التنوع البيولوجي في البحيرات الساحلية شمال أفريقيا يتدهور بسبب السدود

إقامة السدود تعني توفير المياه لكن التنوع البيولوجي يعني الزراعة والثروة السمكية وبالتالي توفير الغذاء. ليس علينا أن نختار بين الماء والغذاء بل يتعين إيجاد توازن بينهما ويجب ألا نحل مشكلة على حساب أخرى.

بحيرة بنزرت في تونس
بحيرة بنزرت الساحلية تعاني من تدهور التنوع البيولوجي بها نتيجة إقامة السدود (شترستوك)

أظهرت دراسة علمية جديدة أن إقامة السدود على مجاري الأودية والأنهار في بلدان الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، تؤدي إلى تدهور التنوع البيولوجي وزيادة الملوحة في البحيرات الساحلية ذات الأهمية الاقتصادية والبيئية الكبيرة.

وبحسب الدراسة التي أجريت على بحيرة بنزرت الساحلية شمال تونس، فإن نقص تدفق المياه إليها بسبب إقامة السدود والتغيرات المناخية أدى إلى زيادة لافتة للملوحة وألحق ضررا كبيرا بالتنوع الحيوي فيها مع ظهور كائنات غازية لم تكن موجودة من قبل. ودعا الباحثون إلى ضرورة العمل بشكل عاجل على حماية البحيرة التي تلعب دورا محوريا في التوازن الإيكولوجي في شمال تونس، فضلا عن دورها الاقتصادي الهام.

وقد ضم الفريق الذي أنجز الدراسة باحثون من المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار بجامعة قرطاج، وكلية العلوم بجامعة تونس المنار، وجامعة "ساوثرن كاليفورنيا" (University of Southern California).

موقع بحيرة بنزرت على الخريطة (خرائط غوغل)

بيئات حساسة للتغيرات

تعد بحيرة بنزرت إحدى أهم البحيرات شمال تونس. وتقدر مساحتها بحوالي 15 ألف هكتار (أي أكثر من 37 ألف فدان) ويصل عمق الماء فيها إلى حوالي 12 مترا. وهي ترتبط بالبحر عبر قناة بعرض 300 متر وطول 7 كيلومترات، وفيها يصب عدد هام من الجداول والأودية، إضافة إلى قناة تربطها ببحيرة "إشكل" ذات النظام البيئي الفريد.

وقد أظهرت دراسات علمية سابقة يعود بعضها إلى أكثر من قرن من الزمن، أن بحيرة بنزرت الساحلية كانت تتمتع بتنوع بيولوجي هام في الماضي. لكن يبدو أن الأمر لم يعد كذلك خلال العقود القليلة الماضية بحسب الدراسة المنشورة مؤخرا في دورية "مارين بوليوشن بوليتن" (Marine Pollution Bulletin) العلمية.

تقول الدكتورة علا العمروني الباحثة بالمعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار، إن الدراسة "أنجزت في إطار مشروع بحث مودابكس Modapex الذي يشرف عليه المعهد لدراسة التلوث في بحيرتي بنزرت وإشكل وقناة تينجة الرابطة بينهما"، وتضيف المؤلفة المشاركة في الدراسة في حوار عبر الهاتف خصت به الجزيرة نت "إننا نقوم دوريا بدراسات نمذجة لحركة المياه والتنوع البيولوجي في هذه المنظومات".

وبحسب الدراسة، فإن الأراضي الرطبة الساحلية التي تشمل البحيرات الساحلية والبرك والسبخات في المناطق القاحلة وشبه القاحلة تعتبر بيئات طبيعية حساسة، وتؤثر التغيرات التي تحدث في العوامل المناخية والمائية والرسوبية على التوازن البيئي فيها.

و"يجري حاليا بناء الكثير من السدود لمجابهة مشكلة شح المياه في بلدان البحر الأبيض المتوسط وخاصة في بلدان الضفة الجنوبية منه، مما يؤثر على هذه المنظومات البيئية. لذلك، أردنا أن نعرف إن كان للسدود تأثير على بحيرة بنزرت الساحلية أم لا"، كما تقول الدكتورة نادية قعلول الباحثة في كلية العلوم بتونس والمؤلفة الرئيسية للدراسة في حديث خاص للجزيرة نت.

أحد أعضاء فريق البحث أثناء أخذ عينات من مياه وتربة البحيرة (المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار)

مياه أكثر ملوحة من البحر وكائنات غازية

ولفهم ما وقع طوال العقود الماضية من تغيرات في الملوحة وتركيبة التربة الرسوبية والتنوع الحيوي في بحيرة بنزرت الساحلية، قام الباحثون عام 2016 بأخذ عينات من المياه ومن الرواسب من أكثر من 20 موقعا من البحيرة لدراسة الملوحة والكائنات المجهرية التي استوطنتها عير الزمن. وتمثل هذه الكائنات "مؤشرات حيوية لتحديد التغيرات في ملوحة البحيرة والحرارة السائدة فيها عبر الزمن، وكذلك جودة المحيط الحيوي فيها" كما تقول العمروني.

وأظهرت نتائج تحليل العينات الرسوبية، وفقا لقعلول، وجود 39 نوعا من الكائنات المجهرية المعروفة باسم "المنخربات" (Foraminifera)، تتوزع بشكل متفاوت في أرجاء البحيرة. تعتبر هذه الكائنات التي تتميز بغلاف محاري المجهرية، من أنواع الخلايا الأولية، ويرجع ظهورها إلى أكثر من 500 مليون عام، وهي تتميز بحساسيتها تجاه تغير الملوحة في المناطق التي تعيش فيها.

ورغم أن الدراسات السابقة تؤكد وجود تنوع بيولوجي كبير في البحيرة، تفاجأ الباحثون بالغياب الكلي لهذه الكائنات المجهرية وحيدة الخلايا غرب البحيرة عند مصب قناة تينجة أحد أهم مصادر المياه العذبة الواصلة إليها من بحيرة "إشكل" المجاورة. كما عثروا ولأول مرة في المنطقة على كائنات مجهرية غازية معروفة عادة بوجودها في المناطق الحارة.

وللتعمق في فهم أسباب هذه التغيرات الحيوية الكبيرة في البحيرة، درس الباحثون تطور الملوحة في البحيرة، وعادوا إلى نتائج قياسات منتظمة أجريت طوال الأعوام الـ25 الماضية. ووجد الفريق أن ملوحة مياه سطح البحيرة بلغت في غرب البحيرة عند مصب قناة تينجة حوالي 40 غراما في اللتر، مقارنة بحوالي 35.4 غراما في اللتر فقط عام 2004، "مما يعني أنها أصبحت أكثر ملوحة من البحر" كما تقول قعلول.

الكائنات المجهرية انقرضت من الأماكن التي اشتدت ملوحتها في البحيرة (المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار)

إقامة السدود والتغيرات المناخية في دائرة الاتهام

استنتج الباحثون أن هذه الملوحة المرتفعة دفعت الكائنات المجهرية المحلية إلى التنقل نحو مصبات الأودية، حيث كان من المفترض أن تكون الملوحة أقل. لكن تراجع تدفق هذه الروافد بالمياه العذبة والتربة الرملية نتيجة إقامة السدود أدى إلى انقراضها.

وأشار المؤلفون إلى أن توقف تغذية البحيرة بالتربة الرملية بسبب إقامة السدود ساهم بدوره في حدوث تغيرات كبيرة في النظام الحيوي داخل البحيرة. إذ "تحولت التربة إلى طينية في بعض المناطق وهي تربة تميل إلى الاحتفاظ بالملوثات والمعادن الثقيلة مع نقص الأكسيجين" وفقا للباحثة العمروني.

كما خلص الباحثون إلى أن هذه التغيرات ترتبط كذلك بالتغيرات المناخية وارتفاع حرارة المياه مع تراجع التساقطات، مما أدى إلى غزو كائنات مجهرية مدارية للبحيرة. لكن تبقى إقامة السدود على مجاري الأودية التي تصب في البحيرات الساحلية أكثر تأثيرا في تدهور التنوع الحيوي فيها.

يقول الدكتور عصام حجي الباحث في جامعة "ساوث كاليفورنيا"، وأحد المساهمين في إنجاز الدراسة في حوار خاص مع الجزيرة نت عبر وسائل التواصل الاجتماعي "ما نريد أن نقوله في الدراسة هو أن إقامة السدود ليست دون أضرار فهي تحرم البحيرة من المياه ومن نوعية معينة من التربة مما يضر بالتنوع البيولوجي فيها".

هل يتعين التخلي عن إقامة السدود في المناطق القاحلة للحفاظ على التنوع البيولوجي في البحيرات الساحلية؟ (بيكريل)

هل يتعين التخلي عن إقامة السدود؟

تؤكد نتائج هذه الدراسة ما توصل إليه الباحثون في دراسات سابقة أجريت على بحيرات ساحلية أخرى في بلدان الضفة الجنوبية للبحر المتوسط مثل تلك الموجودة قرب دلتا النيل شمال مصر. هذه البحيرات شهدت تدهورا في منظوماتها الحيوية وزيادة في ملوحتها إثر تراجع تدفقات المياه إليها مع ظهور كائنات غازية مشابهة لتلك التي عثر عليها في بحيرة بنزرت.

وأضاف حجي "نريد أن نخلق حالة وعي لدى المواطن وأصحاب القرار حول حالة هذه البحيرات وأهمية الحفاظ على التنوع البيولوجي فيها"، لكن هل يتعين التخلي عن إقامة السدود للحفاظ على التنوع البيولوجي في البحيرات الساحلية؟ الإجابة قطعا لا بحسب العالم المصري "إقامة السدود تعني توفير المياه لكن التنوع البيولوجي يعني الزراعة والثروة السمكية وبالتالي توفير الغذاء. ليس علينا أن نختار بين الماء والغذاء بل يتعين إيجاد توازن بينهما ويجب ألا نحل مشكلة على حساب أخرى".

وأكد العالم المصري أن تأثر بحيرات أخرى في منطقة شمال أفريقيا على غرار البحيرات الساحلية في دلتا النيل، بهذه العوامل نفسها، يدعو المسؤولين في المنطقة إلى مجابهة هذا المشاكل "صفا واحدا" كما يقول، مؤكدا أن التعاون في مجال البحث العلمي سوف يساعد في تبادل الخبرات ونتائج البحوث دول المنطقة.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية