شيء من التاريخ

الثورة الجزائرية.. المخاض والميلاد

الثورة الجزائرية.. المخاض والميلاد وقوى الداخل والخارج، وعلاقة القيادات السياسية بالعسكرية، وآلية اتخاذ القرارات عبر مراحل الثورة، وصراع الأولويات بين السياسي والعسكري، وطبيعة الصراع بين أجنحة الثورة وفصائلها.

undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined
undefined

أسعد طه: لم تهدِ أي حرب من حروب التحرير من أرواح أبنائها ودمائهم مثلما أهدته هذه الثورة من أجل الاستقلال، هي حرب لا تشبهها حرب وثورة لا تماثلها ثورة.

السلام عليكم. لعل الثورة الجزائرية من أشد الثورات عنفاً وقتالاً، فيها سقط الشهيد تلو الشهيد حتى تجاوزوا المليون، وفيها نصب المستعمر قلاعه وأيقن أن أكثر من قرن وربع القرن من الوجود زمن كافٍ حتى ينسى تسعة ملايين جزائري أنهم جزائريون، وحتى يذوبوا في الوطن الكبير فرنسا وفي مليون من الأوروبيين، هؤلاء الذين اعتقدوا أو أوهمتهم الرؤى الاستعمارية أنهم على أرضهم يعيشون.

وكان لابد ن الثورة وحرب السنوات السبع حتى ينتهي الأمر بالجزائريين إلى الاستقلال لينهوا كل الطروحات الاندماجية ومقولة "الجزائر فرنسية" التي شكلت رهاناً بل تحدياً للحكومات الفرنسية المتعاقبة.

لم تفلح المحاولات الفرنسية المتكررة في احتواء كل القوى التي رفضت أنصاف الحلول، وراحت تطالب بالاستقلال التام عن فرنسا، ورغم أن المستعمر قد وجد في المجموعات الأوروبية المقيمة في الجزائر وفي الأجنحة المعتدلة في الحركة الوطنية بقيادة فرحات عباس عناصر مساندة لمطالب الاندماج الفرنسي الجزائري، فإن الوعي الوطني قد بلغ مدى بعيداً في الأربعينات، وأمكن للأحزاب السياسية أن تفلت من الحصار المضروب عليها من قِبَل المستعمر ومسانديه وتنشئ أجنحة أكثر راديكالية في التعامل مع المستعمر الفرنسي، وحتى أوائل الستينيات واجه المستعمر أشد ضروب المقاومة عنفاً وضرورة من قِبَل حركة مقاومة تعمل داخل الأرض الجزائرية كما خارجها لنرى بدءاً ما يحتفظ به الجزائريون من صورة وذكريات حول هذه الفترة من تاريخهم.

أحد رجال المقاومة الجزائرية1: كانت المراحل الأولى لسنة 56، 57 حتى بداية 58 كنا نحن المقاومين كنا نسيطر على الساحة، كان الفرنسيين وقتها في موقع دفاع ونحن في موقع هجوم. يعني هذا باختصار. لكن انقلبت الكفة بعد وضع الحواجز الحدودية اللي هي حدود.. اللي كانت على الحدود الشرقية وعلى الحدود الغربية أثرت فينا تأثيراً كبيراً وأصبحنا وقتها نعاني معاناة كبرى.

أحد رجال المقاومة الجزائرية2: ألقت القوات علينا القبض في سنة 1955م تجاوزت 18 شهر في مقتل اسمه "الجرف" يبعد على مدينتي يعني.. لمسيرة 17 كيلو متر. وفي الحقيقة وفي الواقع هذا الجرف هذا الـ 18 شهر كانت يعني بالنسبة لي هي جامعة شعبية، لأن كان فيه كل المثقفين باللغة العربية، بالفرنساوية، ثم بعد ذلك اطلعت على كل العوايد وكل العادات وكل حتى العيوب بتاع.. الجماهير بصفة عامة.

أحد رجال الثورة 3: بدنا بالنظام كيف بدنا النظام، شعب أمي، جاهل ما يدركش مصالحه ومنافعه ومفايدته. دايماً تصرخ بده شغل، بالفلاحين واللي تحسوا منهم ونعطوا لهم، نفهمهم ما معنى الثورة، ما هي الجهاد. هذا الطريقة اللي بدينا بها ننظموا في الشعب، وكونا خلاياً.. خلاياً في المشاتي، في (ردشر).. في المدن، في القرى. وبديت تنتشر منطلق الثورة.

أحد رجال الثورة 4: يعني إحنا في الناحية بتاعنا كان اللي يهزوا الهدف الداري يهزوا يعني.. كان هذا هناك يهزو، يعني وراحوا. ولكن يعني.. جاتهم واحد طيارة بتاع واحد يقولون اسم دايرة طيارة.. وبالمترليوز يقتل من الناحية بتاعنا ثلاثة، يعني.. ومن بعدها ومن بعد جابوا لنا العسكر.

أحد رجال الثورة 5: أية عملية يقوم بها أي فدائي فيدخل في إنجاحها مساهمة منهم عدد هائل من أعضاء الشعب، فهذا يأوي وهذا يرفع السلاح حتى يصلك إلى موقع العملية. وتلك تأخذها بعد العملية إذاً.. ثم بعد ذلك فيه ملاجئ يلجأ إليها الفدائي ويلقى الترحاب، ولهذا يعني إخضاعاً وإذلالاً لشعب من بعد.. فصارت السيطرة الإدارية الفرنسية لا تبحث عن المسؤول على قدر ما.. تريد أن تكسر المعنويات وإرادة الشعب في مساهمة وفي.. مساعدة الثورة على إنجاح عملياتها.

أسعد طه: على أن للثورة الجزائرية خصوصيات عديدة، لعل أبرزها تعدد وجوه المقاومة فيها، واختلاف استراتيجية التعامل مع المستعمر. ومع أن الهدف واحد فإن الثورة عرفت تقلبات لا حصر لها عصفت بالتحالفات، وأدت إلى الأزمة في أحيان كثيرة داخل صفوف النخبة التي تقود معركة الاستقلال من الداخل ومن الخارج.

من بيده كان القرار عبر مختلف مراحل الثورة، بيد الداخل أم بيد الخارج؟ ما طبيعة الخلافات التي نشأت بين القيادات العسكرية والقيادات السياسية؟ وما معنى أن نختلف النخبة على أولويات حركة التحرير العسكري أم السياسي، الداخل أم الخارج؟ تساؤلات عديدة طالما جعلت من كتابة تاريخ الثورة الجزائرية أمراً بالغ الصعوبة وموضوع اختلاف في أحيان كثيرة.

وكمدخلٍ لعرض هذه الموضوع نحتكم بدءاً إلى طرح أبرز مؤرخي الثورة الجزائرية وهما الفرنسي (بينجامان استورا) والجزائري محمد حربي.

محمد حربي (مؤرخ جزائري): العلاقة بين الخارج والداخل أخذت بعداً آخر بعد الاستقلال عام 62، وقبل هذا التاريخ اتسمت العلاقة بين رجال الثورة الجزائرية في الداخل، ورجال الثورة في الخارج بالتنازع على السلطة، وخصوصاً بين من عادوا إلى البلاد بتحالف مع الجيش وبين من كانوا في الداخل. على أن من كانوا في الداخل اعتقدوا طويلاً أن السلطة ستؤول إليهم بعد الاستقلال، ولم يتحقق لهم ما أرادوا مما نمىَّ لديهم الإحساس بالمرارة، وحتى نفهم هذه النقطة علينا أن نجري مقارنة مع ما حدث سنة 56، ففي هذه السنة قرر رجال الثورة في الداخل إدارة البلاد وأمكن لهم ذلك، وبعد ذلك بدأ هؤلاء بإلقاء التهم جزافاً على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

وفي مقابل ذلك لم ينشؤوا جهاز حكم يقف موقف المعارض لهذه الحكومة المؤقتة، بل اعترفوا بها، إذاً نحن اليوم نطرح إشكالية مغلوطة لأننا نتحدث عن أناس لم يكتفوا بما حصلوا عليه بعد الاستقلال.

بينجامان استورا (مؤرخ فرنسي): ما كان يؤرق الفرنسيين هو احتمال تحول الجزائر إلى كونجو جديدة، إذ أن الكونجو كانت تشهد آنذاك حرباً أهلية، إذاً كانت فرنسا تخشى انفجار حرب أهلية في الجزائر تنتهي بالبلاد إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي. ولا يجب أن ننسى أن الفرنسيين كان يهمهم بدرجة أولى أن يتحقق الاستقرار للدولة الجزائرية الناشئة، ومرد ذلك طبعاً حفاظها على مصالحها في الجزائر الغنية بالبترول والغاز، وهذا ليس بالأمر الهين، بل إنه يحدد العلاقات بين الدول، وعليه فإن فرنسا كانت تسعى لإحلال حالة من السلم للدولة الجديدة مهما كان شكلها.

لا يمكننا بالضبط تحديد سياسة فرنسا آنذاك تجاه الدولة الناشئة ولا ندري ما إذا كانت تفضل أن يستلم الحكم في الجزائر جيش الحدود أو الحكومة المؤقتة أو الولايات، ولكن يمكن أن نقول مبدئياً ومن خلال بعض الشهادات التاريخية وخصوصاً شهادة سفير فرنسا في الجزائر آنذاك (جون لونيه) أن فرنسا كانت تفضل جيش الحدود الذي كان قادراً على ضمان شيء من الاستقرار والتوازن السياسي داخل الدولة.

محمد حربي: لا يجب أن ننسى أن الجزائر على أبواب تكوين دولة، وبالتالي كان الصراع يقوم على جبهتين، الجبهة الأولى ضد فرنسا والنظام الاستعماري، الجبهة الثانية تقوم في داخل الجزائر لمعرفة مآل السلطة. وعليه فإن الجبهة الأهم هي ضد فرنسا، ولكن الجبهة الثانية كانت جبهة حقيقية أيضاً وهي تضع.. تضع القادة الجزائريين وجهاً لوجه.

أسعد طه: محمد ملوح، كان مسؤولاً عسكرياً في المنطقة الأولى ودبلوماسياً، وهو أيضاً قيادي بارز في هيئة أركان جيش التحرير إبان الثورة.

محمد يزيد، عين وزيراً في الحكومة المؤقتة الجزائرية ومثل الجزائر في الخارج، كان من دعاة تفضيل الجانب السياسي على الجانب العسكري خلال الثورة، أحد أعضاء الوفد الجزائري الذين وقعوا على اتفاقيات (إيفيان).

محيي الدين عميمور، من بعثة جبهة التحرير في الخارج خصوصاً في مصر، كان المستشار الإعلامي لبومدين ومن المعارضين بشدة لتفوق العمل السياسي على العمل العسكري خلال الثورة.

الأمين بشيشي، دبلوماسي ووزير سابق، ومسؤول في مكتب جبهة التحرير في بنغازي بليبيا، عمل في لجنة التوجيه الإعلامي ومسؤول عن الإعلام الخارجي إبان الثورة، من المساندين لفكرة مواجهة المستعمر عسكرياً.

الطيب العلوي، محافظ سياسي مكلف بتعبئة المواطنين، ومسؤول عسكري في الولاية الأولى، وهو من مؤرخي الثورة الجزائرية.

عبد الرحمن شيبان، وزير سابق، وأحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين في الجزائر، من المدافعين عن موقف الجمعية بشأن الثورة التي قامت في الداخل.

عبد المجيد الشيخي، جامعي وباحث في تاريخ الثورة الجزائرية، يرى أن الفضل في استقلال الجزائر يعود إلى جهود السياسيين في الخارج والعسكريين في الداخل.

هذه الجدلية في العلاقة بين قوى الداخل وقوى الخارج، ثم بين العمل السياسي والعمل العسكري شكلت إحدى أهم ميزات الثورة الجزائرية، وهي الجدلية نفسها التي فسحت المجال واسعاً أمام الاختلاف في روايات المؤرخين والفاعلين في الثورة، كل وفق المصالح والتوجهات التي يسندها. ولطالما أنحت النخبة في الداخل باللائمة على الجماعة التي ناهضت الاستعمار ولكن من الخارج، ولطالما استغل المستعمر الفرنسي الخلافات التي قامت في هذا الإطار لتفريغ الثورة من محتواها، واعتبارها مجرد انتفاضة عابرة.

لم يكن الانفجار الذي وقع في غرة نوفمبر/ تشرين الثاني من العالم 1954م، مجرد صحوة مرتجلة، بل كان على ضآلة الإمكانيات التي سخرت فيه فاتحة عهد جديد في الحركة الوطنية الجزائرية،وكان القادح الذي نقل هذه الحركة من زمن كان فيه التفاوض مع المستعمر الفرنسي هو الأساس لزمن جديد أضحى الصدام ميزته الكبرى.

الطيب العلوي (مسؤول عسكري سابق ومؤرخ للثورة الجزائرية): هناك طليعة من الشبان المناضلين في المنظمة الخاصة هم الذين فجروا الثورة، المنظمة الخاصة هي عبارة عن تنظيم هيأه حزب الشعب الجزائري في سنة 1947م، لماذا في سنة 1947م؟ لأنه الوضع العام في ذلك الوقت كان مشتاقاً إلى عمل مسلح بعد عمليات الزجر والقمع التي تعرض لها الجزائريون خاصة بعد حوادث مايو/ 1947.

الأمين بشيشي (مسؤول الإعلام الخارجي خلال الثورة الجزائرية): القمع الذي مارسته طوال عشرات السنين القوى الاستعمارية على الشعب الجزائري بجميع فئاته، علت الجزائريين يلبون نداء مجموعة من المناضلين عرفوا في التاريخ باسم جمعية… "جماعة 22 مناضل"، وهؤلاء فوضوا الأمر إلى 9 أشخاص، 6 منهم كانوا في داخل الوطن، و3 كانوا يمثلون ما يسمى وبالوفد الخارجي للثورة الجزائرية.

محيي الدين عميمور (من بعثة جبهة التحرير الجزائرية إلى مصر): المؤكد أن الجزائريين وصلوا إلى نتيجة نهائية، وأنه لا إمكانية للخروج بشيء مشرف مع فرنسا إلا الثورة، ثم تواصلت العمليات كانت هناك محاولات أخيرة في النصف الثاني من الأربعينيات عن طريق فرحات عباس وبعض القياديين الذين يسمون المعتدلين آنذاك، لكن عندما وصلنا إلى الانتخابات في 53 التي أجرتها فرنسا، كانت انتخابات مزورة كان تأكيداً على فرنسا تريد شعباً من النعاج، وهذا مرفوض، هكذا انفجرت الثورة.

محمد ملوح (قيادي سابق في هيئة أركان جيش التحرير الجزائري): الإنسان.. يجب يرجع لبنان أول نوفمبر، هذا البيان أول نوفمبر يجد البرنامج ويجد استراتيجية ويجد الأهداف واضحة. وهذا البيان هو اللي أعطى إشارة.. إلى القواعد الحزبية في ذلك الوقت، وخاصة قواعد المناضلين بتاع حزب الشعب، والقواعد والمناضلين بتاع الأحزاب الأخرى اللي هي سليمة وكانت حقيقة تريد أن تساهم في تحرير الوطن.

أسعد طه: ديدوش مراد، العربي بن مهيدي، رابح بيطاط، مصطفى بوليعط، محمد بوضياف، كريم بوالقاسم. من ورائهم أقل من خمسمائة فدائي أضحوا لا يرون غير الثورة المسلحة سبيلاً لبلوغ الاستقلال، إذ إن التناقضات داخل صفوف الحركة الوطنية صارت تعمل ضد الجزائر، ولم يعد بالإمكان توحيد الكلمة واستغلال حالة الوهن التي أصابت المستعمر في بداية الخمسينات. وكان لابد من التحرك، ولكن اعتماداً على تنظيم ثوري بديلٍ عن الأحزاب السياسية المنقسمة على نفسها، ومن ثم كان قيام جبهة التحرير الجزائرية والإعلان عنها في القاهرة بُعيد اندلاع الثورة.

لم تمض على الثورة سوى سنتين حتى بدت شوكة زرعت في حلق المستعمر، واتسع مجال المقاومة ليشمل شرق البلاد وغربها مما ساهم في توسيع دائرة الولاء لجبهة التحرير وقياديها، لتشمل أغلب الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية والدينية. وهنا إحدى المسائل التي يدور الاختلاف حولها ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو جمعية العلماء المسلمين.

الطيب العلوي: جمعية.. العلماء كجمعية لم تعلن انضمامها للثورة رسمياً حتى June في 1956م، كأفراد موجودين فيها التحقوا بالثورة، كان الشيخ العربي تبيسي بو حماني، مصطفى بوغرابة، إلى غير ذلك. عدد كبير منهم التحق بالثورة ولم ينتظر صدور بيان من جمعية العلماء، وقد صدر في June في 1956م.

عبد الرحمن شيبان (أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين في الجزائر): لست أدري هذه.. الأغرولة أو الأكذوبة التي ترددها بعض الصحف وخاصة الصحف.. التي تنطق بغير الحرف العربي بالإضافة إلى بعض الأجهزة الإعلامية الرسمية تقول إن جمعية العلماء التحقت بالثورة في 56 والحقيقة أن رجال الجمعية التحقوا بالثورة.. في مراحل متفاوتة، فيهم التحق في أول يوم، وفيهم التحق.. في اليوم الثاني والتالت والرابع والخامس. أما بدعة التحاق جمعية العلما في 56 ضلال أريد مقصود.

الأمين بشيشي: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في داخلها تيارات، من بينهم تيار كان.. لا أقول متواطئاً مع الفرنسيين، ولكنه كان متساهلاً نوعاً ما، وأنا محرج أن أذكر أسماء، ولكن جمعية العلماء تغيرت بتغير رئيسها في.. الذي توفي في 16 أبريل من عام 40.

عبد المجيد الشيخي (جامعي وباحث في تاريخ الثورة الجزائرية): رئيس الجمعية كان في الشرق ولم يكن متواجداً في الجزائر، ونائبه كان المرحوم الشهيد العربي تبيسي، الذي ذهب في جولة إلى المشرق. رأي شيئاً ما هذا الفتور في العلاقة بين رئيس الجمعية وجبهة التحرير الوطني، فاستاء لهذا الأمر ورجع إلى الجزائر وجمع الهيئة المديرية للجمعية وأعلن حل الجمعية، معلناً بأنه يلتحق بالثورة كشخص، وعلى الآخرين –إن أرادوا أن يلتحقوا- فعليهم أن يلتحقوا.

عبد الرحمن شيبان: تقول الجمعية في بيانها في 18June 54 قبل ثورة نوفمبر بأشهر تقول: إننا يئسنا من الاستعمار أن يستجيب لمطالبنا فهو يريد أن يبقى إسلامنا أسيراً ولغتنا العربية أجنبية في بلدها، إذاً نعلن منذ الآن إلى أننا نتوقف عن المطالب المعروفة هذه، ونقول يجب على الشعب الجزائري منذ هذه اللحظة أن يتجند كله لحل قضيته العامة، القضية العامة قضية الحرية والاستقلال.

أسعد طه: وبالفعل اتسعت دائرة المشاركة في الثورة، وشكل 400 ألف مهاجر جزائري في فرنسا الجبهة الثانية التي تسند الثورة مالياً من الخارج، وكان على هؤلاء أن يدفعوا ضريبة لإعلان ولائهم لجبهة التحرير أو الانخراط الفعلي في الجامعة الفرنسية للجبهة. وباتت جبهة التحرير قوة ضاربة أرهبت المستعمر حتى في عقر داره وفي مؤسساته، ووجدت الجبهة نفسها حبيسة مبدأ واحد: من ليس معنا فهو ضدنا. ويبدو أنها لم تعد تغفر للمتخاذلين في معاضدة الثورة من الجزائريين، ولم تتردد في القيام بتصفيات طالت حتى قياديها، ومنهم أساساً عبان رمضان، الرأس المدبر للجبهة، الذي اغتيل بسبب ما أسماه هو بالسلوك الاستبدادي لجبهة التحرير.

على أن الجبهة التي وجدت نفسها حبيسة استراتيجيات مرتجلة وفي حاجة إلى بعد مؤسساتي أيقنت أن الوقت قد حان لوضع مؤسسات للثورة، وكان مؤتمر (الصُمام) في الـ 20 أغسطس/ آب عام 56، ويبدو أنه كان ثورة داخل الثورة.

محمد ملوح: الفكرة بتاع.. مؤتمر الصمام بداية.. من هذه الإخوة الثلاثة اللي هم.. كريم بوالقاسم وعمران وبوالمهيدي، وبعدين انضموا إليهم آخرين مثل بن خده وسعد داحج وإلى آخره وتكون.. وكونوا المؤتمر، المؤتمر عقد في.. منطقة ثالثة، في منطقة الصمام، الولاية الثالثة في منطقة الصمام. لكن هنا الشيء اللي هو ودار حوله جدل ودار حوله.. تساؤلات كتيرة هو أن فيه بعض المناطق وقتها كانت تسمى مناطق ما حضرتش مثلاً منطقة بتاع (الورث) ما حضرتش، كان يسموا نفسهم بالهدمات وما حضرتش. المنطقة اللي هي منطقة شرق (…) ما حضرتش، المنطقة الخامسة بتاع وهران هناك من يقول حضرتك وهناك من يقول ما حضرتش. لأن فيه بوالمهيدي جه هناك وقت ذلك، ولكن وفيه.. ما بتسمع ما حضرتش، بعدين البعثة الخارجية لم تتمكن من الحضور.

الأمين بشيشي: بن بيلا وآية حمد.. وبوخيظر، هؤلاء لماذا لم يحضروا، أعلموا بأن المؤتمر سينعقد في (أوت)، وكان المفروض أن يعقد في (شبه جزيرة القل) في الأصل،ولكن تسرب بعض الوثائق كشفت للعدو بأن قادة الثورة سيجتمعون، ولهذا غيروا مكان الاجتماع إلى الضُمام لما طلب من الإخوة في تونس الفتية التي كانت يادوب يعني استقلت في يوليو من عام 56، في ذلك الوقت طلب منها أن تؤمن مسارهم من الحدود التونسية إلى داخل الجزائر، فكان الجواب أن السلطات التونسية في ذلك العهد لا تستطيع أن تضمن وصولهم إلى الجزائر، ولهذا لم يجازفوا وبقوا في ليبيا ورجعوا إلى القاهرة.

محيي الدين عميمور: هناك تفاصيل كثيرة عن مؤتمر الصمام، ولكن أهم التفاصيل في رأيي أن الجزائريين داخل الجزائر التي يسيطر عليها الجيش الفرنسي والمعمرون الفرنسيون استطاعت على أرضها أن تعقد مؤتمراً يتمتع بالسيادة المطلقة، حتى ولو كان هناك من الجزائريين من تحفظوا على بعض نتائج هذا المؤتمر.

الطيب العلوي: شابه نوع من الغموض، الغموض في الحقيقة حول نقطة واحدة وهي أولوية الداخل على الخارج، وأولوية السياسي على العسكري، هذه الأولوية، كما قدمها رجال المؤتمر، غير مبررة لأننا في ذلك لسنا في حاجة إلى من هو أفضل ومن هو الآمر ومن هو المأمور، إذاً ليس هناك فرق أو حاجز بين السياسة والجيش، أو بين السياسي والعسكري، وكذلك لا فرق بين الموجود في الداخل والموجود في الخارج، الخارج يقول أنا لم أخرج إلا بأمر من الداخل لتأدية مهمة معينة، هذا الغموض هو الذي جعل بعض الأطراف تعارض مؤتمر الصُمام وتشكك فيه، فنشأ خلاف.. لم يفصل فيه إلى الآن.

الأمين بشيشي:لم يكن هناك أي خلاف، الخلاف كان هناك نوع من.. أقول حتى أستطيع أن أقول الغضب، لأن المجاهدون في الداخل والمسؤولون في الداخل كانوا ينتظرون من هؤلاء في المشرق أن يمونوهم بالأسلحة.

أسعد طه: هكذا اعتبر الجيش في الداخل أن جهود الأطراف المشاركة في الثورة من الخارج لم تستجب بما فيه الكفاية لحاجات الثورة في الداخل. إذاً كان ضمن المؤسسات التي أنشئت عقب المؤتمر "المجلس الوطني للثورة الجزائرية" و"لجنة التنسيق والتنفيذ" على أن إنشاء هذه المؤسسات وغيره من قرارات المؤتمر لم تكن محل إجماع قيادات الثورة وتحديداً تلك التي كانت في الخارج فقد رفض بن بيلا الذي كان يشارك آية أحمد ومحمد خيظر في الإشراف على الثورة من القاهرة من الاعتراف بلجنة التنسيق والتنفيذ، بالفعل أقر الاجتماع الدوري لمجلس الثورة في آب/أغسطس عام 57 التخلي عن مبدأي أولوية الداخل على الخارج، وأولوية السياسي على العسكري.

لم يجد القادة العسكريون الفرنسيون من حل لقطع دابر المساعدات "اللوجستيكية" القادمة من الخارج سوى إقامة الخطوط المكهربة على الحدود، وهي المعروفة باسم "خط الموت شارل وموريس"، في هذا الظرف الدقيق الذي آلت فيه معركة الجزائر العاصمة إلى المستعمر بدأ خروج لجنة التنسيق والتنفيذ إلى الخارج وتحديداً إلى تونس وكأنه تخلٍ عن خدمة الثورة.

الأمين بشيشي: الجماعة الذين خرجوا هناك فعلاً مع سي بن خده وكريم وعبان بعد ذلك في الـ57 يعني خرجوا.. لضرورة قيادة الثورة من الأمكنة والمواقع التي يسهل التحكم في سير الأمور مادامت القضية سياسية والصراع على المستوى السياسي، بالإضافة إلى مواصلة المجاهدين في داخل الوطن للمعارك العسكرية.

محمد ملوح: التذمر اللي حصل في الداخل ربما سببه هو بعد القيادة.. الوطنية، يعني خروج لجنة التنسيق والتنفيذ بأعضاء كاملها، ثم التحاق بعض قادة الثورة إلى الخارج هذا من الأسباب التي خلقت تذمر –في رأيي أنا- أكثر من شح الأسلحة.

الطيب العلوي: خط موريس وشارل حال دون وصول الأسلحة إلى الداخل وهذه كانت مصيبة الولايات في الداخل، كانت محرومة من السلاح، اعتمدت في ذلك على هجمات على الفرق الفرنسية وانتزاع السلاح منها.

عبد المجيد الشيخي: عندما استقلت تونس والمغرب، عرفت الدولة الفرنسية بأن هذان.. هذين البلدين سيشكلان القواعد الخلفية للثورة، وبالتالي كان لابد من فصل الجزائر عن العالم الخارجي، فبنت خطاً من البحر قرب القالة إلى منطقة وادي صوف، على مسافة تتجاوز الـ 500 كيلو متر هذا طولاً في الشرق ونفس الشيء في الغرب، وسلحته بأسلاك شائكة.. وتيار كهربائي قوي الذبذبة، بحيث يتجاوز.. يتراوح بين 5 آلاف و20 ألف فولت، وعرضه حسب المناطق لا يقل عن كيلو متر ويصل في بعض الأحيان إلى 3،4 إلى 5 كيلو مترات عرضاً كلها أسلاك شائكة متشابكة، والأرض مزروعة بالألغام المضادة للأشخاص. ثم بعد ذلك جاء شارل وأضاف خطاً أصغر ولكنه داخل البلاد، بحيث بقيت.. منطقة سميت عندنا بالمنطقة المحررة لأنها كانت خالية من السكان وجيش التحرير يجوب فيها.. ونفس الشيء بالنسبة للغرب.

أسعد طه: بدأت حرب الحدود وجيئ في فرنسا بالجنرال (ديجول) في إطار حكومة الإنقاذ الوطني، ولم تكن أمام الرجل خيارات عديدة، فإما أن يصر على مبدأ "الجزائر فرنسية" فيغرق في أتون حرب بدت لا آخر لها، وإما أن يطرح حلاً بديلاً فينقلب عليه العسكريون الذين أصبحوا أصحاب الأمر والنهي في فرنسا. وكان عليه أن يتعامل مع قضية صارت حديث العالم، وبخاصة بعد مؤتمر عدم الانحياز في (بندونج) وبعد مشاركة القوات الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر رداً على مساندة جمال عبد الناصر للثورة بالسلاح، واختطاف طائرة تقل خمسة من قادة الثورة في الخارج، وأخيراً جاء قصف البلدة الحدودية التونسية (ساقية سيدي يوسف)، سنة 58 ليزيد من تدويل القضية الجزائرية. ومع هذا كله دخل عنصر جديد على خط المواجهات وهو الحكومة الجزائرية المؤقتة الأولى التي أنشئت في القاهرة في سبتمبر/أيلول عام 58، وعهد برئاستها إلى فرحات عباس، وسريعاً ما تعرضت هذه الحكومة إلى مآخذ من قبل زعماء الولايات في الداخل وبعض ضباط جيش التحرير.

محمد ملوح: قضية تكوين حكومة مؤقتة.. عندما خرجت لجنة لتنسيق والتنفيذ إلى الخارج في سنة 57، وعقدوا اجتماع بالقاهرة في (أوت) 57، في ذلك الاجتماع كانت الفكرة واردة أن.. يعني إعادة الهيكلة وحتى تكوين.. فكرة تكوين حكومة مؤقتة، لأنها في ذلك الوقت كانت.. يعني الظروف للقضية الجزائرية وصلت على المستوى العالمي، من هنا بدأت الفكرة انتهى التفكير في.. في الحكومة المؤقتة.. لكن.. بالصراعات الداخلية بين القيادة الجديدة للثورة وغياب القيادة التاريخية ما خلاهم يبقوا مترددين وبقوا مترددين في هذه الفترة حتى جاء (ديجول).

عبد المجيد الشيخي: كان لابد من التعامل مع الظرف السياسي الجديد الذي أحدثه رجوع الجنرال (ديجول) إلى الحكم، ومعروف أن الجنرال ديجول يعرف أنه هو السياسي المحنك، الذي رجع إلى الحكم لحل القضية الجزائرية. ولكنه في نفس الوقت عسكري ومصمم على أن تبقى الجزائر فرنسية بكل الوسائل.

محبي الدين عميمور: الحكومة المؤقتة.. كونت في 58 عندما نضج وقت تكوينها، والمهم أنها كونت بإرادة جزائرية وبتخطيط جزائري وبدون أي تدخل من أي جانب وبالطبع بعد أن اطمأنت الثورة الجزائرية إلى أنه سيكون هناك عدد من الاعترافات بها تسهل دخول الجزائر إلى الساحة الدولية كدولة.

عبد المجيد الشيخي: تأسست الحكومة المؤقتة كان يحل مشكل خلافات قيادية وكذلك يعطي للثورة الجزائرية تواجد بين الدول العربية في حد ذاتها، بحيث يصبح التعامل مع هيكل حكومي ككل الهياكل الحكومية.

محمد يزيد (وزير سابق في الحكومة المؤقتة الجزائرية): إحنا طول الثورة بإيمان قوي وإخلاص يعني قمنا بمسؤوليتنا هي تسليح وتنظيم يعني قواتنا المسلحة، 90% من.. المساعدات اللي جاتنا من الخارج مشيت لهذه القوات.

ها دولي.. اللي كانوا.. في الحدود وبسلاح يعني وبتدريب.

محيي الدين عميمور: الحكومة المؤقتة كانت في الواقع سفارة ضخمة أكثر منها حكومة مسيرة للثورة هذه نقطة مهمة جداً، صحيح أنه كان من بين أعضاء الحكومة قياديون (Le tri b) ثلاثي الباء المعروف، لكن الحكومة كحكومة كانت سفارة كبيرة كانت سفارة ضخمة، ولم تكن حكومة تحرك الأحداث داخل الساحة الثورة الجزائرية التي عرف أنها كانت تسير تقريباً بأسلوب لا مركزي نتيجة.. لاتساع رقعة الأرض، ولتعدد صور الصراع مع العدو الفرنسي آنذاك.

محمد ملوح: الحكومة المؤقتة من البداية بدأت بطريقة ما فيهاش هذاك الانسجام السياسي، كان ما عندهاش.. هذاك.. هذيك السند القوي من الداخل.

محمد يزيد: أنا عشت فترة يعني الشهور الأخيرة من الثورة وقبل وقف القتال، وكانت الحكومة المؤقتة ما تجتمعش، كنت ممكن لأن أنا كنت وجه، وجه الثورة ناطق باسم الثورة وأقول نحن ما أقولش أنا، كنت أظن أنا الوحيد اللي عندي اتصالات مع الأعضاء الآخرين في الحكومة المؤقتة أقول لهم هذا غضبان على فلان، هذا ما هوش متفق على فلان، لأن بتعرف.. كنا تمينا فترة التضحيات وبدينا نفكر في فترة.. الامتيازات والحكم.

أسعد طه: لم تنته التناقضات داخل الثورة الجزائرية عند هذا الحد، بل جاء إنشاء الهيئة العامة لأركان جيش التحرير في ديسمبر/كانون الأول من العام 59 تحت قيادة الكولونيل هواري بو مدين ليغذي الانقسام، وكان على هذه الهيئة أن تعيد تنظيم الجيش المنكفئ على الحدود مع تونس والمملكة المغربية، في هذه الفترة جاء اعتراف الجنرال ديجول بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم في خطاب السادس عشر من شهر سبتمبر/أيلول من العام 59.

ومع بداية الانفراج بدأت أزمة القيادات تطفو على السطح، فقيادة الأركان ترغب في السيطرة على الولايات في الداخل، ولم تكن الحكومة المؤقتة لتستسيغ ذلك لأن فيه انحساراً لدورها لمصلحة قيادة الأركان.. واستمرت الأزمة الجزائرية على وقع هذا التناقض ولم تستطع الحكومة المؤقتة الثانية بقيادة فرحات عباس، والثالثة بقيادة بن يوسف بن خدَّة في بداية العام 60 ردم الهوة بين الطرفين أو حتى التقليص من آثارها.

الطيب العلوي: المشكل الذي طرح بالنسبة لهيئة الأركان وبالنسبة للحكومة المؤقتة.. نُظِّم الجيش تنظيماً وزود بأجهزة عصرية جديدة حديثة جداً، لكن هذا الجيش الذي تجمع على الحدود هو اللي بيدخل تحول إلى مشكل. المجموعة في الدخل تطالب، أين المجموعة المتجمعة خارج الحدود لماذا لا تدخل، المجموعة في الخارج تقول الجيش جاهز ولكن كيف يدخل. فبدل أن يواجهوا الموقف بشيء من الجدية وأن يصفوا المرض والعرض كما يجب، تبادلوا التهم بينهم.

عبد الحميد الشيخي: ربما حز في نفس البعض أن يكون تعيين الحكومة المؤقتة من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية وتعيين القيادة العامة.. قيادة الأركان للجيش.. جيش التحرير الوطني أيضاً من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية، بحيث –يجعلهما مؤسستين متوازيتين أو متساويتين في الصلاحيات في الدرجة، على الأقل، مما يحدث ربما مشكلة التبعية ومشكلة التنسيق.

محيي الدين عميمور: تصوري أن.. أن ما حدث كان أساساً صراعاً فكريا، ربما كا هناك كثيرون في الجانب السياسي للثورة يرون أن الاستقلال هو نهاية الكفاح الجزائري، يرفع العلم، ويوضع نشيد وطني وتبنى مؤسسات، ويعود كل إلى داره، وعندما أقول يعود كل إلى داره معنى هذا أن كل الذين جندتهم الثورة من أجل الكفاح عليهم أن يعودوا بالحياة المدنية، الفلاح فلاح والتاجر تاجر والمعلم معلم.. إلى آخره.. الجانب الآخر وهو جانب جيش التحرير كان يرى أن الاستقلال هو بداية مرحلة وليس نهايتها، لأن الاستقلال لم يكن مجرد زرع علم، ولكنه كان استرجاع السيادة المطلقة.

الأمين بشيشي: أعتقد أن التوجه.. جيش التحرير الوطني أو قيادة الأركان التي لم تكن مكتفية فقط بالجانب العسكري اليومي، ولكنها كانت أيضاً من الجانب الأيدولوجي كانت تطالع الثورات الكبرى في القرن العشرين، الثورة البلشفية وخاصة الثورة الصينية والثورة الفيتنامية، في حين أن الجماعة الأخرى جماعة الرئيس بن خدة وجماعة كريم بو القاسم تؤمن أولاً بالليبرالية، وتعتقد بأن على الجزائر عندما يكون لها مجلس تأسيسي أن تقرر لا أن يقرر في مكان الشعب القيادات هي التي تقرر، هذا جوهر الخلاف.

الطيب العلوي: نشأ عن هذا الخلاف تململ حتى في داخل الوطن، استغلته الحكومة الفرنسية استغلالاً فاحشاً وهي أنها أشاعت في وسط المناضلين المدنيين وجنود جيش التحرير بأن الجماعة في الخارج "تتمولك" كما يقال تعيش عيشة الملوك في القصور وحياة البذخ والترف إلى غير ذلك، وهذه المجموعة صارت انقطعت عن الثورة، وهي الآن لا تفكر في الثورة كما تفكر، تفكر في أمورها الشخصية أكثر.

هذا الشيء له جانب من الواقع وله جانب آخر من التحامل.

أسعد طه: وفي مقابل ذلك يعتبر زعماء الولايات في الداخل أنهم عرضة للضربات الاستعمارية التي أصبحت موجعة بشكل خاص بعد إحداث خطي موريس وشارل، والحديث عن الثورة الجزائرية يخلو في أغلب الأحيان من التطرق إلى تفاصيل منها مثلاً: أن ولايات الداخل اجتمعت بين السادس والثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول من العام 58 في القبايل ودانت تغاضي الحكومة المؤقتة عما يعانيه المقاتلون في الداخل.

على أن إدارة شؤون الثورة من الخارج لم تكن بالأمر الهين، حتى أنها فسحت المجال لتعارضات عدة مع الدول التي كانت تدعم الثورة، وعلى سبيل المثال ذهب العديد من الجزائريين إلى الاعتقاد أن مصر والمملكة المغربية وتونس قد تجاوزت خطوطاً حمراً كثيرة في التعامل مع الثورة الجزائرية، وأن تونس والمملكة مثلاً أصبحتا تدخلان في الشأن الداخلي الجزائري تحت غطاء السيادة على الأرض وعدم خلق دولة داخل الدولة.

الأمين بشيشي: الرئيس جمال عبد الناصر كان يتصرف في.. في تصوره لمصلحه الثورة الجزائرية، غير أن الكثير من إخواننا كانوا يعتبرون أن أهل مكة أدرى بشعابها وأن جماعة الجزائري والثوار الجزائريين والمسؤولين الجزائريين أعرف بالقضايا الداخلية من أي أحد آخر.

محمد يزيد: حاولوا يعني يتدخلوا،ولكن كان عندنا إحنا رفض أي تدخل، يعني المصريين جربوا ما نجحوش.. وقفوا يعني.. صارت لنا مشاكل في تونس، صارت لنا مشاكل في المغرب.

الأمين بشيشي: ومع ذلك عرفاننا الكبير لإخوتنا في مصر.. القاهرة، سواء كان في إذاعة صوت العرب وأجهزة الإعلام، سواء كان على القيادة المصرية، سواء كان على الجيش المصري الذي موننا بالكثير.

محمد ملوح: بيان أول نوفمبر أذيع من إذاعة صوت العرب والصحافة المصرية بدأت تتكلم على الثورة منذ البداية فالقيادة المصرية هي أول من تبنى الثورة، بالإعلام وبالدعم قدر إمكانياتها.. ثم بعدين انتقلت لسوريا كمان سوريا بعدها، ثم السعودية ثم ليبيا، ما ننساش ليبيا كانت معبر السلاح.

محمد يزيد: هذا كله ما ننساش من هذه الدولة هذه.. ما كان يعني.. أهدافهم وطمعهم مثلما كانوا ساعدونا.

محمد ملوح: تونس والمغرب قبل.. قبل الإعلان على الاستقلال كانت الحركات الوطنية هي اللي تدعم والشعب يدعم الثورة، وخاصة نتكلم عن المنطقة بتاع الشرق اللي هي تونس أنا كنت طالب هناك، كانوا الجزائريين ثوار مع الثوار التونسيين قبل الثورة الجزائرية كانت تونس.. امتداد.. امتداد جغرافي للثورة الجزائرية، فكانت تونس لاحقة للولاية الأولى كان يأخدوا قيادة نفسها تعليمات بتاعها من عند عباس لغرور بالولاية الأولى. بعدين المغرب نفس الحكاية.

أسعد طه: طال الخلاف بين الحكومة المؤقتة وجبهة التحرير ثلاث نقاط على الأقل قبل افتتاح مفاوضات إيفيان في مارس/آذار عام 61 أولها: وقف العمل العسكري أو عدمه خلال المفاوضات، وثانيها: حل مسألة الصحراء، وثالثها: الاعتراف بجبهة التحرير ممثلاً للشعب الجزائري.

ولكن اتفاق الاستقلال الذي توصلت إليه الحكومة المؤقتة مع الفرنسيين لم يخلوا في نظر جبهة التحرير من تنازلات عديدة، وخلال مرحلة التفاوض على الاستقلال بدأ سباق محموم من أجل السلطة وتحولت أنظار الجيش التحرير إلى ولايات الداخل، وأضحى التناقض يحكم الموقف بعد أن اتجهت الحكومة المؤقتة إلى الولايات في الداخل تحرضها على قيادة الأركان، وخلال هذا كله أبدى جيش الحدود تضامنه مع قيادته وتلقى دعم ثلاثة من قادته التاريخيين من سجنهم في فرنسا، وهم رابح بيطاط وأحمد بن بيلا ومحمد خيظر، لكن ميزان التحالفات تغير بعد عودة بن بيلا إلى الجزائر واستقالته من الحكومة المؤقتة وإعلان تضامنه مع قيادة الأركان وتحديداً مع الكولونيل بومدين الذي عزلته الحكومة المؤقتة.

الطيب العلوي: هو الاتفاق طبيعي في الحقيقة إذا راعينا بأن بن بيلا طموح، وبومدين طموح، بن بيلا رجل سياسي ويحتاج لتحقيق طموحه إلى غطاء عسكري أو إلى مساندة عسكرية فوجدها في بومدين. بومدين طموح طموحه عسكري واحتاج لتأكيد الطموح العسكري إلى غطاء سياسي.

محمد ملوح: الإخوان في.. في قيادة الأركان ومثل بقى تولوا بعض الولايات كانوا يحبوا يعيدوا الاعتبار اللي ما تبقى من القيادة التاريخية. وهنا كان الرهان –أنا في تقديري- الرهان ما كانش على بن بيلا وحده، وإنما كان على القيادة التاريخية. لكن القيادة التاريخية بانقسام الحكومة المؤقتة انقسمت، وأصبح خيظر وبن بيلا وبيطاط في.. في شق مع القيادة اللي بتاع الجيش وبعض الولايات في الداخل، وآية أحمد وكريم.. وبو ضياف مع شق آخر تاني، وهنا جات.. جات العملية أن بن بيلا هو اللي برز..في المرحلة بتاعة توقيف القتال وعمل تحالف.

الطيب العلوي: وقع الاتفاق ثم وقع التحالف، العدو حدوده سواء، بن بيلا أو بومدين العدو محدد وهو الحكومة المؤقتة.

محمد يزيد: راحوا يعني حاولوا يتصلوا بالجماعة اللي.. اللي كانوا مخطوفين اللي كانوا يعني بن بيلا وجماعته، اتصلوا بيهم وقال لهم يعني أيدونا على الحكومة المؤقتة، والجواب بتاع الجماعة كان بعت تفويض.. تفويض في التصويت لِبِن يوسف بو خده، ملك كل شيء التكتيك ولعب الطاولة وأعطى القوات إليه والهدف السلطة.

الطيب العلوي: لأن الحكومة المؤقتة لم تعطي أهمية خاصة لِبِن بيلا وهو الذي كان يقول بأنه زعيم الثورة وقد ساعده على هذا الاعتقاد الإعلام المصري، لأن بن بيلا هو الذي كوَّن الثورة إلى غير ذلك. إذاً كان يرجو من الثورة أن تعطيه حجماً أكبر من حجمه.

أما بومدين فهو شخص كان يعمل بجد واجتهاد لتنظيم الجيش، لكن في آخر الفترة عزلته الحكومة المؤقتة.

الأمين بشيشي: شخصيته بن بيلا كانت معروفة لدى الخاص والعام أكثر من أي شخص آخر ممن ربما لهم تكوين سياسي أكثر منه ولهم مستوى ثقافي أكثر منه، ولكنه يبقى المناضل الصادق، المناضل المضحي، المسؤول عن التنظيم السري للثورة الجزائرية قبل اندلاعها من عام 47.

محمد ملوح: بن بيلا كان عنده الميزة بتاعه هو أنه كان قادر على التحالف أكثر من بو ضياف لأنه في هذا الوقت كان بيراهن على بوضياف، بن بيلا كانت قادر على التحالف، وبالتالي عمل تحالف في.. في الصيف 62 هذا التحالف هذا لمَّ فيه فرحات عباس، لمَّ فيه جماعة العلماء، لمَّ فيه الناس اليساريين، لمَّ فيه الثوار، لمَّ فيه.. بعض الولايات يعني عمل تحالف، هذا التحالف هو لـ..، مع الدعم بتاع.. طبعاً بتاع الحكومة.. بتاع قيادة الأركان هو اللي أوصل المجموعة بتاع بن بيلا إلى السلطة في 62.

أسعد طه: بعد قرن وربع القرن من الزمان نالت الجزائر استقلالها، وجاء أحمد بن بيلا إلى الحكم. لكن هل كانت تلك الجزائر التي حلمت بها ثورة نوفمبر/تشرين الثاني؟! السلام عليكم.