اعتراف دون اعتذار.. ما أبعاد زيارة ماكرون إلى رواندا؟

أدرك ماكرون أن الطريقة الوحيدة لإحياء العلاقة مع رواندا هي الكشف عن مجريات إبادة التوتسي ودور فرنسا فيها، دون تحمل مسؤولية الإبادة أو أي دور فيها.

French President Emmanuel Macron in Rwanda
يسعى ماكرون لفتح صفحة جديدة بين بلاده ورواندا دون تحمل مسؤولية ما عن الإبادة الجماعية فيها (الأناضول)

"لدي قناعة عميقة أنه في الساعات القليلة المقبلة سنكتب معا صفحة جديدة في علاقتنا مع رواندا وأفريقيا"، تغريدة نشرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على حسابه بتويتر قبل صعوده الطائرة المتوجهة إلى العاصمة الرواندية كيغالي، بعد أكثر من 10 سنوات على زيارة نيكولا ساركوزي.

وتطمح هذه الزيارة الرمزية إلى تطبيع العلاقات الثنائية، وإنهاء عملية المصالحة بين البلدين بعد فتور دام أكثر من ربع قرن، تخلله توترات دبلوماسية مرتبطة بالدور الذي كان لفرنسا في الإبادة الجماعية للتوتسي عام 1994 في رواندا التي تعني "أرض الألف تل".

French President Emmanuel Macron in Rwanda
ماكرون حريص على تطبيع علاقات بلاده مع رواندا بعد قطيعة دامت أكثر من 25 عاما (الأناضول)

اعتراف دون اعتذار

وتوجه إيمانويل ماكرون إلى النصب التذكاري للإبادة الجماعية الواقع في منطقة جيزوزي بالعاصمة كيغالي، حيث دفن رفات أكثر من 250 ألف ضحية، بعد وصوله فجر اليوم الخميس 27 مايو/أيار، وألقى خطابا أمام 150 من الحضور.

وعلى الرغم من أنه خطاب طال انتظاره، فإنه لم يحمل اعتذارا واضحا للمآسي التي أودت بحياة قرابة مليون شخص، إذ أكد ماكرون أن بلاده "لم تكن متواطئة"، وواجبها تجاه رواندا هو "الاعتراف بمعاناة الشعب الرواندي".

وبدوره أوضح ترامور كيمينور، المؤرخ والأستاذ في جامعة باريس 8 وجامعة سيرجي، للجزيرة نت، أن "عناصر التواطؤ كانت حاضرة بسبب وجود قوات فرنسية في رواندا خلال تلك الحقبة، وأن مسؤولية فرنسا ثقيلة جدا".

ولم يقدم إيمانويل ماكرون أي إضافة عما جاء سابقا في أرشيف "دكليرت" أو تصريحاته التي أدلى بها سابقا في باريس، إذ ذكر أن فرنسا "تجاهلت تحذيرات المراقبين وتحملت مسؤولية كبيرة"، وأنها "لم تكن شريكا" في الإبادة.

وفي بقية خطابه، أكد الرئيس الفرنسي أن الاعتراف بهذا الماضي يعدّ "لفتة بلا مقابل لمواصلة تحقيق العدالة".

وبإلقاء هذا الخطاب الرمزي يصرّ رئيس الجمهورية على أنه يريد "محو 27 عاما من المسافة المريرة" التي انقضت.

وفي حوار مع الجزيرة نت، يقول ناصر زهير، الكاتب السياسي ومستشار العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في فرنسا، إن الاعتراف الفرنسي بإبادة التوتسي لا يعدّ "صحوة ضمير"، بل يأتي في إطار تصحيح السياسات الفرنسية القديمة وحقبة الاستعمار وجرائمه، لكنه اعتراف يجب أن يكون مصحوبا بأمور أخرى.

سجل ضحايا مذابح رواندا التي قتل فيها 800 ألف مواطن خلال 100 يوم من الحرب الأهلية (الأوروبية)

صفحة جديدة

ومن المتوقع أن تفتح هذه الزيارة "صفحة جديدة" من التعاون السياسي والثقافي والاقتصادي بين البلدين وتكون بمنزلة "المرحلة الأخيرة لتطبيع العلاقات"، حسب بيان أصدره الإليزيه.

وقد أكد إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي أنه سيكون حريصا على كتابة صفحة جديدة بين فرنسا ورواندا، وهما دولتان، وفقا لنظيره بول كاغامي، "لديهما الآن فرصة لبناء علاقة جديدة".

ووصف غابرييل أتال، المتحدث باسم الحكومة، يوم الأربعاء 26 مايو/أيار، الذهاب إلى رواندا بأنه يمثل "خطوة مهمة يقوم بها رئيس الجمهورية لنتمكن من النظر إلى تاريخنا وماضينا وجها لوجه، وبشفافية كاملة للمضي قدما".

وبينما كانت تأمل شخصيات سياسية أخرى مثل رافائيل جلوكسمان، عضو البرلمان الأوروبي، تقديم اعتذار من أجل "طيّ صفحة مخزية في حياة أمتنا لأن الرئيس يبدو أنه يدحض أي توبة"، كما أشار في حوار نشرته مجلة "زاديغ" الفرنسية.

ومن جهته، يؤكد ناصر زهير أن الأجندة التي تسعى إليها فرنسا بهذه الاعترافات هي محو الصورة القديمة السلبية في أفريقيا لفكرة المستعمر السابق السيئ.

ومن ثم، فإن فرنسا تحاول تلميع صورتها والسير في اتجاهات محددة تتعلق بالاعتراف بالجرائم ومحاولة مساعدة هذه الدول، ولكن هذه الإستراتيجية تتطلب كثيرا من العمل، وما زال مبكرا القول إن نتائجها إيجابية لأنها قد تنتج واقعا آخر هو المطالبة بتعويضات وتحمل مسؤولية الجرائم.

ومن غير المرجح أن تتحمل الجمهورية أي تبعات قانونية لأنها تعدّ الإبادة "مرحلة انقضت"، وإن حدث العكس، فإنها ستكون مرغمة على التعامل مع كثير من الملفات في أفريقيا، بما في ذلك الجزائر، وستجر دول الاستعمار القديم مثل بريطانيا وإسبانيا إلى فعل المثل، حسب زهير.

تقارب اقتصادي بعد المصالحة

ولا تخلو الزيارات الرئاسية من المصالح الاقتصادية والتنموية، وهذا ما يبدو جليًّا في زيارة ماكرون إلى رواندا إذ شملت وجود وكالة التنمية الفرنسية وعشرات الشركات، ومن المتوقع إعلان إطلاق مشروعات جديدة في رواندا لتعزيز نشاط فرنسا الاقتصادي بعد سنوات من الركود.

ويقول المؤرخ الفرنسي كيمينور "سيكون من السذاجة اعتقاد عدم وجود اعتبار اقتصادي لهذه الزيارة، فالاعتراف ليس غرضها الوحيد".

وهو ما أكده ناصر زهير إذ أشار إلى إمكانية حصول بعض النتائج الاقتصادية، لكنها لا تعدّ كبيرة جدا لأن رواندا ليست بالبلد الكبير اقتصاديا، ولكن يمكن القول إن فرنسا بدأت بالتحرك اقتصاديا لمواجهة الصين في أفريقيا من خلال الاستثمار لتكون هناك "فائدة اقتصادية متبادلة"، ولكن الإستراتيجية الفرنسية ليست واضحة المعالم بعد مثل نظيرتها الصينية.

مسؤوليات ثقيلة ومهينة لفرنسا

وحاولت فرنسا التكفير عن أخطاء الماضي في السنوات الخمس الأخيرة من خلال سلسلة من المبادرات لكسر الجمود مع رواندا، كان آخرها إصدار مجموعة من المؤرخين في مارس/آذار 2021 "أرشيف ديكلرت" الذي ركز على دور فرنسا قبل الإبادة الجماعية وفي أثنائها.

واختتم التقرير صفحاته الـ1200 بخلاصة أن مسؤوليات فرنسا "جسيمة"، وأن الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران وحاشيته "تعاموا" في مواجهة الانجراف العنصري لنظام هوتو وقدموا الدعم له آنذاك.

وفي حوار خاص للجزيرة نت مع محرر الأرشيف، فينسنت ديكلرت، قال إن "فريق البحث كان مستقلا دون تدخل من الإليزيه، ولم نقم بهذا العمل لأغراض دبلوماسية أو إعلامية".

وأشار ديكلرت إلى أن الحكومة فتحت جميع أرشيفات الدولة، ولا سيما الأرشيفات السرّية التي لا يمكن الاطلاع عليها بموجب القانون، لأنها تتعلق بقرارات السلطة التنفيذية والجيوش والدبلوماسيين. وفي الحالات العادية، يجب الانتظار 50 عاما للكشف عما حدث عام 1994.

وأكد ديكلرت أن ماكرون أدرك أن الطريقة الوحيدة لإحياء العلاقة مع رواندا هي الكشف عن مجريات إبادة التوتسي ودور فرنسا فيها. وأضاف "إن مسؤولية فرنسا ثقيلة لأنها رفضت المعطيات التي أشارت إلى خطر وقوع مذبحة في رواندا، ودعمت نظاما عنيفا وعنصريا".

ويقول المؤرخ كيمينور إن "مسألة الجزائر مع فرنسا مختلفة لأنها كانت مستعمرة، ومن ثم فإن تقديم أرشيف خاص بالجزائر لن يكون بالطريقة نفسها بالتأكيد".

المصدر : الجزيرة