القدس.. هكذا كانت قبلة للعلم في ستة قرون
فعلى سبيل المثال، لوحظ وفود المغاربة بكثرة على القدس في عصري الأيوبيين والمماليك، حتى أنشؤوا حارة لا تزال شاهدة على عمق وقدم هذا الوجود إلى يومنا هذا، وهي حارة المغاربة، وحفظت لنا كتب التاريخ والأدب أسماء مئات من رجال العلم والأدب الذين رحلوا من المغرب إلى المشرق في طلب العلم والتفقه، حيث نجد في كتاب "نفح الطيب من غُصن الأندلس الرطيب" أسماء مئات من هؤلاء المغاربة العلماء الذين حلّوا ضيوفا على القدس، ثم طاب لهم المقام فيها، واشتُهروا بعلوم التفسير والحديث والفقه، وأصبحت لهم حلقات مخصوصة يفد إليها المقدسيون في المسجد الأقصى، فضلا عن عدد كبير من المدارس العلمية التي وُجدت في المدينة في ذلك الوقت.
ولم تقتصر هجرة العلماء ورجال الدين إلى بيت المقدس على العلماء القادمين من المغرب، بل شملت كثيرا من العلماء القادمين من ناحية بلاد المشرق أيضا، وليس أدل على ذلك مما يذكره لنا ابن إياس في وفيات سنة 890هـ/1485م، أيام السلطان الأشرف قايتباي سلطان المماليك، حيث يقول إن الأخبار قد جاءت من القدس بوفاة الشيخ سعد الله الهندي الحنفي إمام المسجد الأقصى. وفي قوله "الهندي" -كما يذكر المؤرخ علي السيد علي- إشارة إلى أنه من الهند، وهذا يؤكد لنا أن بيت المقدس في ذلك العصر جذب العلماء من مختلف الجنسيات والبلدان، وأن كثيرين منهم تمتعوا بمكانة دينية وعلمية مرموقة مثل الهندي الذي تولى إمام المسجد الأقصى.
على أن السبب الأهم الذي جذب هؤلاء العلماء وأسرهم إلى مدينة القدس، هو كثرة الأوقاف العلمية ومدارس الحديث والفقه والتفسير وغيرها التي أنشأها سلاطين الأيوبيين والمماليك في المدينة، وكانت هذه الأوقاف تضمن رواتب ثابتة لهؤلاء العلماء القادمين من كل صقع، ولعل أشهر العلماء الذين وفدوا على القدس، ونال حظّا من العلم على يد علمائها، المؤرخ والمحدث العلامة شمس الدين الذهبي المتوفي سنة 748هـ/1347م، وشهاب الدين ابن حجي فقيه الشام ت 816هـ/1413م، وبدر الدين العيني والمفسّر المؤرخ المصري الشهير، بل إن أشهر محدثي الإسلام في العصر الوسيط وهو العلامة ابن حجر العسقلاني رحل إلى بيت المقدس وحصّل على أيدي الكثير من علمائها آنذاك قبل ستة قرون مثل شمس الدين القلقشندي وبدر الدين بن مكي.
ومن أشهر العائلات العلمية في القدس قبل ستة قرون، تأتي عائلة بني القلقشندي، ويأتي على رأسهم الشيخ تقي الدين القلقشندي ت 778هـ/1376، وقد أنجبت هذه الأسرة أعلاما كبارا، منهم من تولى الإفتاء والتدريس، واختصوا بعلوم الحديث فكانت لهم شهرة خاصة بين جنبات المدينة باعتبارهم من محدِّثيها الكبار.
كما تأتي أسرة بني جماعة وأسرة بني الديري التي تُنسب إلى قرية يقال لها الدير كانت تتبع نابلس، ولعل أشهرهم الشيخ سعد الدين الديري الحنفي الذي تولى أعظم منصب للقضاء في القاهرة في القرن 15 الميلادي، حيث عُيّن قاضيا لقضاة الحنفية، وله مؤلفات مشهورة معروفة.
أما أسرة بني قُدامة، فتعد من أشهر الأسرة المقدسية التي اشتهرت بخدمة الفقه والإفتاء، كما اهتموا بعلوم العربية والفرائض والحساب، وكان أشهرهم الشيخ تقي الدين بن قدامة، كما تأتي أسرة بني غانم ضمن العائلات التي اهتمت بالمجال العلمي والثقافي في عصر القدس القديم، فقد عين السلطان صلاح الدين الأيوبي الشيخ غانم المقدسي شيخ شيوخ الخانقاة الصلاحية المنسوبة للسلطان، والخانقاة هي المكان المخصص لسكن الصوفية وتعبدهم.
وكانت ثمرة هذه النهضة العلمية في مدينة القدس، والتنافس الشريف على طلب العلم بين أبنائها وكبريات عائلاتها آنذاك؛ إنتاجَ عدد ضخم من الكتب والرسائل والمصنفات في مختلف ميادين العلوم الإسلامية؛ في علوم القرآن والفقه والحديث والتفسير والعربية، فضلا عن العلوم العلمية مثل الطب وغيرها، في مدينة كانت في القرن 15 الميلادي لا تزال صغيرة مقارنة بحواضر العالم الإسلامي الكبرى حينذاك مثل القاهرة ودمشق وبغداد، وفي تعداد سكاني كان أيضا قليلا، ورغم صغر مساحة القدس حينذاك، فإن عدد علمائها وعائلاتها العلمية كان يشير إلى دورها الكبير في النهضة العلمية والثقافية، وكونها واحدة من أهم مراكز التنوير والإبداع في عصر الإسلام الوسيط.