فورين أفيرز: هؤلاء رسموا مسيرة بلادهم للأحسن أو للأسوأ
فقد جرت العادة ألا يكون التاريخ سوى رواية عن العظماء من الرجال، بحسب دانيال بايمان الباحث في مؤسسة بروكينغز، وكينيث بولاك الباحث المقيم بمعهد أميركان إنتربرايس.
فزعماء أفراد مثل يوليوس قيصر الإمبراطور الروماني الشهير، وفريدرش الثاني ملك بروسيا، وجورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة، والزعيم الألماني النازي أدولف هتلر، ومؤسس جمهورية الصين الشعبية وأول رئيس لها ماو تسي تونغ هم من قادوا مسيرة الأحداث في بلدانهم.
ثم أصبح من الرائج التطرق إلى قصص مماثلة عن مكونات بنيوية أوسع كالسلطة الوطنية والتكافل الاقتصادي أو الموجات الأيديولوجية، فالقادة كان ينظر إليهم على أنهم مجرد محركات لعوامل أخرى أكثر أهمية، ولا علاقة أساسا لشخصياتهم وميولهم بالموضوع، فالشيء المهم حينها لم يكن العظماء من الرجال أو النساء بل العوامل الكبرى المحركة للأحداث.
تحولات جذرية
وفي كتابه "الإنسان والدولة والحرب" يجادل مؤلفه كينيث والتز في أن التركيز على القادة الأفراد أو الطبيعة البشرية ليس بالميزة الكبيرة عندما يتعلق الأمر بفهم السياسة العالمية، وعوضا عن ذلك ينبغي النظر إلى إطار النظام الدولي وتوزيع السلطات عبره.
ويرى والتز أنه سواء كان الفائز دوايت أيزنهاور أو منافسه الديمقراطي أدلاي ستيفنسون في انتخابات الرئاسة الأميركية في دورتي 1952 و1956، أو ظفر أي من جوزيف ستالين أو نيكيتا خروتشوف بالزعامة في الاتحاد السوفياتي فإن ذلك لم يكن ليحدث فرقا كبيرا، ذلك أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك كانا سيسعيان لتحقيق نفس المصالح والارتباط بنفس الحلفاء وإلا لكانا سيُجبران تحت وطأة التنافس بينهما في خضم الحرب الباردة على التصرف بطريقة معينة.
ومع أن الأكاديميين تبنوا طابع العصر إلا أن بعض أصحاب النظريات في العقود اللاحقة ما فتئوا يقللون من شأن القادة والزعماء، بل اعتبروا مفاهيم من قبيل أنواع الأنظمة والمؤسسات والأفكار من القوى الأساسية المحركة للأحداث.
وفي الوقت الذي تكون فيه العوامل غير الشخصية الكثيرة هي التي تميز عالمنا اليوم، فإن التحيز ضد القوة الفردية يبدو مبررا، فالجوانب الاقتصادية والتكنولوجيا والسياسة عوامل تحدث جميعها التغيير بطرق لم يكن ممكنا تخيلها قبل عقود قليلة مضت.
كما أحدثت التطورات في مجالات الاتصالات والنقل والمناخ والتعليم والقيم الثقافية والصحة تحولات جذرية في العلاقات بين البشر داخل المجتمعات المحلية والعالمية.
إعادة توزيع السلطة
وقد أنتجت الثورة المعلوماتية فردا ودولة مسلحين بالمعرفة والقدرة على إحداث التغيير، وأثارت أحدهما على الآخر.
في الأثناء، يعاد توزيع السلطة حول العالم، حيث بدأت حقبة القطب الواحد التي شهدت تفوقا أميركيا في أعقاب الحرب الباردة تفسح المجال لتعددية قطبية يصعب التكهن بها، وهكذا تعيث تلك "الوحوش التي بلا ملامح" -حسب وصف الباحثين بايمان وبولاك في مقالهما- فسادا في الأرض.
ومما لا شك فيه أن العوامل البنيوية والتغيرات التكنولوجية هي التي تقود سلوك الدول، لكنها ليست المعضلة الوحيدة، وبإمكان الزعماء الأفراد -حتى في زماننا هذا- أن يقودوا ويوجهوا أو يقاوموا قوى السياسة الدولية الأوسع.
وأوردت الصحيفة عددا من الأمثلة على الطرق المختلفة للحكم:
بن سلمان
يرى الكاتبان أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الحاكم الفعلي للمملكة يتطلع لتغيير مجتمعه وسياسة بلده ضاربا عرض الحائط بكل الضغوط الداخلية أو الخارجية، بغية إعادة تشكيل هذا البلد للأحسن أو للأسوأ.
ويلفتان إلى أن بن سلمان أدخل بعض التغييرات الاقتصادية والمجتمعية على هذا البلد، فعمل على علمنة المجتمع السعودي، وتغيير النظام التعليمي التقليدي للمملكة، ومحاولة إصلاح اقتصادها المتعثر، لكنه تجنب -بكل حزم- إدخال أي إصلاح على نظام المملكة السياسي.
وشبه الكاتبان بن سلمان في تصرفاته تلك بحكام مستبدين آخرين عرفهم التاريخ الحديث مثل بنيتو موسوليني في إيطاليا، ومصطفى أتاتورك في تركيا، وجوزيف ستالين في الاتحاد السوفياتي، وشاه إيران محمد رضا بهلوي.
وشددا على أن ولي حريص على دفع بلده إلى الحداثة بغض النظر عن تكلفة ذلك البشرية.
أما على مستوى السياسة الخارجية فإن الكاتبين أبرزا قطيعة بن سلمان مع سياسة أسلافه التي كانت تقوم على المهادنة.
وضربا أمثلة على خروج بن سلمان المذهل على سياسة أسلافه، منها: احتجازه رئيس الوزراء اللبناني كرهينة لإجباره على الاستقالة، وشنه الحرب على اليمن ومقاطعته دولة قطر، وقتله الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تركيا، وتقربه من روسيا والصين، وتهديده بالعمل للحصول على أسلحة نووية، ناهيك عن تشكيله تحالفا ضمنيا مع الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين، على حد قولهما.
وعلق الكاتبان على تصرفات ولي العهد السعودي بالقول إن بعض ما قام به ربما يكون متفهما بعض الشيء في ظل متغيرات السياسة العالمية للمملكة، لكنهما أبرزا أن بن سلمان اختار في كل الأحوال أشد الخيارات تطرفا.
ولعله من قبيل التبسيط القول إن السياسة الإيرانية اليوم هي صراع بين معسكرين متضادين، فمجموعة الإصلاحيين والبراغماتيين تسعى إلى إصلاح السياسات الخارجية والاقتصادية للدولة لكي يتسنى تلبية الاحتياجات الماسة للشعب الإيراني.
وفي مقابل ذلك المعسكر هناك مجموعة المتشددين الذين كرسوا جهودهم في العدوان الخارجي والقمع الداخلي، وهم الذين يتحكمون في السياسة الخارجية للبلاد.
أما قطب الرحى فهو المرشد الأعلى للثورة آية الله على خامنئي الذي يوازن بين الضغوط الدولية التي تدفع إيران باتجاه معسكر الإصلاحيين والبراغماتيين، والضغوط المحلية التي يمارسها عليه المتشددون.
وفي ظل وضع كهذا، فإن خامنئي هو من يختار إلى أي الجانبين يميل، ففي بعض الأحيان يرجح طرف المتشددين بدعمه الجماعات المسلحة في العراق وسوريا واليمن، وأحيانا أخرى يجنح نحو البراغماتيين، وليس أدل على ذلك من قبوله الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بوساطة أميركية.
ويعد خامنئي أوضح مثال لقائد يتخذ قرارا نهائيا فيما يتعلق بأي تيار يركبه عندما تتصارع القوى غير الشخصية في ما بينها.
أنجيلا ميركل
وفي ظروف مغايرة، تضطلع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بدور مشابه، فإبان الأزمة التي عصفت بمنطقة اليورو، وحين كانت القوى الاقتصادية الدولية تستدعي دوما تبني مقاربة أكثر إيجابية تجاه إفلاس اليونان والمتاعب الاقتصادية التي تواجه شركاء ألمانيا، سلكت ميركل مسارا شديد المحافظة مما أطال عمر الأزمة.
وعندما احتدت قضية المهاجرين، انتهجت ميركل القواعد الدولية الليبرالية، وسمحت باستيعاب مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في بلدها في وقت كانت فيه السياسة المحلية لألمانيا وبقية أوروبا تتحول ضد الأجانب.
ولو كان هناك مستشار آخر غيرها لربما اتخذ مواقف مغايرة، وفقا لمقال فورين أفيرز.
الأسد ومادورو
ومن المشاهير في هذا العالم الرئيسان السوري بشار الأسد والفنزويلي نيكولاس مادورو، فهناك أعداد كبيرة من شعبيهما تتمنى إسقاطهما إن لم يكن موتهما، ولكن مع بقائهما على قيد الحياة وفي سدة الحكم فإن الرجلين قدما تنازلات مذلة عن بعض أفضل مصالح بلديهما.
إن سوريا وفنزويلا دولتان "يائستان" تطحنهما صراعات داخلية، ويتضور الناس فيهما جوعا "ويطفحان لاجئين بأعداد خيالية"، ويعانيان الأمرّين من قوى خارجية عديدة.
ومن شأن التخلص من مادورو أن يمثل خطوة هائلة نحو التخفيف من معاناة فنزويلا، مثلما قد يجعل القضاء على الأسد أمر التوصل إلى تسوية لوضع حد للحرب الأهلية في سوريا ممكنا.
وقد ظل الزعيمان يتشبثان بالسلطة رغم أن الضغوط الدولية والداخلية المطالبة برحيلهما جعلت بلديهما يرزحان تحت عنت بلا داعٍ.
بوتين
ولأن الحظ ينحاز إلى الشجعان، فإن بعض القادة يتمتعون بمهارة تتيح لهم انتهاز الفرص ما إن تسنح لهم، ولعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجسد هذا النوع من القادة الدهاة القادرين على تحويل موقف ضعفهم النسبي إلى وضع أشد قوة.
أردوغان
وينتقل الباحثان الأميركيان في مقالهما إلى الحديث عن القادة الأنانيين المحبين لذواتهم، ويزعمان أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو من هذا الصنف.
ولطالما انتهجت الأنظمة التركية المختلفة خلال العقود الماضية في سعيها نحو حماية مجموعة مصالحها المعقدة نفس الأساليب إلى حد كبير مثل النأي عن الأوضاع "الملتبسة" في الشرق الأوسط، والاصطفاف إلى جانب حلف الناتو والولايات المتحدة، وتصوير البلد على أنه دولة علمانية غربية الطابع تستحق عضوية الاتحاد الأوروبي.
غير أن أردوغان كانت له مخططات أخرى بحسب مقال فورين أفيرز "فمنذ أن أصبح رئيسا للوزراء في 2003 اتسمت السياسات التركية بتقلبات حادة مرارا، فالنظام دعم رعاياه الأكراد ثم ابتعد عنهم بعد ذلك، وتعاون مع (بشار) الأسد، ثم سعى لإسقاطه قبل أن يتعاون معه مرة أخرى، ونفر من روسيا ثم عاد واحتضنها..".
ترامب فضح بلاده
إن بعض القادة يضرون ببلدانهم أو قضاياهم، ويضعفون أداءها بسبب ضعغهم هم أنفسهم، وضرب الباحثان في مقالهما مثالا على ذلك بزعيم تنظيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري.
على أن الأفراد ليسوا كل شيء بطبيعة الحال، ذلك أن الدول لا تزال لديها مصالحها الوطنية وسياساتها الداخلية وأجهزتها البيروقراطية وقوى أخرى يمكن أن تلعب أدوارا عظيمة في صياغة سياساتها الخارجية.
لقد فضح الرئيس الأميركي دونالد ترامب حدود مؤسسات بلاده بتقويضها والسخرية منها لإشباع غروره ولمصلحة تحزباته.
وقد يسمو الأفراد فوق المؤسسات والأعراف والسياسة الداخلية فيجعلوا دولهم أقوى أو أضعف مما كانت عليه، وبمقدور القادة خلق أعداء أو أصدقاء جدد، وإضعاف أو تقوية تحالفاتهم، وتجاهل الأعراف أو تحمل المخاطر عندما يعجز الآخرون عن تحملها.