سلمت السلطة للعراقيين.. ولكن


undefined

إلياس حنا

سلم الحاكم الأميركي بول بريمر السلطة إلى الحكومة العراقية الانتقالية قبل يومين من الموعد المحدد في 30 يونيو/حزيران 2004. ونتيجة لذلك بدأت التحليلات تتضارب حول سبب تسريع هذه العملية، علما بأن قرار مجلس الأمن 1546 ينص على انتهاء سلطة الاحتلال يوم 28 يونيو/حزيران 2004.

تعجيل تسليم السلطة
على كل تمت العملية، وأصبحت مرحلة ما قبل، وهي ليست كمرحلة ما بعد التسليم. فكلّما تسرّعت عمليّة خروج المُحتلّ، كلما كان هذا أفضل للعراقيّين.


أوّل ضحيّة لعمليّة التسلّم والتسليم هو كلّ ما قام عليه مشروع بوش في العراق، فالعقيدة الاستباقيّة غير قابلة للتنفيذ أو التكرار بعد الذي حصل في العراق

قال البعض إن للتسريع سبب سياسي يتعلّق بالانتخابات الأميركيّة، أو كأن تتزامن العمليّة مع اجتماع حلف شمالي الأطلسي المعقود في أنقرة، فتكون بذلك أميركا تضغط بطريقة غير مباشرة على الأعضاء المعارضين لسياستها، خاصة فرنسا وألمانيا.

وقال البعض الآخر إن السبب أمني وبامتياز، الهدف منه استباق أجندة "الإرهابيّين". فالتهديد الذي وجّهه أبو مصعب الزرقاوي لرئيس الوزراء العراقي أمر جدّي جدّا جدّا، ولا يجب الاستهانة به، ولو وُفّق الزرقاوي في تحقيق هدفه وقتل رجل الأميركيّين، فإن كل عملية نقل السلطة ستأخذ منحى جديدا، ولا يعرف أحد إلى ماذا ستنتهي. لكن السؤال يبقى، هل ستتوقّف عمليّات التفجير؟ وهل قُهر "الإرهابيّون"؟ وهل تُصنّف هذه العمليّة كانتصار لقوات الاحتلال خاصة القوات الأميركيّة؟ الأجوبة في عهدة المستقبل.

طريقة التسلّم والتسليم
إن إجراء مقارنة بسيطة لتوقيت التسلّم والتسليم مع الإنجازات التي تحقّقت في العراق، فيمكننا استنتاج ما يلي:

  • إن حالة العراق بعد التسليم أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الاحتلال، لقد أصبح الآن من الصعب جدّا الحديث عن مشروع ديمقراطي في العراق. فالديمقراطيّة مسار وليست قرارا، وهي تتطلّب جوّا معيّنا من الأمن والاستقرار، كما تتطلّب إنشاء المؤسسات التي ترعى تقدمها، تطوّرها ونشرها، وهذا كلّه غير متوفّر بعد التسلّم والتسليم.
  • إن أوّل ضحيّة لعمليّة التسلّم والتسليم، هو باختصار كلّ ما قام عليه مشروع بوش في العراق، فالعقيدة الاستباقيّة غير قابلة للتنفيذ أو التكرار بعد الذي حصل في العراق خاصة مع الفشل الاستخباراتي، ويمكن القول إن مشروع الشرق الأوسط الكبير أصبح في طور الاحتضار. وهناك تناقض كبير جدّا بين الأهداف الإستراتيجيّة للرئيس بوش وبين ما تعكسه أرض الواقع.
  • أثبتت حرب بوش على العراق أن التفرّد في مصير وشؤون العالم من الأمور الصعبة التي قد يدفع بوش ثمنا باهظا جدّا بسببها. فمن الانفراد في الحرب على العراق ها هو يعود إلى الأمم المتحدة، إلى الناتو، وإلى كلّ الحلفاء الكبار طلبا لمساعدته في ورطته.
  • خرج بول بريمر من الباب ودخل السفير فوق العادة نيغروبونتي من النافذة مع جيش من الموظّفين -الأكبر في العالم- مدعومين بأكثر من 130 ألف جندي أميركي.
  • وأخيرا وليس آخرا، تمّت عمليّة التسلّم والتسليم بطريقة سريّة جدّا وباهتة، والتي تعكس القلق تجاه ما سيأتي به المستقبل. باختصار، تعكس هذه الطريقة فشل المشروع الأميركي بالكامل.

تحّديات وتساؤلات
قبل فترة معيّنة من التسلّم والتسليم، سئل الوزير كولن باول عن الموضوع الأمني في العراق فقال "يجب على العراقيين أن يتعلّموا كيف يقتلون العراقيّين للحفاظ على أمنهم". من هنا تبرز تحدّيات كبيرة وجمّة أمام الحكومة الانتقاليّة.

وفي مقال نشرته جريدة واشنطن بوست لرئيس الوزراء العراقي إياد علاوي يوم 27 يونيو/حزيران 2004، حدّد علاوي تقريبا الخطوط العريضة لمشروعه، والذي قد يشكّل بيانا وزاريّا. فأتت الأهداف الكبيرة للمشروع كما يلي: بناء المؤسسات الأمنيّة، عزل الإرهابيين، الاقتصاد، القضاء ومن ثمّ تسريع العمليّة الديمقراطيّة. فماذا عن هذه الأهداف؟


حلّ الأزمة العراقيّة لا يتعلّق مباشرة بالبُعد العسكري، فعلى هذا البعد أن يتكامل مع أبعاد أخرى اقتصاديّة واجتماعيّة، ويجب على السلطة الجديدة استرداد الشعب إلى جانبها وكسب تأييده

يمكن للمرء أن يتساءل عن كيفيّة بناء هذه المؤسسات الأمنيّة، وكيف ستكون تركيبة الجيش؟ وكيف ستكون طريقة اتخاذ القرار فيه؟ وكيف سيُحوّل هذا الجيش الأوامر السياسيّة إلى أهداف عسكريّة على الأرض؟ ما هي عقيدته القتاليّة؟ ومن هو العدو الخارجي والداخلي؟ وكيف سيتمّ التعامل مع العدوين؟ وما هي تجهيزات هذا الجيش؟ وما دوره في الشأن الداخلي؟ وما علاقته بقوّات التحالف خاصة الأميركيّة؟

تأتي كل هذه التساؤلات في هذا الوقت، فقط لأن للجيش القديم تاريخا مريرا في التعامل مع الخارج كما مع الداخل (الجنوب والشمال، إيران والكويت). بعد الجيش يأتي دور قوى الأمن الداخلي، كيف ستركّب؟ وما دورها؟ وهل يمكنها فرض الأمن في الفلّوجة؟ إذا كان الجواب كلاّ، فهل ستستدعي الجيش العراقي والقوّات الأميركيّة؟ وهل ستعود القوّات الأميركيّة للتورّط في مأزق لم تصدّق أنها خرجت منه؟

بعد الأمن الداخلي يأتي دور المؤسسات الاستخباراتيّة، وهنا للعراقيين ذاكرة مليئة بالمرارة فقط عند ذكر الاسم فكيف بالممارسة الجديدة، خاصة إذا كانت عنيفة. على كلّ لا يمكن للسلطة السياسيّة، كما للقوى الأمنيّة العمل بدون الاستعلام، خاصة في الواقع العراقي الحالي. فكيف ستكون تركيبتها؟ ومن سيديرها؟ وما دور البعثيين القدامى فيها؟

إذن.. التحدّيات كبيرة وكبيرة جدّا. وإن نجاح المشروع العراقي -بتنفيذ عراقي- يتعلّق مباشرة بالنجاح الأمني، والأخير يتعلّق مباشرة بنجاح المشروع السياسي الكبير، وفي مدى توحّد العراقيين حول السلطة الانتقاليّة. لكن كيف؟

  1. إن حلّ الأزمة العراقيّة لا يتعلّق مباشرة بالبُعد العسكري، فعلى هذا البعد أن يتكامل مع أبعاد أخرى اقتصاديّة واجتماعيّة. ويجب على السلطة الجديدة استرداد الشعب إلى جانبها وكسب تأييده. وعلى مشروع الحكومة السياسي أن يكون جامعا عادلا بحيث لا يشعر أي فريق أنهّ مهمّش، خاصة السنّة الذين كانوا حكّام العراق لأكثر من 100 سنة. وإذا ما استطاعت السلطة استرداد الشعب العراقي إلى جانبها، فإن ما يسمى "بالإرهابيّين الغرباء" لن يجدوا الملاذ الآمن لهم بين العراقيين. أما المقاومة العراقيّة فحتما ستنضم إذا ما شعرت أنها ليست مهمّشة كما قلنا أعلاه.
  2. إذا كان كلّ شيء يندرج في البعد السياسي، فإن التحدّي الأكبر سيكون فيما سينتجه المؤتمر القومي الوطني (ألف شخصيّة)، فعلى هذا المؤتمر أن يعيد صياغة ميثاق وطني للعراق الجديد، والذي من المفروض أن يأتي بالشرعيّة الشعبيّة بعد الانتخابات. لذلك يجب انتظار صدور قانون الانتخابات الجديد، وكيفيّة توزيع المقاعد على الجماعات المكوّنة للمجتمع العراقي. هذا مع العلم أن مشروع الأمم المتحدة الانتخابي يرتكز على مبدأ الدائرة الواحدة، وعلى اعتماد النسبيّة.
  3. بعد هذه الأمور يجب أن لا ننسى موضوع محاكمة الرئيس المخلوع صدام حسين، فقد سُلّم إلى الحكومة العراقيّة ولكن موضوع محاكمته موضوع تفجيري بالمعنى السياسي للعراق حاليّا. وإن أي تسرّع في المحاكمة قد يعيد الوضع إلى المربّع الأوّل. ويجب أن تجرى المحاكمة بعد شرعنة الحكم العراقي من قبل الشعب، أي بعد الانتخابات وبعد إجراء إصلاح قضائي، وأن تكون المحاكمة بنكهة عراقيّة خالصة. ويبقى السؤال بما أن هناك اجتهادات قانونيّة كثيرة فيما يخصّ وضع الرئيس المخلوع، والتي تعفيه من مسؤولياته حسب الدستور العراقي السابق. فماذا لو بُرّئ؟
  4. وأخيرا ماذا عن الوجود الأميركي؟ هل سيتجسّد التعاون العسكري عبر غرفة عمليات مشتركة؟ وماذا عن التعاون السياسي العملي على الأرض بهدف الانتقال إلى استعمال القوّة، أي استعمال القوات الأميركية لمساندة القوى الأمنية العراقية؟ وهل سيخرج الأميركيون مشكورين -حسب الحكومة الحاليّة- بعد الانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية العام. ماذا لو فازت الفئات المناهضة للأميركيّين؟ ماذا لو طلبت الحكومة الشرعيّة العراقية المنتخبة من الأميركيّين الخروج اليوم قبل الغد؟ فهل سيخرج بوش كما صرّح مرارا وتكرارا؟ وهل هناك خدمات مجانيّة في السياسة والإستراتيجيّة؟ إذا كيف سيفسّر الرئيس بوش لناخبيه الخسائر البشريّة أكثر من 1000 جندي حتى الآن؟ وكيف سيبرّر لدافعي الضرائب المصروف الهائل حتى الآن على العراق وعلى محاربة الإرهاب والذي بلغ تقريبا ومنذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول حوالي 500 مليار دولار أميركي؟

إنها أسئلة من الصعب الجواب عليها. لكن الأكيد أن مستقبل العراق الجديد يعتمد أكثر ما يعتمد على حسن أداء الحكومة الحاليّة، وبالطبع على وعي العراقيين. فليس مطلوبا من الحكومة الحاليّة أن تكون في أحضان الأميركيين، وكذلك ليس مطلوبا منها أن تذكّر العراقيين بإرهاب صدّام. وفي النهاية، اللهم نجِّ العراق وشعبه.
_______________
أستاذ محاضر بجامعة سيّدة اللويزة-لبنان، وعميد ركن متقاعد

المصدر : غير معروف