الجزيرة نت تحاور المصري أحمد سليمان الباحث عن موجات الجاذبية التضخمية في القطب الجنوبي

رغم كل هذه الصعاب يأمل الباحث المصري أحمد سليمان تتويج مهمته التي ستمتد 3 أشهر بكشف علمي كبير قد يكون له السبق والفوز بجائزة نوبل.

أحمد سليمان غادر مصر في 2015 نحو معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا "كالتك" بالولايات المتحدة للحصول على الدكتوراه (مواقع التواصل)

لم يكن يدري الباحث المصري أحمد سليمان وهو يهمّ بمغادرة مصر في 2015 نحو معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا "كالتك" (Caltech) بالولايات المتحدة الأميركية لاستكمال دراسته وبحوثه في مجال الهندسة والفيزياء الفلكية أن مستقبلا واعدا كان ينتظره هناك.

أحمد سليمان اليوم باحث ضمن الفريق البحثي العلمي التعاوني الكبير "بايسيب/كيك" (BICEP/KECK) الذي يعدّ من أكبر الفرق البحثية في مجال الفيزياء الفلكية ورائد عالمي في رصد وتحليل موجات الجاذبية التضخمية تحت إشراف البروفيسور جايمس بوك من جامعه كالتك ووكالة الفضاء الأميركية ناسا، والعالم جون كوفاك من جامعه هارفارد، والعالم تشاولين من جامعه ستانفورد، والعالم  كليم بارك من جامعة مينيسوتا، ويعدّ أحمد سليمان ضمن فريق جامعه كالتك ومختبر الدفع الصاروخي بناسا.

يوجد أحمد سليمان حاليا في القطب الجنوبي الذي شدّ إليه الرحال منذ نحو شهر، في مهمة شاقة تمتد 3 أشهر، يسعى من خلالها الفريق إلى رصد موجات الجاذبية التضخمية وتحليلها بحثا عن أجوبة لأسئلة عن تفاصيل نشأة الكون وبداية الزمن ضمن نظرية الانفجار العظيم.

ليست هذه المرة الأولى التي يسافر فيها الباحث أحمد سليمان إلى القطب الجنوبي، فقد سبق له أن سافر إليه في مهمة علمية قبل سنتين، وحصل أيضا مع فريقه العلمي بعد مهمته البحثية الأولى فى القطب على ميدالية أنتراكتيكا للولايات المتحدة الأميركية من المؤسسة الوطنية الأميركية للعلوم تكليلا لجهودهم واستكشافاتهم في علم الفيزياء من القطب الجنوبي المنشورة في مجلات علمية مرموقة.

أحمد سليمان الباحث العربي الوحيد الذي أتيحت له فرصة القيام ببحوث علمية في القارة البيضاء كما تسمى، وهي التجربة التي يرويها للجزيرة نت التي تواصلت معه عبر الهاتف وهو في مركز البحوث العلمية في القطب الجنوبي، مقر إقامة الفريق العلمي.

الباحث أحمد سليمان يصبح أول مصري يصل إلى نقطة القطب الجنوبي (مواقع التواصل)

لماذا البحث عن نشأة الكون في القطب الجنوبي؟

منذ مطلع القرن الماضي كان القطب الجنوبي محل اهتمام كثير من العلماء والمستكشفين الذين حاولوا فهم أسرار هذه المنطقة البعيدة التي ما زالت عصيّة على الدول التي خاضت غمار استكشاف أسرارها.

فمن أميركا وروسيا وألمانيا ما زالت هذه القارة -التي تعادل مساحتها ضعف مساحة قارة أستراليا- محط اهتمام كثير من العلماء لما تتيحه من خصائص وميزات تسمح لهم بإجراء بحوثهم العلمية بدرجة عالية من النجاح.

فالمنطقة ما زالت عذراء ولم تلطخها يد الإنسان، كما أنها محمية باتفاقية دولية… ولذلك فهي توفر عناصر طبيعية قد لا نجدها في أي مكان آخر من الأرض.

ويسعى الباحث أحمد سليمان ضمن أعضاء فريق "بايسيب/كيك" إلى التقاط موجات الجاذبية التضخمية التي صدرت خلال المراحل الأولى لنشأة الكون عندما كان عمره جزءا صغيرا من الثانية، ضمن ما يعرف بنظرية التضخم التي تفسر ألغازا مفقودة فى نظرية الانفجار العظيم، وهي الموجات التي ما زالت تسبح في عالمنا هذا منذ ذلك الوقت، أي منذ نحو 13.8 مليار سنة.

الباحث أحمد سليمان والفريق العلمي في القطب الجنوبي (مواقع التواصل)

وحسب أحمد سليمان، فإن فريق البحث التعاوني "بايسيب/كيك" فريق رائد في المجتمع العلمي الدولي للفيزياء يخوض تجربة قياس موجات الجاذبية التضخمية التي يتوقع أنها تولدت فى لحظة الانفجار العظيم.

وهذا ما نُشر في آخر مقالاتهم العلمية المنشورة فى دورية "فيزيكس ريفيو ليترز" (Physics Review Letters) الشهيرة في شهر أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام. تقدم هذه المقالة نواتج جديدة مرصودة من القطب الجنوبي وبها خواص فيزيائية جديدة لموجات الجاذبية التضخمية، وهذه النواتج أحدثت ضجة كبيرة في المجتمع العلمي بخاصة لدى علماء الفيزياء النظرية نظرا لأهميتها في تحديد السيناريوهات الشائعة لحدوث الانفجار في اللحظات الأولى من عمر الكون.

ويعتقد علماء الكون أن الانفجار نشأ من نقطة صغيرة جدا كانت تحوي كل شيء نراه حولنا وكانت شديدة الكثافة والحرارة، ثم حدث لها انفجار عظيم بسرعة لا يمكن تخيلها، وظلت تتوسع وتقلّ درجة حرارتها عبر بلايين السنين التي تولدت خلالها النجوم والمجرات والمجموعات الشمسية والطاقه المظلمة والمادة المظلمة وغيرها، وهذا ما تشير إليه نظرية الانفجار العظيم.

يقول الباحث أحمد سليمان إن "القطب الجنوبي هي أفضل مكان لرصد تلك الموجات الدقيقة لأن درجة الحرارة فيه قد تبلغ 90 درجة تحت الصفر في فصل الشتاء، وبسبب الجفاف أيضا، فذلك يساعد على رصدها، كما أن ارتفاعها عن سطح الأرض قد يبلغ 10 آلاف قدم (ما يزيد على 3 آلاف متر)".

أحمد سليمان من بين 6 باحثين سافروا لإنجاز المهمة العلمية في القطب الجنوبي (مواقع التواصل)

فريق في انتظار نوبل

نظرية الانفجار العظيم التي قدمت تفسيرا علميا نظريا لكيفية نشأة الكون أصبحت النظرية الأكثر قبولا في المجتمع العلمي الفيزيائي، وهي في اعتقادهم الأقرب إلى الحقيقة، وذلك بعد رصد الموجات الخلفية الإشعاعية للكون فى الستينيات التي حصل مكتشفوها على جائزة نوبل فى الفيزياء في السبعينيات. ويمكن رصد موجات الجاذبية التضخمية من فوق الأرض أو في الفضاء الخارجي، ولكن المقالات المنشورة فى الدوريات العلمية المرموقة للفريق التعاوني للباحث أحمد سليمان تشير إلى أن الرصد الدقيق حاليا يأتي من القطب الجنوبي.

وأضاف أحمد سليمان "نحن نشكل فريقا علميا من نحو 70 باحثا وأستاذا وطالبا نعمل جميعا على هذه الموجات، ونحن هنا في القطب الجنوبي 6 باحثين: 4 أميركيون، وصيني وأنا، ونعتقد أن مهمتنا في غاية الأهمية، ولو تمكنا من رصد هذه الموجات فإن مشرفينا سيحصلون على جائزة نوبل لأنها ستكون دليلا قاطعا على نظرية التضخم التي تجيب عن أسئلة الإنسان الأبدية فى كيفية بداية هذا الكون الذي نعيش فيه".

كما ستمكن عملية رصد هذه الموجات من فهم كثير من الخصائص الفيزيائية في الوقت الحاضر، وستفتح آفاقا جديدة في مجال التنبؤ بمستقبل الكون، وما إذا كانت هناك أكوان موازية لا نعلم عنها شيئا.

وقد صنفت أميركا علم دراسة الخلفية الإشعاعية للكون والبحث عن موجات الجاذبية البدائية ضمن العلوم المهمة في الفيزياء، وتنفق على فريقها "بايسيب/كيك" ومرصده في القطب الجنوبي ملايين الدولارات سنويا.

أحمد سليمان وزملاؤه مرّوا بإجراءات صحية صارمة قبل الوصول إلى القطب الجنوبي (مواقع التواصل)

العزل الصحي وبداية المعاناة قبل السفر

تبدأ معاناة الباحثين العلميين المتوجهين إلى القطب الجنوبي قبل السفر بأيام إذ يخضعون لمراحل من العزل الصحي، وهو حال الباحث أحمد سليمان الذي خضع مع زملائه الأربعة في الفريق العلمي لـ3 مراحل من العزل الصحي الشديد الحراسة.

كان العزل الأول في مدينة سان فرانسيسكو، قبل السفر إلى نيوزيلندا وبالضبط إلى مدينة كرايست تشيرش، عبر طائرة خاصة لدرجة أنه كانت هناك أماكن مخصصة لهم داخل المطار للتنقل بعيدا عن الناس، فخضعوا لكشوف طبية متعددة، وفي نيوزيلندا خضعوا لعزل صحي ثان شديد الحراسة من قبل الجيش الأميركي والنيوزيلندي مدته 15 يوما.

يقول الباحث أحمد سليمان "لقد شدّد مركز البحث القومي الأميركي الإجراءات بخاصة بعد ظهور فيروس كورونا، وذلك حتى يمنعوا تسرب أي فيروس إلى القطب، حماية للعلماء، لانعدام المستشفيات هناك، ففي حالة إصابة أي شخص بفيروس عصي أو مرض خبيث سيكون من الصعب علاجه وقد يتسبب انتشاره في حدوث كارثة صحية".

ويضيف "بعد كل هذه المدة من العزل والكشوف الطبية تغير وضعنا الآن في القطب، حيث نتعامل كأنه ليس هناك كورونا، من دون تباعد اجتماعى ولا كمامات، وهذا يسهل عملنا العلمي في أبرد مكان على كوكب الأرض في القطب الجنوبي".

للمرة الثانية يكون أحمد سليمان الباحث العربي الوحيد في القطب الجنوبي (مواقع التواصل)

السفر نحو محطة "ماكموردو" (McMurdo Station) الأميركية بأنتاركتيكا كان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن طريق طيران الدفاع الجوي النيوزيلندي، وماكموردو هي قاعدة أنشئت عام 1956 تقع جنوب القارة القطبية، وفي ماكموردو خضع فريق البحث العلمي لعزل صحي ثالث، استمر هذه المرة أكثر من أسبوعين وذلك بسبب الظروف المناخية الصعبة التي لم تسمح بالطيران.

الوصول إلى مركز البحث العلمي انطلاقا من محطة ماكموردو يستغرق نحو 5 ساعات من الطيران، وقد انطلقت الرحلة يوم الاثنين الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بالتوقيت المحلي، أي يوم الأحد بتوقيت المنطقة العربية، فالفارق الزمني يصل إلى 12 ساعة وهو فارق معتبر له تأثيرات سلبية على الوظائف البيولوجية لجسم الإنسان.

في محطة ماكموردو اكتشف أحمد سليمان أنه ما زال الباحث العربي الوحيد الذي جاء إلى أنتاركتيكا، "قبل سنتين كنت الباحث العربي الوحيد الذي سافر إلى القطب الجنوبي، وهذه المرة كنت أيضا الوحيد وهذا ما أكده لي كثير من العلماء هناك".

في القطب الجنوبي لا تغيب الشمس في فصل الصيف أبدا على مدى أكثر من 3 أشهر (مواقع التواصل)

الحياة في القطب الجنوبي

الحياة في القطب الجنوبي تختلف تماما عن بقية المناطق في العالم، بسبب مناخه المميز وخصائصه الطبيعية الفريدة من نوعها، فبياض الثلج الذي يكسو المنطقة يجعل المرء يشعر كأنه في كوكب آخر.

ولا يوجد في القطب سوى فصلين، فصل الصيف الذي يبدأ من شهر أكتوبر/تشرين الأول وينتهي في شهر مارس/آذار، وفيه تكون درجة الحرارة نوعا ما معتدلة فلا تتجاوز 40 درجة تحت الصفر، وفصل الشتاء الذي يمتد من أبريل/نيسان إلى سبتمبر/أيلول وقد تبلغ الحرارة فيه 90 درجة تحت الصفر.

يقول الباحث أحمد سليمان "نحن نشتغل كثيرا في فصل الصيف لأن الحرارة فيه تكون لطيفة نوعا ما، كما أن العواصف الثلجية تقل فيه، وهذا ما يسمح لنا بأداء مهامنا في ظروف مناخية جيدة، أما في فصل الشتاء فتُرصد موجات عمرها 14 مليار سنه من سماء القطب الجنوبي".

وفي القطب لا تغيب الشمس في فصل الصيف أبدا على مدى أكثر من 3 أشهر، فلا يعرف فيها العلماء والباحثون الليل وأجواءه، وفي هذا يقول أحمد سليمان "من عجائب هذه الأرض أن الشمس لا تغيب أبدا، نحن نعيش في نهار دائم وأصلي مواقيت الليل كالعشاء مثلا والشمس في كبد السماء".

السير في القطب الجنوبي شاق ولو كانت المسافات قصيرة لذا يستخدمون عربات خاصة للتنقل (مواقع التواصل)

وبين المبنى الذي يقيمون فيه ومركز البحث العلمي الذي يسمى "أمندسون سكوت" (Amundsen-Scott) مسيرة ربع ساعة على الأقدام، ورغم قصر المسافة فإنها شاقة بسبب درجة البرودة العالية.

وسمي مركز البحث العلمي بهذا الاسم تخليدا للمستكشفين، النرويجي "رولد أمندسون" الذي وصل إلى القطب في ديسمبر/كانون الأول من عام 1911، وقد لحق به البريطاني "روبرت سكوت" في يناير/كانون الثاني من عام 1912 وكان صاحب أول بيت بني في أنتاركتيكا عام 1902 واكتشف أخيرًا وهو اليوم بمنزلة متحف تاريخي يزوره كثيرون.

فى محطه "ماكموردو" تمكن أحمد سليمان من رؤيه كثير من المناطق النادرة كمنزل المستشكف البريطانى روبرت سكوت، والجبل المتجمد البركانى إيرابيس الشهير في أنتارتيكا الذي يعدّ من أطول جبال أنتارتيكا اتصالا بالسماء وما زال يخرج منه كثير من الحمم البركانية حتى الآن.

كان روبرت سكوت قد قاد رحلتين استكشافيتين، الأولى كانت بين 1901 و1904، والثانية بين 1910 و1913 وهي الرحلة التي توفي فيها هو وكل فريقه في طريق العودة بسبب الجوع والبرد.

أحمد سليمان يأمل تتويج مهمته التي ستمتد 3 أشهر بكشف علمي كبير (مواقع التواصل)

الروتين اليومي للباحثين

يشتغل أحمد سليمان وزملاؤه في مركز البحث العلمي نحو 10 ساعات يوميا، يبدأ يومه في الساعة السابعة والنصف صباحا باجتماع تقني يتناول فيه المجتمعون جدول الأعمال اليومي، ثم يذهبون إلى معملهم ولا يغادرونه قبل الساعه الثانية عشرة لتناول الغداء، ثم يعودون للمعمل ثانية ليباشروا العمل، ويغادرون في الساعة الخامسة والنصف مساء لتناول العشاء.

وبعد نهاية عملهم يقضي معظم الباحثين بقية يومهم في إجراء المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت مستغلين فرصة توفر هذه الخدمة عبر القمر الصناعي لوزارة الدفاع الأميركية من الساعة الثامنة حتى 12:00 مساء، أي 4 ساعات فقط في اليوم للاتصال بالعالم الخارجي، وهناك صالات لممارسة الرياضه وآلات لعزف الموسيقى.

وعلى الرغم من أن القطب الجنوبي كله ثلوج وجليد فإن إشكالية نقص المياه مطروحة بحدّة، فيقول أحمد سليمان إن "هناك نقصا واضحا في المياه، لذلك فإنه لا يسمح لنا بالاستحمام سوى مرتين في الأسبوع، وفي كل مرة لا يمكن أن نتجاوز دقيقتين".

ورغم كل هذه الصعاب فإن الباحث أحمد سليمان يفخر بأنه مصري عربي يشارك في هذه التجربة العظيمة، ويأمل تتويج مهمته التي ستمتد 3 أشهر بكشف علمي كبير قد يكون له السبق والفوز بجائزة نوبل عن تجربتهم العلمية في البحث في أصل كل شيء.. بداية الخلق.

المصدر : الجزيرة