتعمق الفوارق الاجتماعية وإقصاء أغلبية المجتمع من دورة توزيع الثروات الوطنية. التقاء المصالح هذا، إن صح التعبير، أوجد نوعا من "التلاحم العضوي" بين إسلاميين وشرائح واسعة من المجتمع خاصة من جيل الشباب. إنها قطيعة بين الأجيال، كما حدث في الجزائر من خلال تعبير درامي (أحداث 1988)، يستفيد منها التيار الإسلامي. ذلك أن العديد من الشباب الذي شارك في هذه الأحداث انضم في ما بعد إلى الإسلاميين. لكن هذا الشباب لم يكن إسلاميا بل أصبح كذلك لما نجح الإسلاميون، بفضل الرؤية الخاطئة للسلطة، في استرجاع هذه الأحداث سياسيا لصالحهم. من هذا المنطلق، يصعب في بعض الأحيان التفريق بين مسيرات شعبية منددة بتدني الوضع الاجتماعي ومظاهرات إسلامية. ذلك أن الإسلاميين نجحوا حتى الآن في استدراج الناقم والساخط من الشباب العربي على سياسات الحكام في صفوفهم. والعديد من المظاهرات الاجتماعية حُولت في نهاية المطاف إلى مسيرات سياسية، بينما همّ المتظاهر هو في واقع الأمر لقمة العيش. ولا يبدو أن الأنظمة الحاكمة تعي وجود مثل هذا "التلاحم".

عدم إدراك هذه المسألة جعل السلطة الجزائرية ترتكب الخطاء الإستراتيجي؛ السماح للإسلاميين باستغلال حوادث أكتوبر/تشرين الأول الأسود 1988، التي لم تندلع إطلاقا بمبادرة منهم وإنما تدخل في إطار ما اصطلح عليه بـ "انتفاضات الخبز".(مصر، وتونس، والجزائر، والأردن، والمغرب، وموريتانيا، والسودان، واليمن…).

3- الحركات السياسية الاحتجاجية والمتطرفة تلقى انخراطا كبيرا في أوساط الشباب المتحمس عادة بحكم صغر سنه وهذا ينطبق أيضا على المجتمعات الديمقراطية. ولما كان الشباب يشكل الأغلبية في المجتمعات العربية فإن الإسلاميين استفادوا من هذا الخزان البشري الهائل لتجنيد أنصارهم. لكن دعم الشباب لصفوف الإسلاميين لا ينبع دائما من قناعات سياسية أو عقائدية، بل يخضع لمنطق النكاية عملا بالقول المأثور "لا حبا في علي، ولكن كرها في معاوية". فالعديد ممن صوتوا لصالح الإسلاميين في الجزائر في 1991، إنما فعلوا ذلك إيقانا منهم بأنهم القوة السياسية الوحيدة التي ستخلصهم من نظام الحزب الواحد. وبالتالي كانوا البديل الآني.


الحركات السياسية الاحتجاجية والمتطرفة تلقى انخراطا كبيرا في أوساط الشباب المتحمس عادة بحكم صغر سنه وهذا ينطبق أيضا على المجتمعات الديمقراطية. ولما كان الشباب يشكل الأغلبية في المجتمعات العربية فإن الإسلاميين استفادوا من هذا الخزان البشري الهائل لتجنيد أنصارهم

4- بحكم الطبيعة الدينية لخطابها وقدرتها التعبوية للجماهير، خاصة المحرومة (اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا)، واستغلالها الأمثل لـ "انتفاضات الخبز"، وضعت الحركات الإسلامية حدا للإذعان الاجتماعي الذي تعود عليه الحكام منذ عقود. وبالتالي أصبحت تشكل تحديا سياسيا لهم. وربما الإطناب الرسمي في الحديث عن "هيبة الدولة" يعبر عن وعي هؤلاء بهذا التهديد الزاحف. لكن كيف يمكن استرجاع هيبة دولة تمت خصخصتها؛ إذ أصبحت الدولة العربية تتأرجح بين نماذج تسلطية، الدولة القبيلة.. أو الدولة الأسرة.. أو الدولة الحزب…

5- لما كانت الأنظمة وصلت إلى السلطة بطريقة غير شرعية، فإنها ترى في أبسط مظاهرة اجتماعية محاولة لقلبها، فكان أن سيست كل شيء، وبالتالي أقصي الجميع من الشأن السياسي العام الذي تحتكره النخب الحاكمة. هذه السلوكيات المنعية حالت دون بروز جمعيات مدنية ونقابات للدفاع عن مصالح المواطن، لأن كل شيء يجب أن يسير في فلك السلطة وإلا اعتبر تهديدا لأمن الدولة! لما يشتكي المواطن (العربي) من غلاء المعيشة، فإن السلطة تعتبره مشاغبا سياسيا، بينما نفس المشهد في الغرب هو مجرد تعبير عن مطالب اجتماعية شرعية. هذا الإدراك الخاطئ لحيثيات الأزمة والتركيبة التسلطية للدولة العربية يفسران، إلى حد كبير، سر غلبة المعالجة الأمنية البحتة على المعالجة السياسية-الاجتماعية-الاقتصادية للظاهرة الإسلامية. فالدور الأمني للدولة يتقوى بينما يتراجع دورها الاجتماعي-الاقتصادي بفعل سياسات الانفتاح الليبرالي التي تزيد من عدد الفقراء. هذا الوضع سمح للإسلاميين بالظهور و (أو) التمظهر بأنهم حماة الضعفاء من الشعب في وجه الطغاة من الحكام. هذه البيئة المريضة سهلت عمل الحركات الإسلامية الاحتجاجية والجهادية التي تنمو بسرعة فائقة في هذا الوسط الخصب، مما مكنها من التمتع بنوع من الدعم (السياسي للأحزاب الشرعية، والانخراط في الجماعات المسلحة) لدى شرائح واسعة في المجتمعات العربية. وهذا النموذج ينطبق على كل الدول ما عدا "دولة الرفاه النفطية" في الخليج التي سمحت لها عائدات النفط بإشباع حاجات الشعب مما جعله يغض النظر عن ممارساتها التسلطية.

6- من الملاحظ أن إطارات وأعضاء الحركات الإسلامية تأتي من الطبقات الوسطى المتعلمة ونسبة كبيرة منها من خريجي الجامعات، بينما الجماهير التي يحركها الخطاب التعبوي الحماسي والديني فهي من الطبقات المحرومة والمهمشة. لكن هذا لا يعني أن النخب الإسلامية لا تدافع عن مصالح خاصة، بل هي تستخدم مآسي الشعب للوصول إلى مآربها. ذلك أنها لم تجد طريقا لها في مؤسسات الدولة التي بقيت حكرا على نخب الاستقلال المستفردة بالحكم. فالإسلام الاحتجاجي يعبر أيضا عن حرب امتيازات بين النخبتين الحاكمة والمحرومة. وفي ظل غياب تداول السلطة تحول الحكم حتى في "الجمهوريات" إلى ملك عضوض بصيغة معاصرة. التعددية السياسية التي شرعت فيها بعض الدول بقيت شكلية ومقيدة، حيث أبقت على بنى الدولة التسلطية في منأى عن التغيير مما خلق إحباطا سياسيا لمختلف القوى السياسية خاصة الإسلامية التي انخرطت في اللعبة السياسية. هذا الانسداد السياسي إن لم يدفع نحو العنف، فإنه يهيئ له الظروف بتغليب التيار الإسلامي المتشدد على التيار المعتدل. انسداد الأفق السياسي وقدرة الأنظمة حتى الآن على تجديد مسوِّغات تحكمها في المجتمع أسهم ويسهم في تطرف وتشدد الإسلاميين بل وحتى شرائح من المجتمع ذات مطالب محلية هوياتية (من الهوية) كما هو شأن البربر في الجزائر.

7- الإحباطات المتراكمة شعبيا وإسلاميا جراء الظروف الاجتماعية القاسية والسياسية القاهرة خلق بيئة صراعية يتناحر فيها الإسلاميون والسلطة. فتطور الصراع ليأخذ شكلا مثلثا، السلطة- الحركات المعتدلة- الجماعات المتطرفة.

الصراع بين السلطة والإسلاميين أدى إلى بروز الجماعات المسلحة التي تبنت العنف لمجابهة قمع واضطهاد السلطة، مما أدى إلى ضغط مزدوج على المعتدلين. السلطة تعتبرهم المدرسة التي يتخرج منها الإرهابيون، والجماعات المسلحة الجهادية تتهمهم بالتواطؤ والمهادنة والتعامل مع الطغاة. لكن هذا الضغط المزدوج لم يضعف نهائيا التيار المعتدل، بل أصبح هذا الأخير "الشريك" السياسي المتسامح معه من قبل السلطة (الجزائر وإلى حد ما مصر)، والهدف طبعا هو حرمان الجماعات الجهادية من غطاء سياسي لعزلها وتدميرها. لكن يبقى أن الأنظمة عموما مازالت تتأرجح بين الإقصاء العنيف للتيار المعتدل ومحاولات احتوائه واستيعابه لدمجه في اللعبة السياسية العلنية تحت سيطرتها. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن بعض الدول قد نجحت في تعاطيها إزاء الملف الإسلامي. فقد تمكنت الكويت والأردن من إدخال التيارات الإسلامية، من دون عنف، معترك الحياة السياسية وفي إطار قوانين ومؤسسات البلاد. هذان البلدان تميزا بالتعامل الإيجابي مع الظاهرة الإسلامية على عكس التعامل السلبي الذي انتهجته دول أخرى. والتجربة الجزائرية فريدة في هذا المجال. فالجزائر تعاملت في البداية إيجابيا مع هذه الظاهرة، لكن الريبة المتبادلة وتصارع المصالح بين الإسلاميين والسلطة حالا دون التطور السلمي. إلا أن الجزائر تمكنت، رغم المجازر التي اقترفتها الجماعات المسلحة، من إدماج حركات إسلامية في العمل السياسي الشرعي، ساحبة بذلك البساط من تحت أقدام هذه الجماعات، ومحدثة شرخا في الحركة الإسلامية عموما بين من ينبذ العنف ومن يلجأ إليه. فكان أن أدى هذا إلى تناحر إسلامي-إسلامي (تصفيات جسدية لقيادات إسلامية على يد الجماعات المسلحة لإرغامها على العدول عن استجابتها لسياسة التهدئة والمصالحة التي تبنتها الحكومة وزرع البلبلة بين الإسلاميين والسلطة باتهام مصالح الأمن بالضلوع في تلك التصفيات). هكذا بدأت الجزائر بالاحتواء والاستيعاب، ثم الإقصاء، فالاحتواء والاستيعاب من جديد.


أدى الصراع بين السلطة والإسلاميين إلى بروز الجماعات المسلحة التي تبنت العنف لمجابهة قمع واضطهاد السلطة، مما أدى إلى ضغط مزدوج على المعتدلين. السلطة تعتبرهم المدرسة التي يتخرج منها الإرهابيون، والجماعات المسلحة الجهادية تتهمهم بالتواطؤ والمهادنة والتعامل مع الطغاة

8- إجهاض التجارب البرلمانية الليبرالية عربيا غداة الاستقلال أسهم في التعجيل في المواجهة بين الإسلاميين والسلطة. ففي سوريا مثلا شارك الإسلاميون في الانتخابات في الأربعينيات والخمسينيات. والملاحظ أن العلاقة مع السلطة كانت متوترة تحت الحكم العسكري أساسا. لما وصل البعث إلى الحكم (1963) تبنى سياسية متشددة بقهره للإخوان المسلمين الذين واصلوا مواجهة (عصيان مدني في حماة 1964) السلطة البعثية العلمانية التوجه. بعد هزيمة 1967، ازداد الإسلاميون تشددا وتوترت علاقتهم بالنظام البعثي-العسكري بقيادة الأسد ابتداء من 1970. فكانت النتيجة قصف مدينة حماة في 1982 لتصفية الإسلاميين الذين كانوا قد تبنوا الكفاح المسلح وهاجموا في 1979 كلية عسكرية في حلب وصعدوا كفاحهم بين 1980 و1982.

في مصر سمحت التجربة البرلمانية للإخوان بالمشاركة في الانتخابات عبر تحالفات حزبية. هذه المعطيات تؤكد نقطة أساسية وهي أن العلاقة بين الإسلاميين والعسكر في العالم العربي (مصر وسوريا وتونس والجزائر…) كانت دائما متوترة رغم التفاؤل الذي يعقب الانقلابات العسكرية (الإسلاميون في سوريا ساندوا في البداية انقلاب 1949، ثم الأسد في 1970، وفي مصر أيدوا في البداية عبد الناصر). كما تؤكد أن الصراع كان دائما يحسم لصالح العسكريين. وحتى لما يحدث تحالف بين الطرفين (السودان) فإنه سرعان ما ينهار ويحسم الأمر لصالح العسكر.

9- في العقود الماضية، أسهمت الأنظمة الحاكمة (مصر وسوريا والجزائر وتونس والمغرب) في نمو التيار الإسلامي لضرب التيار اليساري، وقد بلغ الصراع بين التيارين أوجه في الستينيات والسبعينيات. كانت السلطة دائما تفرض نفسها كحكم بين الخصمين، مما سمح لها بتجنب غضبهما والتحكم فيهما وإدارة اللعبة السياسة بما يخدم مصالحها. لكن بعد الانحسار القومي ثم تراخي الاستقطاب الأيديولوجي فتلاشيه بفعل المتغيرات الدولية والإقليمية، وجدت هذه الأنظمة نفسها في مواجهة التيار الإسلامي الذي خرج "منتصرا" من هذه الصراعات والمناظرات الأيديولوجية. ورغم محاولة الأنظمة ضرب الإسلاميين بالديمقراطيين، إلا أن إستراتيجيتها لم تفعل فعلها هذه المرة، فالخصمان يطرحان نفسهما بديلا شاملا وجذريا لها، كونها تجاوزها الزمن وفشلت في كل برامجها. فأصبح رفض الآخر السياسي في العالم العربي متبادلا ومتعدد الأبعاد بين الإسلاميين والسلطة والديمقراطيين.

10- هناك صراع بين الإسلام السياسي (الذي تعبر عنه الحركات الإسلامية) والإسلام الرسمي (الذي تعبر عنه المؤسسات الدينية الرسمية والسلطة) على نفس مصدر الشرعية، الدين. حيث دخل الإسلاميون والسلطة في حرب "شرعية" ضروس جعلت المنطقة تعيش حرب فتاوى تسوق مبررات تسعى لجعل شرعية كل طرف مسوغة ومشروعة. وهنا بدأت المزايدة السياسية بين الطرفين حول الإسلام. سعي الأنظمة لمنافسة الإسلاميين في استخدام الخطاب الديني، جعلها في كثير من الأحيان أكثر دينية منهم، إذ بدأت تتأرجح بين أنماط علمانية تارة ودينية تارة أخرى دون أن يستقر أمرها على نمط معين. وقد أثبت هذا التأرجح أن الدين والعلمانية لهما نفس المعنى، تسلط الحاكم العربي، من خلال نزوعها الديني سعت السلطة (في الجزائر ومصر) إلى استقطاب الفئات الشعبية الحساسة للخطاب الإسلامي، فكان أن استخدمت تقريبا نفس المفردات الدينية وشددت الخناق في بعض الحالات على الحريات الفردية باسم الدفاع عن تعاليم الإسلام (مثال مصر: مبدأ الحسبة الذي طال العديد من المثقفين، ومصادرة وزارة الثقافة بعض الكتب، النشاط "التكفيري" لجبهة علماء الأزهر…). في الجزائر، أُدخل أذان الصلاة بطريقة منتظمة في برامج التلفزيون لكسب ولاء الشارع "المتدين"، لكنه اُلغي في ما بعد، فكان أن ندد الإسلاميون بتراجع السلطة، في بعض المجالات نجحت السلطة (الجزائر ومصر) في حربها مع الإسلاميين حول مراقبة المساجد، إذ استعادت سلطتها عليها وأخضعت أئمتها ونصوص خطبهم للوزارة الوصية (الأوقاف). بل إن القانون المنظم للمساجد والخطب في الجزائر تمت ترقيته إلى نفس مقام قانون الإعلام، وفي الستينيات والسبعينيات عاشت سوريا حرب مساجد انتهت بسيطرة البعث على المساجد وإقصاء الإسلاميين من منابرها وتعيين أئمتها.

وبالتالي يمكن القول إن في حملتها ضد الظاهرة الإسلامية في العقد الماضي عمدت الأنظمة العربية إلى ما يمكن أن نسميه بـ "التدين الرسمي" لمواجهة "التدين الإسلامي"، فكان أن سهلت من مهمة الإسلاميين بخلق بيئة أكثر تقبلا للخطاب الديني، إلى درجة اختلاط الأمور على المواطن بين المفردات الدينية الرسمية وتلك التي تستخدمها المعارضة الإسلامية.


هناك صراع بين الإسلام السياسي (الذي تعبر عنه الحركات الإسلامية) والإسلام الرسمي (الذي تعبر عنه المؤسسات الدينية الرسمية والسلطة) على نفس مصدر الشرعية، الدين. حيث دخل الإسلاميون والسلطة في حرب "شرعية" ضروس جعلت المنطقة تعيش حرب فتاوى تسوق مبررات تسعى لجعل شرعية كل طرف مسوغة ومشروعة

12- تشكل الحركات الإسلامية المعاصرة قطيعة مع الإرث السني والتيار الإصلاحي لعصر النهضة (الأفغاني، عبده…) في ما يخص الموقف من السياسة. هذه الأخيرة كانت منبوذة (عند أبي حامد الغزالي، محمد عبده…)، أما عند الإسلاميين فهي مجال نشاطهم وسبيلهم لإقامة الدولة الإسلامية، ولا فرق عندهم بين العبادة والسياسة. فها هو عباسي مدني أحد قياديي الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية المحظورة يصرح في 1990 "عبادتنا سياسة وسياستنا عبادة". إن الاستيلاء على السلطة بمرجعية دينية هو هدف التيارات الإسلامية. وهكذا تجاوز الإسلاميون الخيط الرفيع ولكن الجوهري بين "المقدس" (الدين) و"المدنس" (السياسة) بالخلط بينهما فكانت الكارثة، مجرد معارض سياسي يصبح في قاموسهم مرتدا، كافرا وملحدا. هكذا على نمط الانتقاء الرسمي للقضايا الدينية، يلجأ الإسلاميون إلى انتقاء ما يناسبهم من الإسلام ويخدم "قضيتهم". فهم يؤكدون على عدم الخضوع للحاكم الجائر المخل بحكم الله، بينما يرفضون أي مناقشة لموقفهم وحكمهم المنشود، فالأمر يتعلق في نهاية المطاف باستبدال التسلطية الحالية، المتأرجحة بين العلمانية والدين، بتسلطية دينية لا جدال فيها لأنها تمثل إرادة الله فوق الأرض، وما زاد من الأمور تعقيدا هو تغلب الفكر الجهادي التكفيري في بعض الأحيان على الفكر المعتدل في الصراع داخل الإسلام الحركي.

أخيرا.. لو أردنا تلخيص أسباب الصراع لحددناها في ثلاثة عوامل أساسية.

أولها: إن الإسلاميين يشكلون البديل السياسي والفكري للأنظمة الحاكمة والقوة السياسية الوحيدة القادرة على إسقاطها لو تمت انتخابات حرة فعلية.

ثانيها: إن الحركة الإسلامية تحمل في جوفها "بذور العنف" التي سرعان ما تطفو على السطح، وبالتالي يرسب الإسلاميون أمام امتحان العنف الرسمي، إذ يردون عليه بالعنف مما يولد عنفا مضادا من جديد. فمعظم الحركات الإسلامية التي تعرضت للقهر الرسمي خرجت من رحمها جماعات تؤمن بالعنف كوسيلة للتغيير وتتبنى فكرا انقلابيا جهاديا وتكفيريا (نظر له أبو الأعلى المودودي وسيد قطب) يكفر الدولة والمجتمع ويؤمن بحاكمية الله، ملغيا الإرادة البشرية والسيادة الشعبية. يكمن سر وجود "بذور العنف" هذه في طبيعة المرجعية الدينية لهذه الحركات. ذلك أن من يدعي تطبيق الإرادة الإلهية فهو مقتنع تماما بأنه على صواب والغير على خطأ، وهذه قناعة مطلقة. من هنا تأتي إشكالية التعايش مع التيارات ذات المرجعية الدينية، لأنها إقصائية بطبيعتها. لكن لا يخفى أن شدة القهر السلطوي أسهمت إلى حد كبير في ظهور الفكر الجهادي، فسيد قطب تشدد في غياهب سجون عبد الناصر.

ثالثها: محنة الشرعية، فالأنظمة التي تستمد شرعيتها من الدين، بطريقة صريحة أو ضمنية لا يمكنها أن تطيق وتحتمل منافسا سياسيا يستمد شرعيته من نفس المصدر، خاصة أنه يطرح تفسيرا سياسيا مغايرا لتفسيرها، مدمرا بذلك مسوغات شرعيتها. أما الأنظمة العلمانية أو التي تتأرجح بين العلمانية والدين أو تلك التي تمزج بينهما، فالصدام بينها وبين الإسلاميين، الذين يرفعون شعار الإسلام بديلا شاملا لتسيير المقدس والسياسي في الشأن العام والخاص، لا مفر منه.

عوامل استمرار المواجهة بين الإسلاميين والسلطة

13- موقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية يعتبر من أبرز العوامل في إدامة الصراع. إذ يصعب مع الإسلاميين التمييز بين مواقفهم المساندة للديمقراطية النابعة عن قناعات سياسية حقيقية، سواء كانوا في المعارضة أو في حال تسلمهم الحكم، وبين تلك التي أملتها اعتبارات تكتيكية آنية، غرضها الانحناء لتجنب القهر الرسمي وانتقادات المعارضة وطمأنة الخصوم، حتى استلام الحكم ديمقراطيا ثم الانقلاب على كل شيء واغتيال الديمقراطية التي أوصلتهم إلى السلطة. قد يرى البعض في هذه الرؤية إجحافا بحق هؤلاء، لكن ما يعطي مصداقية لمثل هذه الرؤية هي التصريحات المتشددة للإسلاميين بأن كل شيء سيتغير إن وصلوا إلى الحكم وأنهم سيطبقون شرع الله (حسب تفسيرهم). ولقد كان للتصريحات الملتهبة للإسلاميين الجزائريين دور حاسم في تشكيل تحالف موضوعي بين الجيش ومختلف التيارات السياسية وشرائح واسعة من المجتمع قاد إلى وقف المسار الانتخابي عام 1992. وهكذا يعتبر الفكر الانقلابي للإسلاميين أحد أبرز محددات "صيانة" الصراع ومصادر تغذيته.

14- الاستئصاليون، في الجزائر ومصر وغيرها، لا يميزون بين الإسلاميين الذين انتهجوا العمل السياسي العلني والشرعي والذين تبنوا الإرهاب، ويرفضون التفريق بين معتدلين ومتطرفين على أساس أن التطرف خرج من رحم الاعتدال، هذا الخطاب المتشدد يميز ما يسمى بالجزائر بـ "القطب الديمقراطي" الذي يضم أحزابا تطالب باستئصال الظاهرة الإسلامية من جذورها كسبيل وحيد للتخلص من الإرهاب الأصولي وبناء الديمقراطية. هذا الموقف المتشدد يؤجج الصراع، خاصة أن أحزابا إسلامية تشارك في الائتلاف إلى جانب الحزب الحاكم وحزب من التيار الديمقراطي. كما يبقي الصراع القائم بطريقة أو بأخرى، لجعل الإسلاميين في موقف دفاعي، ودفع السلطة إلى انتهاج سياسة متشددة تجاههم. وبالتالي فهو يصب في نهاية الأمر في نفس منطق دعاة العنف وإقصاء الآخر السياسي في ما بين الإسلاميين. ليست الأحزاب "الديمقراطية" هي الوحيدة التي ترفض التمييز بين معتدلين ومتطرفين في ما بين الإسلاميين في العالم العربي، ذلك أن قسما من المثقفين يتبنون الموقف نفسه. فهؤلاء (من "ديمقراطيين" ومثقفين) يرفضون هكذا تمييزا، بحجة أن الاختلاف هو في الدرجة وليس في الطبيعة وأن الفروقات بينهما هامشية. يعبر هذا الحكم عن موقف أيديولوجي يناقض الواقع، فكل الإسلاميين لم يلجؤوا إلى العنف. كما أن هؤلاء يخلطون بين التطرف والعنف، لكن الأول لا يقود حتما إلى الثاني، والأمر ينطبق على كل التيارات السياسية في العالم. الحقيقة أنه بالإمكان تصنيف الحركات الإسلامية في صنفين مختلفين:

أ- الحركات السلمية (نقول سلمية وهذا لا يعني أنها غير متطرفة، ففيها من هي متطرفة، لكن كل المتطرفين لا يستخدمون العنف) واسعة الانتشار جماهيريا.
ب- الحركات التي تستخدم العنف (الطلائع المقاتلة في سوريا، الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، الجماعة الإسلامية المسلحة والجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر…). الأولى تتميز بخطاب معتدل وبالإيمان بالتغيير السلمي، بينما تتبنى الثانية خطابا متطرفا جهاديا.

15- الانسداد السياسي المعبر عنه بالاستعصاء الديمقراطي يشكل عاملا للصراع بين السلطة والحركات الإسلامية الشرعية، الأولى ترفض الديمقراطية لما تتيقن من أنها ستأتي بالإسلاميين إلى الحكم، في حين يحاول الإسلاميون استخدام الديمقراطية للوصول إلى الحكم والانقلاب عليها. وبالتالي أصبحت الديمقراطية ضحية حسابات سياسية آنية مغذية بذلك الصراع السياسي. وقد تعمق هذا الانسداد السياسي، إذ لا مجال للتوفيق بين منطق توريث الحكم في "الجمهوريات"، كما حدث في سوريا، وربما غدا في العراق وليبيا ومصر واليمن، ومنطق الحكم لله الذي يقول به التيار الإسلامي المتشدد، أو حتى منطق المشاركة السياسية الذي ينادي به التيار المعتدل.


الانسداد السياسي المعبر عنه بالاستعصاء الديمقراطي يشكل عاملا للصراع بين السلطة والحركات الإسلامية الشرعية، الأولى ترفض الديمقراطية لما تتيقن من أنها ستأتي بالإسلاميين إلى الحكم، في حين يحاول الإسلاميون استخدام الديمقراطية للوصول إلى الحكم والانقلاب عليها

16- تشدد الفكر الجهادي والتكفيري في السنوات الأخيرة وكأن نقلة نوعية حدثت على مستوى التنظير العقائدي بقطع الأوصال المرجعية بين "الشيوخ" و"المجاهدين" ميدانيا. يعبر الناشط الإسلامي عصام طاهر، المعروف بـ أبي محمد المقدسي والذي سجن في الأردن عقب حرب الخليج، عن هذا التطور الخطير، لما يقول إن الشباب (الإسلامي) إن اعتبر بإمكانه تغيير النظام عبر العنف فعليه فعل ذلك، فهو أدرى بشؤونه. وهذا يعني قطع أوصال التراتيبية والمرجعية الأيديولوجية بين القيادات والأتباع من منفذي العمليات. مما يعمم العنف دون تلقي أوامر وتعليمات من القمة، ويصعِّب من مهمة اكتشاف هوية زعماء التنظيمات المسلحة. وهذا ما قد يفسر تكاثر الجماعات المسلحة التي يقودها أشخاص "بسطاء" لم تعرف لهم زعامة داخل التيار الجهادي.

17- بعض الأنظمة تجنح إلى "صيانة" الصراع بالاحتفاظ على قدر من التوتر كوسيلة للبقاء في الحكم وتجديد مسوغات شرعيتها الهشة والمتآكلة. ومن هنا يمكن القول إن العنف الإسلامي أسهم إلى حد كبير في تأجيل الديمقراطية عربيا. فماذا لو لم يلجأ الإسلاميون للإرهاب في الجزائر؟ طبعا من الصعب القول إن الجزائر تكون قد انضمت إلى نادي الأمم الديمقراطية، لكن من الأكيد أنه لا مفر للنظام القائم من الاستحقاق الديمقراطي. بالطبع المسألة تختلف من بلد لآخر، العديد من الدول العربية لم تعرف عنفا أصوليا، لكنها لم تتحول إلى ديمقراطيات.

الإسلاميون وتوظيف الإسلام بين الأهداف المعلنة والخفية

رغم اشتراكها في خصائص عامة وجوهرية، فإن الحركات الإسلامية لها خصوصيات قطرية تبدو جلية من خلال توجهات وأهداف هذه الحركات في حدها الأقصى (إقامة دولة إسلامية بالقوة، مثال الجزائر ومصر وإلى حد ما سوريا) وفي حدها الأدنى (التأكيد على البعد الإسلامي والشريعة مصدرا أساسيا للتشريع مع الاعتراف بشرعية النظام، حال الأردن والكويت). محددات الصراع ليست نفسها بل تختلف من بلد لآخر. فرغم ادعائها الإسلام، فإن هذه الحركات تخفي في بعض الأحيان، مثلها مثل السلطة، مصالح فئوية، عشائرية أو مذهبية ضيقة. فالعامل المذهبي كان حاسما في تصعيد الصراع بين الإسلاميين السنيين والنظام العلوي في سوريا. العامل المذهبي (الشيعي) كان أيضا حاسما في الصراع الذي عرفته –وتعرفه- السعودية، البحرين والعراق. في بعض الحالات، الصراع مرتبط بعوامل مذهبية وإقليمية؛ ففي العراق مثلا، الإسلاميون الشيعة يتصارعون مع النظام منذ السبعينيات، لكن الثورة الإيرانية عجلت في المواجهة بينهما (إعدام الزعيم الشيعي محمد باقر الصدر في أبريل/نيسان 1980). عامل الثورة الإيرانية بعد أحداث مكة عام 1979، ثم الأحداث التي عرفتها البحرين في ما بعد. الإسلاميون في الصعيد المصري يخفون صراعا مع السلطة المركزية بسبب الفوارق التنموية والاجتماعية بين شمال وجنوب البلاد.

هل دخل العالم العربي مرحلة ما بعد الإسلام السياسي؟

من بين الطروحات الرائجة في الغرب منذ سنوات معدودة، أطروحة نهاية الإسلام السياسي وولوج العالم العربي مرحلة ما بعد الأصولية. الحقيقة أن في هذا الكلام مبالغة كبيرة وقفزا على الوقائع. والغريب أن يستدل بعض أنصار هذه الطروحات بمصير الرفاه في تركيا والجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر. في الواقع المثلان يفندان أقوالهم، ذلك أنه، وبغض النظر عن الأسباب وموضوعيتها، الرفاه قُذف به من السلطة على يد العسكر، والإنقاذ منعت من الوصول إلى الحكم من قبل العسكر كذلك. الحقيقة أننا لا نعيش مرحلة ما بعد الأصولية، فالحركات الإسلامية مازالت، رغم موجة الإرهاب، تتمتع بشعبية واسعة والإسلاميون مازالوا يشكلون قوة سياسية حتى في بلدان مثل الجزائر. كما أننا نفتقر حتى الآن إلى نموذج ديمقراطي حقيقي عربيا يسمح لنا بمعرفة الثقل الانتخابي لهذا التيار السياسي في المجتمعات العربية. تخوف أنظمة حاكمة من وصول أغلبية إسلامية إلى السلطة يفسر جنوحها إلى التزوير والتلاعب بالانتخابات، ومضايقة القيادات الإسلامية للحد من فاعليتها خلال الانتخابات وبالتالي التقليل من حظوظ التيار الإسلامي في الفوز، يدل على وعيها بقوة هذا التيار. طبعا، هذه الإستراتيجية لا تنسحب على الإسلاميين فقط بل تطبق ضد كل من هو خارج الحزب الحاكم أو لا يسير في فلكه، لكنها بحدة أقل مما هو الحال عليه مع الإسلاميين.

الإسلاميون والسلطة: نحو التهدئة والمصالحة؟

العلاقة بين الطرفين مرشحة للتهدئة والعمل السلمي في إطار قوانين الدولة، ذلك أن إرهاب الجماعات الإسلامية كانت عواقبه وخيمة على الدولة وعلى الحركات الإسلامية نفسها كونها أصبحت في قفص الاتهام الدائم، الاتهام بالعنف ومحاولة الاستيلاء على الحكم بالقوة. أما السلطة (مثال مصر والجزائر) فرغم مكاسبها الإستراتيجية (الإرهاب سمح لها بتجديد مسوغات شرعيتها التي تآكلت) فإنها في الوقت نفسه ضعفت، ذلك أن نهاية الخطر الأصولي المسلح يطرح، إن عاجلا أو آجلا، حتمية التحول الديمقراطي الفعلي. مما سيفسح المجال لمختلف التيارات بما فيها الإسلامية لممارسة العمل السياسي والمطالبة الملحة برفع قوانين الطوارئ المعمول بها منذ سنوات في العديد من الدول بدعوى مكافحة الإرهاب.


التطور الديمقراطي الصحيح والانفتاح السياسي للمجتمع قد يسهمان إلى حد كبير في كبح جماح التطرف والنزوع إلى العنف، واحتواء التطرف في إطار سقف سياسي يحول دون الانزلاق إلى الإرهاب

التطور الديمقراطي الصحيح والانفتاح السياسي للمجتمع قد يسهمان إلى حد كبير في كبح جماح التطرف والنزوع إلى العنف، واحتواء التطرف في إطار سقف سياسي يحول دون الانزلاق إلى الإرهاب. إذ إن ظاهرة العنف لا تفسر فقط بغياب الديمقراطية، ذلك أن هذه الأخيرة لا تعني بالضرورة غياب العنف كما أن، وهذا هو الأهم، غلبة الخطاب الجهادي-التكفيري، كمرجعية أيديولوجية، المنتشر في الأوساط الإسلامية، يجعل من أي نظام مهما كانت درجة ديمقراطيته تحت التهديد كونه لا يطبق شرع الله كما يفهمه أصحاب هذا الفكر الذين يسعون لإقامة دولة إسلامية تيوقراطية. هذا من ناحية، من ناحية أخرى، العنف الإسلامي ضرب دولا عربية شرعت في انفتاح ديمقراطي، لاسيما الجزائر ومصر، أين استفاد الإسلاميون عموما من هامش الحرية ليصبحوا القوة السياسية الأولى المعارضة للحكم. أما سوريا، التي لم تعرف عنفا إسلاميا منذ عام 1982، شهدت في منتصف التسعينيات اتصالات تشير إلى تقارب بين النظام والإخوان المسلمين لاسيما بعد الإفراج عن العديد منهم وعودة أبي غدة (مرشد الإخوان وزعيم سابق لحزب التحرير) من منفاه في السعودية الذي دام 13 سنة. إنها نقلة نوعية مقارنة مع السياسة الرسمية لعام 1980 لما كان مجرد الانتماء إلى الإخوان عقوبته الإعدام. التصعيد مع إسرائيل خاصة عام 1996 عجل التقارب بين الأسد والإخوان. وقد يسهم تولي نجله السلطة في تسريع هذا التصالح، خاصة أنه أبدى انفتاحا سياسيا (تعاملها الهادئ مع "بيان الألف" التي أصدرته لجان المجتمع المدني).

لكن الانفراج المرتقب عربيا قد يجهض إن فشلت الأنظمة في تسوية قضايا مصيرية مثل الهوية، العلاقة بين الدين والسياسة… الحسم فيها ضروري لبناء ديمقراطية على أسس متينة. طبعا، الوضع يختلف من بلد لآخر، فإذا كانت الجزائر ومصر على وشك الخروج نهائيا من دوامة العنف الإسلامي، فإن بعض الدول مثل المغرب الذي يعرف بركانا إسلاميا لاسيما في الجامعات قد يشهد موجات عنف إن لم تنجح السلطة في التعاطي بحنكة إزاء الملف الإسلامي، خاصة أن المواجهة فتحت بين الطرفين بسبب مسألة تعديل قانون الأحوال الشخصية.

هذا الانفراج المرتقب قد يجهض أيضا في حالة تبني الأنظمة العربية للإستراتيجية الغربية المناوئة للإرهاب بعد انفجارات نيويورك وواشنطن. الحملة الأميركية ضد الإرهاب لا تفرق بين الإرهابيين والإسلاميين، أو على الأقل تبقي على نوع من الغموض المقصود. ولو طبقت هذه النظرة عربيا لكانت الحرب الأهلية نظرا لثقل الإسلاميين السياسي في المجتمعات العربية. يبدو أن الأنظمة لا تريد فتح جبهة مع الإسلاميين، خاصة أنها ستجهض جهودها لإدماجهم في العمل السياسي العلني (يبدو أن مصر تعمل على تمييع "هوية" الإسلاميين في أحزاب غير إسلامية، عدم السماح للنواب السبعة عشر من الإخوان من تشكيل كتلة برلمانية داخل مجلس الشعب المصري). وتبني الإستراتيجية الغربية دون تحفظات يعني بالنسبة للجزائر التخلي عن سياسة الوئام المدني وإقصاء الإسلاميين من الائتلاف الحاكم. وبالتالي فاحتمالات مضايقة الإسلاميين المنخرطين في اللعبة السياسية الشرعية غير واردة، بينما ستتقوى الحملة الداخلية على الإرهاب.

لتدعيم الانفراج والخروج من دوامة الصراع لا بد من التخلي عن منطق "حلال علينا حرام عليكم" في ما يخص قضية فصل الدين عن الدولة، فالأنظمة تستخدم الدين لبسط شرعيتها وتبرير سياستها وتريد في الوقت نفسه تفنيد حجج الإسلاميين في استخدام الدين في السياسية، الحل هو حسم العلاقة بين الدين والسياسة بالتأكيد على أنه لا سلطة دينية في الإسلام على أن يطبق هذا على السلطة والإسلاميين على حد السواء، ولا بد أيضا من الخروج من نموذج الثنائية القطبية الصراعية بين الدولة التسلطية والتنظيمات الإسلامية، المخرج هو الديمقراطية ليس لأنها الحل الأمثل (فهي لا تعني بالضرورة غياب العنف) بل الأنسب. وحتى نقلب كليا "فكر" عبد السلام فرج (منظر تنظيم الجهاد المصري)، نقول إن "الفريضة الغائبة" ليست الجهاد بل الديمقراطية. هذه الأخيرة أجلت وتؤجل تحت ذرائع مختلفة. الحقيقة أن تأجيل الديمقراطية هو المشروع اللاحضاري العربي.

هل زوال الخطر الأصولي يعني خروج المجتمعات العربية من دائرة العنف؟ بقاء حالة الانسداد السياسي الذي تستخدمه الأنظمة للبقاء في الحكم، سيولد إن عاجلا أو آجلا تطرفا جديدا باسم الدين، أو باسم أيديولوجية علمانية، أو مرجعيات عقائدية أخرى أو حتى نزعات انفصالية. لذا فاجتثاث الإرهاب من جذوره لن يتسنى ما لم تجتث جذور العنف عموما، الخلل الكبير في التوازنات الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية هو مصدر العنف. الخروج من هذا المأزق يكمن في العدالة الاجتماعية والتنشئة الاجتماعية، السياسية والدينية الصحيحة بعيدا عن الدعاية للحاكم مهما كانت توجهاته وانتماءاته.
__________
* مكلف بالدروس في قسم الماجستير، جامعة مارن لافالي (فرنسا).

المصدر : غير معروف