تحت المجهر

كنوز العراق الأثرية والثقافية

أعمال السلب والنهب التي تعرضت لها المؤسسات الثقافية في بغداد كالمتحف العراقي وبيت الحكمة ودار الكتب والوثائق, هل ما حصل كان من فعل الغوغاء, أم من عصابات المافيا الدولية؟ وهل تتحمل القوات الأميركية المحتلة المسؤولية عما حدث؟

مقدم الحلقة:

عبد السلام أبو مالك

د. دوني جورج: مدير عام الدراسات بالهيئة العامة للآثار
روبرتو بينييرو: رقيب أول في الجيش الأميركي
د. عدنان ياسين مصطفى: رئيس قسم الدراسات في بيت الحكمة
حسين صالح جميل: مدير المكتبة الوطنية
حمد كمال الدين الغريفي: نجل حجة الإسلام كمال الدين الغريفي

تاريخ الحلقة:

17/07/2003

– حجم الأضرار التي لحقت بالمتحف العراقي
– حجم الدمار والخراب الذي لحق ببيت الحكمة

– تدمير وتخريب دار الكتب والوثائق

– حجم الخراب الذي لحق بالمجمع العلمي العراقي


undefinedعبد السلام أبو مالك: لحظات حاسمة في تاريخ العراق الحديث، التاسع من نيسان/أبريل عام 2003، يوم لن ينساه العراقيون، الرجل الذي ملأ دنياهم وشغلهم طوال فترة حكمه على مدى أربعة وعشرين عاماً يهوي تحت صيحات الحشود المبتهجة، بعد هذا السقوط بيوم أو يومين شاهد العالم هذه الصور التي اعتبرها كثير من العراقيين إساءة إلى سمعتهم، ووصمة عار في جبين أولئك الذين قاموا بها باسمهم، عدسات المصورين رصدت أعمال أولئك الذين رضوا من الغنيمة بسقط المتاع من بعض المؤسسات التي ترمز إلى نظامٍ كتم على أنفاسهم وحكمهم بقبضةٍ من حديد، لكنها لم ترصد أولئك الذين نهبوا المؤسسات التي ترمز إلى حضارة العراق وتاريخه، ولعل المتحف العراقي كان أكثر هذه المؤسسات التي حظيت بأكبر قدر من الاهتمام الدولي، ومنذ سقوط بغداد ظلت حقيقة ما حصل من نهب وسلب في هذا المتحف لغزاً محيراً، فهل ما حصل كان من فعل الغوغاء، أم من عصابات المافيا الدولية؟ وهل تتحمل القوات الأميركية المحتلة المسؤولية عما حدث؟

روبرتو بينييرو (رقيب أول في الجيش الأميركي): لم نصل إلى هنا إلاَّ في 16 من نيسان/ أبريل، والسبب وراء ذلك هو أن إطلاق النار كان لا يزال مستمراً حول المتحف، وبإمكانك أن ترى في فناء المبنى بعض الخنادق التي كانت تطلق منها النيران على قوات التحالف، ولم نصل إلى المكان حتى تمكنا من السيطرة على المنطقة المحيطة بالمتحف، ومعنى ذلك أن المتحف كان يستعمل كموقع قتالي وهجومي إلى غاية السادس عشر من نيسان/أبريل.

حجم الأضرار التي لحقت بالمتحف العراقي

عبد السلام أبو مالك: حاولنا أكثر من مرة الوقوف على حجم الأضرار التي لحقت بالمتحف، ولكن محاولاتنا باءت بالفشل، فالمتحف ظل موصداً أمام وسائل الإعلام لفترة من الوقت، لم يكن يسمح فيها إلاَّ لبعض القنوات الأجنبية بالتصوير.

واصلنا إلحاحنا إلى أن سُمِحَ لنا بجولة سريعة في بعض قاعات المتحف، كانت آثار التخريب لا تزال بادية في بعض الأروقة، فالعديد من الغرف الزجاجية هشمت وسُرِقَ ما بداخلها من قطع أثرية، بعض القطع انتزعت من مكانها بعناية تدل على أن سارقيها يدركون قيمتها، كما هو الحال في هذه الواجهة التي سرقت منها تسعة ألواح حجرية من العصور السومرية وغيرها، وهي تحمل أختاماً بأسماء الملوك أو المعابد، وبجوارها توجد مسلة حمورابي لم تصب بسوء، فهي مجرد نسخة جبسية، أما النسخة الأصلية فهي في متحف اللوفر الفرنسي، ومن حسن الحظ أن معظم القطع التي كانت معروضة في المتحف وضعت في مكان آمن قبل نشوب الحرب، غير أن ذلك لم يَحُل دون وصول اللصوص إلى بعض المخازن.

د.دوني جورج (مدير عام الدراسات بالهيئة العامة للآثار والتراث في العراق): هذه عملية أنا شخصياً أعتبرها اعتداء غادر على هذا المركز الثقافي الكبير، لو جئنا إلى مسألة الأضرار الحقيقية اللي حدثت، الآن قدرنا نحصي في داخل قاعات المتحف هناك 33 قطعة مفقودة من القطع الأثرية المهمة جداً، واحدة منها أعيدت قبل أيام، اللي هي إناء الوركاء النذري من القطع الفريدة في العالم، الآن أصبح عندنا من المفقودات 32 قطعة من قاعات المتحف فقط، لكن السرَّاق مع الأسف قدروا أن يقتحموا ويكسروا أبواب بعض المخازن موجودة في مجمع المتحف، وأخذوا منها أستطيع أن أقول بضعة آلاف من القطع، لم نحصيها لحد الآن، لكن أعتقد هي بضعة آلاف من القطع.

عبد السلام أبو مالك: أما القطع التي تحتاج إلى ترميم فهي كثيرة، من بينها هذا الأسد الذي هُشِّم رأسه، ويعود تاريخه إلى العصر البابلي القديم، وإناء الوركاء النذري الذي يعود تاريخه إلى نحو 3200 سنة قبل الميلاد، وتحكي نقوشه قصة الخلق، كما تصورها السومريون، أما القاعة الآشورية الكبرى فظلت سليمة في معظمها، وتضم القاعة منحوتات ضخمة من قصر الملك الآشوري (سيرجون الثاني) وثورين مجنحين برأسين بشريين.

اقتفاء أثر الكنوز المنهوبة وترميم القطع المهشمة مهمة عسيرة لكنها ليست مستحيلة، بيد أن الأمر قد يستغرق أشهر وربما سنوات قبل أن يعود للمتحف إرثه الحضاري الذي هو إرث ليس للعراق فحسب بل للبشرية جمعاء.

ومن هذا الإرث كنوز نمرود التي تضم مجموعة من المجوهرات والحلي الذهبية، اكتشفت هذه الكنوز في شمال العراق، ويعود تاريخها إلى القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، ووصفت بأنها أهم اكتشاف من نوعه في القرن العشرين بعد اكتشاف كنوز الملك توت عنخ آمون.

د.دوني جورج: هذه الكنوز إحنا ضميناها هناك من عام 1990 يعني قبل حرب الخليج الأولى، هذه واحد من الطرق الاحترازية اللي الهيئة العامة للآثار تقوم بها يعني مع الأسف إحنا مرِّينا في 3 حروب، وخلت عندنا تجربة إنه لازم نحمي آثارنا في.. بكل الطرق الممكنة، فكان القرار بأخذ هذه الكنوز المهمة ووضعها في أقبية البنك المركزي، والحمد لله من رجعنا إلها كانت سليمة 100% وحتى أختام المتحف العراقي الموجودة على الصناديق كانت في أماكنها، ولم يفقد منها أي شيء.

عبد السلام أبو مالك: كما عادت إلى المتحف هذه القطع الأثرية التي بلغت في مجملها 1500 قطعة، بعضها ضبط أثناء محاولة تهريبها من العراق، وبعضها أعيد طواعية من قبل المواطنين استجابة لنداء وجهه علماء الدين وأئمة المساجد.

أحمد كمال الدين الغريفي (نجل حجة الإسلام السيد كمال الدين الغريفي): كانت فتوى السيد إضافة إلى أنه هي التزام ديني بحرمة السرقة أساساً، وبالخصوص حرمة السرقات الأماكن العامة، والشيء اللي تميز به إنه حرمة سرقة الآثار والمتاحف بالذات، فبعد أن سمعوا الناس هذا الأمر وبتركيز من المرجعية في إرجاع الآثار، بدءوا يرجعوا لنا الآثار، يرجعونها على شكل صناديق ومفردات، على شكل مجاميع، فاحتفظنا بها إلى أن شفنا الوقت المناسب بعد وجود الأميركان وتركيزها، إضافة إلى أنه الإعلام بدأ يتحدث عنها، يعني أصبحت الرقابة الإعلامية والأضواء مسلطة على هذه الظاهرة، فقلنا في هذا الظرف أأمن خلينا نبادر في سبيل أن الآخرين أن يبادرون بالإرجاع، فأحد إخواننا أبو محمد أرسلناه لأنه كان دكتور جابر ممثل عن المتحف والضابط الأميركي اللي كان موجود، فأمرناه بأن يسلمها تحت أنظار الصحافة، باعتبار الصحافة تعتبر كرقيب، تحت أنظار الصحافة والوثائق تكون بوجود الأميركي وبوجود أيضاً العراقي، وبالفعل سلمناها على عدة وجبات.

مواطن عراقي1:

سرقوا تراثك يا عراق واقبلوا يبكون في حزن على المسروق

من أزهقوا مهج الشباب في عرفهم لا ترتجي من ذمة وحقوقِ

عشرون عاماً والعراق قتيلهم واليوم يدعون الضحى لشروق

اليوم تنتفض القبور لثأرها والله يعلم غضبة المشنوق

عبد السلام أبو مالك: أبياتُ شعرٍ تحكي مأساة تراث العراق المنهوب، وحسب هؤلاء المتظاهرين فإن حاميها حراميها، ولذلك رفعوا أصواتهم مطالبين باستبدال بعض المسؤولين في المتحف ممن يتهمونهم بالضلوع في عملية تهريب الآثار.

مواطن عراقي1: فهذه ليست أول عملية سرقة للآثار، الآثار العراقية تسرق من 35 سنة، كل اللي حدث أنه رفع غطاء.. رفع الغطاء عن السرَّاق، وظهروا السرَّاق، لكن العملية عمرها 35 عام.

عبد السلام أبو مالك: اتهامات يراها البعض عارية عن الصحة، ويراها آخرون حقيقة مؤكدة.

أحمد كمال الدين الغريفي: النظام كان يحمل كثير من الآثار والقطع الأثرية المنتقاة من المتحف، قبل السقوط بشهر أو أكثر أو أقل بأسبوع.

عبد السلام أبو مالك: يعني المسؤول عن سرقة معظم هذه الآثار هو النظام؟

أحمد كمال الدين الغريفي: المسؤول عن سرقة معظم هذه الآثار هو النظام البائد المقبور، مسؤول مسؤولية مباشرة، أما هذه السرقات التي تمت فهي تغطية.

عبد السلام أبو مالك: وفي انتظار معرفة حقيقة ما حدث تتواصل الجهود الدولية لحماية التراث الثقافي العراقي، وعمليات التحقيق التي تقوم بها القوات الأميركية بالتنسيق مع الشرطة الدولية.

روبرتو بينييرو: جزء من التحقيق يتضمن عملية التقصي التي تقوم بها بعض الدوائر الحكومية، وقد كان معنا هنا مسؤولون في دائرة الجمارك الأميركية، وقاموا بمسحٍ لكل صور القطع التي قِيل إنها أخذت من المتحف، ووزعوها مع أوصاف كل القطع الأثرية المسروقة على جميع الدوائر المكلفة بتنفيذ القانون في الولايات المتحدة وفي كل أنحاء العالم بما في ذلك الشرطة الدولية الإنتربول.

عبد السلام أبو مالك: غير أن الحقيقة المؤكدة هو أنه سيمضي وقت طويل قبل التعرف بشكل دقيق على حجم أكبر سرقة تعرض لها المتحف العراقي منذ تأسيسه قبل ثمانين عاماً.

لم تكن الآثار وحدها مستهدفة في أعمال السلب والنهب، فالكتب والمخطوطات لم تسلم من عبث العابثين، وربما كانت أسوأ حظاً لأنها مُزِّقت وبعثرت وأحرقت في معظم الحالات، أو نهبت وبيعت بأبخس الأثمان، وهكذا كان دائماً مصير الكتب والمكتبات في بغداد كلما حلَّت بها نوائب الدهر، حدث ذلك في الماضي البعيد وحدث أيضاً في الماضي القريب.

[فاصل إعلاني]

حجم الدمار والخراب الذي لحق ببيت الحكمة

عبد السلام أبو مالك: في رصافة بغداد وعلى ضفاف نهر دجلة يطل قصر الثقافة والفنون مقر بيت الحكمة الجديد الذي أُنشئ عام 95، وأُريد له أن يكون مركز إشعاع فكري كما كان بيت الحكمة الشهير في العصر الذهبي للدولة العباسية. رنين هذا الاسم يعيد إلى الذاكرة ما قرأناه عن الدور الحضاري لبيت الحكمة في عهد الخليفة العباسي المأمون، وهو ما أغراني بالتوجه إلى المبنى لمعرفة ما صار إليه أمره، لم يكن المشهد يبعث على الارتياح فجدران البيت المتفحمة وأبوابه المحترقة تكشف عن حجم الدمار الذي أحدثه المخربون كما تكشف عن حقد دفين تجاه مؤسسة لم تكن مركزاً حزبياً ولا سجناً ولا معتقلاً للتعذيب، بل مؤسسة فكرية ثقافية.

كان من أهداف بيت الحكمة العباسي في بغداد تنشيط حركة التأليف والترجمة من خلال تشجيع العلماء والمترجمين وإغداق العطاء عليهم، فازدهرت الحياة العلمية والفكرية ونشطت حركة التأليف والترجمة وامتد أثر بيت الحكمة وسمعته إلى الأندلس، وعندما أُعيد تأسيس بيت الحكمة الجديد قبل ست سنوات كان يراد له أن يقوم بالدور ذاته.

لكن هذا الدور تعطل مع اندلاع أول شرارة في المبنى ورغم انقضاء أيام عديدة على إضرام النيران في غرف البيت وقاعاته، إلا أن رائحة الحرائق كانت تملأ المكان وخيوط الدخان كانت لا تزال تنبعث من قاعته الكبرى.

د.عدنان ياسين مصطفى (رئيس قسم الدراسات الاجتماعية في بيت الحكمة): أكثر ما آلمنا هو عملية الإحراق التي تم.. اللي تمت في القاعة الكبرى وهذه القاعة فيها بُعد تأريخي كبير حقيقة يعني مع الأسف إنه ذاكرة الأمة بدت يعني هذه حقيقة حُرقت وشكَّلت حالة مؤلمة لكل الموظفين وكل المثقفين الموجودين، هذه القاعة اللي تمثل أول برلمان عراقي عام 1926 حُرقت بشكل منظم، هذه القاعة كانت مجلس الأمة، كانت محكمة المهداوي يعني سبقت وكل الفعاليات والنشاطات الثقافية الكبرى التي يعقدها بيت الحكمة هي كانت تُعقد في هذه القاعة الجميلة الكبيرة.

عبد السلام أبو مالك: ولم يقتصر التدمير والتخريب على القاعة الكبرى، بل شمل كل شيء في المؤسسة بما في ذلك بعض أجهزة الطباعة المتطورة التي أُدخلت لأول مرة إلى العراق.

د.عدنان ياسين مصطفى: الكثير من بعض الأجهزة اللي ما داخلة، لأول مرة تدخل العراق، منها أجهزة تنظير طباعي لأول مرة تدخل العراق، لم يستطيعوا حملها، قاموا بتكسيرها وتدميرها، وموجودة الآن هي، يمكن لو استطعتم..، يعني اللي ما قدروا يحملوه خربوه يعني.

عبد السلام أبو مالك: أما المكتبة فقد عاث فيها من لا يقيمون وزناً للمعرفة وأهميتها في تقدم الشعوب والأمم، وقلبوا رفوفها رأساً على عقب، وكان من الصعب عليَّ تلمُّس الطريق وسط هذا الركام المتناثر من الكتب الملقاة على الأرض، كان مشهداً مثيراً للحزن والأسى، وما تبقى من المكتبة دليل على الدور الثقافي الذي كانت تقوم به، فهذه بعض المطبوعات والإصدارات التي كانت تصدر عن بيت الحكمة، من بينها ثماني مجلات فصلية ومجلة شهرية هي مجلة "الحكمة" وعدد من الكتب المؤلفة أو المترجمة في السياسة والاقتصاد والقانون والفلسفة وغيرها من مجالات المعرفة.

ومن حسن الحظ أن المدرسة الشرابية الملاصقة لبيت الحكمة سَلِمت من ألسنة اللهب، واكتفى اللصوص بسرقة بعض أبوابها، وتُعرف المدرسة حالياً باسم القصر العباسي وكان هذا القصر يحتوي على خزانة من بيت الحكمة في العصور العباسية المتأخرة.

تدمير وتخريب دار الكتب والوثائق

وغير بعيد عن بيت الحكمة وعلى بعد خطوات قليلة تقع مؤسسة ثقافية أخرى تعرضت لأبشع أنواع التخريب، إنها دار الكتب والوثائق أو المكتبة الوطنية كما كانت تُعرف سابقاً، قمنا بزيارتها برفقة شاهد عيان، قال إنه رأى بأم عينيه عملية السلب والنهب التي تعرضت لها المكتبة.

ياسين الحسيني (مستشار سابق بدار الكتب): أنا كنت الشاهد الأول على هذه العملية، أوقفت سيارتي وكانت إحدى الدبابات واقفة أمام باب وزارة الدفاع، ووجدت ثلاث سيارات (بيك أب) دخلت إلى الداخل ونزلوا منها عمال وقسم حاملين معاهم جواني.. جوالات وبدءوا بكسر الباب الزجاجي والآخر كان بإيده (هيم) يحاول أن يكسر أكثر من باب ودخلوا إلى الداخل، هذه العملية جعلتني أن أستنجد في الأميركان اللي هم حالياً هم المستعمرين فطلبت من عندهم أن يوقفوا هذه العملية، هذه لا تختلف عن المتحف العراقي أبداً بما تحويه من وثائق نادرة جداً، وإذا بي يجاوبني We aren"t Police، فجمعوا الحرامية اللي أسميهم هادولا، ولا أعتقد إن هادول يملكون ذرة لا من الوطنية ولا من الأخلاق أخذوا ينقلون الكتب في داخل جوالات، الآخر.. هم الظاهر اختصاص، الآخر ذهب إلى الطاولات وإلى الكراسي، البعض الآخر ذهب إلى أجهزة الاستنساخ، ذهب إلى الكمبيوترات، ذهب إلى الأجهزة مال الميكروفيلم، القضايا الحساسة يعني ابتدأت بعملية ساعتين وربع أنا واقف أتفرج على عملية وقلبي يتقطع.

عبد السلام أبو مالك: لكن الأخطر من السلب والنهب هو التدمير الشامل الذي تعرض له المبنى، ليس بفعل القصف الأميركي وإنما بسبب النيران التي أُضرمت فأتت على كل شيء، ولم تترك وراءها سوى الرماد، وكنت أبحث فيه لعلي أمسك ببقايا كتاب أو مخطوط أو أجد حتى بضعة سطور تنبئني عن عنوانه أو مضمونه لكن دون جدوى.

كانت هذه القاعة تستقبل أسبوعياً مئات الكتب وتعرف باسم قاعة الفهرسة والتصنيف، وبجوارها قاعة الوثائق التي كانت تضم وثائق يعود تاريخها إلى العهود العثماني والملكي والجمهوري، ومما لا شك فيه أن إضرام النيران في المبنى تم بطريقة منهجية ومنظمة.

حسين صالح جميل (مدير المكتبة الوطنية): تم الحرق لمرحلتين في إدارة المكتبة الوطنية، الحرق الأول يوم 10/4، والحرق الثاني تم يوم 14/4 فتعرضت المكتبة إلى حرق منظمة ومُدبَّر فالحرق.. هدف الحرق بأنه الناس اللي حرقت أكيد أيادي خفية، كان هدفها طمس تراث هذا البلد.

ياسين الحسيني: أنا أريد أسأل: لمصلحة من تم هذا الشيء؟ ومن هو المحرض؟ لابد أنه هناك مخطط أجرى هذه العملية يعني ثلاث أماكن ثقافية أُضيفت إلها مكتبة جامعة بغداد، وكادوا.. وكادوا أن ينهوا كل شيء يتعلق بحضارة العراق بثقافة العراق، بتاريخ العراق. يعني تبقى فقط المكتبات الشخصية، يعني أنا الآن من آجي أشوف الكتب التي سُرقت من بيت الحكمة بيعت بنفس اليوم من سعر دينار ونصف 1500 إلى ربع دينار 250.

عبد السلام أبو مالك: كان الباحثون والدارسون من طلبة الدراسات العليا يجدون في دار الكتب ضالتهم من المراجع والوثائق النادرة التي تعينهم على إعداد رسائلهم وأطروحاتهم.

ياسين الحسيني: يا أخي، هذه فيها مليون كتاب كان.. مليون كتاب، أحد لا يصدق هذا الشيء مليون كتاب فيها. زين؟ اللي.. اللي سُرق منها، الآن أنت ما تقدر تعيد مليون كتاب.

عبد السلام أبو مالك: ومن حسن الحظ أن بعضاً من الكتب والمراجع أفلتت من ألسنة النيران وقد وجدناها محفوظة في أكياس داخل مبنى المكتبة وبعضها نُقل إلى أماكن آمنة قبيل سقوط العاصمة.

كامل جواد عاشور (مدير عام دار الكتب والوثائق بالوكالة): المسؤولين اللي موجودين في هذه الدائرة اتخذوا بعض الاحتياطات ومنها أنه نقل بعض الكتب ليس كلها بعض الكتب النادرة والمهمة، وبعض الوثائق المهمة أيضاً والنادرة نُقلت إلى مكان آخر، مكان أمين وحُفظت فيه، أما ليس كل الكتب النادرة والمهمة قد أنه تم نقلها، ولكن بعض منها وكذلك بعض من الوثائق.

عبد السلام أبو مالك: كما قام متطوعون بالحفاظ على بعض الكتب والوثائق ونقلوها إلى أحد الجوامع الموجودة في مدينة الثورة حيث لا تزال محفوظة هناك.

جاسم خضير (متطوع في هيئة حماية المكتبة الوطنية): توجهنا مع شاحنتين إلى مكتبة دار الكتب والوثائق الوطنية وتم نقل.. الحمد لله تم نقل الكتب بمعدل خمسة أيام ما يقارب، وكنا نتعرض إلى الإطلاقات النارية وعدم وجود الأمن الموجود، وذلك حفاظاً على الكتب.. وهذا يدل على أنه التراث العراقي عزيز علينا.

عبد السلام أبو مالك: ويفترض أن تعود هذه الكتب إلى دار الكتب والوثائق بعد ترميمها إن بقي فيها ما هو قابل للترميم.

كامل جواد عاشور: إحنا دائرة محطَّمة، وننتظر أنه الجهود اللي يقوم بها البعض والآن إحنا نعتبر يعني قوات التحالف هي المسؤولة عن تعمير هذه الدائرة وترميمها، ولا يعني بصراحة لا يفيدها ترميم هذه الدائرة لابد وأن إعادة البناية من إعادة تعميرها، لأنه الترميم لا يفيد لأن معظم السقوف قد تخلخلت والدونك أيضاً، ولذلك أنه مجموعة المهندسين اللي إجوا وكتبوا تقريرهم، كتبوا في تقريرهم أنه لابد من قلع بعض الطوابق وإعادة تعميرها من جديد.

عبد السلام أبو مالك: كانت دار الكتب والوثائق تضم كتباً قيمة مما أصدرته المطابع ومما أهداه علماء العراق ومثقفوه من مكتباتهم الشخصية، كما كانت تضم وثائق وسجلات تؤرِّخ لتاريخ العراق القديم والحديث.

والله وحده يعلم ما ضاع من هذه الثروة المعرفية وما ظل محفوظاً لم تمسسه يد التخريب.

حجم الخراب الذي لحق بالمجمع العلمي العراقي

تركنا دار الكتب والوثائق وتوجهنا إلى مؤسسة ثقافية أخرى لم تسلم من عبث العابثين، إنها المجمع العلمي العراقي، وهو واحد من المجامع اللغوية العربية التي تُعنى بسلامة لغة الضاد وترجمة المصطلحات الأجنبية.

قد لا يتصور المرء أن عجلة النشاط الثقافي والعلمي يمكن أن تتوقف في هذا المجمع الذي كان يعج بالحياة منذ إنشائه قبل ستة وخمسين عاماً، فمكتبته التي كانت تضم أكثر من خمسين ألف كتاب باللغة العربية وعشرة آلاف كتاب باللغتين الكردية والسريانية نُهبت وسُرقت منها كتب ومخطوطات ثمينة، وما تبقَّى منها بُعثر على الأرض ومُزِّقت أوراقه، ولا تزال هذه المطبوعات شاهداً على النشاط العلمي للمجمع وعنايته باللغة العربية، وترجمة المصطلحات العلمية وتعريبها.

د.طلعت الياور (أستاذ في علم الآثار-عضو المجمع العلمي العراقي): ما تعرض له المجمع العلمي في الوقت الحاضر لم يتعرض بلد أو مؤسسة أكاديمية أو علمية إلا في عهد المغول التتار اللي هم أيضاً قاموا تقريباً بنفس العمل بتمزيق الكتب ورميها بالنهر وإحراقها وقتل العديد من العلماء، الآن تحت ظل الاحتلال وبمباركة من الجنود المحتلين الأميركان اللي هم شجَّعوا قسم من هؤلاء أن يدخلوا إلى مثل هذه المؤسسات للعبث بها وسرقتها وإحراقها، ولم يبقَ في المجمع من المخطوطات إلا سُرقت، وهناك من الكتب الثمينة اللي هي أيضاً أصبح مصيرها الدمار.

عبد السلام أبو مالك: وسعياً لإعادة بعض الحياة إلى هذه المؤسسة الثقافية عقد أعضاء الهيئة العامة اجتماعاً تمهيدياً للتداول في كيفية إعادة تنظيم المجمع والحفاظ على كيانه، وطالب المجتمعون بتوثيق ما سُرق وإجراء تحقيق حول ما حدث وإعادة ما يمكن إعادته.

د.ناجح محمد خليل الراوي (الرئيس السابق للمجمع العلمي العراقي): بجهود أعضاء المجمع نأمل أن نعيد الحياة إلى هذا المجمع من جديد.. نحاول نجمع الكتب ما نتمكن من إعادته، وخاصة الكتب الثمينة التي لها قيمة تراثية، المخطوطات بشكل أساس نأمل أن نتمكن بمحاولة إعادتها لأنه سُرقت هذه المخطوطات الثمينة من المجمع.

عبد السلام أبو مالك: وفي خطوة عملية بادر الأعضاء إلى التبرُّع بمبلغ مالي لصرف رواتب الحرَّاس وبعض الموظفين الإداريين، لكن أعمال السلب والنهب التي طالت أجهزة الحاسوب وأفرغت المجمع حتى من أثاثه تجعل من إمكانية عودة الروح إلى هذه المؤسسة الأكاديمية أمراً صعباً في المدى القريب على الأقل.

تعريب المصطلحات عمل أساسي في تثبيت اللغة العربية السليمة في مجال العلوم، وهذه إحدى المهام الرئيسية التي كان يقوم بها المجمع العلمي العراقي في بغداد، ولكن لم يتبقَ من كل البحوث والمخطوطات سوى هذه الأوراق والكتب المبعثرة.

والأمر ذاته ينطبق على مؤسسات أخرى كان حكم الدمار فيها أكبر، فمكتبة الأوقاف التي قيل إنها تضم نفائس المخطوطات وواحدة من أقدم النسخ المخطوطة من القرآن الكريم أتت عليها النيران، وكذلك كان الحال في مكتبة الدراسات العليا التابعة لكلية الآداب بجامعة بغداد، التي أصبحت رماداً.

وما لم يُحرق أو ينهب دُمِّر وخُرِّب في العديد من المؤسسات التربوية والتعليمية، وكأنما كان المقصود من كل ذلك تجريد العراق من ماضيه واستباحة حاضره ومستقبله الثقافي.

فارس طه فارس (مهندس مدني): العراقيين محتاجون إلى العلم وإلى استمرار التعليم حاجتهم إلى الماء والكهرباء، لأن العراقيين.. ناس علميين وناس يحتاجون لتعويض ما فاتهم.. ما فاتهم من عجلة التقدُّم، فأنا أعتبر إن صدام حسين ساهم في تأخير عجلة التقدُّم العلمي ولكن أميركا أوقفتها نهائياً.

عبد السلام أبو مالك: ورغم الأضرار الجسيمة التي لحقت بمؤسسات العراق التعليمية والثقافية فإن شواهد التاريخ التي تزخر بها مدنه تُذكِّر بأن معاول الهدم لا تكفي لطمس حضارة الشعوب وتراث الأمم.

يُحكى في كتب التاريخ أن الخليفة العباسي المأمون كان شغوفاً بكتب الفلسفة والحكمة حتى إنه كان يشترط على بعض ملوك الروم في أي معاهدة يعقدها معهم إرسال نفائس الكتب إلى بغداد، كان ذلك عندما بلغت الحضارة العربية أوجها، وكما هو معروف فقد ضاعت هذه النفائس عندما سقطت بغداد على يد المغول، وما رأيناه من حرقٍ ونهبٍ وتدمير في سقوط بغداد الثاني هو دليل على أن التاريخ يعيد نفسه، لكن بغداد كانت دائماً كطائر العنقاء الأسطوري ينبعث كل مرة من تحت الرماد.

أما أهل بغداد فلسان حالهم قول شاعرهم الكبير بدر شاكر السيَّاب:

لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم

لك الحمد إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم

ياسين الحسيني : أقول شيء واحد أنه الحقيقة يعني قوات الاحتلال كانت هي المساهم الأول والأخير في هذه العملية، وأنا أقول إن شاء الله كل من مد إيده على دار الكتب والوثائق أو على المتحف العراقي أو على مكتبة بغداد أو المجمع العلمي أن لا.. إن شاء الله لا يرى العافية في حياته، وإن شاء الله هذا الشخص يبقى طول حياته مجرد من الدين ومن الإيمان، والله لا يرضى عليه.