صورة عامة - الشريعة والحياة 1/8/2010
الشريعة والحياة

مُشْكِل القرآن

قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، فما حقيقة وجود إشكال في بعض آيات القرآن؟ ومن أين ينشأ الإشكال؟ وكيف يُزال؟

– معنى مشكل القرآن وعلة وجوده
– حكم تتبع المشكل وأسبابه بين المعنى والإعراب
– المنهج الأسلم في دفع الإشكال
– تفسير بعض الآيات الإشكالية في القرآن الكريم

عثمان عثمان
عثمان عثمان
أحمد حسن فرحات
أحمد حسن فرحات

عثمان عثمان: مشاهدينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلا ومرحبا بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامج الشريعة والحياة {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}[آل عمران:7] فما حقيقة وجود إشكال في بعض آيات القرآن الكريم؟ وهل المشكل نفسه هو المتشابه؟ ومن أين ينشأ الإشكال في بعض الآيات القرآنية؟ وكيف يدفع هذا الإشكال؟ "مشكل القرآن" موضوع حلقة اليوم من برنامج الشريعة والحياة مع فضيلة الدكتور أحمد حسن فرحات أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة الإمارات العربية سابقا. مرحبا بكم دكتور.


أحمد حسن فرحات: أهلا بكم أخ عثمان.

معنى مشكل القرآن وعلة وجوده


عثمان عثمان: بداية دكتور عندما نقول مشكل القرآن ماذا نعني به؟


أحمد حسن فرحات: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عندنا كلمتان المشكل والمتشابه، المتشابه اشتقاقها من الشبه نقول مثلا هذا الأمر يشبه هذا الأمر، تشابه الأمران، ثم إذا كثر التشبابه بين أمرين يؤدي ذلك إلى الالتباس فيقال اشتبه عليه الأمر أي التبس، إذاً من كثرة التماثل والتشابه يصبح هناك اشباه التباس، مثل إذا كان التوائم كثر التشابه بين توأمين لا نستطيع بعد ذلك أن نميز أحدهما من الآخر، فإذاً التشابه يوقع بعد ذلك في الالتباس، فمن هنا جاءت كلمة المتشابه بمعنى الذي يشبه الآخر لدرجة الالتباس. أما الإشكال فاشتقاقها من الشكل، ولذلك نقول مثلا تشابه الشكلان ولكن أيضا إذا كثر هذا التشابه في الشكل يقال بعد ذلك أشكلت أي أصبح هناك مشكلة وأصبح هناك التباس أيضا، فهذا أصل الاشتقاق لكلمة المشكل ولكلمة المتشابه، وبعض العلماء يفسر أحدهما بالآخر وإن كان هذا الموضوع له تفصيلات أخرى ليس الآن من المناسب أن ندخل فيها.


عثمان عثمان: دكتور ولكن هناك ثلاث آيات في القرآن الكريم إحداها تقول بأن القرآن محكم ومتشابه، إحداها الأخرى تقول بأن القرآن محكم كله والآية الثالثة تقول بأن القرآن متشابه كله، كيف يمكن الجمع بين هذه المعاني الثلاث؟


أحمد حسن فرحات: عندنا الآية الأولى مثلا نقول {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1] فهنا القرآن كله محكم، بمعنى أنه متقن وأنه لا تفاوت فيه ولا اختلاف، في آية ثانية تقول أيضا بالنسبة لوصف القرآن كله بالمتشابه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..}[الزمر:23] فهنا المتشابه هو الذي يشبه بعضا بعضا في الحق والصدق والعدل، فالقرآن على هذا كله يشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والعدل، إذاً هناك إحكام عام للقرآن كله وهناك أيضا تشابه عام في القرآن كله، وهناك آية آل عمران والتي سبق أن تليت {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..} إذاً هنا جزء من القرآن يعبر عنه بالإحكام وجزء من القرآن يعبر عنه بالمتشابه، وطبعا المحكم هو أم الكتاب بمعنى أصل الكتاب، بينما المتشابه في هذه الحالة الذي يشتبه في معانيه ويمكن أن نرده بعد ذلك إلى المحكم حتى تصبح الأمور واضحة ومقبولة. يضاف إلى ذلك في نوع آخر من المتشابه نسميه المتشابه اللفظي والمتشابه اللفظي هو الذي تتشابه فيه الألفاظ مثل آية الصابئين التي سنتحدث عنها فيما بعد، ومثل آيات كثيرة ألف فيها العلماء كتبا معينة بالمتشابه اللفظي وفي الكتاب الكرماني المسمى "البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان" فهذا تشابه لفظي، وأيضا هناك كتاب منسوب إلى الخطيب الاسكاي "درة التنزيل وغرة التأويل في بيان المتشابه من آي التأويل" وهناك كتاب ابن الزبير الغرناطي "ملاك التأويل القاطع لذوي الإلحاد والتعطيل في بيان المتشابه من آي التنزيل" هذه كتبه تختلف عن المتشابه المعنوي الوارد في آية آل عمران نسميها المتشابه اللفظي لبيان الفرق بين المتشابه اللفظي والمتشابه المعنوي.


عثمان عثمان: طبعا هذا ربما يحتاج إلى حلقة متخصصة في هذا المجال ولكن دكتور نعود إلى موضوع المشكل، القرآن الكريم وصف نفسه بأنه مبين بأنه ميسر للذكر، ما علة وجود الإشكال ما الحكمة من ذلك؟


أحمد حسن فرحات: أولا القرآن لا يخرج كله عن كونه مبينا ولكن هو مبين بالنسبة لأهل العربية الذين يفهمون العربية هو مبين بالنسبة إليهم، لكن مع ذلك أفهام الناس تختلف وعقول الناس تختلف فبعضهم يكون أقوى من الآخر على إدراك المعاني وما وراء المعاني والبعض الآخر قد يقف عند المعاني الأولية أو المعاني الظاهرة ولا يستطيع أن يتعمق أكثر من غيره، طيب ما العلة في وجود المتشابه أو في وجود المشكل لماذا المشكل؟ طبعا هذه الأمة تختلف عن الأمم السابقة بأن العلماء فيها لهم مهمة كبيرة جدا في عملية الاجتهاد، معروف عندنا أن القرآن يبين بعضه بعضا كما ورد في الآية {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة 16- 19] لكن بيان القرآن للقرآن أيضا فيه مجال للاجتهاد، قد يجتهد بعض الناس في بيان القرآن بالقرآن ولا يوفق إلى الصواب وقد يجتهد البعض الآخر فيوفق إلى الصواب ويمكن أن نأتي بأمثلة إذا كان يتسع الوقت لهذا الموضوع.


عثمان عثمان: لا بأس في مثال واحد.


أحمد حسن فرحات: لما نأخذ مثلا في آية قرآنية {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[القصص:75] معنى الشهيد في الآية هنا حسب أقوال كثير من المفسرين أنه النبي، كما في الآية الأخرى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً}[النساء:41] هنا المراد بالشهيد النبي بالإجماع هذا ما فيه مجال للكلام، لكن لما نأتي إلى الآية الثانية {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً..} نبيا {..فَقُلْنَا..} للأنبياء {..هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ..} غير صحيح، المعنى غير صحيح، إذاً قالوا كيف يصح المعنى؟ قالوا ممكن يكون الخطاب موجها للأمم وليس للأنبياء، يعني بيصير المعنى {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا..} للأمم {..هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} لكن في إشكالات هنا، هذا التفسير بيبقى فيه إشكالات، أين الإشكال؟ الإشكال أننا اضطررنا إلى التكلف توجيه الكلام من الشهداء إلى الأمم مع أن سياق الكلام يوحي بأنه للشهداء الكلام، ثم النزع هو الأخذ بشدة، والأخذ بشدة لا يتناسب مع مقام الأنبياء، هناك قال {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا..} في تكريم {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً} لكن هنا {وَنَزَعْنَا..}..


عثمان عثمان: في شدة وغلظة.


أحمد حسن فرحات: أيوه {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا..} طيب إذا قلنا للأمم مثلما قالوا، طيب يا أخي الأمم فيها مؤمن وفيها كافر، هل يصح أن يوجه الخطاب للمؤمنين؟ {هاتوا برهانكم} لا يصح، إذا بدنا نقول هو للكافرين مش بس للأمم إذا صار في تكلف بعد تكلف، طيب إذاً ما معنى الشهيد هنا؟ شوف في آية بسورة البقرة {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23] فالشهداء هناك الزعماء الكبراء الذين ممكن أن تستعينوا بهم، الشعراء الكتاب إلى آخره، في هذه الحالة إذاً لما نأخذ الشهيد بمعنى الزعيم في الكفر والضلال في الآية التي نحن بصددها، {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً..} كبراءهم عظماءهم فقلنا لهؤلاء الكبراء في الكفر والضلال {..فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} نجد الكلام ينطبق تمام الانطباق، يبقى هذا الكلام كله استنتاج اللي عم نحكيه نحن، لكن هل هناك آية أخرى تؤكد هذا الكلام {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً}[مريم:69] شوف النزع هنا والنزع هناك، بدل الأمم هناك جاءت الشيعة هنا، الأمة هناك جاءت الشيعة هنا، فسر الشهيد هناك بأنه أشدهم على الرحمن عتيا، فصار عندنا يقين هنا أن المراد بالشهيد هو أعتاهم وهو زعيمهم في الكفر والضلال، هذا تفسير القرآن بالقرآن وذلك تفسير القرآن بالقرآن ولكن أين هذا من ذاك؟!

حكم تتبع المشكل وأسبابه بين المعنى والإعراب


عثمان عثمان: فضيلة الدكتور يعني كثير من الناس الآن يتتبعون ويبحثون عن مشكل القرآن وكل واحد غايته وهدفه من ذلك البعض يبحث عن المشكل لحله البعض يبحث عن مشكل للتشكيك في هذا الكتاب العظيم، يعني لو أردنا أن نسأل عن حكم تتبع المشكل في القرآن الكريم.


أحمد حسن فرحات: المشكل هو بطبيعة الحال يحتاج إلى بحث ويحتاج إلى حل لأن الله وصف كتابه {..وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء:82] فلما نشوف في اختلاف في بعض الآيات بحسب الظاهر وفي عدم وضوح إذاً هذا يحتاج إلى أن نبحث له عن حل، طيب لماذا جاءت الأمور بهذه الطريقة، ما الهدف؟ هذا الهدف فقط مجرد أن نصل إلى معنى معين أو أن نصل إلى حكم شرعي؟ أنا في تقديري القضية أكبر من هيك، من خلال هذه المعاناة في فهم النصوص وفي إدراك المعاني الخفية للآيات القرآنية هذه العملية تسهم إلى حد كبير في بناء العقل، العقل المسلم، فكان بإمكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعطينا قائمة بالحلال والحرام تأخذوها تحفظوها على الغيب وخلص انتهى الموضوع ما في حاجة للتأمل ولا للتدبر ولا للتفكر ولكن خلال المعاناة من خلال هذه الممارسة للتفكير في حل المشكلة في القرآن الكريم التي تبدو أنها مشكلات ظاهرة يبنى عقل من خلال هذه المشكلات يبنى عقل، ولذلك الصحابة لما خرجوا إلى العالم خرجوا من هذه المدرسة التي بنت عقولهم واستطاعوا أن يحلوا مشكلات العالمين كلها التي صادفتهم في طريقهم، لم يتخرجوا في جامعة ولم يتخرجوا في مدارس كما نعرف وإنما تخرجوا من مدرسة القرآن، فإذاً عملية الاجتهاد في فهم النصوص القرآنية وفي التأمل والتدبر فيها هذه عملية هائلة جدا من خلالها يمكن أن يبنى العقل المفكر المدبر الذي يستطيع أن يحاكم الأمور وأن يصل فيها إلى الحقائق وإلى النتائج.


عثمان عثمان: ولكن المشكل فضيلة الدكتور في القرآن الكريم يعني هل سببه إعرابي، هل سببه تفسيري أم ماذا؟


أحمد حسن فرحات: هناك أنواع من المشكل، هناك مثلا نقول مشكل الإعراب وقد ألف العلماء في ذلك كتبا، مثلا منها كتاب مكي المعروف "مشكل إعراب القرآن"، هناك مشكل في المعاني في فهم المعاني، فإذاً أنواع المشكل متعددة ومختلفة بعضها يكون في الإعراب وبعضها يكون في المعنى والأصل أن الإعراب فرع عن المعنى، يعني أنت إذا وصلت إلى المعنى سهل عليك فهم الإعراب ولكن الذي يحصل أحيانا أن علماء العربية الذين بدؤوا التفسير يعني هم بدؤوا التفسير عن طريق اللغة العربية كانت تستوقفهم بعض الظواهر الإعرابية التي فيها بعض الإشكالات وربما لا ينتبهون إلى سياق الكلام، فلما يقطعون الكلام من سياقه تصبح هذه الوجوه الإعرابية قابلة للتفصيل وللوجوه المتعددة وينسى بعد ذلك السياق وما فيه، فمن هنا تكثر إيش الوجوه، فيقال مثلا هذه.. لكن أنت لما تقرأ الآية في سياقها تجد أن الكلام يتجه إلى معنى واحد وتعرب الآية على هذا المعنى الواحد ولا حاجة إلى تلك الوجوه الكثيرة المتعددة.


عثمان عثمان: يعني هل الإعراب تابع للمعنى أم أن المعنى تابع للإعراب؟


أحمد حسن فرحات: لا، الإعراب هو الذي يتبع للمعنى، الأصل هو المعنى والإعراب فرع عن المعنى.


عثمان عثمان: فضيلة الدكتور يعني في موضوع الإعراب هناك بعض الآيات تبدو مخالفة في شكلها للقواعد الإعرابية ربما دفع بعض الجهلة إلى أن يقولوا هناك أخطاء إعرابية في القرآن الكريم حتى أن بعضهم ربما ألف كتابا في هذا الموضوع يتحدث فيه عن أخطاء إعرابية في القرآن الكريم، ما دلالة هذه الآيات التي تبدو مخالفة في شكلها وظاهرها للقواعد الإعرابية في القرآن الكريم؟


أحمد حسن فرحات: طبعا العلماء السابقون مثل ابن قتيبة عنده كتاب اسمه "تأويل مشكل القرآن" وكثير مما جاء في هذا الكتاب مبني على الإعراب يعني الأشياء التي اختلف فيها علماء الإعراب في بعض آيات القرآن، إذاً هنا المشكل يكاد يكون أكثره في قضايا الإعراب وذكرنا السبب في ذلك أنهم يقفون عند الكلمة التي تحتمل وجوها متعددة في الإعراب ولا يلاحظون السياق الذي وردت فيه، ولكن إذا لاحظنا نحن السياق الذي وردت فيه فإننا نصل في الواقع إلى الإعراب الصحيح، إذاً الإعراب هو فرع عن المعنى وليس العكس، الإعراب فرع عن المعنى، لكن الحقيقة في نقطة هون مهمة الذين كتبوا في هذا الموضوع سابقا في مشكل القرآن وخاصة في قضايا الإعراب مثلما تفضلت قبل قليل قلت بأنهم يعني هذه تبدو مخالفة للظواهر الإعرابية فهم بكثرة الوجوه التي يضعونها كأنهم يقولون لنا إن هذا الأمر ليس فيه إشكال لأن له وجوها متعددة يمكن أن تخرج عليه، لكن الحقيقة هذا الموقف كله أقرب إلى موقف الدفاع منه إلى موقف بيان سر الإعجاز في هذا التعبير.


عثمان عثمان: يعني هي قضية مركزية دكتور.


أحمد حسن فرحات: أيوه، المنهجية التي نحن نصر عليها، نقول إن هذه الأشياء التي وردت على خلاف الظواهر الإعرابية عند التأمل في سياق الكلام سنجد أن فيها معان خفية وأن هذه المعاني الخفية تثبت إعجاز القرآن في هذه الظواهر الإعرابية، فنحن لا نريد أن نلتمس طريقا لكي نتحايل ونقول إن القرآن ليس فيه خطأ إعرابي لأن هذا أصلا غير وارد لأن القرآن يقعد به ولا يقعد عليه، لكن الشيء الأهم أننا نحن نريد أن نكشف سر الإعجاز في هذا التعبير الذي جاء على خلاف الظواهر لكن حينما نتأمل فيه وندرسه من خلال السياق الذي ورد فيه سنكتشف أن هناك معنى خفيا جديرا أن نقف عنده وأن نتبين سر الإعجاز في مثل هذه الظواهر العربية.


عثمان عثمان: أريد مثلا عن هذا الموضوع دكتور.


أحمد حسن فرحات: أمثلة كثيرة يعني لو أخذنا مثلا الحروف، حروف المعاني، حروف المعاني لها معان معروفة في اللغة العربية، في بعض الأحيان نجد أن هناك مذهبين في اللغة العربية مذهب الكوفيين ومذهب البصريين، الكوفيون يقولون بالنيابة في الحروف يعني يمكن للحرف أن ينوب عن الحرف الآخر، البصريون يقولون ما في حاجة للنيابة بالحروف وإنما نقول بالتضمين في الأفعال يعني نضمن الفعل معنى فعل آخر ثم نعديه تعدية، لو أخذنا مثالا يوضح هذه النقطة، نقول مثلا {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}[الإنسان: 5، 6] هنا كلمة {..عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا..} كيف عينا يشرب بها؟ الكوفيون قالوا الباء بمعنى من..


عثمان عثمان: يشربوا منها.


أحمد حسن فرحات: أيوه، يشربوا منها وريحوا حالهم خلص وانتهى الموضوع. البصريون قالوا لا، نضمن فعل يشرب معنى فعل يرتوي..


عثمان عثمان: لماذا لم ترد يرتوي.


أحمد حسن فرحات: ويرتوي تتعدى بالباء، ولكن بيبقى السؤال لو كان الأمر كما قال الكوفيون إذاً لماذا جاءت الباء ولم تأت من؟ ولو كان الأمر كما قال البصريون لماذا جاء فعل يشرب ولم يأت فعل يرتوي؟ إذاً يبقى هناك في بحث عن حكمة، حكمة هذا التعبير، هذا الكلام قد يقبل في كلام البشر في كلام الشعر في غير ذلك لكن القرآن لما يعدل عن قضية إلى قضية كأنه يقول لنا قفوا وتأمل هنا معنى خفي يجب أن تصل إليه.


عثمان عثمان: ما هو المعنى الخفي في هذه الآية؟


أحمد حسن فرحات: هنا الباء الحقيقة نستطيع أن نقول من سياق الكلام {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً..} مزاجها، يعني مخلوطة بالكافور تمزج بالكافور، الكافور من أين؟ عينا، إذاً عينا بدل من الكافور، إذا في الجنة ما في مكان نروح نشتري منه كافور وإنما هناك عين، هذه العين من يفجرها؟ الأبرار، عينا يفجرونها تفجيرا، طيب إذاً هم يفجرون العين وهم يمزجون الكأس، الكأس هي من الخمر، خمر الجنة تمزج بالكافور، من الذي يمزج؟ الأبرار، إذاً الباء هنا تفيد المزج كما تقول شربت الشاي بالحليب يعني ممزوجا به، إذاً{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا..} يعني يشربون الكأس ممزوجة بها {.. يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} لما نقول بهذا المعنى ماذا نضيف إلى المعاني السابقة نضيف أنه إلى متعة الشرب متعة التفجير ومتعة المزج وهذه كلها تزول هذه المتع إذا قلنا بالنيابة بالحروف أو إذا قلنا بتضمين الأفعال.


عثمان عثمان: نعم. فضيلة الدكتور هل هناك آيات قد تكون مشكلة عند البعض وعند البعض الآخر تكون غير مشكلة؟


أحمد حسن فرحات: هو ممكن، يعني هذا بيسموه أحيانا المتشابه النسبي، قد يكون بعض العقول عندها من الذكاء ومن الغوص على المعاني القرآنية ما تحل به الإشكال مباشرة، وقد تكون عند البعض الآخر هي إيش؟ مشكلة، لكن في كل الأحوال هذا النوع من الإشكال سواء كان ابتداء أو كان لبعض الناس دون البعض الآخر المقصود منه حفز الذهن لكي يفكر ولكي يتدبر ولكي يبنى من خلال هذه العملية التي هي عملية اجتهادية في الواقع، يعني هناك أحيانا مثلا تقول من فوائد علم الرياضيات أنه بيحفز الذهن بيعمل رياضة عقلية وكذلك العملية الاجتهادية في فهم القرآن هي في الواقع نوع من هذه التربية العقلية الهائلة جدا.


عثمان عثمان: دكتور يعني بعد الفاصل تجيبني ما هو المنهج الأسلم في دفع الإشكال عن بعض آيات القرآن الكريم؟ إذاً نعود إليكم مشاهدينا الكرام بعد الفاصل فابقوا معنا.

[فاصل إعلاني]

المنهج الأسلم في دفع الإشكال


عثمان عثمان: أهلا بكم مشاهدينا الكرام من جديد إلى حلقة هذا الأسبوع من برنامج الشريعة والحياة والتي هي بعنوان مشكل القرآن مع فضيلة الدكتور أحمد حسن فرحات أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة الإمارات العربية المتحدة سابقا. دكتور المنهج الأسلم في دفع الإشكال عن بعض آيات القرآن الكريم كيف يكون؟


أحمد حسن فرحات: طبعا نحن أشرنا إلى أن تفسير القرآن بالقرآن أمر أساسي في هذا الموضوع، وكثير من الأشياء أحيانا التي نلتمس حلا لها في غير القرآن لا نصل إلى نتيجة، أضرب مثالا على ذلك كلمة الفقير والمسكين، إنما الصدقات {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء..}[التوبة:60] أيهما أسوأ حالا؟ اختلف فيه الفقهاء، الشافعية قالوا المسكين أحسن حالا لأن الله يقول {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ..}[الكهف:79] استشهاد بالقرآن، تفسير القرآن بالقرآن، والأحناف قالوا المسكين أحسن حالا من الفقير لأنه قال في الآية الأخرى {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16] فليس له إلا التراب، ما عنده شيء، طيب نحن الآن هناك أمام مشكلة أيهما أسوأ حالا، لو رجعنا إلى اللغة العربية وإلى كتب اللغة والمعاجم لن نجد حلا، لو رجعنا إلى الأحاديث ربما نجد روايات متعددة، فلذلك بقيت القضية معلقة ولم تحسم، المنهج هنا الذي نشير إليه، نجمع آيات الفقراء وآيات المساكين وننظر في سياق هذه الآية، ماذا نجد؟ نجد دائما مع المسكين يذكر الإطعام، الحاجة إلى الطعام {..فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ..}[المائدة:89]، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}[الإنسان:8]، {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الفجر:18] إذاً المسكين هو الذي يحتاج الطعام، شوف من خلال السياق، طيب لو جئنا إلى آيات الفقراء لم يذكر الإطعام مع الفقير إلا في آية واحدة قال {..وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:28] ما قال الفقير، البائس الفقير، وقدم البائس على الفقير ليبين أنه بلغ مرحلة البؤس، إذاً البائس الفقير يساوي المسكين، طيب بيبقى عندنا بعض الإشكالات في الموضوع، طيب إيش بنقول في الآية {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ..} كيف بدنا نحلها هذه؟ نقول هنا المساكين جمع مسكين يعني صيغة منتهى الجموع فإذا قلنا اللام للملكية معنى ذلك أن هذه السفينة مش يملكها مسكين، يملكها مجموعة مساكين يعني شركة مساهمة هذه صارت، فما يصيب واحد منهم جزء قليل لا يعتد به، وإذا قلنا اللام ليست للملك وإنما هي يعني لأنهم استعاروها أو لأنهم يعني يتصرفون بها بطريقة أو بأخرى يعني لا يملكونها فما في مشكلة. وبعض العلماء بيقول لك لا، هم في الأصل حالتهم جيدة ولكن وصفوا بالمسكنة لأنهم في مواجهة ملك ظالم، مثلما بتشوف إذا واحد غني لكنه لم يتعرض للظلم بسبب قوة قاهرة بتقول هذا مسكين، تقول مسكين بمعنى هنا ضعيف ليس بمعنى أنه لا يملك شيئا من المال.


عثمان عثمان: اسمح لنا دكتور أن نأخذ الدكتور سامر رشواني أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الشريعة في جامعة دمشق. السلام عليكم دكتور سامر.


سامر رشواني/ أستاذ التفسير وعلوم القرآن-جامعة دمشق: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.


عثمان عثمان: دكتور ما الطرق التي وضعها العلماء لدفع الإشكال عن بعض آيات القرآن الكريم؟

سامر رشواني: بسم الله الرحمن الرحيم، بداية تحياتي للدكتور الأستاذ أحمد. من الطرق طبعا الهجوم على القرآن من جهة وجود المشكل فيه قديم في تاريخ الإسلام بدأ مع القرون الأولى وقد كتب المسلمون في ذلك كتابات دفاعا وردا لهذه المطاعن التي استغلها الطاعنون ودخولوا فيها من مدخل المشكل، ووضعوا في الرد على هذه المطاعن قواعد يمكننا أن نلخصها في ثلاث قواعد، أولها أنه لا يجب في البيان بلوغه أعل الرتب من حيث وضوح الدلالة فلا يمتنع أن يكون المتشابه أحيانا من البين بيانا مطلقا، هذه القاعدة الأولى، القاعدة الثانية أنه قد يظن الاختلاف في الكتاب والقرآن قد يظن الاختلاف تناقضا وحقيقته عموم وخصوص أو إطلاق وتقييد أو مجاز وتشبيه، وهذا بناء على القواعد التي وضعها علماء الأصول تلك القواعد التي تبين النسق الداخلي الذي يحكم فهم معاني القرآن واستنباط دلالاته، أما القاعدة الثالثة فهي التي تكرر استعمال علماء المسلمين لها وهي أن القرآن قد جاء على سنن العرب في خطابها ومن سننها أي قواعدها في خطابها الحث والتكرار والتوكيد والكناية وغير ذلك من أساليب الخطاب التي قد تورث في قارئ الخطاب بعض اللبس والاشتباه وهذا مما يعد في كلام العرب ميزة تحمد وتطلب في كلام البلغاء من العرب.


عثمان عثمان: شكرا فضيلة الدكتور سامي رشواني أستاذ التفسير وعلوم القرآن في كلية الشريعة في جامعة دمشق، كنت معنا من العاصمة السورية. فضيلة الدكتور هناك رغبة عند الكثيرين لحل الإشكال في بعض الآيات القرآنية وهذا ما يدفعهم ربما إلى الوقوع في تكلفات كثيرة وتعقيدات ربما أكثر يعني، كيف تفسرون هذه الظاهرة في كتب المشكل والتفسير؟


أحمد حسن فرحات: طبعا هو غياب المنهج السليم هو الذي يؤدي إلى هذا، نحن ذكرنا أن إحدى الطرق التي ينبغي أن نلجأ إليها تفسير القرآن بالقرآن لأن رب العالمين قال {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19] إذاً بيان القرآن موجود في القرآن ولكن من الذي يستنبط، من الذي يحسن الغوص على المعاني القرآنية لكي يزيل مثل هذه الإشكالات؟ القضية هنا، في الغوص على المعاني القرآنية واكتشاف هذه الأشياء المخبوءة في سياق الكلام وفي بيان القرآن بالقرآن، هذا أمر أساسي ولذلك قال {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء:82] لما نرى الاختلاف الكثير معنى ذلك أن هذا المعنى ليس هو الذي جاءت به الآية القرآنية فعلينا أن نبحث في ضمن المنظومة القرآنية ولا يجوز أن ندخل عناصر خارجية في هذه الحالة لأن العناصر الخارجية ستعقد الأمور وتعقد المشكلة.

تفسير بعض الآيات الإشكالية في القرآن الكريم


عثمان عثمان: فضيلة الدكتور أيضا دعنا ندخل إلى بعض الأمثلة القرآنية والتي تبدو فيها بعض الآيات كما ذكرنا ظاهريا مخالفة للقواعد الإعرابية منها قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى..}[المائدة:69] يعني الصابئون خرجت عن السياق هنا كيف يحل الإشكال؟


أحمد حسن فرحات: أولا في عندنا ثلاث آيات هذه متشابهة لفظا من حيث أنها تذكر هذه الطوائف في عندنا آية في سورة البقرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:62] وفي آية المائدة التي استشهدت أنت بها الآن {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[المائدة:69] وفي آية سورة الحج {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..}[الحج:17] إذاً هنا إذا نظرنا إلى الاشتراك والتشابه اللفظي نقول هذه آيات متشابهة لفظا ولكن لما ننظر إلى الاختلاف الوارد في سورة المائدة بتقديم لفظ الصابئين ورفعها الصابؤون هذه هنا تعتبر من المشكل، مشكل الإعراب، ولذلك كثرت فيها الوجوه عند علماء التفسير وعند علماء العرب ممكن تكون إلى سبعة وجوه قد وصلت في هذه الآية، ورجح أكثرهم قول سيبويه في هذه الآية، باختصار آية البقرة خلينا نرجع لآية البقرة أولا جاية على حسب النظام المعهود أنه معطوف على منصوب كله منصوب على أساس أنه، يعني {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ..} الذين آمنوا اسم إن وكله معطوف عليها يعني منصور كله ما في مشكلة في الموضوع، لكن آية البقرة متى نزلت وما هو السبب بنزولها؟ لما جاء سلمان الفارسي الذي كان قد خرج مع الرهبان ونزل معهم وعاش معهم ثم أرشدوه أن يأتي إلى بلاد العرب وأن نبيا سيبعث وأنه عليه أن يأتي إلى هذا النبي وأن يؤمن به، فلما جاء إلى المدينة المنورة وجد أن الرسول قد وصل إليها فذهب إليها وسأله عن أخبار هؤلاء الرهبان الذين كان معهم فقال كانوا يبشرون بك ولو أدركوك لآمنوا بك، ما مصيرهم عند الله؟ نزلت آية البقرة، ولذلك نص فيها {..فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ..}[البقرة:62] ولم تذكر هذه في الآيات الأخرى، لأن السؤال هنا عن المصير. فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:62] إذا هذه الآية نزلت في أصحاب الطوائف قبل البعثة النبوية والذين كانوا يبشرون بالنبي ولو أدركوه لآمنوا به.


عثمان عثمان: هذا أجرهم عند الله عز وجل يوم القيامة.


أحمد حسن فرحات: محفوظ. نأتي إلى آية المائدة، آية المائدة بحسب سياق الكلام ما قبلها وما بعدها يبين أنها في أصحاب الطوائف الذين كانوا معاصرين للنبي ولقد أدركوه ولم يؤمنوا به، إذاً هنا تلك في مرحلة قبل البعثة وهذه بعد البعثة وكانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، الذين أدركوه ولم يؤمنوا به. طبعا علماء الإعراب رجحوا رأي سيبويه ورأي سيبويه الحقيقة فيه شيء من التكلف لما بيقول إن الصابئين في الآية مقدمة من تأخير، يعني قدمت في الآية وحقه أن تكون في آخر الآية، كيف بيقدرها؟ بيقول إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابؤون كذلك..


عثمان عثمان: إذاً كان فيها تعقيد يعني.


أحمد حسن فرحات: فيها نوع من القطع للكلام، فيها تكلف.


عثمان عثمان: ما هو المعنى الذي ليس فيه هذا التعقيد؟


أحمد حسن فرحات: القول الذي نرجح أن خبر إن هنا محذوف تقديره إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هذه جملة مستقلة، ثم والذين هادوا والصابؤون جملة معطوفة على الجملة السابقة فالواو هنا صارت من باب عطف الجمل أو الاستئناف، عطف جمل وليست عطف مفردات، طيب لماذا جاءت الصابؤون قبل النصارى في حين جاءت في سورة البقرة يعني النصارى قبل الصابئين؟ لما كانت الذين هادوا مرفوعة ولا يظهر عليها الرفع والنصارى مرفوعة ولا يظهر عليها الرفع جاءت الصابؤون مرفوعة بالواو بين الذين هادوا وبين النصارى لتبين أن ما قبلها مرفوع وما بعدها مرفوع وأن هذه جملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ليس العطف هنا عطف مفردات وعلى هذا يكون إيش؟ لا يقبل من أصحاب الطوائف بعد البعثة النبوية إلا أن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وبرسالته، فيكون معنى من آمن منهم بالله واليوم الآخر يعني من دخل في الإسلام، فالذي لم يدخل في الإسلام في هذه الحالة لا ينطبق عليه هذا الخبر، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إذاً هنا معنى من آمن بالله واليوم الآخر هو هذا ولكن في الآية الأخرى في سورة البقرة {..مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..} هناك معناه من حقق إيمانه بحسب الرسالة التي أرسلت إليه من قبل النبي الذي جاء.


عثمان عثمان: يعني أيضا من الآيات التي تبدو مخالفة للقواعد..


أحمد حسن فرحات: في بسه لسه بدنا نضيف قضية آية الحج.


عثمان عثمان: تفضل.


أحمد حسن فرحات: هذه إذاً في زمن النبي عليه السلام آية الحج أضافت إلى أصحاب الطوائف المجوس والذين أشركوا وكلها ماشية على حسب القاعدة كلها عطف مفردات منصوبة على بعضها البعض، لماذا أضيف فيها المجوس والذين أشركوا؟ لأن يوم القيامة الفصل يكون بين الخلائق جميعا وبين الطوائف جميعا، فإذاً أصبح في عندنا ثلاثة أزمنة كل آية تمثل مرحلة زمنية معينة آية البقرة قبل البعثة، آية المائدة في المعاصرين للنبي عليه السلام وآية الحج في أصحاب الطوائف يوم القيامة ولذلك ليس هناك تكرار في هذ الحالة وإن كانت الألفاظ تشير إلى أنها تكرار ولكن كل واحدة تمثل مرحلة زمنية مختلفة عن الأخرى.


عثمان عثمان: أيضا دكتور يعني يقول الله عز وجل {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً}[النساء:162] المقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة.


أحمد حسن فرحات: هنا هذه الآية تتحدث عن أهل الكتاب، {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ..} من أهل الكتاب {.. وَالْمُؤْمِنُونَ..} يعني من أهل الكتاب، إذاً في عندنا راسخين من أهل الكتاب وفي عندنا مؤمنين من أهل الكتاب، لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون {..يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ..} يعني بالقرآن {..وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..} هنا المقيمين الصلاة اختلفوا فيها اختلافات كثيرة، لماذا جاءت منصوبة وما المراد بها؟ بعضهم قال لك الملائكة وبعضهم قال كذا وبعضهم قال كذا إلى آخره، طبعا هنا الحقيقة يجب أن نتنبه يعني الإعراب الذي نرجحه في هذه الآية ما بندخل في التفصيلات لأن هذه لا تتناسب مع الجمهور..


عثمان عثمان: والوقت لا يتسع لذلك أيضا.


أحمد حسن فرحات: والوقت لا يتسع. إذاً {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ..} يعني ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، والمقيمون الصلاة إنما هم المسلمون، لماذا قال؟ لأنه في سورة أخرى من سور القرآن الكريم يقول {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ..}[الفتح:29] يعني تلك صفتهم في التوراة، إذاً التوراة تصف الرسول والمؤمنين، وكان المفروض في أهل الكتاب أنهم يؤمنون بما جاء في التوراة، إذاً فهم يؤمنون بهذه الصفات التي وردت لهذه الأمة، ولكن بعد أن أصبحت هذه الأمة حقيقة وواقعة ما قال يؤمنون بمثل هذه الأمة وإنما قال يؤمنون بالمقيمين الصلاة، يعني بالمسلمين بالرسول وأمته، إذاً صار معنى الآية هكذا {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ..} من أهل الكتاب {..وَالْمُؤْمِنُونَ..} منهم {..يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ..} يعني القرآن {..وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ..} يعني التوراة والإنجيل {..وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ..} يعني يؤمنون بك وبأمتك التي ورد مثلها في التوراة، تلك صفتهم في التوراة، ثم قال {.. وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ..} المؤتون الزكاة هنا من صفة أهل الكتاب وليس من صفة المسلمين هنا، طبعا صفة المسلمين إقامة الصلاة هذا أمر واضح جدا ومعروف "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" فأصبحت الصلاة هي العلم على هذه الأمة الإسلامية.


عثمان عثمان: أيضا دكتور من الآيات التي أشكلت على المفسرين قول الله عز وجل {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81] البعض قال إنها تنافي العقيدة الإسلامية، ما حقيقة الإشكال هنا وكيف يمكن دفعه؟


أحمد حسن فرحات: هذه الآية الحقيقة ذكر العلماء فيها أقوالا كثيرة ورد بعضهم على بعض في هذه الآية، فأنا جمعت هذه الأقوال وجمعت الردود عليها، قلنا إذاً هذه الأقوال كلها لا تصلح أن تكون هي معنى لهذه الآية، إذاً لا بد أن نبحث عن معنى آخر، كيف نجد هذا المعنى؟ لا بد أن نقرأ السورة، سورة الزخرف من أولها إلى آخرها عدة مرات ونلاحظ تسلسل المعاني فيها حتى نصل إلى المعنى المقصود، نجد في سياق هذه الآيات التي وردت {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[الزخرف:45] اسأل يعني اسأل الكتب، لأن الرسول لا يسأل، الأنبياء السابقين ماتوا، فالمراد هنا سؤال كتبهم، هل في كتبهم ما يدل على أنهم أمروا أقوامهم بأن يعبدوا شيئا من دون الرحمن؟ هذا غير موجود، ذكر قصة موسى وأنه ليس فيها شيء من ذلك ثم ذكر قصة عيسى وليس فيها شيء من ذلك، ولكن لما ذكرت قصة عيسى المشركون ماذا قالوا؟ ضرب الله مثلا في قصة عيسى للنبي الذي لم يأمر قومه إلا بعبادة الله، فالمشركون أخذوا المثل هذا وضربوه للرسول بشكل آخر، قالوا ما أراد محمد بهذا المثل إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى، لاحظ يعني كيف المثل الذي ضرب لهم على أن عيسى عليه السلام لم يأمر إلا بعبادة الله أخذ المشركون هذا المثل وحولوه وضربوه للنبي عليه السلام فقالوا لم يرد محمد بهذا المثل إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً..}الزخرف:57] يعني للأنبياء الذين لم يأمروا إلا بعبادة الله {..إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}[الزخرف:57] يضجون ويفرحون ويضجون ليش؟ إما لأنهم وجدوا حجة يمكنهم أن يقيموها على الرسول عليه الصلاة والسلام ولذلك قالوا ما أراد محمد بهذا المثل إذاً أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى، ثم هنا تأتي بعد ذلك مجموعة آيات في مشهد من مشاهد القيامة ثم بعد هذا المشهد تأتي الآيات الأخيرة فيقول القرآن {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ، قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:79- 81] كلمة أم أبرموا أمرا هذه معطوفة على ما قبل المشهد من يوم القيامة وهذا ما لم ينتبه إليه المفسرون، إذاً الحديث عن المشركين الذين أرادوا أن يوقعوا الرسول في مشكلة {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم..} يعني في التآمر على النبي {..بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ، قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ..} يعني يعبد من دون الله فلا يمكن أن يكون أنا هذا، لأنني أنا أول العابدين من هذه الأمة أن يأمر غيره من عبادته فهذا تناقض لا يمكن أن يكون مقبولا.


عثمان عثمان: وهكذا يحل إشكال هذه الآية. أشكركم في ختام هذه الحلقة فضيلة الدكتور الأستاذ أحمد حسن فرحات أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة الإمارات العربية المتحدة سابقا، كما أشكركم مشاهدينا الكرام على حسن المتابعة أنقل لكم تحيات معد البرنامج معتز الخطيب والمخرج منصور الطلافيح وسائر فريق العمل وهذا عثمان عثمان يستودعكم الله دمتم بأمان الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.