بين "بلفور" و"أبراهام".. وعد من لا يملك لمن لا يستحق

الظرف التاريخي الحالي يشابه إلى حد كبير ظروف التصريح بوعد بلفور قبل 103 أعوام (غيتي)

تذكر الأدبيات التاريخية أن "وعد بلفور" لم يبدأ عند التصريح به في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، بل قررت بريطانيا على لسان وزير خارجيتها آرثر بلفور "منح اليهود وطنا قوميا في فلسطين" بعد مفاوضات ثنائية مع قادة الحركة الصهيونية استمرت شهورا طويلة، واستُثني منها حضور أصحاب الوطن الممنوح، وهو الظرف المشابهة لمسار عمليات التطبيع العربي الأخيرة.

وتُرجع الموسوعة المفتوحة أول مفاوضات على مستوى عالٍ بين البريطانيين والصهاينة إلى 7 فبراير/شباط 1917، بين السير مارك سايكس والقيادة الصهيونية، دون أي تمثيل للفلسطينيين، واستمرت حتى أُذن بالإفراج عن الإعلان النهائي بحلول 31 أكتوبر/تشرين الأول.

يعتقد المحللون الفلسطينيون أن الظرف التاريخي الحالي يشابه إلى حد كبير ظروف التصريح بوعد بلفور قبل 103 أعوام.

ويقول أستاذ العلوم السياسية عبد الستار قاسم للجزيرة نت إن "من يحكم المجتمعات العربية والقضية الفلسطينية اليوم كما كان في زمن بلفور، هي مصالح المتنفذين في الطبقات الحاكمة وعلاقتهم بالولايات المتحدة، التي بلغت في نتيجتها حد إنكار الحقوق الفلسطينية، والإقرار بإسرائيل كدولة لها الحق بالبقاء في المنطقة من أجل تدعيم وجودهم في الحكم".

إنه الوضع المشابه تقريبا لاتفاقيات التطبيع الإسرائيلية الأخيرة مع الإمارات ثم البحرين فيما سُمي بـ "اتفاق أبراهام"، ثم مع السودان في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، إذ لم يشارك أصحاب القضية الفلسطينيون في أية مفاوضات مسبقة لهذه الاتفاقيات، بل أعلنوا مقاطعة خطة السلام الأميركية أو ما عُرف بصفقة القرن ومؤتمراتها التي مهدت لاتفاقيات السلام هذه كمؤتمر البحرين (يونيو/حزيران 2019).

بلفور 1917

ينص وعد بلفور في بيانه العلني الذي أصدرته الحكومة البريطانية على دعم تأسيس "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين التي كانت ذات أقلية يهودية تتراوح بين 3% إلى 5% من إجمالي السكان. ودعا الإعلان إلى حماية الحقوق المدنية والدينية للعرب الفلسطينيين، والذين كانوا يشكلون الأغلبية العظمى من السكان آنذاك.

ولاحقا اعترفت الحكومة البريطانية عام 1939 أنه كان من المفترض أخذ آراء السكان المحليين بعين الاعتبار، بينما صرحت عام 2017 بأنه كان ينبغي أن يدعو الإعلان لحماية الحقوق السياسية للعرب الفلسطينيين.

وقاد وعد بلفور إلى قيام فلسطين الانتدابية، التي تضم حاليا "الكيان الإسرائيلي والمناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية"، وتسبب بقيام ما يعرف بـ "الصراع العربي الإسرائيلي"، ووصف في حينه بأنه "وعد من لا يملك لمن لا يستحق".

اتفاق أبراهام

ومقارنة باتفاق أبراهام الذي أسس لتطبيع إماراتي بحريني إسرائيلي، فحسب النصوص التي أصدرها البيت الأبيض عقب توقيع الاتفاق في سبتمبر/أيلول الماضي، تضمن الاتفاق تفكيكا ضمنيا لما عرف بـ "الصراع العربي الإسرائيلي".

فقد نص على إقامة سلام وعلاقات دبلوماسية كاملة بين أطرافه، مع "اعتراف كل طرف بسيادة الطرف الآخر وحقه في العيش بسلام".

وكما نص وعد بلفور على منح حق لليهود بإقامة "وطنهم" في فلسطين، أعطت اتفاقات التطبيع العربية الحق في السيادة الإسرائيلية الكاملة على هذه الأرض، كما أقرت ضمنا بأبرز خطوات صفقة القرن وهي نقل السفارة الأميركية إلى القدس باعتبارها "عاصمة موحدة لإسرائيل"، وتعاملت معها كمكان ديني فقط ووصفت الاتفاق "بالفرصة" للمسلمين من أنحاء العالم لزيارة المسجد الأقصى.

أوسلو والتطبيع

يذهب أستاذ العلوم السياسية عبد الستار قاسم إلى الوراء أكثر بالقول إن اتفاق أوسلو للسلام مع إسرائيل كان أسوأ من وعد بلفور نفسه، لأن بلفور أعطى الفلسطينيين 44% من مساحة وطنهم بناء على قرار التقسيم (1947)، في حين تطالب السلطة الفلسطينية في أوسلو بأقل من 22%.

لكنه يشير أيضا إلى الدور العربي الذي ساعد في تعزيز وعد بلفور من خلال الهزائم في حروب 1948 و1967، وصولا إلى الانخراط في صفقة القرن الأميركية والهرولة نحو الانفتاح على إسرائيل والتطبيع معها.

وبرأيه، فإن المتغيرات الحديثة تقود إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائيا وتسعى لطرد الشعب الفلسطيني خارج بلاده.

ويضيف قاسم أن بلفور تبعه اصطفاف وطني فلسطيني وتشكيل أحزاب وقوى ثورية لمواجهة أخطاره، لكن ما يحدث الآن هو انفراط في الأحزاب الفلسطينية، واصطفافات عربية ضد القضية الفلسطينية، إلى جانب عدم قدرة الشعب الفلسطيني على الاجتماع وضعف إدانة الفلسطينيين لعمليات التطبيع العربية.

يقول محدثنا "إن كان وعد بلفور البداية لنشوء الكيان الإسرائيلي، والسبب في نشوء الصراع العربي الإسرائيلي، فإن مرحلة التطبيع العربي حديثا ستضع حدا لهذا الصراع بل وتقوم بتفكيكه".

فلسطين- الضفة الغربية- نابلس- فتيات يحملن يافطات خطت عليها شعارات مناهضة لوعد بلفور خلال فعالية سابقة ضد وعد بلفور بمدينة نابلس- تصوير عاطف دغلس- الجزيرة نت
‪فتيات يحملن لافتات خططن عليها شعارات مناهضة لوعد بلفور خلال فعالية سابقة بمدينة نابلس‬ (الجزيرة)

صفقات فردية

ومن وجهة نظر قانونية، يقول وزير العدل الفلسطيني الخبير بالقانون الدولي محمد شلالدة للجزيرة نت إن وعد بلفور كان بداية مأساة الشعب الفلسطيني عندما أعطى وطن شعب حي ومعروف إلى شعب آخر دون وجه حق.

ويرى أن وعد بلفور جاء مخالفا للقانون الدولي وتسبب في مأساة الشعب الفلسطيني، "ما زال لدينا الحق في محاكمة بريطانيا أمام القضاء المحلي والدولي، باعتبارها مسؤولة عن المأساة التي حلت بالفلسطينيين، ولما نجم عن وعدها من تهجير وجرائم بحق الفلسطينيين".

ويشبّه شلالدة وعد بلفور بـ "صفقة القرن" وما نجم عنها، فقد كانت الأخيرة برأيه تصريحا من الإدارة الأميركية بمزيد من الدعم لإسرائيل، وأنتجت تطبيعا عربيا غير مسبوق مع الاحتلال على حساب حقوق الشعب الفلسطيني كما فعل بلفور.

ويضيف "لا وعد بلفور ولا صفقة القرن أو اتفاقيات التطبيع يمكنها أن تحل محل حقوق الشعب الفلسطيني وخاصة حقهم في تقرير مصيرهم".

ويؤكد أن "هذه صفقات منفردة تمت بإرادات فردية لا جماعية، ولا تمثل أصحاب القضية، وهي شبيهة بوعد بلفور وتتحمل الدول المتورطة بها المسؤولية القانونية والأخلاقية عن تبعاتها على الحقوق الفلسطينية".

المصدر : الجزيرة