مع تفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية بلبنان.. ما دلالات رفض قائد الجيش وضعه في صدام مع المتظاهرين؟

حتى الآن ما زالت القوى السياسية تتعامل بحذر مع تصريحات قائد الجيش، التي وجّه فيها انتقادات للسلطة السياسية، مخاطبا إياها بالقول "إلى أين نحن ذاهبون؟"، وقال إن "العسكريين يعانون ويجوعون مثلهم مثل بقية الشعب".

Chief of the Lebanese Armed Forces, Joseph Aoun
جوزيف عون: العسكريون يعانون ويجوعون مثل بقية الشعب (الأناضول)

يبدو أن لبنان دخل نفقًا مظلمًا مع تعاظم الأزمات الاقتصادية والمعيشية. وبعد أن أضحى غضب المواطنين في الشارع، برأي كثيرين، مختبرًا ميدانيا لتقاذف الرسائل السياسية بين القوى المتنازعة على السلطة، ووسط حالة الاستعصاء والفوضى، تتوالى الأصداء على كلام قائد الجيش اللبناني جوزيف عون -الأول من نوعه- إذ أعلن صراحة، في اجتماع عسكري، رفضه وضع الجيش في صدام مع المتظاهرين، ووجّه باسم العسكريين انتقادات للسلطة السياسية مخاطبا إياها بالقول "إلى أين نحن ذاهبون؟، وقال إن "العسكريين يعانون ويجوعون مثلهم مثل بقية الشعب".

وحتى الآن ما زالت القوى السياسية تتعامل بحذر مع مواقف قائد الجيش بعد أن صبغها البعض بمدلولات سياسية، ولا سيما أنها جاءت الاثنين عقب اجتماع مالي أمني طارئ ترأسه رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا، ووصف فيه إقفال الطرقات بالاعتداء على حقّ المواطنين في التنقل، ودعا الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى القيام بواجبها في فتحها دون تردد.

ورأى مراقبون أن الرئيس عون يريد من القوى الأمنية أن تكون أكثر حزما، في حين يبدي قائد الجيش حرصه على المواءمة بين ضبط الأمن من جهة وتجنّب قمع المتظاهرين من جهة ثانية. هذا التباين الذي بدأ يطفو إلى العلن دفع كثيرين إلى التساؤل عن معنى ودلالات الكلمة التي وجهها قائد الجيش إلى العسكريين، وعن فحوى الرسائل التي أراد إيصالها إلى الطبقة السياسية.

Lebanese President Michel Aoun
ميشال عون في أثناء اجتماع مع وزيرة الدفاع اللبنانية زينة عكر وقائد الجيش جوزيف عون (الأناضول)

معاناة الجنود

وبعد أن تداول اللبنانيون أخبارًا عن تسجيل عمليات فرار في صفوف جنود الجيش نفى قائد الجيش الأمر، وتطرّق إلى مسألة موازنة الجيش التي تخفَّض كل سنة، وتساءل "أتريدون جيشًا أم لا؟"، وأدّى تخفيض موازنة المؤسسة باعتماد سياسة تقشفية كبيرة إلى درجة أن وجبة اللحوم الحمراء حذفت من القائمة الغذائية للجنود منذ نحو عام.

وهنا يرى العميد المتقاعد في الجيش اللبناني، خالد حمادة، أن كلام القائد مثّل إدانة مباشرة للمسؤولين السياسيين بالدولة باعتبارهم مسؤولين عن تقليص موازنة الجيش، وهي مخصصة لتغطية نفقات صيانة الآليات، وتأمين الغذاء وكلفة التطبيب والتعويضات العائلية والمدرسية والنشاطات التدريبية، لكن الأزمة الحقيقية -وفق العميد- أن راتب الجندي صار يوازي نحو 70 دولارا بفعل انهيار الليرة أمام الدولار بعد أن كان يوازي نحو ألف دولار، معتبرا أن ثمة مخاطر كبيرة تواجه الأوضاع المعيشية للعسكريين.

وقال -للجزيرة نت- إن الجيش يترتب عليه بموجب الدستور مهمة الدفاع عن البلد والحفاظ على الأمن، وإن "الأمر يتطلب إدارة سياسية مسؤولة ومتعاونة، لكن الجنود وجدوا أنفسهم في موقف حرج لأن السلطة تضعهم في مواجهة مع مطالب اللبنانيين التي تحاكي معاناتهم". والإجحاف بحقوق العسكريين، وفق العميد، يؤدي إلى تعبهم جسديًا ومعنويًا، ويخشى انعكاساته على مستوى أداء مهماتهم؛ وهذا قد يضع البلد في مأزق كبير.

ويوافق الكاتب والمحلل السياسي جورج علم رأي العميد، ويرى أن عدم مسارعة السلطة إلى إنقاذ أوضاع العسكريين المعيشية، سيضع الجيش أمام خطر إقدام بعض الجنود على الفرار بحثًا عن فرصة عمل أخرى أو طلبًا للهجرة، و"هذه مسألة تهدد تركيبة المجتمع اللبناني وعلاقته مع الجيش".

ثم يذهب علم إلى البعد السياسي في مواقف قائد الجيش، فيرى أنها لم تحمل رسائل سياسية إلى رئيس الجمهورية فحسب، بل إلى رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري أيضًا، من أجل دفعه إلى الإسراع في تشكيل الحكومة وتحمّل مسؤولية البلاد.
ويرى المحلل السياسي -في حديثه للجزيرة نت- أن الأمن في لبنان إما يكون سياسيًا وإما لا يكون، وأن عدم التوافق السياسي ينعكس على الجيش، وهو ما دفع القائد -برأيه- إلى رفض التصدي للمتظاهرين في مناطق تحمل ألوانا سياسية مختلفة، لأنه "إذا أراد أن يفتح كل الطرق، يعني كأننا نحتاج إلى جيوش لا إلى جيش واحد".

قوات من الجيش اللبناني تفصل بين موالين لقوى سياسية أثناء مواجهات ببيروت (الجزيرة)

معركة الرئاسة

سياسيًا، قرأ محللون في مواقف القائد عون خطابًا سياسيًا كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية. وفي تجارب تاريخية سابقة، فإن قائد الجيش يصبح مرشحًا تلقائيا لهذا المنصب، سواء بوصفه "الرئيس الحل" بعد التوافق عليه، أو بعد خوض معركة سياسية؛ وهناك 4 رؤساء جمهورية في لبنان كانوا قادة جيش سابقين، وهم فؤاد شهاب (1958-1964)، وإميل لحود (1998-2007)، وميشال سليمان (2008-2014)، وأخيرًا ميشال عون الذي وصل إلى سدة الرئاسة بفعل التسوية بعد عامين من الفراغ الرئاسي، وتستمر ولايته حتى نهاية 2022.

غير أن جورج علم يرفض ربط مواقف قائد الجيش بمعركة رئاسة الجمهورية، "لأن هذه الانتخابات تحتاج إلى توافقات داخلية ودولية لإنتاج تسوية بشأن رئيس الجمهورية المقبل".

وقال المحلل إن أي خوض لمعركة الرئاسة هو رهان غير صائب لأن أمام لبنان حتى نهاية عهد الرئيس ميشال عون متسعا من الوقت لمتغيرات كثيرة بالمنطقة قد تنعكس على توازناته. ويرى جورج علم أن الفوضى لا تعالج بالقوة وإنما عبر التفاهمات الكبرى، خصوصًا "أن لبنان قائم على حساسيات طائفية ومذهبية وفئوية، والجيش من هذا الشعب".

في المقابل يُدرج الكاتب والمحلل السياسي علي حمادة مواقف قائد الجيش تحت خانة التجاذبات بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفه صهره الوزير السابق جبران باسيل، ويربطها بالتوترات بين الطرفين التي تفاقمت بعد حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

وقال إن مقاربة فريق الرئيس عون كانت أمنية للتعامل مع المتظاهرين، وكانت قيادة الجيش تواجه غالبا ضغطًا بغية معالجة الوضع ميدانيا بالقوة العسكرية، في حين إنها -وفق حمادة- كانت تسعى إلى الموازنة بين التوازنات الداخلية والحاجة إلى تجنيب الجيش الغرق في مستنقع المواجهة الأمنية مع المتظاهرين.

وخلافًا لجورج علم، يرى حمادة أن قائد الجيش يسعى إلى تقديم نفسه مرشحًا لرئاسة الجمهورية، بوجه الرئيس عون الذي يخوض معركة توريث الرئاسة لباسيل -وفقه- عبر شطب كل المرشحين المحتملين الذين قد يعرقلون وصول باسيل.

الدعم الخارجي

ويلفت علي حمادة إلى أن الجيش له حيثيات خاصة في المشهد اللبناني بالنسبة للخارج، إذ تصل معظم الهبات إلى لبنان عن طريقه، ويتلقى مساعدات لتعزيز جهوزيته من دول غربية وعربية خليجية.

لكن هذا الأمر -وفق جورج علم- لا يعني أن مواقف قائد الجيش مدفوعة بدعم خارجي ولو مرحليًا، على قاعدة أن تحقيق نتائج الدعم الخارجي يحتاج إلى توافقات داخلية عليه.

ويرى آخرون أن خلاف رئيس الجمهورية ليس مع قائد الجيش، وإنما المعركة الفعلية هي في كيفية إدارة الصراع بين ميشال عون وسعد الحريري، على قاعدة من يبقى ومن يرحل منهما.

Lebanon's President Michel Aoun shakes hands with General Joseph Aoun, newly appointed army commander, at the presidential palace in Baabda
ميشال عون يستقبل قائد الجيش بقصر بعبدا بعد تعيينه في المنصب (رويترز)

فجوة مسيحية-مسيحية

وذهب مراقبون إلى اعتبار أن مواقف قائد الجيش شكلت امتدادًا للفجوة داخل الساحة السياسية المسيحية.

لذا قال حمادة إن عون يعاني شبه عزلة داخلية مع عزلة عربية وغربية، ومسيحيًا فإن جفاف علاقة رئيس الجمهورية ليس مع قائد الجيش فحسب وإنما مع البطريرك الماروني بشارة الراعي، بعد أن قدم طرحًا سياسيًا إزاء الحياد والمؤتمر الدولي، وتوتر العلاقة مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومختلف الأحزاب المسيحية والطوائف الأخرى؛ مما يعني استنتاجًا -وفق حمادة- أنه لم يبق لعون سوى مظلة حليفه حزب الله.

غير أن جورج علم يرى أن ممثلي الأحزاب السياسية المسيحية في السلطات لم تجتمع تاريخيًا على موقف موحد، وأن هذه التباينات هي امتداد للعقود السابقة، لكنه يخشى استثمارها شعبيا، خصوصًا أن جزءا كبيرا من قطع الطرقات يقع أخيرًا في المناطق ذات الغالبية المسيحية؛ وذلك يهدد أمن اللبنانيين إذا نزلت جماهير الأحزاب بوجه بعضها بعضا، ويضاعف القلق إذا أصرّت القوى السياسية على زجّ الجيش في الاصطفافات السياسية في الشارع.

المصدر : الجزيرة