الطنطورة.. وثائقي إسرائيلي يكشف تفاصيل إحدى مجازر النكبة

يعتقد المؤرخون أن ما كشف عنه الفيلم يمكن الاعتماد عليه لفتح تحقيق دولي ضد مرتكبي مجزرة الطنطورة ومجازر القرى والمدن الفلسطينية خلال النكبة عام 1948، رغم المعيقات الدولية والمحلية.

منظر جوي لقرية الطنطورة الساحلية التي هجّرت العصابات الصهيونية أهلها وأقيم على أنقاضها كيبوتس "نحشوليم" ومستوطنة "دور" (الجزيرة)

القدس المحتلة – لم يكن فيلم "الطنطورة" للمخرج الإسرائيلي ألون شفارتس، الذي يوثق إفادات جنود من لواء "ألكسندروني" يعترفون بارتكاب مجزرة قرية الطنطورة الفلسطينية ودفن شهدائها في قبر جماعي، مفاجئا للمطلعين والمؤرخين، بل للفلسطينيين عامة، لأنه لم يأت بجديد، ولكنه أكّد صدق الرواية الفلسطينية الموثقة سابقا.

وارتكبت المجزرة في قرية الطنطورة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، التي هُجّر أغلب أهلها المقدّر عددهم بنحو 1200 في النكبة إلى قرية الفريديس القريبة، ومنهم من استقر فيها.

والجزء الأكبر أجبرهم المستوطنون الذين سكنوا مستوطنة "زخرون يعقوب"، بعد إقامتها على أنقاض البلدة المهجرة المجاورة "زمرين"، على الرحيل، فتفرقوا حتى استقر بعضهم في مخيم اليرموك بسوريا أو في منطقة إربد بالأردن وبعض القرى العربية في الداخل الفلسطيني.

ووفقا للباحثين الفلسطينيين، فإن إفادات أخرى عن مجزرة الطنطورة، وُثّقت سابقا في الأرشيف الفلسطيني، إلى جانب شهادات الجنود الإسرائيليين، يمكن استخدامها لمتابعة المجازر الإسرائيلية أمام القضاء الدولي.

وعلى الصعيد المحلي، يعتقد الباحثون والمؤرخون أنه يجب ممارسة ضغوط على السلطات الإسرائيلية وإلزامها بفتح تحقيق جنائي وتوثيق الجريمة بشأن القبر الجماعي في الطنطورة، بإشراف دولي محايد، وعلى يد خبراء مختصين.

تصوير جوي لقرية الطنطورة عام 1947 قبل وقوع المجزرة حصل عليه طاقم الفيلم من الأرشيف الإسرائيلي (الجزيرة)

زعزعة الرواية الإسرائيلية

يعتقد الباحث في طاقم الإنتاج لفيلم "الطنطورة" سامي العلي أنه بداية لمحاكمة شعبية لمرتكبي المجزرة، وتأسيس لرأي عام دولي يعزز الرواية الفلسطينية، سيدفع إلى حل عادل وبناء تحالف يفضح الاحتلال الاستعماري وممارساته، ويزعزع الأساطير الإسرائيلية عن الادّعاءات "الأخلاقية والإنسانية" للجيش.

ويوضح العلي، المنحدر من قرية جسر الزرقاء الساحلية المتاخمة للطنطورة، للجزيرة نت، أنه إلى جانب اعترافات بعض المشاركين في ارتكاب المجزرة، سعى الفيلم إلى غربلة الأرشيف الإسرائيلي وفضح السياسة التي عمدت إلى طمس الرواية الفلسطينية، وتغيير الحقائق والأدلة.

ويعتمد الفيلم على روايات وإفادات امتدت 140 ساعة، لناجين من المجزرة ولمشاركين في ارتكابها، كما استندت إلى الكشف عن وثائق بالأرشيف الإسرائيلي تتضمن اعترافات لبعض الضباط خلال المراسلات بينهم بارتكاب المجزرة وقتل السكان من دون الإشارة إلى عدد الضحايا ووضع الجثث في قبر جماعي.

مكان القبر الجماعي الذي دفن فيه بعض ضحايا مجزرة الطنطورة ونُقل رفاتهم إلى مكان غير معلوم عام 1949 (الجزيرة)

قبر جماعي وإخفاء للضحايا

سعيا للتستر على المجزرة، يقول العلي إن الأرشيف الإسرائيلي قام بتصوير فيلم بعد المجزرة والنكبة، كأن الطنطورة فارغة، قبل احتلال العصابات اليهودية لها، واستهدف الفيلم حجب حقيقة ارتكاب المجزرة ودحض روايات أهالي القرية الذين هُجّروا بالقتل وقوة السلاح.

ولم يتوقف ما كشف عنه فيلم الطنطورة عند اعترافات 4 جنود من لواء "ألكسندروني" الذين شاركوا في المجزرة، بل أظهر تصوير جوي ثلاثي الأبعاد للمنطقة أن حفرة حُفرت في عام 1948، بعد ارتكاب المجزرة، بطول 35 مترًا وبعرض 4 أمتار وبعمق متر واحد.

وتحولت الحفرة إلى قبر جماعي دفن فيه ضحايا مذبحة الطنطورة، الذين يراوح عددهم بين 90 إلى 200. وبعد قرابة عام، أي في 1949، حُفر القبر الجماعي وانتشلت جثث الضحايا، ولا يعلم إلى الآن مصيرها، حسب العلي.

شهادات وروايات

يقول المؤرخ الفلسطيني إبراهيم أبو جابر، مؤلف "موسوعة إحياء الذاكرة الفلسطينية" التي أتت بعنوان "جرح النكبة"، إنه رغم "الشهادات المجتزأة لبعض القتلة اليهود ممن شاركوا في مجزرة الطنطورة، فإن الفيلم يعدّ إضافة جديدة لإعادة تسليط الضوء على الطنطورة ومجزرتها".

ويوضح أبو جابر -للجزيرة نت- أن اعترافات بعض القتلة من لواء "ألكسندروني" تتوافق مع ما وثقه بعض من أرّخوا أحداث النكبة، خاصة عن القتل والقبر الجماعي، لكن رواياتهم غير كاملة ولا ترتقي إلى حقيقة ما حدث وما ذكره العديد من شهود العيان والناجون من المجزرة.

وكان أبو جابر وثّق شهادات لأبناء الطنطورة التي عاشت أحداثا دامية منذ ليلة 22 مايو/أيار 1948، حين حاصرتها كتيبة 33 من لواء "ألكسندروني" من البحر ومن الجهات الثلاث، بعد تهجير أكثر من 48 عائلة أو ما يقارب 1200 من سكانها.

وتبعا لشهادات الناجين، ففي البداية تم صدّ القوات اليهودية المهاجمة، فاستعان المهاجمون بطائرتين من سلاح الجو الملكي البريطاني قصفتا الطنطورة وقرية "إجزم" المجاورة، ثم اجتاح عناصر كتيبة 33 القرية وشرعوا في ارتكاب المجزرة وتشريد السكان، ونهبتها أيدي العصابات الصهيونية.

ومما تم تأكيده أيضا، يقول المؤرخ أبو جابر "دفن الشهداء في مقبرتين جماعيتين، الأولى ذكرها الفيلم، والأخرى للشباب على ساحل البحر، وفي مقبرة واحدة فقط دفن 98 شهيدا منهم امرأتان، فضلا عن حوادث اعتداء على النساء وسرقة لكل شيء ثمين يحملنه من مال أو مصاغ ذهبي".

وذكر الشهود الناجون أيضا أن جنديا واحدا قتل بالرصاص 12 شخصا. ويقول أبو جابر "المشهد الذي عرضه الفيلم غير مكتمل أبدا مقارنة بما وقع لسكان الطنطورة، فهناك كثير من الحقائق غائبة لم تذكر".

عناصر العصابات اليهودية ينقلون سكان الطنطورة إلى مناطق جنين وطولكرم ويمنعونهم من العودة إلى قريتهم (الجزيرة)

مسار قضائي رغم المعيقات

ويرى أبو جابر أن بالإمكان الاعتماد على ما ورد في الفيلم كقاعدة لفتح ملف جزائي ضد مرتكبي المجزرة، لكنه بحاجة إلى مزيد من المعلومات حتى تكتمل الصورة ولتصبح البيانات كافية لمقاضاة القتلة.

ويوضح أن بإمكان أي جهة تقديم شكوى ضد القتلة من العصابات اليهودية والسلطات الإسرائيلية، ويمكن عن طريق أقارب الشهداء أو من ينوب عنهم، من مؤسسات قانونية ومنظمات حقوق الإنسان أو الأحزاب، رفع هذه الدعاوى القضائية.

وعن المعيقات أمام تدويل مجازر النكبة، قال أبو جابر "الأمر ليس بهذه السهولة، فأميركا تدعم إسرائيل بمحكمة الجنايات الدولية، أما محليا فالقضاء الإسرائيلي يوفّر الحماية للجنود، وعلى الرغم من ذلك يجب ملاحقة المجرمين قضائيا مهما كانت النتيجة".

تأكيد المؤكّد

ويعود الباحث في الآثار والمقدسات عبد الرازق متاني إلى ما وثقه قبل سنوات طويلة لبعض شواهد القبور عند الطنطورة، قائلا "اعترافات الإسرائيليين تأكيد لما قلناه ووثقناه نحن الفلسطينيين من مجازر وتطهير عرقي خلال النكبة"، وتابع "هذه شهادات إسرائيلية تؤكد المؤكد، لكن من شأنها فتح ملفات مجازر النكبة من جديد".

ويعتقد متاني أن الاعترافات الإسرائيلية الجديدة التي تؤكد صحة الرواية والشهادات الفلسطينية تشكل حجر أساس لطرح مجاز النكبة أمام القضاء الدولي أو حتى تحريك ملف مجزرة الطنطورة أمام القضاء الإسرائيلي، خصوصا بعد الكشف عن وجود قبر جماعي عند مدخل القرية.

ويوضح متاني أن الباحثين الفلسطينيين وثقوا على مدار 6 عقود عشرات الجرائم والمجازر لناجين من المجازر، منها: مجازر قرى دير ياسين والدوايمة وبلد الشيخ، ومجازر قرية حمامة ومدينة يافا، علما أن هناك شهادات حية وثّقت فظاعة ما ارتكبته العصابات اليهودية.

المصدر : الجزيرة