نقطة ساخنة

الصراع الدولي في آسيا الوسطى

جمهوريات آسيا الوسطى بعد عشر سنوات من الاستغلال، التاريخ والجغرافيا السياسية، الأرض والإنسان والإسلام والطفرة النفطية، التحديات الداخلية والصراع الدولي، القواعد العسكرية الأميركية وخصوصية الدور الصهيوني في حلقة أولى من كزاخستان.

مقدم الحلقة:

أسعد طه

تاريخ الحلقة:

31/01/2002

– طريق الحرير.. رابط بين الشرق والغرب عبر التاريخ
– كزاخستان بين الحكم الشيوعي والمعارضة الإسلامية
– الصراع السياسي والاقتصادي والتغلغل الإسرائيلي في آسيا الوسطى
– أحداث سبتمبر والنفاذ الأميركي في المنطقة

undefined

أسعد طه: لا يمل السيد المهاب كل يوم يصرخ في الغثاء، هلموا سآتيكم بشيء عجاب، يلتف حوله منا الساذجون، والأغنياء المنكسرون، يصعد هو إلى منصته، يخرج من جعبته بضاعته، قيم مزركشة، وأقنعة، أشياء مبهرة ومسكرة، أخرى قال إنها لازمة، فإذا ما انتهى من لعبته الكبرى، وعاد الجميع إلى بيوتهم، تحسسوا جيوبهم، فإذا هي خاوية، وإذا السيد المهاب يعود إلى قصره غانماً.

السلام عليكم، آسيا الوسطى، وما أدراك ما هي آسيا الوسطى، مهد المعرفة والثقافة والسلطة، قلب العالم ومركزه، طريق الحرير، أرض ما وراء النهرين، آسيا الوسطى، وما أدراك ما هي آسيا الوسطى، امتداد طبيعي للعالم الإسلامي، حاضنة بخارى، وسمرقند، وطشقند، بلاد الترمذي ومسلم والخوارزمي وابن سينا والخرساني، آسيا الوسطى، إغراءات يسيل لها لعاب القوى الكبرى، ترسانة نووية سابقة وقوة اقتصادية صاعدة، وثروة نفطية مكتشفة، وموقع استراتيجي غاية في الأهمية، آسيا الوسطى، سبعة عقود من الهيمنة الشيوعية، عشرة أعوام من الاستقلال، ومن الإدعاء بأنها باتت معقلاً من معاقل الأصولية الإسلامية، آسيا الوسطى، الإسلام والثروة واللعبة الكبرى .

طريق الحرير .. رابط بين الشرق والغرب عبر التاريخ

undefined

ما أن تطأ قدماك الأرض هنا حتى تجد كل ما حولك يستفز ذاكرتك التاريخية، لتصبح أسير حلم رائع، ومشهد بديع، قباب زرق ونقوش وزخارف، ومساجد ومدارس، وحشود من الناس تملأ الأسواق، وتتكلم العديد من اللغات، وقوافل طوال تتحرك في الطرقات المغبرة، تحمل الأحجار الثمينة، والتوابل والأصباغ والذهب والفضة، والطيور الغريبة، ذلك أن بوجودك في آسيا الوسطى، بت في قلب طريق الحرير، ذاك الطريق القديم الذي عرفه العالم منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وعلى مدى سبعة عشر قرناً من الزمان، ممتداً من الصين إلى البحر المتوسط، ينقل التجار عبره النفائس بين الشرق والغرب، ويكون سبباً في ظهور مدن، وانتعاش ممالك، ويسلكه غزاة وفاتحون، من الاسكندر الأكبر والفرس والرومان إلى جيوش الفتح الإسلامي، وجحافل جنكيز خان وهولاكو وتيمور لانك.

ب-رتفيلادجي (مؤرخ): كان الحرير من أهم البضائع المتداولة على هذا الطريق، وإلى جانب ذلك جرت عملية تبادل ثقافي وروحاني وخاصة من الغرب إلى الشرق، حيث انتقلت ديانات عظيمة مثل الديانة البوذية من الهند إلى الصين، وعبر أراضي آسيا الوسطى.

أسعد طه: طريق الحرير أفل نجمه منذ زمن طويل، لكن آسيا الوسطى ظلت كما كانت دوماً كتلة جغرافية واحدة تبلغ مساحتها حوالي أربعة ملايين ميل مربع، وهي محاطة بكل من روسيا والصين وأفغانستان وإيران وبحر قزوين، وتتقاسمها خمسة كيانات سياسية هي كازاخستان، وقيرغستان، وطاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان .

رحلة طويلة كانت لنا في أنحاء آسيا الوسطى، شاهدنا خلالها مختلف الأشكال الجغرافية من صحراء وبواد ووديان خضر وجبال، وعاصرنا شيئاً من نهاية صيفها القائظ وبداية شتائها القارص تهون الرائعة الأمر علينا، وتهون في الوقت ذاته من واقع أن آسيا الوسطى واحدة من أكثر مناطق الأرض انحصاراً، باعتبار افتقارها إلى منفذ على البحر.

وقد عرفت هذه المنطقة لدى العرب باسم بلاد ما وراء النهرين ، والنهران المقصودان هما نهر جيحون ونهر سيحون اللذان يصبان في بحر "الأورال"، والاسمان مستعاران من أسماء أنهار في الجنة. أن تذهب إلى آسيا الوسطي يعني أنك توغل في التاريخ الذي ستراه جاثما أمامك في الشوارع والأزقة علي حد سواء ، وما تراه سوف يثير في نفسك مشاعر متناقضة فأنت في قطعة عزيزة من العالم الإسلامي أهملناها نحن العرب علي مدي دهور ، وهي التي ضخت الكثير من العلماء الذي نسبنا بعضهم إلينا ، وأنت في الوقت ذاته في منطقة كانت يوماً ضمن الاتحاد السوفيتي نصير قضايانا العربية أو علي الأقل كما أوهمونا بذلك ، وهو كيان كان له المجد علي صُعد متعددة ، العلوم ، والآداب ، والفنون ، والقضاء ، والقوة العسكرية . فإذا كنت في عجلة من أمرك فإن التاريخ سيكتفي بأن يذكرك بمنعطفات فارقة في حياة آسيا الوسطي ، تلك التي عرفت الإسلام في وقت مبكر جداً ، تحديداً في القرن السابع الميلادي ، فيما رآهما الروس للمرة الأولى في القرن السادس عشر في عهد ( إيفان ) الرهيب ، وفي عشرينيات القرن القرن العشرين قررت السلطة السوفيتية الحاكمة آنذاك تقسيم آسيا الوسطي إلى جمهوريات بحسب حدودها وأسمائها القائمة حتى الآن ، ثم كان انهيار الاتحاد السوفيتي في أول تسعينات القرن العشرين ، وإعلان هذه الجمهورية لاستقلالها . والواقع أن أسماء جمهوريات آسيا الوسطي لا تدل إلى حد كبير علي غلبة المجموعة العرقية التي تُسمى باسمها الجمهورية ، علي سبيل المثال جمهورية كازاخستان لا يشكل الكازخ غالبية سكانها ، ونفس الحال بالنسبة إلى الجمهوريات الأخرى تقريباً ، والسبب أن (ستالين) الذي تم تقسيم هذه الجمهوريات في عهده كان حريصا علي بعثرة وحدة المنطقة وتنقيت الأعراق والأجناس بين أنحائها عبر عمليات تهجير السكان من الأعراق كافة إلى مناطق مختلفة تبعد عن موطنهم الأصلي حتى لا تكون هناك مناطق صافية عرقية ، كما أن رسم حدود هذه الجمهوريات متداخلة وغير منطقية حتى تصبح المسألة القومية والنزاعات الحدودية بمثابة قنابل موقوتة في المنطقة ، تماماً كما هو واقع الحال الآن . أكثر من مائة مجموعة عرقية ولغوية تنتمي لها الشعوب هنا، مما يعني أن المنطقة تفتقد تجانسها العرقي واللغوي، وتصبح الجغرافيا والتاريخ والدين هي العوامل التي تجمع بين شعوب آسيا الوسطى. إذا ما سرت في شارع رئيس بالعاصمة الأوزبكية طشقند، على سبيل المثال، فإنك ستلحظ تعددية واسعة في أنماط الوجوه، بدءاً من العربي والإيراني والأفغاني، مروراً بالهندي والمنغولي والصيني وانتهاءً بالسولافي والأوروبي ، غير أنه بوسعك أن تلحظ أن العاملين المؤثرين الرئيسين في المنطقة هما التركي والإيراني فاللغة التركية هي أساس اللغة التي يتحدثها الأوزبك والكرغيز والكازاخ والتركمان ، فيما الفارسية هي أساس لغة الطاجيك، ورغم أنها ليست هي اللغة الرئيسة لشعوب وسط آسيا، إلا أنها كانت لغة القضاء والأداء، واللغة المستخدمة من قبل النخبة المتحضرة، خاصة في مدن بخارى وسمرقند، أما عدد السكان هنا فإنه يزيد على 50 مليون نسمة موزعة كالآتي، حوالي 25 مليون نسمة في أوزبكستان، 16 مليون نسمة في كازاخستان، ستة ملايين ونصف المليون نسمة في طاجكستان ، وخمسة ملايين نسمة في قيرغستان، ومثلهم في تركمنستان، والغالبية الساحقة من السكان هنا هم من صغار السن، وأكثرهم إن لم يكن كلهم متعلمون، كما هو الحال في كافة مناطق الاتحاد السوفيتي، الذي كان حريصاً على مكافحة الأمية، ويلاحظ أيضاً في شوارع مدن آسيا الوسطى ارتفاع ملحوظ في نسبة النساء، فيما عادات وتقاليد الناس من أهل المنطقة تبدو (مخترسة)إلى حد ما بتقاليد الروس الذين يعيشون هنا، وهم الذين أرسلوا من قبل موسكو على فترات مختلفة، بهدف تغيير الخريطة الديموغرافية .

سِرْ في شوارع أية عاصمة شئت من جمهوريات آسيا الوسطى الخمس، أو أي من مدنها أو حتى قراها، وتخيل أن شعوب هذه المنطقة تعرضوا على مدى سبعين عاماً إلى حملة شرسة مورست خلالها كل الوسائل المادية والنفسية البشعة، بهدف حملهم على التخلي عن دينهم، ثم انظر إلى الحال الآن، ستجد عجباً ، سنوات الشيوعية السبعون لم تقتلع الإسلام من نفوس أهله وكل ما نجحت فيه هو إقصاؤه عن الحياة العامة، لقد غاب الإسلام عن الممارسة اليومية للناس هنا، واختلطت به الخرافات والتقاليد المحلية، لكنه ظل ساكناً في نفوس الناس، محتلاً ركناً أساسياً في هويتهم، وكأن من حملوه لهم في القرن السابع الميلادي قد أقسموا أنه جاء ليبقي ، وهو الأمر الذي تحقق، وظل الناس هنا في أغلبهم من المسلمين السنة، وعلى المذهب الحنفي .

لاشك إذن في أن آسيا الوسطى امتداد طبيعي للعالم الإسلامي، وهو ما يضيف قيمة إلى أهميتها الاستراتيجية، المتمثلة في موقعها الهام الرابط بين آسيا وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط الحقيقة أن آسيا الوسطى توصف بأنها حلقة وصل حرجة بين الشرق والغرب، وجسر يربط بين أوروبا وآسيا، أو بالأحرى بين المسيحية والإسلام، وهي تتمتع بموقع له أهمية على صعيد الجغرافيا السياسية، وإذا عدنا إلى الخريطة نجد أن آسيا الوسطى مطوقة من الشرق بقوة عظمى صاعدة هي الصين، ومن الشمال بمستعمرها السابق روسيا، ومن الجنوب بدولة غرقت في فوضى العنف وهي أفغانستان، وجمهورية أصولية إسلامية هي إيران، وعلى مقربة من دولة علمانية هشة تبحث عن دور إقليمي وهي تركيا، كما أنها على مرمى حجر من منطقة الخليج، ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية بالنسبة إلى الغرب، وأمن الكيان الصهيوني، هذا الموقع الاستراتيجي يزداد أهمية إذا ما عرفنا أن المنطقة تحتفظ بثروة مادية هائلة، وهي تمتلك إحتياطياً ضخماً من الموارد الطبيعية، كالنفط والغاز الطبيعي والفحم، والمواد المعدنية، والمعادن النادرة، فضلاً عن مساحات شاسعة من المراعي الجيدة، والأراضي الزراعية الخصبة ، على سبيل المثال، فإن الأراضي المزروعة في جمهورية كازاخستان كانت تشكل 20% من مساحة الأراضي المزروعة في الاتحاد السوفيتي السابق، كما أن هذه الجمهورية كانت تمتلك 60% من مصادر الاتحاد السوفيتي المعدنية، من حديد وفحم ومعادن متنوعة تستخدم في الطاقة النووية والصواريخ، أما جمهورية أوزبكستان فإنها تعد ثالث أكبر منتج في العالم للقطن، بينما تمتلك جمهورية تركمنستان إحتياطياً ضخماً من الغاز الطبيعي تحتل به المركز الرابع على مستوى العالم بعد روسيا والولايات المتحدة وإيران، غير أن الأهم هو إعلان اكتشاف كميات ضخمة من النفط لدى بحر قزوين، وأشارت التقديرات الأولية أن هذه الكميات تبلغ 150 مليار برميل من البترول، وربما مثلها من الغاز، فيما إجمالي الاحتياطي المؤكد لبحر قزوين هو 2.3% من احتياطي العالم.

جاكسبيك كولكييف ( وزير الاقتصاد الكازاخي ): نحن اليوم ننتج 35 مليون طن من خام النفط والغاز، ونريد خلال السنوات العشر المقبلة رفع مستوى الإنتاج إلى أن يصل ما بين 100 و150 مليون في السنة، ما يعني زيادة ثلاث مرات على واقع الحال الآن، وهو ما يتطلب زيادة في مجال الاستثمار.

أسعد طه: التنقل بين بلدان آسيا الوسطى المترامية الأطراف يمنحك شعوراً بأن عالماً آخر قد خرج فجأة إلى الوجود، أو بالأحرى عاد من طيات الماضي العتيق، عالم غني بثرواته التاريخية، وتراثه الحضاري وإسهاماته الإنسانية، فضلاً عن رصيد ضخم من معاناة خلفها استعمار روسي، لطالما اتخذ أشكالاً مختلفة على مدى حقبة زمنية طويلة، الصورة يبدو هكذا، انهار الاتحاد السوفيتي فخرجت من تحت عباءته خمس دول في آسيا الوسطى، سرعان ما اكتشف أن على سطحها تعيش كتلة إسلامية معتبرة، وفي باطنها ثروة نفطية ضخمة، فحار أصحاب الأمر، كيف يتسنى لهم ضرب عصفورين بحجر واحد، وكانت الفكرة إعادة بناء طريق الحرير من جديد، لن يكتفي عبره بنقل الحرير والبور سلين ، والأسلحة كما كان يوماً، وإنما أيضاً خطوط أنابيب تضخ النفط إلى الخارج، وتجلب الغرباء وثقافتهم إلى الداخل.

[موجز الأخبار]

كازاخستان بين الحكم الشيوعي والمعارضة الإسلامية

undefined

أسعد طه: مازلنا في آسيا الوسطى، وها نحن تحديداً في ( أستانا ) عاصمة كازاخستان، أكبر جمهوريات آسيا الوسطى، وحيث يتجلى هنا بصورة واضحة أبعاد الصراع الدولي للاستحواذ على مقدرات المنطقة، غير أن ثمة ما يستدعي التعرض له قبل الخوض في مسألة الصراع الدولي، وهو الواقع الداخلي.

فاق واقع الحال كل توقعاتنا، والتهمت أسفارنا داخل كازاخستان نصيب الأسد من وقتنا المخصص لكل جمهوريات آسيا الوسطى، وهو أمر ليس بغريب لدولة تبلغ مساحتها مساحة أوروبا الغربية، وتحتل المركز التاسع على قائمة أكبر بلاد العالم، والمرتبة الثانية بعد روسيا على قائمة كبرى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، إقامة طويلة إذن في كازاخستان، زرنا خلالها العاصمة إستانا، ومدن (ألمآتي ) ( وأتراو ) و( أكتاو ) و ( سيمبلاتنسك ) و ( بافلودار ) و ( شينكنت) وتركستان ، ولأن البلاد مترامية الأطراف فإن فروقاً للتوقيت تفصل بين أنحائها المختلفة، وتقسمها إلى ثلاث مناطق زمنية، لكن على اختلاف الأزمنة والعصور، فإن شعب كازاخستان المنحدرة من أصل تركي، ظل في نظر التاريخ أكثر شعوب آسيا الوسطى بأساً، وقد أبدى الكازاخ بطولة حقيقية في الكفاح ضد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية حتى أن أكثر من مائة منهم نالوا لقب بطل الاتحاد السوفيتي، وهو ما حرص الكازاخ على تسجيله نصباً تذكارياً يشهد لهم بالبطولة، ويذكر الأحفاد بمجد الأجداد، أو ربما يحذرهم من التفاني في الدفاع عن سلطة لا تنتمي لطين الوطن، وعلى ذكر السلطة فإن هاهنا كما هو الحال في كل آسيا الوسطى في قبضة نخب كانت يوماً كوادر حزبية في الإدارة السوفيتية انتقلت إليها السلطة تلقائياً بمجرد تفكك الاتحاد السوفيتي ، وكل ما قمت به هذه النخب هو تغيير شكلي .

في الأسماء والهيئات، الرئيس نور سلطان نزار باييف أتى إلى سُدة الحكم للمرة الأولى عام 89 كسكرتير للحزب الشيوعي الكازاخي، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وحصول كازاخستان على استقلالها بات هو ولا يزال أول رئيس لكازخستان.

إفغيني جوفيتش (منظمة حقوق الإنسان الكازاخية): في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من الاستقلال كان واضحاً أن النخبة السياسية لما بعد الاتحاد السوفيتي تريد أن تلحق بالمجتمع الدولي وأن تنخرط في إطار التجارة الدولية واضعة في الاعتبار أن كازاخستان بلد غني فيما يتعلق بالمصادر الطبيعية، كما كانت تطمح إلى أن يتم الاعتراف بها، وأن تصبح عضواً في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية الأخرى، وكانت النخبة السياسية تعتقد آنذاك أن المجتمع الدولي خاصة الغرب مهتم بالإصلاحات الديمقراطية ومراقبة حقوق الإنسان، فتكوَّن العديد من المنظمات غير الحكومية ومنظمات الإعلام الجماهيري وأحزاب سياسية معارضة.

أسعد طه: غير أن هذه النخب الحاكمة ذات الماضي الشيوعي وجدت أن الاستمرار في هذا الدرب الديمقراطي قد يكلفها صولجان الحكم، في الوقت الذي أدركت فيه أن الغرب مستعد لغض النظر عن أي انتهاكات للديمقراطية وحقوق الإنسان إذا ما ضمنت له هذه النخب مصالحه في المنطقة.

إفغيني جوفيتش: لقد عادوا إلينا عام 95 بفض البرلمان، ثم بمذكرة تمديد السلطة الرئاسية حتى سنة 2000، ومن ثمَّ استبدال الدستور بآخر أكثر فاشستية وبسلطة رئاسية مركزية، كما حُلت أيضاً المحكمة الدستورية، وتم تبني العديد من التشريعات والقوانين الجديدة من أجل تحجيم الحريات المدنية ووسائل الإعلام الجماهيري وانتهى الأمر بانتخابات مزيفة عام 2000.

أسعد طه: لكن الملفت أن لا أحد يكترث لهذا الأمر، بمعنى أن لا وجود لجماعات معارضة حقيقية ومؤثرة، والمواطن الكازاخي لا يُبدي اهتماماً بالشأن السياسي، وهو مهموم إما بتصيُّد نصيبه من الانفتاح الاقتصادي الذي تشهده البلاد أو مواجهة الأعباء المادية المترتبة على هذا الانفتاح، ويبدو أنه ترك السياسة لأهلها، وأهلها هنا هي عائلة الرئيس الحاكمة المتحكمة في السياسة والاقتصادي والإعلام عبر سيطرتها على نصيب لا بأس به من ثروة البلاد البترولية، وكذلك على وسائل الإعلام الموصوفة بالمستقلة والمملوكة لبنت الرئيس، هذا الرئيس المنحدر من عائلة مزارع في قرية صغيرة، والذي نجح في أن يؤمن لنفسه نفوذاً سياسياً وثروة جعلته كما يشاع واحداً من أكثر الرجال في العالم ثراءً.

إفغيني جوفيتش: النظام والهيكل في حاجة للتغيير، خصوصاً وأن الثروة الاقتصادية للبلد مركزة في أيدٍ قلة أو عائلة أو عشيرة، وبصراحة فإن هذه العشيرة أو العائلة تتحكم في البلاد وتحتكر اتخاذ القرارات بخصوص أي مسألة، بدءًا من الخصخصة وانتهاءً بالاستثمارات المشتركة، وليس هناك من يكترث بالقانون، وإنما ينصب الاهتمام على العلاقات الشخصية، ولسوء الحظ فإن مواجهة الفساد المنظم أكثر صعوبة من مواجهة الفساد الشخصي.

أسعد طه: يتردد هذا الحديث في أسماعنا ونحن نتجول في شوارع العاصمة ( أستانا )، ونشاهد عمليات البناء مازالت جارية، وبعضها بتمويل عربي خليجي لاستكمال تشييد بنايات الدولة الرسمية بعد أن تم نقل العاصمة إلى هذه المدينة عام 97، فنقل العاصمة إنما جاء سعياً إلى قطع الطريق على الأطماع الروسية في الشمال حيث تقع العاصمة الجديدة، وفراراً من خطر الحركات الإسلامية القادم من الجنوب إلى أشهر مدن الجنوب إذاً، إلى ( شيمكنت ) التي تبعد عن العاصمة القديمة (ألمآتي) بمقدار ساعتين من الدعاء والتوسلات إلى الخالق في طائرة غير صالحة للاستخدام الآدمي، وهي طائرة لو كان قد استخدمها جنكيز خان ربما ما كان قد وصل إلى هذه المدينة ودمرها قبل أن يحتلها الروس عام 1864، ويُعيد بناءها في عهد الاتحاد السوفيتي، (شيمكنت) بسكانها البالغ عددهم 400 ألف نسمة تُعد من أفقر مناطق كازاخستان وأكثرها التزاماً بالإسلام في آن واحد، وهو ما يعزز نظرية أن الفقر يوفر مناخاً مناسباً لانتعاش الإسلام السياسي، وهو أمر مردود عليه، بأن المقاطعات الجنوبية الغربية من كازاخستان كانت على مدار التاريخ أكثر إسلامية من أنحاء البلاد، هذه المنطقة تشهد تنامي حركات إسلامية محلية وأخرى يتم تصديرها إلى هنا عبر دول مجاورة، ورغم أن الكازخ ليسوا شعباً ثورياً إلا أنه يُعتقد أنهم أكثر شعوب المنطقة من حيث القابلية للتأثر بالحركات الأصولية الراديكالية.

دوسيام سابتاييف ( محلل سياسي ): أعتقد أن جنوب كازاخستان واحد من أخطر المناطق في بلادنا، وسوف تزداد الأوضاع هنا سوءاً في المستقبل، لأن هذه المنطقة فقيرة جداً، ويمكنك أن تجد بها الكثير من العاطلين من العمل، ويمكننا أن نرى الكثير من الاتجاهات العدوانية هنا، وهذا هو السبب كي أعتقد أنه في جنوبي كازاخستان خُلقت بيئة مثالية لنمو الأفكار الراديكالية المختلفة.

أسعد طه: نعود إلى العاصمة القديمة التي بُنيت في الماضي القديم على ارتفاع 2600 قدم من سطح البحر لتكون بمثابة واحة جميلة يستأنس بها المسافرون عبر طريق الحرير الشهير، وقد طورها الروس بعد اجتياحهم المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبعد الثورة البلشيفية مُنحت اسماً جديداً وهو (ألمآتي)، أي مدينة التفاح، وأصبحت هي العاصمة عندما قرر الاتحاد السوفيتي تشكيل جمهورية كازاخستان الاشتراكية عام 29، ستلاحظ في شوارع ألمآتي أن السكان البالغ عددهم مليوناً ونصف المليون نسمة يبدون في مشهد عرقي مختلط، والحقيقة أن كازاخستان هي أكثر جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق من حيث التعددية العرقية، على سبيل المثال فإن حوالي 50% من سكان هذه الجمهورية ليسوا من الكازاخ، والغالبية العظمى من هؤلاء هم من الروس الذين أُرسلوا إلى هنا للاستيطان ضمن خطط تهدف تغيير تركيبة الخريطة السكانية، وكانت بأياديهم مقاليد الأمور على الصعيدين الاقتصادي والسياسي خلال الحكم السوفيتي.

لقد بدى لنا خلال زيارتنا للمنطقة أن بذور الصراعات العرقية هنا إنما تم بذرها خلال حقبة الاتحاد السوفيتي الذي ما أن انهار حتى وجدت كثير من المجموعات العرقية نفسها بعيداً جداً عن موطن أجدادها، وهو ما أدى بدوره إلى صراعات حدودية بين دول آسيا الوسطى

دوسيام سابتاييف: نحن ليس لدينا فقط تأثير الحركات الإسلامية، ولكن لدينا أيضًا التناقضات بين كازاخستان وأوزبكستان ويقول بعض خبرائنا إن المستقبل قد يشهد قيام بعض العناصر الراديكالية من الحركات الإسلامية والجماعت الأخرى باستغلال هذه التناقضات لإحداث ثورة وربما بسبب الوضع بين أوزبكستان وكازاخستان قد تشتعل حرب حدودية ستكون عواقبها سيئة جدًا.

أسعد طه: آفات التعددية العرقية وهيمنة العرق الاستعماري الروسي يمكن ملاحظتها بسهولة في كازاخستان، والواقع أن الكازاخ من أكثر شعوب المنطقة التي تعرضت لحملة شرسة من قبل الروس لمحو هويتهم وتاريخهم، وهي الحملة التي اجبروا خلالها على الاستعاضة عن الحروف العربية التي كانوا يستخدمونها قبل ثورة السابع عشر بالأبجدية السريالية فانقطع الكازاخ عن ثقافتهم المدونة بلغتهم بالأبجدية العربية. ها نحن في أحد الميادين العامة بمدينة ألمآتي وأمام نُصب تذكاري شيوعي بحت، إن رمز الجندي المجهول وقد بات ركنًا أصيلاً من طقوس الزواج، حيث يأتي الزوجان من الكازاخ ليتباركا قبل الذهاب إلى المسجد لإتمام مراسم الزواج في خلط عجيب بين المرجعية الدينية خصوصًا وأن الأخيرة قد انقلبوا عليها وأعلنوا استقلالهم عنها، ولذلك لن يكون مدهشًا لنا أن نرى سكان ألمآتي وقد أقاموا في أشهر الميادين احتفالاً خاصًا بعيد البيرا مورست خلاله طقوسي لا هي قومية ولا هي دينية بالطبع، وإنما بالتأكيد تليق بالمناسبة.

على الصعيد الاقتصادي فإن حالة الانفتاح التي تعيشها البلاد قد أربكت غالبية شرائح المجتمع الذي فقد امتيازات العهد الشيوعي من التأمينات والمعاشات وغيرها فيما لم يُحصد ثمار هذا الانفتاح، ولعل من الأمور الغريبة أنه بينما تتدفق الشركات الأجنبية إلى كازاخستان فإن المواطنين يتدفقون إلى الخارج بحثاً عن فرصٍ للعمل مع ارتفاع نسبة البطالة في البلاد، والمحصلة أن المجتمع الكازاخي يعيش أزمة هوية وأخرى اقتصادية لينعكس ذلك أزمة اجتماعية.

دوسيام سابتاييف: في كل عام يزداد مستوى الدعارة، فتأتي الكثيرات من الفتيات الصغيرات من القُرى إلى ألمآتي، حيث إنهن في القرى لا يمكنهن أن يجدن عملاً، لذا يحاولن إقامة حياة جديدة في مكان آخر، وفي ألمآتي يمكنك أن ترى مختلف المستويات من الفحش، والكثير من الموظفين الرسميين يعملون في مجال الدعارة، وهذا المستوى المرتفع من الدعارة يتطور بشكل سريع خصوصاً وأن مجتمعنا لا يُدين الدعارة، لأن كل الناس يعرفون أن هؤلاء النسوة إنما يحاولن فقط الحياة، يكسبن بعض المال لأنفسهن ولعائلاتهن، ولأولادهن.

أسعد طه: هذه النظرة غير السلبية إلى الدعارة والقائمين عليها أسهمت في أن تكون كازاخستان أكثر جمهوريات الاتحاد السوفيتي التي تنتشر بها هذه الظاهرة، هذا الاتحاد المنهار الذي باتت جمهورياته تحتل مركز الصدارة على قائمة الدول المصدرة للدعارة في العالم.

هذه المعطيات الداخلية أفسحت المجال أمام القوى الكبرى والإقليمية للتدخل في شؤون المنطقة ومحاولة السيطرة عليها، وهو ما دعا البعض لوصف ما يجري بأنه عودة إلى اللعبة الكبرى، وهو الوصف الذي كان قد أطلق على الصراع الذي دار بين روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى للسيطرة على آسيا الوسطى، وذلك منذ بدايات القرن التاسع عشر ولمدة قرنٍ من الزمان، جديد اللعبة الكبرى هو أن الولايات المتحدة الأميركية قد حلت محل بريطانيا، وأن أطرافاً متعددة قد باتت تشارك في اللعب على أرض آسيا الوسطى، وإذا كنا هنا قد عدنا إلى العاصمة الجديدة "أستانا" المقامة على ضفاف نهر أشيم الذي ينبغ من كازاخستان ويصب في سيبريا، فربما يكون من المفيد أن نتوجه إلى منطقة أخرى تُذكرنا بأن مصطلح اللعبة الكبرى الذي أُطلق على الصراع الدولي للسيادة على آسيا الوسطى إنما تم اقتباسه من المؤلف البريطاني (راديارت كبلنج) الذي عنون به كتابه "كيم"،و فيه يحكي قصة صبي يتيم، نصفه هندي، ونصفه الآخر بريطاني، يُجند من قبل المخابرات السرية البريطانية للقيام بمهام تجسسية في شمالي الهند.

نتوجه إذاً إلى ( أكتاو )، أحدث مدن كازاخستان، والمبنية عام 63 على الساحل الشرقي لبحر قزوين، ( أكتاو ) وتعني الهضبة البيضاء يسكنها 140 ألف نسمة، وقد تم استقدام غالبيتهم من المناطق المجاورة تماماً كما يتم استجلاب معظم المواد الغذائية ومياه الشرب، فالمدينة بُنيت في الصحراء، وهي التي كانت تعني يوماً للاتحاد السوفيتي منتجعاً على بحر قزوين ومحطة نووية هامة بما تملكه المنطقة من مخزون اليورانيوم، غير أن اكتشاف النفط بكميات ضخمة جعلها محل اهتمام الحكومة وجلب لها العديد من شركات الاستثمار الأجنبية لتصبح ( أكتاو ) منذ عامين هي ميناء كازاخستان الأول لتصدير النفط ومنتجاته، وكذلك المنتجات الغذائية المجففة، على كل حال سواء كنا في ( أكتاو ) أو في أي مدينة أخرى فإن كازاخستان كلها وهي التي كانت المخزن النووي للاتحاد السوفيتي المنهار ومركز تجاربه الفضائية تمتلك ثروات طبيعية ضخمة شأنها في ذلك شأن كل جمهوريات آسيا الوسطى، تلك التي جذبت أنظار القوى الكبرى بعد الإعلان أن منطقة بحر قزوين تحتوي على أهم احتياطي للنفط بعد منطقة الخليج العربي وسيبريا، يُقدَّر بحوالي مائة مليار برميل من البترول، وربما مثلها من الغاز، أما كازاخستان تحديداً فإنها تمتلك أحد أكبر حقوق النفط في منطقة بحر قزوين.

فاسيلي لاكيانشيكو ( محلل اقتصادي ): يوجد في كازاخستان ثلاثة مصانع لتكرير النفط، واحد في ( أتراو ) وهو من أقدم المصانع في الجمهورية، وتم تأسيسه في الأربعينيات، والثاني في ( شيمكنت )، والثالث في ( بافيودار )، وقد بُني في عام 78، والمشكلة أن القدرة الإنتاجية ضعيفة.

أسعد طه: نتجه إلى ( أتراو ) التي تُعد عاصمة البترول في كازاخستان، وهي التي كانت أول منطقة يتم اكتشاف البترول بها في كل البلاد عام 1899، وتقع ( أتراو ) شمالي بحر قزوين، لكنها تبعد حوالي 30 كيلو متراً عن شاطئه، ويسكنها مائة ألف نسمة، وعلى بعد مائتين وخمسين كيلو متراً من شرقها يوجد أكبر حقل نفطي في البلاد، ويُدعى ( تنجيس ).

جاكسيبيك كولكييف: تطوير قطاع النفط والغاز يتطلب استثماراً كبيراً، لقد بدأنا في جذب الاستثمار في مجال النفط والغاز ابتداءً من عام 93، وفي السنوات التالية ازداد الاستثمار كل عام إلى مليار دولار، أردنا توظيف الاستثمار المحلي وتطوير الاقتصاد الوطني، لكن للأسف الشديد منذ حصولنا على الاستقلال لم نتمكن من الحصول على موارد محلية، ولهذا يتطلب الأمر أن نبحث عن استثمار أجنبي.

أسعد طه: الاستثمار الأجنبي أتى بالطبع، وبلغ في كازاخستان أكثر من أربعين شركة بترول دولية، أغلبها شركات أميركية وفرنسية وبريطانية، غير أن هذه الطفرة النفطية أثارت إقليمياً ودولياً مشكلتين عظيمتين أولهما تقاسم الثروة بين دول بحر قزوين.

وثانيهما: طريقة نقل النفط إلى الخارج. خمس دول تطل على بحر قزوين هى إيران وروسيا ثلاث جمهوريات إسلامية خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي وهي أزرابيجان، وتركمنستان، وكازاخستان، والأخيرتان هما من جمهوريات آسيا الوسطي الخمس، والخلاف الناشب حول نصيب كل دولة من الثورة النفطية المكتشفة إنما يتطلب في الأساس تحديد الوضع القانوني لبحر قازوين، هل هو بحيرة مغلقة، أم بحراً مفتوح؟ فإذا تم التعامل معه، كبحيرة مغلقة، فإن هذا يعني أن المياه الإقليمية لكل دولة تمتد إلى عشرين ميلاً بحرياً، يليها عشرون ميلاً بحرياً أخر، يحق لكل دولة استغلالها اقتصاديا، ثم تظل المساحة المتبقية كمنطقة مشتركة توزع عائداتها على دول قزوين بالتساوي، وإذا تم التعامل مع قزوين على أنه بحراً مفتوح، فإن هذا يعني أن المياه الإقليمية لكل دولة تمتد إلى اثني عشر ميلاً بحرياً يليها مائة ميل بحري بحرياً أخر، يحق لكل دولة استغلالها اقتصاديا، أما المشكلة الأخرى فأنها تتعلق بنقل هذا النقط، وهناك أربع قوى خارجية تتنافس من أجل مد خطوط تصدير البترول عبر أراضيها وهي روسيا وإيران وتركيا والصين، كما أن هناك دولاً عديدة أخرى تتنافس من أجل المشاركة بشكل غير مباشر وهي أوكرانيا ورومانيا وبلغاريا ومقدونيا وألبانيا واليونان، فضلاً عن دول بحر قزوين التي تبحث عن سبيل لبيع منتجاتها.

في مدينة أتراو وفوق نهر الأورال، يمر جسم يمثل نقطة التقاء بين آسيا الواقعة على جانبه الشرقي، وأوروبا الواقعة على جانبه الغربي، وهو في الوقت ذاته مكان ملائم لأن نتذكر أن مسار خطوط الأنابيب والغاز سوف يؤثر على مستقبل اتجاه الجغرافيا السياسية، ومن أجل ذلك يدور صراع دولي حول المنطقة، صراع تتشابك فيه المصالح الاقتصادية والسياسية، ولا تتورع أطرافه عن إشعال الحروب في المنطقة من أجله، وهو هاجس يتملك الناس هنا، ولا يبدده هذا المشهد الرائع لغروب الشمس في مدينة أتراو، خصوصاً أن روسيا تبعد عن هنا ثلاثمائة كيلو متر، وفي هذا حديث أخر، روسيا أحد أضلاع إشكالية بحر قزوين، ولاعب رئيسي في آسيا الوسطي، والصفتان تتجليان بصورة واضحة في كازاخستان لما يمثله هذا البلد من أهمية، وفي الوقت نفسه فإن الدور الروسي يتكرر بصورة أو بأخرى في دول المنطقة كل حسب أهميته على قائمة المصالح الروسية، قائمة المصالح الروسية في المنطقة وفي كازاخستان على الخصوص، طويلة ومعقدة، ولهذا فإن تاريخ التدخل الروسي أيضاً طويل ومعقد، بل ومؤلم في أكثر الأحيان، بدأ من منتصف القرن السادس عشر، حين وصل إيفان الرهيب إلى مشارف بحر قزوين، ومروراً بعام ألف وثماني مائة وثمانية وأربعين الذي شهد ضم خانات كازاخستان، دمجًا كاملاً في الإمبراطورية الروسية، وما تبع ذلك من ثورات للتحرر قمعت بوحشية وفقدت البلاد خلالها ربع سكانها، وإنتهاء بزمن الاتحاد السوفيتي الذي دفعت كازاخستان خلاله ثمناً غالياً، وإذا أردت أن تعرف شيئا عن هذا الزمن أنصحك بالسفر إلى منطقة سيميبلاترك التي يسكنها مسلمون كازاخ فهناك سترى بنفسك مثالاً صارخاً لتجاوزات العهد السوفيتي، الذي اختص هذه المنطقة بإجراء حوالي خمسمائة تجربة نواوية على مدى أربعين عاما، خلفت دماراً وخراباً على الصعد السكانية، والبيئية، والصحية، والاقتصادية وتأثر بها حسب الإحصائيات الرسمية مليون وستمائة ألف مواطن، موتاً ومرضاً مزمناً وتشوهات خلقية ورغم أن هذه الوقائع المؤلمة مازالت محفورة في ذاكرة الكازاخ، إلا أن كازاخستان الآن وبعد أكثر من عشر سنوات من الاستقلال، مازالت في قبضة الهيمنة الروسية، هيمنة ثقافية ونفسية كما هي سياسية واقتصادية، وعسكرية، وهو الأمر الذي يعده المراقبون نتيجة طبيعية للسياسة التي انتهجتها موسكو منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، واستقلال جمهوريات آسيا الوسطى، والتي سارت في خطين متوازيين هما الكبح التدرجي لمحاولات التحرر الاقتصادي من القبضة الروسية، وكذلك وضع اليد على أى محاولة من محاولات البناء الذاتي للقوة العسكرية المستقلة.

undefined

جاكسيبيك كولكييف: بالفعل روسيا هي الدولة التي كانت ومازالت الشريك الاستراتيجي لكازاخستان في المجال التجاري، حيث تبلغ نسبة التعامل التجاري مع روسيا الفيدرالية أكثر من 60% من حجم تعاملنا التجاري، وبشكل عام فإن العلاقات الاقتصادية بين المؤسسات الصناعية والإنتاجية الكازاخية والروسية، تم الحفاظ عليها وهي في حالة تطور وخاصة في السنوات الأخيرة.

أسعد طه: سيدة توقف سيارة عادية وتستقلها، وهي ظاهرة منتشرة بعد أن دفعت الحاجة البعض هنا للعمل على سيارتهم الخاصة كسائقي أجرة، وإذا كنا على مقربة من ميدان "الجمهورية" في العاصمة الاقتصادية، ألمآتي، فإن تمثال الاستقلال المنصوبة هنا ربما هو كل ما حصلت عليه البلاد من استقلال فقد طوقت روسيا دول آسيا الوسطي بسلسلة من المعاهدات الاقتصادية، والأمنية كما أنها احتفظت على أراضي هذه الدول بقوات عسكرية رحبت بها الأنظمة الحاكمة، على أمل أن تساعدها وقت الشدة في قمع المعارضة التي هي في الأغلب معارضة إسلامية.

الصراع السياسي و الاقتصادي والتغلغل الإسرائيلي في آسيا الوسطى

دوسيام سابتاييف: بالنسبة لروسيا لقد حاولت خلال السنتين الأخيرتين خلق مظلة جديدة للأمن والاقتصاد، تحيط بكل دول وسط آسيا، التي ذهب رؤساؤها ليعرضوا ولاءهم لموسكو بعد أن أدركوا أنها تحاول الآن خلق علاقة خاصة مع دولهم، التي تواجه تهديدات من الجماعات الإسلامية المتطرفة، في شوارع ألمآتي سنلحظُ وجوداً روسياً مميزاً وهو أمراً طبيعي، باعتبار أن كازاخستان بين دول آسيا الوسطي تعيش بها أكبر جالية روسية، وهي الوحيدة أيضاً التي تحتفظ بحدود مشتركة مع روسيا، والوحيدة كذلك التي تعد اللغة الروسية فيها لغة رسمية إلى جانب الكازاخية بل إن هناك من الكازاخ من لا يتحدث لغته الأم، هذه الأسباب ليست هي وحدها التي تجعل موسكو تهتم بدول آسيا الوسطي، فالمنطقة تعد منبعاً للثروات الطبيعية ومركزاً لطفرة نفطية حديثة، وهي أسباب تدعو آخرين أيضا للاهتمام كتركيا وإيران والصين، غير أن النجاح دوماً لا يصادف الجميع.

أما الكيان الصهيوني فهو ليس ببعيد عن اللعبة الكبرى وربما هو أحد أطرافها الرئيسية، ويأتي اهتمامه بدول آسيا الوسطى في إطار أحد الأبعاد الرئيسية للإستراتيجية الإسرائيلية الشاملة وهو البعد المعروف باسم "شد الأطراف" الذي وضع أساسه (ديفيد بن جوريون) في الخمسينيات وتنهض الفكرة على إقامة علاقات إستراتيجية قوية بين إسرائيل وبين الدول المحيطة بالعالم العربي. ليس من المعلوم أسباب اختيار إسرائيل لزراعة القطن كمدخل أولى لآسيا الوسطي لكن المؤكد أن (آرييل شارون) قال عام 82 أمام لجنة الأمن والخارجية في الكنيست، إن الحد الشمالي لدائرة المجال الحيوي لإسرائيل يمر بدول آسيا الوسطى، وتوالت بعد ذلك تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، وترجمت إلى واقع عبر علاقات حميمة نمت بين الكيان الصهيوني وحكومات وسط آسيا، وخصوصاً كازاخستان، وإذا كان حجم الصادرات الإسرائيلية إلى آسيا الوسطي قد بلغ عام 88، أي قبل استقلالها حولا واحداً وخمسين مليون دولار، فإنه قد تضاعف اليوم عشرات المرات وبلغ نهاية عام 2000، حولا ثمانمائة مليون دولار، في مجالات السياحة والثقافة والطباعة والنشر والزراعة.

شيرين أكتر ( محللة سياسية ): يمكنني القول إن إسرائيل تعتبر واحدة من أكبر المستثمرين الأجانب ولها تاريخ طويل وتأثير كبير في دول وسط آسيا، حيث بدأت استثماراتها في مجال الزراعة وخاصة القطن في كل دول آسيا الوسطي الخمس، وهناك أيضاً صناعة الغزل والنسيج وصناعة الملبوسات، هذه الاستثمارات في طور الزيادة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.

أسعد طه: يقول المراقبون المتخصصون في المنطقة إن العديد من الدول تتنافس للتأثير في وسط آسيا إلا أن واحدة هي التي حازت النجاح الاقتصادي والسياسي بشكل أكبر في المنطقة بلا جدال، وهي إسرائيل، وهذه حقيقة نرى آثارها في مدينة ( بافلودار ) الواقعة في شمالي كازاخستان على بعد مائة كيلو متر من الحدود الروسية، وهي مدينة صناعية يسكنها ثلاثمائة وخمسون ألف نسمة، أغلبهم من الروس، وتعد مركز صناعة الألومنيوم بمصنعها الضخم الذي يضم أحد عشر ألف عامل.

دوسيام سابتاييف: إن المصالح اليهودية في كازاخستان الآن قوية جداً، على سبيل المثال، فإن للاسكندر ماسخوفيتش تأثيراً قوياً جداً في سياستنا، وهو زعيم أكبر مجموعة اقتصادية قوية ومؤثرة كمحتكر لصناعة الألومنيوم في كازاخستان، وهي الصناعة التي تضيف الكثير من المال كل عام لميزانيتنا فمنذ حوالي خمس سنوات منح الرئيس (نزار بايف) فرصة احتلال موقع قيادي في صناعتنا إلى السيد ( ماسخوفتيش ) وهذا هو السبب أنه يؤيد ويساند الرئيس بالمال والاتصالات مع العديد من رجال الأعمال في الخارج، وفي إسرائيل.

أسعد طه: يقال إن إسرائيل عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين، اشترت واحداً من أكبر معامل اليورانيوم في كازاخستان، بسعر أقل من ثلاثمائة ألف دولار أمريكي، واليورانيوم مكون أساسي في تطوير القنبلة النووية، وقد نجحت(المواد).. في نقل عدداً كبيراً من علماء الاتحاد السوفيتي السابق، إلى العمل في الصناعات العسكرية الإسرائيلية. من شمالي البلاد إلى جنوبها وعودة إلى ألمآتي، وزيارة إلى المعبد اليهودي حيث فاجأنا ترحيب القائمين عليه رغم علمهم بهوايتنا، وخلال متابعة الصلوات وتصوير المؤمنين سنتذكر أن الكيان الصهيوني نفذ إلى آسيا الوسطي تحت ستار الاقتصاد ومستعيناً بأبنائه المهاجرين من الاتحاد السوفيتي ومستغلاً الحاجات الأمنية.

دوسيام سابتاييف: خلال السنوات الثلاث الأخيرة، نتيجة الوضع الأمني من جراء المتطرفين الإسلاميين، تزايدت مصالح إسرائيل في كازاخستان، وقد زارتنا بعض الوفود الإسرائيلية من علماء وخبراء رسميين وسياسيين وحاولوا أن يكتشفوا ما يجري هنا، وفي آسيا الوسطي وما هي قوات وإمكانيات وقدرات الحركات الإسلامية وفي كازاخستان على أمل اكتشاف علاقات تعاون بين المجموعات الإسلامية في وسط آسيا وفلسطين، وقد حاولت الجهات العسكرية الرسمية لدينا إقامة علاقات مع العسكريين الإسرائيليين، لأن لدى إسرائيل خبرة كبيرة في قتال المتطرفين.

أسعد طه : الحاجات الاقتصادية والمخاوف الأمنية منفذان لإسرائيل إلى آسيا الوسطي والمنفذ الثالث هو اليهود المهاجرون من الاتحاد السوفيتي المنهار.

شيرين أكتر ( محللة سياسية ): هناك أيضاً جمعية يهودية في وسط آسيا ترعى اليهود البخاريين ومقرها بخارى، في السبعينيات هجر الكثير منهم إلى إسرائيل، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بدءوا العودة مجدداً إلى هنا محاولين بناء علاقات وفتح قنوات اتصال على كل المستويات الحكومية.

أحداث سبتمبر والنفاذ الأميركي في المنطقة

undefined

أسعد طه: أوشكت رحلتنا في كازاخستان على الانتهاء وهى رحلة كان ختامها صعباً فقد تزامنت مع أحداث سبتمبر/ أيلول، وهو ما يعني أن الصراع الدولي حول آسيا الوسطي والذي يحلو للبعض أن يطلق عليه اسم اللعبة الكبرى، قد قفز إلى مرحلة غاية في الأهمية والحساسية، بعد أن وجد اللاعب الرئيسي فرصة العمر للنفاد إلى مبتغاة، بعض الوعي وقليل من الشجاعة يمكن أن تجدها هنا بين المراقبين المحليين الذين يهابون الحديث أمام كاميرات التليفزيون عن الدور الأميركي الذي يرون أنه قد بدأ عام سبعة وتسعين، ببذل جهوداً حسيسه للبحث عن موطأ قدم في وسط آسيا، وتأسيس قاعدة أطلسية يطل منها على الإسلام الآسيوي، وتكون في الوقت ذاته قريبة من ثروات المنطقة التي يتقدمها غاز تركمنستان، ونفط بحر قزوين، ذاك الذي يتوقع له أن يصبح في المستقبل أكثر أهمية من نفط الخليج، الولايات المتحدة الأميركية تنظروا إلى آسيا الوسطي كموقع حيوي لمصالحها الإستراتيجية باعتبار الجوار، لقوة منافسة هي روسيا وإيران والصين، وتنظر أيضاً بعين الاعتبار إلى كازاخستان بصفة خاصة كوريث لرابع أكبر مخزون للأسلحة النووية في العالم، فضلاً عن الطفرة النفطية التي تعيشها البلاد، خصوصاً وأن الولايات المتحدة مهتمة جداً باحتياطي الطاقة لوسط آسيا، حيث إنها تفضل أن تخفض من اعتمادها على بترول الشرق الأوسط.

شيرين أكتر: حالياً معظم شركات النفط ليست شركات نفط وطنية، وإنما هي شركات تجارية مساهمة للقطاع الخاص ويمتلكها أصحاب أسهمها، بعبارة أخرى هي شركات متعددة الجنسيات، كذلك في بحر قزوين كل حقول النفط تم استغلالها عن طريق تأسيس شركات عالمية متحدة.

أسعد طه: غير أن من بين القوى الغربية، فإن الأميركان يتمتعون بسلطة حرة في المنطقة، بدون أي منافسة، ولذلك فإن شركة البترول الأميركية (شيفرن)، كانت أول شركة بترول تأتي من الخارج لتطوير مشروع مشترك مع حكومة كازاخستان، وقد رفض طلبنا بزيارة أي موقع نفطي أميركي.

شيرين أكتر: أظن أن الكثير من الاهتمام الغربي، وخصوصاً الأميركي حول نفط بحر قزوين ، سببه ودوافعه القلق السياسي، وزيادة حجم إنتاج النفط القزويني، يتم عن طريق زيادة استقطاب الاستثمار الغربي إلى المنطقة وتشجيعه، وهو الاستثمار الذي يحتاج إلى حماية.

أسعد طه: لم يكن أمام النخب الحاكمة في آسيا الوسطى أن تمتنع عن منح الولايات المتحدة الأميركية قواعد عسكرية، وهي التي تساعد هذه النخب في الحيلولة دون أن تسلبها الأصولية الإسلامية الحكم، كما أنها تتحصل على معونات أميركية مالية ضخمة، وهي معونات مشروطة أمام عيون العالم بإرساء قواعد المجتمعات الديمقراطية، غير أن هذه المهمة موكلة إلى قيادات ديكتاتورية تحمل ماضياً شيوعياً، ومتورطة بشكل واسع في جرائم فساد واختلاسات.

شيرين أكتر: أظن أنه منذ الآن فإن مصالح الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة محل ترحيب حكومات وسط آسيا، وهناك قاعدة عسكرية أميركية في أوزبكستان وهنالك أيضا محادثات عن ترتيبات مماثلة في طاجكستان، أعتقد أن أهالي وسط آسيا ينظرون إلى الموضوع على أنه طريقة للفوز بنفوذ ودعم الغرب، وهنالك البعض الذين يعتقدون أن هذا سوف يحد حتماً من الطموح الروسي المحتمل، وربما كذلك الطموح الصيني في المنطقة.

أسعد طه: لقد كانت أحداث سبتمبر/ أيلول ورفع شعار محاربة الإرهاب الدولي ذريعة هامة للنفاذ إلى آسيا الوسطى ضمن حرب تشنها الولايات المتحدة الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي لتصفية جيوب المقاومة للهيمنة الأميركية، وهي مهمة تساهم فيها قوى إقليمية ودولية في إطار لعبة كبرى تأمل أطرافها أن تخرج جميعها بما يناسب كلاً منها بجائزة والخاسر الوحيد هو الطرف الصامت.

المؤامرة صناعة غربية؟ ربما، نظرية عربية؟ جائز، لكن من المؤكد أن جديد النظام هو قديمه، القضاة هم الجناة، السلطان لمن يجيد الانحناء، ثروات الشعوب بيد المطففين، لعنة الله على الظالمين، ولكن ماذا عن الصامتين؟

السلام عليكم.