أزمة جديدة في لبنان.. كف يد قاضية تحقق في تهريب الأموال يفجر جدلا حول الأسباب والنوايا

القاضية عون سبق أن ادعت على حاكم مصرف لبنان ورئيس مجلس إدارة أحد المصارف بجرائم تهريب الأموال إلى الخارج، والتلاعب بسعر صرف الدولار، وضرب العملة الوطنية.

القاضية اللبنانية غادة عون
القاضية غادة عون كانت تحقق في عمليات تحويل أموال للخارج قبل قرار كف يدها (مواقع التواصل)

تتقدم إشكالية التدخلات السياسية بالقضاء على المشهد اللبناني، لتكمن الخطورة -برأي كثيرين- في أن أزمات البلاد تزعزع تماسك السلطة القضائية، وتفقد ثقة اللبنانيين بقدرتها على محاسبة من تسبب بهذا الانهيار التاريخي لبلدهم.

وبعد انسداد سبل تشكيل حكومة إنقاذية وفقا للمبادرة الفرنسية، يستمر التصعيد بين فريقي رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، ليصل إلى الساحة القضائية.

وقبل أيام، أصدر النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، قرارا يقضي بكف يدّ المدعية العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون عن عملها، عبر تعديل جدول توزيع الأعمال لدى النيابة العامة في جبل لبنان، وحصرها في 3 محامين عامين، ومن بينهم القاضي سامر لشيع الذي أوكله بمتابعة الجرائم المالية المهمة.

تمرد القاضية

لكن القرار دفع القاضية عون إلى التصعيد، مستكملةً التحقيق في الملفات التي سُحبت من بين يديها، فاقتحمت مرتين مكاتب شركة "مكتف" للصيرفة وشحن الأموال، مطالبة بتسلم بياناتها للتحقق من عمليات تحويل أموال إلى الخارج من قبل شخصيات لبنانية ومصارف محلية.

وهكذا، تطور الأمر إلى مواجهة فريقين في الشارع: الأول يدعم القاضية عون من أنصار التيار الوطني الحر (برئاسة جبران باسيل صهر الرئيس ميشال عون)، والثاني يدعم القاضي عويدات من أنصار تيار المستقبل (برئاسة الحريري).

اشتباكات مع قوات الأمن خلال محاولتها الفصل بين مؤيدين ومعارضين للقاضية غادة عون قرب قصر العدل ببيروت (الأوروبية)

وبعد أن وصفها كثيرون بـ"القاضية المتمردة"، اجتمع مجلس القضاء الأعلى مرتين للبحث بشأنها، وأصدر بيانا بعد الاستماع لإفادتها، يوم الثلاثاء، أكد فيه أن ما يحصل ليس صراعا بين النائب العام التمييزي والنائب العام الاستئنافي، ولا بين تيارين كما يصوّره البعض.

وقرر مجلس القضاء "الطلب من هيئة التفتيش القضائي إجراء المقتضى، وثانيًا، الطلب من القاضية عون الالتزام بقرار القاضي عويدات".

وعليه، أصبح ملف القاضية عون لدى التفتيش القضائي، ومن المفترض دراسة وقائعه لاتخاذ القرارات المناسبة بشأنه.

وسبق أن ادعت القاضية عون على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ورئيس مجلس إدارة مصرف "إس جي بي إل" (SGBL) أنطوان صحناوي، بجرائم تهريب الأموال إلى الخارج، والتلاعب بسعر صرف الدولار، وضرب العملة الوطنية.

وهنا، يرى مراقبون أن هذه الملفات تأخذ بعدا سياسيا بمسارين متناقضين: الأول، فريق رئيس الجمهورية يدفع بعض القضاة المحسوبين عليه لفتح ملفات فساد ترتبط بخصومه السياسيين، بهدف إدانتهم وتبرئة نفسه، وتحظى بتأييد شعبي كاستعادة الأموال المنهوبة والتدقيق الجنائي. والثاني، فريق رئيس الحكومة المكلف وحلفائه، ويسعى لوقف مسار أي تحقيق بهذا الشأن، على قاعدة أنها تحقيقات انتقائية وتتغاضى عن تورط فريق عون بملفات فساد كبيرة مرتبطة بالمالية العامة.

صراع الفريقين

وكان لافتا موقف وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم التي ساوت بين جميع القضاة، واعتبرت أن كل القضاء تابع لمرجعيات سياسية، وطالبت هيئة التفتيش القضائي بأن تضع يدها على الملف.

أما "نادي القضاة" -وهو تجمع لقضاة مستقلين- فوجّه سهامه للقاضيين عون وعويدات سواسية، واعتبر أن ثمة "وضعية سوريالية سببها ارتهان بعض القضاة"، وقال "اختلفت أدوات الارتهان وكيفية استثماره، إنما النتيجة واحدة، فقدان الثقة بالقضاء".

لكن فريقي باسيل والحريري، ينفيان تبعية القاضيين لهما.

من جهة، يقول المحامي وديع عقل عضو المجلس السياسي في التيار الوطني الحر، إنه لا وجود لأجندة سياسية تربط القاضية عون بفريقه؛ ومن جهة أخرى، يؤكد المحامي فادي سعد عضو المجلس السياسي في تيار المستقبل، أن القاضي عويدات مستقل ولا يرتبط بفريق الحريري.

ويعتبر سعد أن بيان مجلس القضاء ثبّت صوابية وشرعية قرار القاضي عويدات. وقال للجزيرة نت إن لدى التفتيش القضائي عشرات الشكاوى بحق عون، لأنها ارتكبت مخالفات جسيمة، وهي تمتنع عن المثول أمام المدعي العام التمييزي لاستجوابها على الملاحقات الصادرة بحقها، وتعتمد سياسة الهروب للأمام، عبر فتح الملفات التي تصب في مصلحة فريقها السياسي.

في المقابل، يستغرب المحامي عقل الانقسام حول ملف استعادة الأموال المنهوبة، ويشير للجزيرة نت بأن ما تفعله القاضية عون يهدف لملاحقة تهريب الأموال، وحين وصلت لمرحلة التحقق من البيانات، أصدر عويدات قرارا بكف يدها، وهو مناف للقانون -بحسبه- وكأنه يريد وقف التحقيق، كما "خالف عويدات المادة 12 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، والتي تعطي المدعي العام (أي القاضية) وحده صلاحية توزيع الأعمال".

وقال عقل إن "القاضية عون تعالج هذه الملفات لأن عويدات والمدعي العام المالي علي إبراهيم، لا يقومان بواجباتهما بهذا الصدد"، بينما المدعي العام يمثل الدولة ويخاصم لمصلحتها، مما يجعل تدابير القاضية غير كيدية.

التسييس والعقاب

سياسيا، يعتبر الكاتب والمحلل السياسي منير الربيع أن السؤال عن تغاضي القاضي عن ملفات دون سواها مشروع، وإن كان لا يبرر التغاضي عن الملفات التي يعمل عليها.

لكن رئيس الجمهورية -وفق الربيع- بدأ يعمل منذ وصوله لمنصبه (2016) على الإمساك بـ3 مفاصل أساسية بالدولة: القضاء، والعسكر (الأمن)، ومنصب بوزارة المالية.

وفي التشكيلات القضائية عام 2018، نجح الرئيس عون بفرضها بناء على رؤية فريقه، ومن بينها تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، بحسب الربيع. لكن، "عندما تضاربت توجهات عبود مع الرئيس عون، أصبح فريق الأخير يتهمه بالطموح لرئاسة الجمهورية، فلم يوقع عون على التشكيلات القضائية التي عمل مجلس القضاء عليها في 2019-2020، وأحد أسباب عرقلتها حتى الآن، أنها تتضمن تغييرا لمنصب غادة عون".

وقال الربيع إن "فريق ميشال عون يسعى للاستئثار بالمرافق التي يرأسها المسيحيون بالدولة، ضمن صراع ماروني ماروني، على حاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش ورئاسة مجلس القضاء الأعلى ومنصب مدعي عام جبل لبنان، وبالتالي يسعى لإثارة الملفات القضائية لخصومه السياسيين الذين يشغلون هذه المناصب، ولإقصاء كل المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية".

هذا التباين، يمسّ بهيبة القضاء، ويكشف مستوى تسييس وتطييف وشخصنة العدالة بلبنان، وفق المحامي والمدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية الذي يطالب لجنة الإدارة والعدل في البرلمان بالإفراج عن اقتراح قانون "استقلال القضاء" الذي قدمته المفكرة قبل عام ونصف.

وما يحصل بين عون وعويدات، يدفع لضرورة المطالبة باستقلالية القضاء -وفقه- "لأن مستوى الإفلات من الملاحقة والمحاسبة والعقاب بات أسطوريا بلبنان".

ويُذكّر صاغية -في حديثه للجزيرة نت- بأن ثمة عملية سطو كبرى على أموال اللبنانيين، ولو كانت القاضية عون غير محسوبة سياسيا على أحد، لحظيت بتأييد واسع.

والمشكلة -وفقه- هي أن هناك قاضية (أي عون) تحقق بملف شديد الأهمية، وهناك قاض أعلى منها (أي عويدات) يسحب الملف منها، بدل أن يساعدها ويؤازرها بالحصول على المعلومات المطلوبة، بل يوجه رسالة غير مباشرة لكل قاض يريد أن يفتح ملف فساد.

وبما أن القضاء اللبناني وآلية وصول القضاة لمناصبهم مسيسة، يتساءل صاغية إن كان المطلوب التصدي لعمل القضاة بهذه الحجة، مقابل التوجه لنظام اللاعدالة وإغلاق مراكز العدلية.

ويرى أن أداء القاضية عون ليس مثاليا، وتحديدا في قضايا الحريات وملاحقة المواطنين على آرائهم، ولا سيما عند المس برئيس الجمهورية.

كذلك يجد صاغية أن أداء مجلس القضاء الأعلى مخيب، مذكرا بأنه مسيس، لتكوّنه من 10 أعضاء، منهم 8 تعينهم الحكومة.

وإذا كانت الجدية تتطلب قراءة سياسية لقضية عون وعويدات -وفق صاغية- فإنها تتطلب أيضا التركيز على حق وصول اللبنانيين إلى العدالة.

المصدر : الجزيرة