معركة آبي أحمد والتيغراي.. هل ينفرط عقد إثيوبيا؟

رغم هزيمتها العسكرية وفقدانها عاصمة إقليمها استطاعت "جبهة تحرير شعب تيغراي " تنظيم صفوفها ثم استعادة المبادرة العسكرية من القوات الحكومية.

في أبريل/ نيسان 2018 جاء السياسي والمناضل الشاب آبي أحمد علي (47 عاما) إلى رئاسة وزراء إثيوبيا حاملا مشروعا وحلما بالتغيير، مستندا إلى إرث شخصي في دهاليز السياسة من المعارضة إلى المناصب الوزارية، ومسلحا بذخيرة علمية مميزة ودكتوراه كان موضوعها "النزاعات المحلية في البلاد" وبجاذبية لافتة وشخصية قوية وصارمة.

كان الحلم أن يعبر أشواك التناقضات السياسية والعرقية لتحقيق "الوحدة والعدالة والرخاء" وحل النزاعات الداخلية والخارجية، وكافأته لجنة نوبل بمنحه جائزتها للسلام بعد سنة من تسلمه السلطة بعد إبرامه اتفاق المصالحة مع إريتريا، في وقت تماهى فيه معظم الإثيوبيون مع مشروعه الذي بدا برّاقا ومع منجزات كانت لافتة.

يجد الدكتور آبي أحمد نفسه بعد نحو ثلاث سنوات فقط في خضم واحدة من أعقد وأخطر الأزمات التي تهدد وحدة إثيوبيا، وقد تعصف به وبتاريخه كصانع للسلام.

آبي أحمد لدى تسلمه جائزة نوبل للسلام (الفرنسية-أرشيف)

وتشير دعوة آبي أحمد (وهو من عرقية الأورومو) للمواطنين لحمل السلاح والدفاع عن العاصمة أديس أبابا، وتحالف 8 قوى سياسية وعسكرية أخرى مع "جبهة تحرير شعب تيغراي" ضد حكومته وعزمهم الزحف نحو العاصمة الاتحادية أديس أبابا إلى دقة الموقف الذي تعيشه البلاد.

Protest in Addis Ababa - - ADDIS ABABA, ETHIOPIA - SEPTEMBER 17: Thousands of demonstrators gather at Meskel Square to protest against the attacks resulted in the deaths of 23 people, in Addis Ababa, Ethiopia on September 17, 2018.
إثيوبيون يتجمهرون في إحدى ساحات أديس أبابا خلال احتجاجات عام 2018 ( الأناضول)

تسلم آبي أحمد رئاسة الحكومة في مارس /آذارعام 2018 في مناخ سياسي يشوبه التوتر والصراع السياسي الظرفي والمزمن، كأول شخص من عرقية الأورومو يشغل هذا المنصب بتزكية من "حزب الأورومو الديمقراطي"، الذي يعد أحد مكونات تحالف "الجبهة الديمقراطية الثورية الإثيوبية" بعد فوزه بأغلبية مقاعد البرلمان (547 مقعدا) في انتخابات عام 2015، وإثر احتجاجات واسعة أطاحت خلفه هايلي ميريام ديسالين (2012-2018).

استطاع الرجل خلال السنة الأولى أن يجذب قطاعات شعبية واسعة بنهجه الداعي إلى السلام والوحدة والمساواة والتوافق ومكافحة الفساد، من خلال إنهاء حالة الطوارئ وإطلاق السجناء السياسيين والدعوة للمصالحة وإقالة ومحاكمة عدد كبير من المسؤولين السياسيين والعسكريين بتهم فساد.

عمل أيضا على تهدئة الصراعات الخارجية ومحاولة استثمار بعض المشاريع التنموية والقضايا الحدودية لاستدعاء "الروح القومية"، لا سيما تصلبه في محادثات سد النهضة مع مصر والسودان، وفي الخلاف الحدودي حول إقليم الفشقة مع الخرطوم.

سرعان ما انفتحت النيران على صاحب "نوبل"، واهتزت أركان المشروع وصورة "صانع السلام" جراء احتجاجات شعبية واسعة، بينها تلك التي أعقبت مقتل المغني الشهير من عرقية الأورومو "هاتشالو هونديسا" في يوليو/تموز 2020 والنزعات الانفصالية المتجددة والتوترات في بعض الأقاليم وإعلان الحرب على إقليم تيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 والتي انتهت بسيطرة القوات الحكومية على عاصمة الإقليم  ميكيلي وسط اتهامات بارتكاب "جرائم حرب" وبانتقادات واسعة لآبي أحمد، الذي بنى مشروعيته على تحقيق السلام والوحدة والرخاء.

نزل المحتجون ضد الحكومة إلى الشوارع بعد اغتيال المغني هونديسا (مواقع التواصل الاجتماعي)

جذور الخلاف

تعود جذور الصدام في إثيوبيا بين الحكومة الفيدرالية و"جبهة تحرير شعب تيغراي" إلى احتجاجات الشارع التي أطاحت بالحكومة السابقة التي كانت تهيمن عليها الجبهة في عام 2018 وإلى الإجراءات التي انتهجها آبي أحمد ورأتها الجبهة مقصودة لإقصائها وتصفية سيطرتها على مفاصل الدولة لنحو 27 سنة، ومن أهمها:

– إزاحة واعتقال مجموعة من المسؤولين السياسيين والعسكريين من قومية التيغراي من مناصبهم بتهم فساد وتقديمهم للمحاكمة.

– فقد التيغراي مناصب وزارية وبعض المناصب العسكرية العليا بعد تولي آبي أحمد السلطة.

– سعي آبي أحمد لتوحيد تحالف الأحزاب الحاكمة الممثلة لعدة أعراق في حزب واحد وهو "حزب الازدهار" بما يقوض نفوذ الجبهة.

– تأجيل الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة في يونيو/ حزيران 2020 وبالتالي تمديد ولاية آبي أحمد، وهو ما اعتبرته الجبهة غير دستوري.

– اتفاق المصالحة الذي أبرمه آبي أحمد مع إريتريا المحاذية لإقليم تيغراي، حيث العداوة التاريخية والخلافات على الحدود بين أسمرة والجبهة.

ورغم أن آبي أحمد أجرى إصلاحات حقيقية ومهمة شملت عدة مجالات، فإن أطراف إثيوبية، خصوصا التيغراي قرأتها على أنها تفكيك "الدولة العميقة" وتوجه لتكريس مفهوم جديد للهوية السياسية الإثيوبية، وبناء أسس لشرعية سياسية جديدة تعزز نفوذه مع حلفائه من الأمهرة.

واتهم أبي أحمد بتركيزحكم أكثر مركزية يرتكز على "حزب الازدهار" الذي أسسه، وبالتالي تفكيك نفوذ التيغراي ومناوئيه داخل إقليم أوروميا – الذي ينحدر منه- وخصوصا الأحزاب الأكثر شعبية مثل "جبهة تحرير أورومو" و" مؤتمر أورومو الفيدرالي".

دبابة هجرها مقاتلو تيغراي قرب منطقة عدوا في مارس/آذار الماضي(الفرنسية)

نحو الحرب

انفصلت الجبهة عن الائتلاف الحاكم، وتحدت آبي أحمد بإجراء انتخابات إقليمية في سبتمبر/ أيلول 2020، اعتبرتها الحكومة "غير قانونية" وبدأت  الاتهامات والإجراءات التي جعلت الحرب أمرا واقعا، خصوصا بعد الإجراءات والخطوات التالية:

–قررت الحكومة تقليص المخصصات المالية الحكومية للإقليم، وهو ما اعتبرته الجبهة "إعلان حرب".

-اتهم آبي أحمد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 حكومة الإقليم بمهاجمة قوات الجيش الاتحادي المتمركزة هناك، وقال إن الجيش سيستخدم القوة لتأمين البلاد.

-صادق مجلس الوزراء الإثيوبي، خلال اجتماع استثنائي له، على إعلان حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر في ولاية (إقليم) تيغراي، على خلفية "اعتداء على قوات الجيش ومحاولة سرقة معداتها".

-أعلنت الحكومة المركزية توقيف عشرات المسؤولين والقادة العسكريين المحسوبين على الجبهة، ورفع البرلمان الحصانة عن العشرات من النواب المنتمين للجبهة، بما في ذلك زعيمها.

– أمر آبي أحمد في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 برد عسكري على "هجوم خائن مميت" على معسكرات الجيش الاتحادي في تيغراي، فيما نفت الجبهة مسؤوليتها، معتبرة أن ذلك  ذريعة لشن "غزو".

-اعتبرت أديس أبابا أن الجبهة ارتكبت "خيانة عظمى" بحق البلاد، في حين اتهمتها حكومة تيغراي بالتحيز العرقي، خاصة بعدما استعانت بقوات دولة إريتريا المجاورة وإقليم أمهرة.

بعد اندلاع الحرب، حققت القوات الحكومية المدعومة بقوات من إريتريا وإقليم أمهرة مكاسب عسكرية سريعة، واستطاعت السيطرة على الإقليم وعاصمته ميكيلي في غضون أسابيع. واعتقلت الحكومة المركزية بعض رموز الجبهة ومقاتليها، بينما فر آخرون إلى المناطق الجبلية المتاخمة، وبدؤوا حرب عصابات ضد القوات الإثيوبية والعناصر الموالية لها.

أدت الحرب إلى مقتل الآلاف، وأُجبر نحو مليوني شخص على ترك ديارهم في تيغراي بعد اندلاع الصراع وأكدت العديد من المؤسسات الدولية وقوع فظائع وجرائم حرب في الإقليم، وبات مئات الآلاف يواجهون المجاعة. وهزت التقارير عن جرائم حرب محتملة بعمق صورة آبي أحمد، باعتباره "صانع سلام" حائز على جائزة دولية مرموقة.

لاجئون من التغراي يعبرون الحدود باتجاه السودان (رويترز)

حرب تلد أخرى

ميليشيات أمهرية موالية للحكومة قرب مدينة دابات التي هاجمتها قوات تيغراي(الفرنسية)

رغم هزيمتها العسكرية وفقدانها عاصمة إقليمها استطاعت "جبهة تحرير شعب تيغراي" تنظيم صفوفها والقيام بعمليات محدودة على مدار الشهور الماضية، ثم استعادة المبادرة العسكرية.

وتجدد الصراع مع عمليات فرز الأصوات في أعقاب الانتخابات الإثيوبية العامة، التي جرت في يونيو/حزيران 2021.دون التصويت في منطقة تيغراي الشمالية وأجزاء أخرى مضطربة، وفاز فيها "حزب الازدهار" الذي شكله آبي أحمد بـ410 مقاعد من  جملة 547، وفي الأثناء حققت الجبهة انتصارات على قوات الجيشين الإثيوبي والإريتري، في أماكن متفرقة من المنطقة الشمالية.

وشهد الصراع نقطة تحول مفاجئة باستعادة قوات دفاع تيغراي السيطرة على مدينة ميكيلي عاصمة الإقليم في 28 يونيو/حزيران 2021، وإعلان قوات الحكومة الاتحادية الانسحاب منها ووقف إطلاق النار من طرف واحد، فيما قالت الجبهة إنها ستكثف نضالها حتى يغادر جميع "الأعداء" المنطقة.

ومع تقدم قوات تيغراي وانضمام "جبهة تحرير أورومو" إليها تم إعلان تشكيل جبهة عسكرية وسياسية ضد رئيس الوزراء آبي أحمد للسعي إلى فترة انتقال سياسي، والتهديد باقتحام العاصمة.

وضم التحالف الجديد، الذي وقع في واشنطن تحت اسم "الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكنفيدرالية الإثيوبية" قوات "جبهة تحرير شعب تيغراي" و"جيش تحرير أورومو"، و7 مجموعات أخرى من جميع أنحاء البلاد هي:

– جبهة وحدة عفار الثورية الديمقراطية

– حركة آغاو الديمقراطية

– حركة تحرير شعب بني شنقول

– جيش تحرير شعب غامبيلا

– حركة العدالة والحق للشعب الكيماني العالمي/ حزب كيمانت الديمقراطي

– جبهة سيداما للتحرير الوطنية

– مقاومة الدولة الصومالية

تيغراي - تغطية تيغراي mob

كيف تجري المعارك؟

خلال المواجهات الجديدة، تقدمت قوات تيغراي في عمق إقليم أمهرة ومناطق بإقليم عفار. وسيطرت على مدينة "ديسي" شمال إثيوبيا وأقصى جنوب إقليم أمهرة ( 397 كيلومترا عن العاصمة أديس أبابا) ومدينة "كومبولشا" ( 376  كيلومترا عن أديسا أبابا) و"كيميسي" (320 كيلومترا)، وعمليا لم تعد هناك مدن كبيرة تفصل بين هذه القوات والعاصمة أديس أبابا سوى "ديبري برهان" (58 كيلومترا عن العاصمة).

وتكمن أهمية السيطرة على هذه المدن في وقوعها على الطريق المؤدية إلى أديس أبابا وقربها من الطرق الدولية A1 وA2، التي تمر بها نحو 95% من الصادرات الإثيوبية نحو ميناء جيبوتي، كما توجد فيها بعض الاستثمارات والمشاريع الأجنبية.

وتسعى الجبهة للسيطرة على مزيد من المواقع للضغط على الحكومة المركزية عسكريا وسياسيا في أي مفاوضات محتملة – تشير تقارير أنها تجري فعلا في العاصمة الكينية نيروبي-، وخصوصا إذا تمكنت من السيطرة على مدينة "باتي" و"مللي" الواقعة على الطريق الرئيسي بين جيبوتي وأديس أبابا.

ومع مزيد تقدم قوات التيغراي وحلفائها سيصعب على قوات الحكومة المركزية شن هجوم مضاد ناجح، وستعتمد بالأساس على الطيران لوقف تقدم هذه القوات، أوعلى الجيش الإريتري لشن هجوم من الشمال على إقليم تيغراي. وسبق للجيش الإريتري مساعدة القوات الحكومية في السيطرة على ميكيلي في معارك نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.

An Ethiopian girl stands at the window of a temporary shelter, at the Village 8 refugees transit camp, which houses Ethiopian refugees fleeing the fighting in the Tigray region, near the Sudan-Ethiopia border, Sudan, December 2, 2020. REUTERS/Baz Ratner TPX IMAGES OF THE DAY
طفلة في معسكر للاجئين الإثيوبيين في السودان(رويترز)

إثيوبيا.. ثقل التاريخ وعبء التنوع

تتكون جمهورية إثيوبيا الاتحادية الديمقراطية كدولة فدرالية من عشرة أقاليم عرقية (مناطق أو ولايات) ذات حكم ذاتي مع مدينتين لهما وضع خاص (أديس أبابا وديرا داو). ويكفل الدستور الصادر في 8 ديسمبر/كانون الثاني عام 1994 لكل إقليم حرية تنظيم انتخابات وتقرير مصيره.

لكن تعدد العرقيات واللغات (نحو 100 لغة وفق دائرة المعارف البريطانية) وهيمنة حكم عسكري استبدادي مارس التفرقة والبطش قبل تسعينيات القرن الماضي، وأدخل البلاد في حرب أهلية وتدهور اقتصادي، إضافة إلى الحرب طوال عقود مع إريتريا المجاورة-قبل توقيع اتفاق السلام عام 2018-، والخلافات مع دول الجوار جعل المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد متحركا وفوارا وقابلا للانفجار في أي لحظة.

وتقع إثيوبيا في شرق القارة الأفريقية دون سواحل بحرية، تمتد على مساحة مليون و104 آلاف كيلومتر مربعا، ويبلغ عدد سكانها 115 مليون نسمة وفق آخر إحصائيات البنك الدولي لسنة 2020. وتضم عرقيات وقوميات متعددة يصل عددها إلى 80.

وتعد إثيوبيا من الدول المؤسسة لمنظمتي الأمم المتحدة والوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليا)، وهي دولة ذات تاريخ عريق شهدت أقدم الأنظمة الملكية في أفريقيا والذي سقط بانقلاب 1974، كما تعد موطن الكنيسة الأورثودكسية (وهي أحد أقدم الكنائس المسيحية)، يدين نحو 62% من سكانها بالمسيحية (أرثودوكس وبروتستانت) ونحو 33.9% بالإسلام. فيما يعتنق البقية ديانات مختلفة.

ومنذ عام 1962 سيطرت إثيوبيا على إريتريا المجاورة وضمتها إليها بحثا عن منفذ إلى البحر، وبعد حرب تحرير استمرت نحو ثلاثة عقود استقلت إريتريا عام 1993.

أطاح الجيش الإيطالي الفاشي عام 1935 بالإمبراطور منغستو هيلا سيلاسي (1930-1974) ليعود إلى عرشه بعد تدخل القوات البريطانية، وتمت إطاحته مجددا بانقلاب عسكري عام 1974 نظمه ضباط شيوعيون (موالون للاتحاد السوفياتي في تلك الحقبة خلال الحرب الباردة) دانت فيه القيادة لمنغستو هيلا مريام (1974-1991) بعد أن تخلص من كبار الضباط في لجنة "الديرغ" وخصوصا "أمان عندوم" و"تييفري بنتي".

وطوال نحو عقدين شهدت البلاد وضعا اقتصاديا واجتماعيا صعبا أدخلتها في نزاعات داخلية غذاه بطش الحكم العسكري، الذي أطاحته عام 1991 "الجبهة الشعبية الديمقراطية الثورية الأثيوبية"- والتي تعد "جبهة تحرير شعب تيغراي" جزءا رئيسيا منها. وتشكّل نظام جمهوري ديمقراطي فدرالي قاده لفترة طويلة كرئيس للدولة والوزراء الراحل ميليس زيناوي (1991-2012).

شهدت إثيوبيا استقرارا نسبيا مع تشكل الأحزاب ومنح سلطة واسعة للأقاليم، لكن ذلك لم يحل التناقضات العرقية المزمنة والأزمة الاقتصادية ومشكلة الحكم، خصوصا مع سيطرة التيغراي والأمهرة على مقاليده، وتململ الأورومو الذين يمثلون أكبر قومية في البلاد.

الحكومة الإثيوبية تناقش مع المعارضة مستقبل المشاركة السياسية بالبلاد
لم تستطع إثيوبيا تثبيت تجريتها الديمقراطية (الجزيرة)

ومع اندلاع الحرب مع إريتريا (1998-2000) والوضع المتوتر مع الدول المجاورة، الذي تجسد في تدخل عسكري إثيوبي في الصومال عدة مرات (1996، 2009، 2012) وقبل ذلك ضم إقليم أوغادين (الصومال الغربي) عام 1978 واعتباره الإقليم التاسع، وكذلك النزاع مع السودان حول منطقة الفشقة وفترات الجفاف، والتحركات الاحتجاجية المتواترة، لم تستطع إثيوبيا تثبيت تجربتها الديمقراطية رغم الاستقرار النسبي وتحسن المؤشرات الاقتصادية.

واللافت هو الطفرة الاقتصادية التي حصلت في العقدين الماضيين، حيث أصبحت إثيوبيا من الدول الخمسة الأسرع نموا في العالم، ونجحت في تحقيق معدلات نمو في الناتج المحلي بلغت 9.7% في عام 2012-2013، وترواحت بين 8.5% في عام 2015-2016 و 9% في 2018- 2019 وانخفضت نسبة الفقر من 44.2% عام  2000 إلى 23.5% عام 2015، وزاد متوسط دخل الفرد بنسبة 600% منذ عام 2000، كما أصبحت إثيوبيا دولة جاذبة للاستثمارات الأجنبية – لا سيما الصينية- وأنشأت مشاريع ضخمة في الصناعة والزراعة والسياحة والخدمات، لكن هذا النمو بقي يشكو من خلل في التوزيع على مستوى المناطق والأقاليم، ولم ينعكس بشكل عام على المستوى المعيشي لعامة الشعب.

The women workers in the textile factory in the capital city Addis Ababa, Ethiopia, June 2018; Shutterstock ID 1279787191; Department: -
عاملات في معمل نسيج بأديس أبابا (وكالات)

إقليم تيغراي؟ عقدة الحل والحرب

يقع إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا وعاصمته ميكيلي، وتحده من الشمال إريتريا، ومن الغرب السودان، ومن الشرق إقليم عفار، ومن الجنوب إقليم أمهرة. ويشير آخر إحصاء أجرته السلطات الإثيوبية عام 2020 إلى أن عدد سكانه يبلغ نحو 7 ملايين نسمة، منهم 95.5% منهم من المسيحيين الأرثوذكس، و4% مسلمون و0.4% من المسيحيين الكاثوليك و0.1% مسيحيون بروتستانت. ويعد حوالي 80% من سكان إقليم تيغراي من المزارعين، الذين يساهمون بنحو 46% من الناتج المحلي الإقليمي للدولة الإثيوبية.

اللغة الرسمية في إقليم تيغراي هي اللغة التيغيرية، كما تستخدم لغات أخرى من بينها الأمهرية (وهي اللغة الرسمية في إثيوبيا) والساهو والكوناما والفرنسية والإسبانية، والعربية التي يستخدمها عرقية "بني شنقول" التي تسكن  بمحاذاة الحدود السودانية.

تعد عرقية تيغراي -وهم من العناصر الإكسومية ذوي الأصول السامية- هي السائدة في الإقليم، وتشكل ثلاثة أرباع السكان تقريبا. ولكن يوجد أيضا عرقيات "اليوروب" المتحدثين بلغة الساهو، وعرقية الأمهرية والكوناما والرايا وبني شنقول.

ورغم أن التيغراي يشكلون 6% فقط من سكان إثيوبيا، فقد كان لهم دور تاريخي طويل في حكم إثيوبيا، وهيمنوا على المقاليد السياسية بالبلاد لما يقرب من ثلاثة عقود حتى اندلاع احتجاجات عام 2018 التي أطاحت بالحكومة السابقة وبدء حقبة آبي أحمد.

ويمتلك إقليم تيغراي –مثل كل الأقاليم الإثيوبية- سلطة تنفيذية وحكومة إقليمية وسلطة تشريعية تتمثل في مجلس الدولة، أما السلطة القضائية تتولاها المحكمة العليا للإقليم.

مهد البشرية!

تشير الدراسات الإنتروبولوجية إلى أن إقليم تيغراي يمتلك تاريخا يعود إلى عصر ما قبل التاريخ، حيث اكتشفت فيه حفريات للإنسان الأول الذي يبلغ عمره 4.2 مليون عام والذي يعرف باسم "أسترالوبيثكس أفارينسيس"، كما عثر فيه أيضا على حفريات لإنسان الأورومو في العصر الحجري الأوسط قبل 300 ألف عام، وهو أقدم هيكل عظمي لإنسان عاقل وجد على الأرض حتى الآن، أي أن إقليم تيغراي يعد مهد الحضارات فعليا.

كما رصدت دراسات أخرى في الإقليم وجود أوائل السكان في العالم الناطقين باللغات، والتي كانت مكتوبة ومنطوقة ويطلق عليها اللغة "الأفروآسيوية". وكان الإقليم أيضا مجالا رئيسيا لحضارات متقدمة، تفاعلت مع الحضارات الأخرى وكونت ما عرفت بمملكة "آكسوم"، التي كانت تضم تيغراي وإريتريا، ووسعت حكمها إلى اليمن وعدت واحدة من القوى العظمى الأربع في العالم حينها، إلى جانب روما وبلاد فارس والصين.

(FILES) This file picture dated 31 October 1986 Haile Mariam Mengistu, Ethiopian leader and chairman of the Provisional Military Administration Council (1977-87) and future Ethiopian President,
شاركت قوات تحرير شعب تيغراي في القتال ضد حكم منغستو هيلا ميريام (الفرنسية)

الذراع العسكرية ..قوات دفاع تيغراي

تم تأسيس "جبهة تحرير شعب تيغراي" في فبراير/شباط 1975، وكانت حزبا سياسيا يتخذ ميكيلي عاصمة تيغراي مقرا له. وقادت الائتلاف الحاكم في إثيوبيا منذ عام 1991 حتى عام 2018.

ولكن مع صعود آبي أحمد، بدأ الصراع علنيا بين الجبهة و"حزب الازدهار" الذي أطلقه آبي أحمد. وفي 18 يناير/كانون الثاني 2021 أنهى المجلس الوطني للانتخابات تسجيل الحزب رسميا، ليتحول من حزب سياسي حاكم إلى حزب متمرد يتبنى العنف وسيلة لإرضاخ الحكومة الفيدرالية منذ عام 2020.

يعد الذراع العسكري لجبهة تحرير شعب تيغراي أكثر من 100 ألف مقاتل وفق بعض التقديرات وهو مجهز بشكل جيد ويمتلك منذ عام 1991 آليات ومعدات عسكرية وقوات خاصة. بدأ القتال ضد نظام منغستو هيلا مريام الماركسي بأسلوب حرب العصابات وتشكل من بضع مئات من المقاتلين آنذاك.

تشير التقارير إلى أن رئيس الأركان السابق في الجيش الإثيوبي الجنرال تسادكان جبريتنساي (68 عاما) والذي أقاله رئيس الوزراء الأسبق ميليس زيناوي ومنعه من العمل العسكري بسبب خلاف حول إستراتيجية الحرب مع إريتريا،- حيث كان يريد احتلال أسمرة- هو الذي المسؤول المركزي لقوات الجبهة حاليا.

ورغم الخلاف مع قادة الجبهة وابتعاده عن العمل السياسي والعسكري التحق جيبرتنساي بقوات الجبهة بعد اندلاع الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وأشرف على تنظيمها ضمن ما يعرف بقوات دفاع تيغراي. وهو من أبرز الضباط الإثيوبيين في التخطيط العسكري وقيادة العمليات.

ومع انضمام فصائل عسكرية وسياسية إلى الجبهة واتساع خطوط المواجهة وقربها تدريجيا من أديس أبابا، تطرح سيناريوهات عدة لمآلات الحرب، خصوصا مع فشل مبادرات للوساطة وتحذير الولايات المتحدة ودول غربية لرعاياها ودعوتها للمغادرة، بما يشير إلى حدة الأزمة وإمكانية تطورها نحو الأسوأ.

Gen Tsadkan Gebretensae - المصدر: .tesfa news
الجنرال تسادكان جيبريتنساي يقود قوات دفاع تيغراي (تيسفا نيوز)

هل يدخل التيغراي أديس أبابا مجددا؟

لا تعدّ الأزمات والصراعات ذات الطابع العرقي والسياسي جديدة على إثيوبيا، لكن هذه الأزمة تعد فارقة نظرا للأجندات المتعارضة للأطراف المتصارعة والسقف العالي للمطالب، حيث يطالب التيغراي وحلفاؤهم بإسقاط آبي أحمد (النظام) في حين يطالب آبي أحمد وحلفائه من الأمهرة وقطاعات من الأورومو بالقضاء على الجبهة.

ويشير تحذير آبي أحمد في- تصريح له – من السيناريو الليبي والسوري إلى درجة خطورة الأزمة والمخاوف الجديّة على وحدة البلاد.
وعلى المستوى القريب والمتوسط، وفي علاقة بالواقع الميداني المتحرك والمعارك الدائرة وآفاق التوصل إلى حل عبر المفاوضات أو الحسم العسكري تبرز سيناريوهات عدة، بينها:

– تدخل من الجيش الإريتري بتفويض من الحكومة المركزية ضد جبهة تيغراي والأطراف المتحالفة معها وإعادة السيطرة على ميكيلي، ومن ثم تخفيف الضغط على القوات الحكومية ووقف تقدم القوات المعارضة نحو أديس أبابا، ثم المرور إلى حسم عسكري أوتحسين شروط التفاوض.
– لجوء القوات الحكومية إلى القصف بالطيران وقطع خطوط إمداد جبهة تحرير شعب تيغراي وحلفائها وإطالة أمد الحرب وتسليح الجبهات (    توريد الطائرات بدون طيار، تسليح فصائل، استقدام مرتزقة أجانب..).
– سيطرة قوات تيغراي وحلفائها على الطرق التجارية الرئيسية نحو موانئ جيبوتي وإريتريا، وبالتالي خنق الصادرات والواردات الإثيوبية وتشكيل ضغط كبير على حكومة آبي أحمد لدفعها إلى مفاوضات مشروطة.
– تقدم قوات الجبهة وحلفائها إلى أديس أبابا والسيطرة عليها وهو ما قد يسقط الحكومة لكن لا يضمن انتهاء المعارك، كما قد يؤدي إلى خلاف بين الفصائل التسعة المناهضة لآبي أحمد يمكن أن تتطور إلى اقتتال بينها بحكم غاياتها المتباينة.

-حدوث انقلاب عسكري من قبل الجيش الحكومي لخلع آبي أحمد – كما يتوقع البعض- حيث يبدو الجيش الإثيوبي حاليا ضعيفا ومنقسما على نفسه، ثم المرور لمرحلة انتقالية يبقى نجاحها غير مضمون، وقد تؤجج النزاعات أكثر من حلها.

Memorial service for the victims of the Tigray conflict
حدوث انقلاب عسكري ضد آبي أحمد ضمن السيناريوهات المطروحة (الأناضول)

– تحوّل المواجهات إلى صراع طويل الأمد يخرج كل النزعات الانفصالية والمشاكل العرقية في البلاد، ويؤدي إلى حرب أهلية وربما توسع دائرة الصراع لتشمل الأقاليم الجنوبية ومناطق إضافية من شمال ووسط أوروميا.
– تحوّل القتال من أجل الحصول على قدر أكبر من الحكم الذاتي إلى مطالب استقلال وانفصال، وهو ما يفكك إثيوبيا عمليا ويؤثر في منطقة القرن الأفريقي ككل في ظل التداخل السكاني بين دوله.
– عدم حسم أي طرف للمعركة سريعا، وحصول ضغط دولي على الأطراف المتحاربة خاصة بشأن الضحايا المدنيين وجرائم الحرب، وفرض عقوبات على المسؤولين عن النزاع من أجل إيقاف القتال ثم إمكانية إرسال قوات حفظ سلام أو فصل دولية.
– التوصل إلى اتفاق تقاسم سلطة برعاية دولية تضمن تمثيل التيغراي في حكومة فدرالية، لكن هذا السيناريو يستوجب إرضاء جميع الأطراف الأخرى، وقد تعرقله التباينات في المشاريع السياسية والمطالب بين الفرقاء وحتى الشركاء.

وتبدو كل السيناريوهات مطروحة في الأزمة الإثيوبية الحالية، فعمق التناقضات وصعوبة إدارة التنوع الهائل في هذا البلد يمثلان عبئا شديدا على أي نظام، كما أن الاحتكام إلى السلاح قد تجعل مقاليد الأمور تفلت من الجميع نحو حرب أهلية تؤثر بشكل ما على عموم شرق أفريقيا.

ومهما كان السيناريو الذي ستؤول إليه الأوضاع، يبدو أن إثيوبيا قد تودع سنوات الطفرة الاقتصادية والاستقرار النسبي- النادرخلال العقود الماضية- لتدخل نفق الهويات والشرعيات المتقاتلة، وتفقد صورتها كنموذج في المنطقة ما لم يحصل تدخل دولي إيجابي وحازم.

فريق العمل

_______

محررون : زهير حمداني ، محمد العلي

إنفوغراف وخرائط: قسم الوسائط

المصدر : الجزيرة